-->

رواية كما يحلو لها بتول طه - اقتباس

رواية كما يحلو لها

الجزء الثالث من رواية كما يحلو لي بقلم بتول طه

 

رواية كما يحلو لها

اقتباس

الفصل الحادي عشر

النسخة العامية



على الرجال أن يتحملوا ما لا طاقة لهم به في بعض المواقف وهم يواجهون الأزمات الشديدة التي لا يتقبلها عقل إلى أن تمر الحروب بسلام ويتجلى الأمان من جديد في سكون ليفخروا لاحقًا بصنيعهم بعد وقوفهم كالصناديد في وجه أعداء الحرب..

 

عقله لا يتقبل أن يقترب لها من جديد ولكنه مضطر أن يفعلها، لا طاقة له بأن يقترب لها من جديد ويعرف أن هناك آلاف من الجدران تعوق بينه وبينها فضلًا عن تلك الجبال الشاهقة التي تحول بينهما، يعرف أن مجرد الخطوات القادمة ستكون بداية لصرع أحدهما بداخله ويعلم أنها لن تحتمل ولكن عليه فعلها.. بدلًا من أن يخرج الأمر من بين يديه ويقع بين يدي "يزيد الجندي" الذي لن يرحمها، ولقد تلقى منه تحذيرات مسبقة بخصوصها كثيرًا..

 

الصف الأول هو الأصعب دائمًا بعد أن ينطلق بوق الحرب صارخًا في الجميع بالوقت المناسب لبدء الالتحام بين الصفوف الأولى من كل جيش، يعلم أنه يحارب بمفرده هُنا، وأولى اعدائه سيكون أخيه، لقد بات واثق تمام الثقة بهذا في الآونة الأخيرة، يحول بينه وبين كل ما يريد أن يظفر به!

 

-       ابعد عن طريقي!

 

تبادل كلاهما نظرات قاتلة، أعداء بأولى صفوف الحرب يتقاتل كلاهما، ولكن ما يدفعه للانتصار هو العقيدة، وعقيدته العشق، ولن يتوقف عن الايمان بهذا:

-       بلاش يا عمر الناس هتتفرج علينا

 

هل يخاف من الفضيحة؟ لقد وقعت بالفعل منذ أن بدأت هي في استخدام أسلحتها، ولكن ما بُني على الخوف سيُهدم في لمح البصر:

-       ما اتفرجو، عايز ايه تاني؟ اتدخل أنا ولا اسيب بابا يتدخل؟

 

التفت "عدي" ناظرًا لها وهي تتراقص مع الجميع ولمح الجمع الغفير بنظرة سريعة بينما لم يسمح له "عمر" بقول المزيد وحاول أن يتخلص من منعه له الذي ظفر به بمنتهى السهولة بعد أن خانته قدرة جسده التي لا تتواجد بالآونة الأخيرة!

 

-       لو أنا قربت منها هتخاف مني ومش هتقدر تتكلم، لو بابا قرب منها هتواجهه بجد والفضيحة هتبقى قدام الناس كلها..

 

لم يكن يمزح يومًا ما بتعلمه قراءة نفوس البشر التي لقنها له والده منذ عشر سنوات، وأما عن فهم كل ما تريده هي وهو يقرأ عينيها بمنتهى السهولة فبات الأمر من شدة سريانه بدمائه كالمخدر، لا يستطيع سوى أن يتعاطى منه ليلًا ونهارًا مستندًا على خزين هائل من تلك الذكريات التي جمعت كلاهما يومًا ما!

 

-       عايز تساعدني وتلم الدنيا دي كلها، أخلص من أخوها ومامتها، اشغلهم لغاية ما اخدها وامشي من قدام الناس.. إنما لو عايز الناس تتفرج، خليك واقف قدامي وامنعني واتفرج بابا هيعمل ايه!

 

حذره قائلًا ثم التفت نحو والده ليرى "عدي" مدى غضبه من على مسافة ليست بالقليلة فارتبك هو نفسه، أن تعيش كطفل وشاب ورجل في بيت لا ينتِه به التعنيف حقيقة كلاهما علما كيف سينتهي به موقف كهذا!

-       انجز قبل ما كل الخطوبة اللي قعدنا نقنعه بيها شهور تبوظ!

 

الأمر بأكمله لم يأخذ سوى لحظات فيما بينهما، واتجه "عدي" سريعا ليقوم باصطحاب "بسام" ليحدثه بشأن أخته وكذلك فعل مع والدتها، لقد كان لأول مرة يبادر بمساعدة حقيقية له، ولن ينسى له ما فعله..

 

نظرة نحو أبواب القاعة المُقام بها الحفل، ليس هناك رجل أمن واحد، هذا المخنث الذي سيتزوج أخته بكامل إرادتها لن يُفكر بترك هذا الجمع الغفير ليُدافع عن ابنة خالته وإلا كان ليفعلها بالسابق، جيد للغاية، لم يتبق له سوى هذا الوغد الفرنسي.. ومن كتب التاريخ التي قرأها يعلم أنهم مجرد نساء أنيقات متخفيات أسفل ملابس رجالية!

 

اقترب منهما وتابع بعينيه لجزء من الثانية يده الموضوعة على خصرها، لا يتخيله سوى يصرخ باكيًا وهو يبتر له أصابعه أنملة أنملة، حاول بشتى الطرق ألا يُثير منظرًا فاضحًا أكثر مما حدث بالفعل، جذبها ليُقربها له وبنفس الوقت ابتسم لهذا الحقير حتى يظن الجميع أنه من عائلتها وكان غائب للسفر.. أخ أو عم أو خال أو أي لعنة سيحاول أن ينقذ بها هذا الموقف لاحقًا في أعين الجميع!  

 

استقرت بين ذراعيه، يستطيع الشعور بارتجافها، تنافسها الذي تصاعد رعبًا منه، لن ينتظر سوى هذا فما فعله بها لم يكن بقليل! وخوفها الذي قرأه بعينيها عند رؤيته إياها بعد شهور هو ما قام بتأهيله أن يفعل الأمر، الخائف لهذه الدرجة الشديدة لن يصرخ، لن يتكلم، ولن يفعل أي شيء سوى أن سيقترب من الموت خطوة، أو من فقدان الوعي!

 

-       مش هقول كلام كتير بس اعتبري إن التوكيل قدام إنك تيجي معايا حالًا وإلا هتفضلي مجبرة إنك تستحمليني، لو اتكلمتي وقولتي حرف الموضوع مش هيعدي على خير قدام الناس، من سكوت تيجي معايا قبل ما منظرك يبقا عبرة للكل!

 

بنبرة عانت أن تأتي من رجل ذو جسد مُنهك يدعي كل هذه الصلابة والقسوة اللتان لا يملك لأي منهما مقدرة، نبرة غائبة في وسط معاناة لا يعلم عنها أحد شيء، كان خلالها بنظرها لا يتصف سوى بوقح، دنيء، ربما حقير، عديم الرجولة، يستغلها، يتلاعب بخوفها، ويقوم بتهديدها، يستغلها دون مراعاة لكل ما كان بينهما يومًا ما، فلتصفه كما شاءت، محامي خبيث؟! نعم لقد كان لسنوات، رجل مجنون، نعم هو مجنون وتأكد من ذلك، يستحق كل ما قد يجري بعقل امرأة سليمة، ولكن هذه التشنجات الذي شعر بها بجسدها أخبرته أنها ليست على هذه الدرجة من أن تكون واعية بما يحدث لها!

 

جذبها للخارج من باب آخر غير الذي غادره أخيه، لا يرى ملامحها ولا يستطيع النظر لها، لا يعرف كيف تبدو، ولا يعرف كيف ينظر لهم الجميع، ولكنه يعرف أن المواجهة التالية ستكون أصعب ما قد يتعرض له في حياته، أصعب من تلك الشهور وهو بالمشفى وحده، أصعب من تلك الجلسات التي جعلته يرى حياته بأكملها بمنظور آخر، وأصعب من ثلاث محاولات انتحار لم ينجح أيًا منها بعد.. ولكن على الأقل ما يُجبره على متابعة هذا الطريق هو غضب "يزيد الجندي" الذي لن يستهين به سوى الغبي.. ولقد اكتفى من كونه أغبى رجال العالم!

 

تخيل لو أنه بمعجزة ما استطاع أن يلمسها ولو لمرة واحدة قبل موته، تخيل الكثير من المواقف التي تجعله تلمسها، ولكن أن يفعل بها ذلك، لم يكن ليحدث بأسوأ كوابيسه! لا يُصدق أن مضطر أن يكون بعينيها أسوأ رجال الأرض، ولكن أمام ما يمكنه والده أن يفعله سيرضى بهذا!

 

ارتعدت بداخلها، لا تدري لماذا لسانها ينعقد أمامه ومعه، هذه المرة الثانية لهما هذه الليلة، وكل ما ينتابها هي تلك النوبات الخائبة!

 

وضعت يدها بجانبها تتحسس حقيبة يدها فلم تجدها، لقد تركتها مع ابنة خالتها منذ قليل، هاتفها، كل ما تملكه، لا تستطيع التصرف، وستفقد عقلها بأي وقت الآن، هي تشعر بذلك!!

 

-       ادخلي قدامي!

 

كانت تظن أن ما تفعله يثير غيرته ليس إلا، ما زالت لا تتحلى بالقوة معه، ما زالت ينعقد لسانها كلما أوشكت على التعرض له أو قص ما حدث بينهما، لقد لجأت للشراب بمجرد رؤيته من جديد، كل تلك الشهور لم تفدها بشيء، لم تتغير، حياتها تنقلب مُجددًا رأسًا على عقب بسببه، وكأنها لم تتأهل ولو بمقدار ذرة واحدة لأي نوع من أنواع العلاج النفسي.. 


صوت تضارب أسنانها يعاودها من جديد، أم هذا يحدث لها بالفعل، هيئته المُخيفة بشعره الأسود الفاحم، رائحته التي تسللت لأنفاسها عندما اقترب لها، لم يتغير به شيء، في هذه اللحظة أدركت أنه محق، التأهيل النفسي ما هو إلا جنون وترهات، وكل فرد يمر بصدمة لا يتعداها مثل ما قد يتعداها شخص آخر، فهناك من يتناسى في أسابيع، وهناك من يتناسى في شهور، وهناك آخر لا يستطيع تحمل الأمر على الإطلاق ولا يتناسى شهور عذاب فقدت بها وعيها لمرات ومرات من لدغة عقرب لرؤية ثعبان أسود للاقتراب من الموت من درجة حرارة قاربت على التجمد، هل يبدو وجهه أبيض اللون دون أي ملامح، لابد أن هناك شيء خاطئ يحدث، الطابق بأكمله يدور حولها وتدور هي معه، هو لن يقوم بحبسها من جديد، هل سيفعل؟ هل ستفقد وعيها مجددًا؟! ربما ستفعل الآن بمجرد مرور ثانيتين بتواجدها معه بداخل مصعد مُغلق..

 

يبدو أن تصنعها انعقاد لسانها وعدم المقدرة على الحديث كان مجرد استباق للأحداث من قِبلها ليس إلا!! 


يتبع..