-->

رواية كما يحلو لها بتول طه - الفصل الحادي عشر النسخة العامية

 رواية كما يحلو لها

الجزء الثالث من رواية كما يحلو لي بقلم بتول طه

 

رواية كما يحلو لها

الفصل الحادي عشر

النسخة العامية


على الرجال أن يتحملوا ما لا طاقة لهم به في بعض المواقف وهم يواجهون الأزمات الشديدة التي لا يتقبلها عقل إلى أن تمر الحروب بسلام ويتجلى الأمان من جديد في سكون ليفخروا لاحقًا بصنيعهم بعد وقوفهم كالصناديد في وجه أعداء الحرب..

 

عقله لا يتقبل أن يقترب لها من جديد ولكنه مضطر أن يفعلها، لا طاقة له بأن يقترب لها من جديد ويعرف أن هناك آلاف من الجدران تعوق بينه وبينها فضلًا عن تلك الجبال الشاهقة التي تحول بينهما، يعرف أن مجرد الخطوات القادمة ستكون بداية لصرع أحدهما بداخله ويعلم أنها لن تحتمل ولكن عليه فعلها.. بدلًا من أن يخرج الأمر من بين يديه ويقع بين يدي "يزيد الجندي" الذي لن يرحمها، ولقد تلقى منه تحذيرات مسبقة بخصوصها كثيرًا..

 

الصف الأول هو الأصعب دائمًا بعد أن ينطلق بوق الحرب صارخًا في الجميع بالوقت المناسب لبدء الالتحام بين الصفوف الأولى من كل جيش، يعلم أنه يحارب بمفرده هُنا، وأولى اعدائه سيكون أخيه، لقد بات واثق تمام الثقة بهذا في الآونة الأخيرة، يحول بينه وبين كل ما يريد أن يظفر به!

 

-       ابعد عن طريقي!

 

تبادل كلاهما نظرات قاتلة، أعداء بأولى صفوف الحرب يتقاتل كلاهما، ولكن ما يدفعه للانتصار هو العقيدة، وعقيدته العشق، ولن يتوقف عن الايمان بهذا:

-       بلاش يا عمر الناس هتتفرج علينا

 

هل يخاف من الفضيحة؟ لقد وقعت بالفعل منذ أن بدأت هي في استخدام أسلحتها، ولكن ما بُني على الخوف سيُهدم في لمح البصر:

-       ما اتفرجو، عايز ايه تاني؟ اتدخل أنا ولا اسيب بابا يتدخل؟

 

التفت "عدي" ناظرًا لها وهي تتراقص مع الجميع ولمح الجمع الغفير بنظرة سريعة بينما لم يسمح له "عمر" بقول المزيد وحاول أن يتخلص من منعه له الذي ظفر به بمنتهى السهولة بعد أن خانته قدرة جسده التي لا تتواجد بالآونة الأخيرة!

 

-       لو أنا قربت منها هتخاف مني ومش هتقدر تتكلم، لو بابا قرب منها هتواجهه بجد والفضيحة هتبقى قدام الناس كلها..

 

لم يكن يمزح يومًا ما بتعلمه قراءة نفوس البشر التي لقنها له والده منذ عشر سنوات، وأما عن فهم كل ما تريده هي وهو يقرأ عينيها بمنتهى السهولة فبات الأمر من شدة سريانه بدمائه كالمخدر، لا يستطيع سوى أن يتعاطى منه ليلًا ونهارًا مستندًا على خزين هائل من تلك الذكريات التي جمعت كلاهما يومًا ما!

 

-       عايز تساعدني وتلم الدنيا دي كلها، أخلص من أخوها ومامتها، اشغلهم لغاية ما اخدها وامشي من قدام الناس.. إنما لو عايز الناس تتفرج، خليك واقف قدامي وامنعني واتفرج بابا هيعمل ايه!

 

حذره قائلًا ثم التفت نحو والده ليرى "عدي" مدى غضبه من على مسافة ليست بالقليلة فارتبك هو نفسه، أن تعيش كطفل وشاب ورجل في بيت لا ينتِه به التعنيف حقيقة كلاهما علما كيف سينتهي به موقف كهذا!

-       انجز قبل ما كل الخطوبة اللي قعدنا نقنعه بيها شهور تبوظ!

 

الأمر بأكمله لم يأخذ سوى لحظات فيما بينهما، واتجه "عدي" سريعا ليقوم باصطحاب "بسام" ليحدثه بشأن أخته وكذلك فعل مع والدتها، لقد كان لأول مرة يبادر بمساعدة حقيقية له، ولن ينسى له ما فعله..

 

نظرة نحو أبواب القاعة المُقام بها الحفل، ليس هناك رجل أمن واحد، هذا المخنث الذي سيتزوج أخته بكامل إرادتها لن يُفكر بترك هذا الجمع الغفير ليُدافع عن ابنة خالته وإلا كان ليفعلها بالسابق، جيد للغاية، لم يتبق له سوى هذا الوغد الفرنسي.. ومن كتب التاريخ التي قرأها يعلم أنهم مجرد نساء أنيقات متخفيات أسفل ملابس رجالية!

 

اقترب منهما وتابع بعينيه لجزء من الثانية يده الموضوعة على خصرها، لا يتخيله سوى يصرخ باكيًا وهو يبتر له أصابعه أنملة أنملة، حاول بشتى الطرق ألا يُثير منظرًا فاضحًا أكثر مما حدث بالفعل، جذبها ليُقربها له وبنفس الوقت ابتسم لهذا الحقير حتى يظن الجميع أنه من عائلتها وكان غائب للسفر.. أخ أو عم أو خال أو أي لعنة سيحاول أن ينقذ بها هذا الموقف لاحقًا في أعين الجميع!  

 

استقرت بين ذراعيه، يستطيع الشعور بارتجافها، تنافسها الذي تصاعد رعبًا منه، لن ينتظر سوى هذا فما فعله بها لم يكن بقليل! وخوفها الذي قرأه بعينيها عند رؤيته إياها بعد شهور هو ما قام بتأهيله أن يفعل الأمر، الخائف لهذه الدرجة الشديدة لن يصرخ، لن يتكلم، ولن يفعل أي شيء سوى أن سيقترب من الموت خطوة، أو من فقدان الوعي!

 

-       مش هقول كلام كتير بس اعتبري إن التوكيل قدام إنك تيجي معايا حالًا وإلا هتفضلي مجبرة إنك تستحمليني، لو اتكلمتي وقولتي حرف الموضوع مش هيعدي على خير قدام الناس، من سكوت تيجي معايا قبل ما منظرك يبقا عبرة للكل!

 

بنبرة عانت أن تأتي من رجل ذو جسد مُنهك يدعي كل هذه الصلابة والقسوة اللتان لا يملك لأي منهما مقدرة، نبرة غائبة في وسط معاناة لا يعلم عنها أحد شيء، كان خلالها بنظرها لا يتصف سوى بوقح، دنيء، ربما حقير، عديم الرجولة، يستغلها، يتلاعب بخوفها، ويقوم بتهديدها، يستغلها دون مراعاة لكل ما كان بينهما يومًا ما، فلتصفه كما شاءت، محامي خبيث؟! نعم لقد كان لسنوات، رجل مجنون، نعم هو مجنون وتأكد من ذلك، يستحق كل ما قد يجري بعقل امرأة سليمة، ولكن هذه التشنجات الذي شعر بها بجسدها أخبرته أنها ليست على هذه الدرجة من أن تكون واعية بما يحدث لها!

 

جذبها للخارج من باب آخر غير الذي غادره أخيه، لا يرى ملامحها ولا يستطيع النظر لها، لا يعرف كيف تبدو، ولا يعرف كيف ينظر لهم الجميع، ولكنه يعرف أن المواجهة التالية ستكون أصعب ما قد يتعرض له في حياته، أصعب من تلك الشهور وهو بالمشفى وحده، أصعب من تلك الجلسات التي جعلته يرى حياته بأكملها بمنظور آخر، وأصعب من ثلاث محاولات انتحار لم ينجح أيًا منها بعد.. ولكن على الأقل ما يُجبره على متابعة هذا الطريق هو غضب "يزيد الجندي" الذي لن يستهين به سوى الغبي.. ولقد اكتفى من كونه أغبى رجال العالم!

 

تخيل لو أنه بمعجزة ما استطاع أن يلمسها ولو لمرة واحدة قبل موته، تخيل الكثير من المواقف التي تجعله تلمسها، ولكن أن يفعل بها ذلك، لم يكن ليحدث بأسوأ كوابيسه! لا يُصدق أن مضطر أن يكون بعينيها أسوأ رجال الأرض، ولكن أمام ما يمكنه والده أن يفعله سيرضى بهذا!

 

ارتعدت بداخلها، لا تدري لماذا لسانها ينعقد أمامه ومعه، هذه المرة الثانية لهما هذه الليلة، وكل ما ينتابها هي تلك النوبات الخائبة!

 

وضعت يدها بجانبها تتحسس حقيبة يدها فلم تجدها، لقد تركتها مع ابنة خالتها منذ قليل، هاتفها، كل ما تملكه، لا تستطيع التصرف، وستفقد عقلها بأي وقت الآن، هي تشعر بذلك!!

 

-       ادخلي قدامي!

 

كانت تظن أن ما تفعله يثير غيرته ليس إلا، ما زالت لا تتحلى بالقوة معه، ما زالت ينعقد لسانها كلما أوشكت على التعرض له أو قص ما حدث بينهما، لقد لجأت للشراب بمجرد رؤيته من جديد، كل تلك الشهور لم تفدها بشيء، لم تتغير، حياتها تنقلب مُجددًا رأسًا على عقب بسببه، وكأنها لم تتأهل ولو بمقدار ذرة واحدة لأي نوع من أنواع العلاج النفسي.. 

 

صوت تضارب أسنانها يعاودها من جديد، أم هذا يحدث لها بالفعل، هيئته المُخيفة بشعره الأسود الفاحم، رائحته التي تسللت لأنفاسها عندما اقترب لها، لم يتغير به شيء، في هذه اللحظة أدركت أنه محق، التأهيل النفسي ما هو إلا جنون وترهات، وكل فرد يمر بصدمة لا يتعداها مثل ما قد يتعداها شخص آخر، فهناك من يتناسى في أسابيع، وهناك من يتناسى في شهور، وهناك آخر لا يستطيع تحمل الأمر على الإطلاق ولا يتناسى شهور عذاب فقدت بها وعيها لمرات ومرات من لدغة عقرب لرؤية ثعبان أسود للاقتراب من الموت من درجة حرارة قاربت على التجمد، هل يبدو وجهه أبيض اللون دون أي ملامح، لابد أن هناك شيء خاطئ يحدث، الطابق بأكمله يدور حولها وتدور هي معه، هو لن يقوم بحبسها من جديد، هل سيفعل؟ هل ستفقد وعيها مجددًا؟! ربما ستفعل الآن بمجرد مرور ثانيتين بتواجدها معه بداخل مصعد مُغلق..

يبدو أن تصنعها انعقاد لسانها وعدم المقدرة على الحديث كان مجرد استباق للأحداث من قِبلها ليس إلا!! 


❈-❈-❈

هل هذا أول لقاء لهما؟ فرار من منبه داكن يسقط على ملابسها ليفسدها ونظرة طويلة ثم تهديد صريح لتنتهي بفقدان الوعي وهو لا يستطيع أن يحملها وكادت أن تسقط من بين يديه أكثر من مرة إلى أن آتى بها إلى هُنا؟!

 

وقف في حالة من التشويش ومنع نفسه لأكثر من مرة أن ينظر لها، فما يبتغيه بقرارة نفسه أن يريح حريق الاشتياق الجارف لها، تلك الملامح وهذا الجـ ـسد الذي كان لا يفارق ذراعيه طوال الوقت، كيف سُرق منه في لحظة واحدة؟! كيف تدهور الحال بهما إلي هذه الدرجة؟!

 

حاول أن يتملك بعض السيطرة على نفسه، عيناه تحرضاه على أن ينظر لها ويتفقد حالها، له الحق بذلك، مجرد نظرة ليس إلا، ولكن صراعه مع عقله نصف الواعي بغيض، لعين، هذا القاسي لا يملك رحمة عليه ليتملك ولو نظرة بأعين رجل أشتاق لمن عشقها قلبه، فهو يعرف أن كل هذا من صنع يده، ونصف عقله الآخر.. لقد أفسد كل شيء!

 

حاول التماسك لبُرهة، يحث نفسه أن يبتعد، لا يريد أن يؤلم نفسه بما سيحدث، لو اقترب مرة سيتألم على أثرها آلاف المرات، فما حدث بينهما الليلة سيبقى طريده للأبد حتى يصرعه.. وكأن وجودها أمامه مجرد تذكير لحياة بأكملها عانى بكثير من فقدانها بالأيام الماضية وعندما ظن أنه أصبح لديه القليل من السيطرة على حياته دونها آتت هي لتذكره بكل ما فقده!

 

تبًا للسيطرة، ما الذي كسبه بامتلاكها معها، هذا لو كان فعلها بالأساس، هو لن يمنع نفسه من النظر لها هذه المرة، على الأقل لن يواجه عينيها المنيعتان، وليبكي الآن بحرية كما يحلو له، فرؤيتها بكل ما مزقه الاشتياق لها من ملامح واستكانة دفعته لنفس دوامة الألم من جديد بحقيقة افتراقهما للأبد!

 

حالة من الانهيار الكاملة، وبكاء متواصل ظن أنه سيدفعه للفظ أنفاسه الأخيرة وهو جاثيًا على ركبتيه أرضًا بجانبها، يكتم أنفاسه بيده خوفًا من أن تستيقظ وتفيق من فقدانها لوعيها الذي يعلم أنه السبب في كل ما فيه، ينظر لها وعقله فارغ تمامًا من أي فكرة سوى أنه خسرها بالفعل ولا يمكنه فعل شيء لتغفر له، ولم يشعر بنفسه سوى بعد الكثير من الوقت عندما سمع جلبة بالخارج أمام باب الجناح الذي تواجد كلاهما به في يوم من الأيام.. ولو هناك آلف رجل ينتظرونه خلف هذا الباب ليقتلوه، لن يترك هذه الدقائق القليلة المتبقية له معها ليسلبها منه أي أحد!

--

تراجع للخلف عندما استمع لتلك الطرقات على الباب ولكنه لم يجب وخشى من استيقاظها بفعل هذه الضوضاء، تفقد الساعة سريعًا، ما زال هناك أقل من ساعتين لانتهاء هذا الحفل، هذه هي فُرصته الوحيدة بأن يتنعم بالقليل من الوقت الأخير له معها!

 

اتجه سريعًا ليقوم بفصل الهاتف المتواجد بالجناح ثم قام بوضعه بالخزينة، ورمق ما احتوته بداخله بأعين يتضح بهما الخوف، أغلقها سريعًا وجذب زجاجة عطره ثم عاد نحوها، لابد من أن يحصل على كلمة منها، بالرغم من أنه ليس مستعد للمواجهة ولكنه لا يستطيع أن يتركها وشأنها دون نهاية فعلية، فكل ما حدث لم يضع له نهاية على الاطلاق!   

 

لا يعرف ما يُريده عقله الممزق بين الخوف وبين الشوق والرغبة لإرادته بأن يتحدث لها ولو لمرة أخيرة، ولا يعرف حتى كيف له أن يمحي هذا الخوف منها الذي لاحظه عليها عندما رآها اليوم.. تلك النبضات من قلبه لن تهدأ سوى بالحصول منها على رؤيته إياها بأفضل حال، عليه أن يُفسر لها موقفه هذه المرة، على الأقل بعدها يُمكنه أن يتوقف عن الشعور بأنه أصابها بضرر سيلازمها حتى موتها، لا يريد منها أن تظن أنه ما زال كما هو ولم يندم على ما فعله!

 

كاد أن يوقظها، دون أن يُلامسها، دون أن ينظر لها مباشرة، ولكن هناك القليل مما قد يغير نظرتها تجاهه، أو على الأقل سيتمكن من أن يهدأ هذا الخوف بها إلى أن يغادر كلاهما هذه الغرفة ويذهب كل منهما بطريقه!!  

 

وجه هذا المقعد نحو باب الجناح نفسه ثم أحضر تلك الزجاجة الموضوعة بركن المشروبات التي لم يعد يتناول منها نظرًا لكراهية ما فعلته به وبها بالسابق، وضعهما بالقرب منها على تلك الطاولة الموضوعة بالقرب من الأريكة التي تمددت عليها، حاول لملمة هذا الشتات بداخل عقله، وأخيرًا اقترب منها وهو يقرب الغطاء الخاص بزجاجة عطره من أنفها لتستيقظ من هذه الغيبوبة وعقله بالفعل خالي من كل الكلمات التي قد يبرر لها بها فعلته منذ قليل وأفعاله السابقة منذ شهور قاربت على إتمام عام واحد!!



❈-❈-❈

الصقيع، لا تدري لكم من مرة ستفقد وعيها، بكل مرة تستيقظ وتظن أن هذا العذاب قد توقف تعلم أنه لم يبدأ بعد، هذا العقرب، ذلك الثعبان الأسود، رائحته، ملامحه، ما الذي سيفعله بها بعد؟

 

فتحت عينيها في خوف بعد أن انطلق منها أنين جعله يفر هاربًا متحاملًا على كل ما يجري في عقله ولا يرأف به بصحبة تلك الدموع التي يثق أنه ليس هناك منها طائل بينما هي نهضت في حالة من الفزع وهي تستند على يديها لتنهض جالسة على تلك الأريكة وهي تزحف بتلقائية للخلف وعينيها مثبتتين عليه تتابعه حيث وجه ظهره نحوها ووقف يحول بين الجناح بأكمله وبين الباب الخاص به ليصل لها فكرة أنها يستحيل أن تُغادر بأي طريقة من الطرق!

 

-       اهدي ومتخافيش.. كلها ساعة وشوية وابقي روحي المكان اللي تحبيه واعملي ساعتها اللي أنتِ عايزاه!

 

تحكم منها نفس الخوف من جديد، ونفس الغضب الذي يسيطر عليها كلما فكر به عقلها، وكأن هذا الأمر اللعين يتوقف، لماذا لا تستطيع أن تتحدث له؟ أو تصرخ به؟ هذا الجناح في نفس الدور الذي يقع به الجناح الذي قامت بحجزه، لماذا لا يمكنها الصراخ عاليًا حتى تتخلص منه لو استمع لها أي رجل من رجال الأمن الذين أصبحوا يلازموها بشكل دائم!

 

حاول التحكم في ارتجاف يده اليُسرى حيث رفعها وهو ينظر ببريق ساعته ليتفقد أين هي وما الذي تفعله وحتى ولو بغير وضوح فوجدها ما زالت تجلس على الأريكة ولم تتحرك ليتألم لتلك الحالة التي أصبحت هي عليها بفعل يديه ثم حاول التكلم بهدوء دون أن يُثير المزيد من خوفها:

-       أنا عارف إنك سامعاني كويس، موضوع التوكيل هيخلص بكرة الصبح زي ما أنتِ عايزة.. وكلامي ليكي من شوية كان عشان امنع مُشكلة كبيرة ممكن تحصل قدام الناس بينك وبين بابا

 

كلماته لا تُساعد بأي شكل من الأشكال، كل ما تُفكر به هو مجرد وجودها معه بين جدران بعيد عن الجميع وعن أي مظهر من مظاهر الحياة وهذا لا يترك لها سوى فكرة أن سيؤذيها كما فعل بالسابق..

 

يعرف أن الكلمات هي ما قد تُغير المرء بصحبة الوقت كما تغير هو من رجل لا يتقبل فكرة مرضه والابتعاد عمن عشقها إلى هذا الرجل الذي يتقبل اضطرابه وهو يداوم على العلاج النفسي والدوائي وأخيرًا اقتنع بفكرة أنه يستحيل أن يظل زوجها تحت أي ظرف من الظروف، لذا كان عليه أن يحاول مرة أخرى:

-       عايزة تشربي اشربي، عايزة ترقصي أو تلبسي اللي أنتِ عايزاه أنتِ حرة، استحملي بس لغاية ما الخطوبة تخلص وبعدين روحي اعملي اللي تحبيه، ولو حاسة إنك مش عارفة تقعدي هنا ادخلي الأوضة جوا واقفلي على نفسك لغاية ما الليلة دي تعدي.. مش هامنعك من أي حاجة غير إنك تخرجي وتلاقي نفسك قدام بابا..

 

تأبى أن تنظر سوى لرأسه وبعض من جـ ـسده الذي يظهر من فوق هذا المقعد، تأبى أذنيها عن التوقف لسماع ما يقوله وينطق به، كما يأبى لسانها النطق بكلمة واحدة.. كل ما بها عقلًا وجـ ـسدًا يأبى العمل، وحتى هذا الخوف بعد الكثير من العقاقير وشهور من التأهيل النفسي لم يفدها في أي شيء..

 

ابتلع وعينيه مثبتتين نحو الأرضية ثم لاقاها بالمزيد من كلمات لا يعلم من أين آتت:

-       خوفك مش هيخليكي تعرفي تتصرفي في أي حاجة، هيتحكم في حياتك الباقية كلها، وأنتِ عارفة كويس إنك مبتحبيش حاجة أو حد يتحكم فيكي.. قومي وادخلي جوا عشان تعرفي تهدي.. أنا عارف إني استغليت خوفك ده غصب عني عشان كنت مضطر اتصرف كده، بس قدام لو حد شاف خوفك واتأكد منه هيستغلك من غير ما يكون مضطر لده..

 

ازدادت أنفاسها المرتبكة وهي تستمع لصوته، لا شيء يتغير، ليس هناك أي شيء بداخلها ينصاع لما تُريده، ضعف شديد بصحبة خوفها يتحكم بها، وكلمة واحدة تحاول أن تنطق بها أو صراخ مدوي لا تستطيع أن تفتعله وحتى ولو لجزء من الثانية!

 

-       حاولي تفكري في كلامي، أنا مش هاقدر اعمل أي حاجة كنت بعملها زي زمان، مش هاقدر أكـسر باب أو حتى إني أقرب منك، وأنا وأنتِ مبقاش قدامنا غير الوقت عشان يثبت إذا كنت بكدب ولا لأ! قومي ادخلي جوا لغاية ما الخطوبة تخلص، يمكن لما تبعدي عني ترتاحي شوية!

 

كان مُحق في هذا، الوقت هو الاثبات الوحيد على الكثير من الأشياء، وهذا ما بدأت في ادراكه بعد مرور الدقائق وهي تنظر له، جالسًا على نفس المقعد، دون أي حركة منه، ودون قول المزيد من الكلمات!

 

استكانت وتيرة أنفاسها رويدًا رويدًا، ولكن بعد معرفة من هو هذا الرجل ليس لديها ذرة من الثقة في كلماته، لذا خوفها لم يندثر بالكامل، ما زال يسيطر عليها بشكل كبير، ما زالت تتذكر الكثير مما مرت به معه بمفردها في أحداثٍ شتى، ولكنها تريد أن تتخلص من كل هذا الغضب والخوف على حد سواء..

 

هبطت ساق منها على حذر وعينيها مثبتتين نحوه في حالة من الفزع ولكنها لم تُلاحظ أي حركة من حركاته فتبعتها الساق الأخرى لتلمس كلتاهما الأرضية بارتجاف، لا تثق بأي شيء مما قاله، ولا تثق بكون أن وجودها معه بمفردها سيأتي من خلفه خير على الاطلاق!

 

سلط نظره على انعكاس ما تفعله على معدن ساعته العاكس ليتنهد بنفاذ صبر ثم قال متحاشيًا تلك الشهقة الفازعة منها عندما شرع في الحديث وثابر أن يستمر للنهاية:

-       أنتِ عمرك ما كنتي بالخوف ده.. وفيه مليون حاجة تثبتلك إني مش عايز منك حاجة، أنا اللي طلقتك وأنا اللي بعتلك ورقتك بنفسي ولو كنت هعملك حاجة فكنت عملتها من زمان.. قومي واتحركي من ورايا مفيش حاجة هتقدر تمنعك حتى لو أنا!  

 

ابتلعت وحاولت أن تتغلب على هذا التيبس الشديد الذي سيطر على كل حركاتها ونهضت في لمح البصر ثم توقفت وهي تنظر له فوجدته ما زال على هيئته، لا يتحرك ولا يصدر منه أي صوت..

 

الدقائق تمر ولا شيء يتغير، لا تصدر منه أي حركات، لا ينظر إليها، ولكنه كاذب، كل مرة أخبرها أنه لن يفعل ما ترفضه كان يصفعها بقوة بحقيقة أنه ما زال يملك المزيد في جعبته ليؤذيها أو يخيفها أو يُعذبها به!

 

امتدت يدها المرتجفة إلى تلك الزجاجة الموضوعة بجانبها، لا ترى سوى رأسه يقطر دماء لا تتوقف بفعل ارتطام هذه الزجاجة الثقيلة بها، قد يموت للأبد وتنتهي هي من كل ما تحمله بداخلها تجاهه!

 

أخذت خطوة مقتربة له، الزجاجة ثقيلة لا تستطيع حملها، وأنفاسها الخائفة تتعالى كلما اقتربت له، ويدها نفسها لا تنصاع لها لتقوم برفعها حتى تلتقي برأسه وتتخلص منه للأبد!

 

تابع المزيد مما تفعله ولم يتحرك، لم يحدث شيء سوى أن يده تزداد بارتجاف غير مسبوق ولم يتعرض له قط في حياته لا يُصدق أنها ستقتله حقًا أو تريد أن تفعل هذا، ما فعله معها من محاولات قتل شتى سواء بيديه أو باستغلال ما تخاف منه حقًا قد يدفعها لهذا، تصرفات في غاية المنطقية، لتفعلها إذن وتُخلصه من هذه الحياة المريرة!

 

حاولت التحكم في هذه الحالة والأفكار العديدة بدأت في الانهمار على عقلها، هي على وشك أن تقتله، أو على الأقل تضعه في غيبوبة جديدة، وقد تضعف بفعل خوفها المستمر منه ولن يحدث له شيء سوى أنها ستقوم باستفزاز غضبه، ولقد واجهته مرة بالسابق وعرفت ما الذي يحدث كعاقبة على افعالها، قد يتهمها أحد بالقتل، وقد يقوم بسجنها بعيد عن كل مظاهر الحياة، وقد تُعاني هي من جديد..

 

لقد كانت تنتظر خبر موته حوالي شهرين كاملين، ما الذي حدث وقتها؟ ما الذي تغير؟ كان الغضب يزداد بداخلها، عليها الاستيقاظ من كل هذا وجمع شتات نفسها، غضبها الذي عملت جاهدة على التحكم به لشهور وهي تتعافى من ادمانها للخمر، ولكن هذا الخوف لا يسمح لها بأن تفعل، لماذا لا تتحرك؟

 

اقتربت مقدار نصف خطوة، يده تتحرك بطريقة غريبة، يريد أن يقتلها هو الآخر؟ أم ما الذي يُريد فعله بها؟

 

-       اعمليها وريحيني وريحي نفسك!

 

بمجرد نطقه لتلك الكلمات تشبثت بالزجاجة التي كادت أن تقع أرضًا ولكنها سلاحها الوحيد معه، لا تملك سواها ولا تملك المقدرة للتحكم في خطواتها التي دفعتها للخلف، ما الذي قاله؟ يُريدها أن تفعل الأمر وتقتله؟ وتتحول من امرأة مُدمرة، لأخرى مدمرة سيُنطق الحكم بإعدامها بعد تدخل المحامي الشهير "يزيد الجندي" في قضية قتل ابنه؟!

 

تفقدت كل ما حولها وأنفاسها تزداد في التعالي بارتباكٍ يندفع بسائر كيانها، لا تعرف ما الذي عليها فعله، وحركة منه على مقعده كانت كفيلة بدفع هذا الخوف بها إلى الاتجاه فورًا نحو هذه الغرفة وهي تغلق الباب خلفها في حالة من الفزع كادت أن توقف قلبها الذي لم يتوقف عن الانتفاض ولو لثانية واحدة منذ أن استيقظت من فقدان وعيها! 



❈-❈-❈

بعد مرور نصف ساعة..

تفقدت هذه الغرفة بمحتوياتها، كل ما تحمله، كل ركن بها يحتوي على جزء من ليلة مريرة تبعها أيام أشد مرارة، مذاق لا يخلف سوى ألم قاسي كأنها كانت تقوم بابتلاع خناجر لا تكف عن طعنها!

 

إلى متى سيستمر هذا العناء، غضبها يحركها لتنهض وتصرخ به، ولكن خوفها يتحكم بكل ما بها، كلما ظنت أنها ستقوم بالنطق أمامه ينعقد لسانها ولا تستطيع فعلها، تمامًا كتلك الأيام التي حاولت أن تقص على المعالج النفسي ما حدث لها في تلك التجربة المميتة معه، الأيام تمر، كادت أن تقترب من عام منذ أن نطق بطلاقها بنفسه وهو يحاول الموت أمام عينيها، وكل ما بداخلها لا يتغير!

 

جرعة جديدة من تلك الزجاجة التي لم يمتلك جُبنها وخوفها أمامها سوى الاحتساء منها، تعلم أن الأمر بات يختلف عن السابق كثيرًا، زجاجة كاملة منذ حوالي عام ونصف العام قد تفقدها وعيها بكل ما حولها، أمّا اليوم وفي هذه اللحظة الكحوليات لا تجعلها تشعر سوى ببعض التهدئة والسكون لهذا الخوف الذي انتابها عند رؤيتها له..

 

لم تختلف محتويات الغرفة، نفس ألوان الجدران بنفس الأضواء وهذا هو نفس المقعد بجانب الفراش ونفس المرحاض الذي كبلها به يوم ما وهي غير واعيًا لما يفعله..

 

ربما مرور الوقت يصنع الكثير من المعجزات، فبتأثير تلك الدقائق المنصرمة وبستر هذا الكحول لعقلها الخائف من مواجهته، تبدل شعورها من الخوف ليقترب من الغضب أكثر، لم يعد هناك بها تلك البرودة الغريبة التي تشعر بها كلما أدركت أنه بالقرب منها، بل نيران تلتهم كل ما بها وتدفعها للاقتراب من حافة الجنون!

 

نهضت وتفقدت المزيد من كل ما وقعت عينيها عليه من هذه الغرفة، يقوم بحبسها؟ مُجددًا؟ ماذا لو صرخت به؟ ماذا لو صاحت به بأنه إن لم يدعها تغادر سينقلب هذا الفندق رأسًا على عقب؟ ماذا لو قامت بتهديده مثل ما فعل معها لآلاف المرات؟!

 

أخذت عينيها تجوب هنا وهناك وعقلها ينتعش بالكثير مما مر عليها في ليلة سوداء تبعها أيام أحلك، يا له من رجل جيد، أيداوم على هذه العقاقير الآن؟ نوع، اثنان، ثلاثة، وأربعة.. هذا نفس مثبت المزاج الذي كانت تدسه له بالطعام، وما الذي كُتب على هذا؟ مضاد للذهان، وهذا مهدئ ما يُساعد على النوم، مضاد ما للاكتئاب، أيتناول كل هذا الدواء بمنتهى الإرادة منه، يا له من رجل مثالي!!  

 

هل بهذه الطريقة سيثبت لها بأنه له الحق في أن يكون معها من جديد؟ هل هذه هي حيلته هذه المرة؟ الهدوء، واحضار زجاجة مشروب كحولي لها وتركها لبعض شهور هذه المرة أن تظن أنه بات بإمكانها فعل ما يحلو لها وهو يتقبل كل تصرفاتها، الأمر مثير للسخرية حقًا..

 

اتجهت لتتفقد المزيد، بالطبع لن يوجد أي شيء في غير موضعه مع هذا المهووس بالترتيب، ألا يتذكر مظهر تلك الغرفة التي ألقى بها كل شيء في غير موضعه؟ لو نسي هو بسبب اضطراب عقله فهي لم تنس!

 

اتجهت نحو ملابسه لتُلقيها أرضًا بغيظٍ شديد، لا تريد سوى أن تفعل كل ما يُزعجه حتى ولو أمر تافه كهذا، ليظن أنها فقدت عقلها، لقد تعايشت مع نفس الحقيقة معه لأيام كثيرة، هل يحتفظ بزجاجة عطرها بين أشياءه؟ هل كان يدفعها للدخول ليستفز عطفها ومشاعرها بهذا الحيل التافهة؟ ما الذي يظنه؟

 

بالطبع، الوغد المحتال الذي لا يتوقف عن أفعاله، لا تستبعد أن يكون هو من وراء إرسال أخيه لها حتى يُقنعها بتلك الترهات عنه، تواجده معها بمينيسوتا ومحاولته لقتل نفسه أكثر من مرة، وذهابه للعلاج النفسي، هذا بأكمله ليس من شأنها، هي تريد أن تغادر هذه اللعنة، لن تدع الأمر ليكون مجرد شهور من ابتعاد عنه ثم العودة مرة أخرى!

 

اتجهت للمرحاض وهي تتناول آخر جرعة، تبًا له، كل هذا التأهيل من عدم اقترابها من الكحوليات مرة أخرى ذهب بأكمله بمجرد رؤيتها له ومعرفة ما فعله، وها هي أمام نفس الاختبار لتجد نفسها تحتسي من جديد، لا، لن يكون الأمر هكذا..

 

سكبت ذلك السائل من تلك الزجاجة بالمرحاض إلى أن تبقى حوالي ربع ما احتوته بالسابق ثم امتدت يدها لتخفي الاثار ببعض المياه وتوجهت للخارج بخطوات غاضبة وبمجرد وقوفها أمام الباب الذي يفصل غرفة النوم عن غرفة الاستقبال وجدته يجلس على الأريكة يُحدق بشرود نحو الأرضية فوجدت نفسها لا تستطيع الاقتراب منه أكثر لتخبره بغيظ وهذه الخمر والقليل من اثار الثمالة دفعتها للتحمل نوعًا ما:

-       لو مسبتنيش أخرج حالًا أنا هقلب الاوتيل ده على اللي فيه!

 

تنهد بإرهاق وكان يتمنى لو اقتنعت مرة وحيدة بكلماته دون أن ترفضها ليُعقب قائلًا:

-       هتعملي ايه؟ هتصرخي؟ هاقوم في ثواني غصب عني وهاضطر اسكتك، أنا مش عايز ده يحصل، أرجوكِ استحملي الساعة اللي فاضله لغاية ما الخطوبة تخلص!

 

تفقدته بغيظٍ وأنفاسها ارتبكت من جديد بفعل صوته وحده لتوضح له حقيقة واحدة عليه أن يتذكرها دائمًا:

-       أنا مش قادرة استحمل ثانية واحدة معاك.. أنا همشي واياك تمنعني!

 

اتجهت بخطواتٍ نحو الباب لم تلاحظ بها خوفها الشديد منه وتناست أنها تُمسك بهذه الزجاجة ليزفر بضيق وهو ينهض دون النظر لها وتوقف بينها وبين الباب لكي يمنعها من المغادرة وتحدث بخفوت ونبرة متوسلة:

-       أرجوكِ بلاش مشاكل، أنا مش هاقدر أقف قدام بابا اليومين دول لو عملك حاجة..

 

ابتسمت بتوتر وهي تتفقده بمقلتين ينهمر من كلتاهما الاحتقار وعقبت متهكمة:

-       وأنت من امتى عرفت تقف قدامه، طول عمره بيتحكم فيك، طول عمرك ضعيف ومبتعرفش تعمل أي حاجة غير مع الستات.. بتتحامى فيه قدام الناس عشان تحافظ على منظرك وبليل بتعمل راجل على واحدة ست مش قادرة تدافع عن نفسها!

 

استقرت تلك الكلمات لتسبب له الاستفزاز الحقيقي، هي لا تفهم الأمر بعد، هذا لا يحدث، ولكن كذلك هذا ليس الوقت المناسب ليُحدثها عن علاقته بوالده! لتقول كل ما تريد لو هذا سيقضي على تلك الدقائق المتبقية حتى انتهاء هذا الحفل!

 

-       ابعد من طريقي!

 

استقرت عينيها لتتابع ساقيها حتى لا تأخذ خطوة واحدة دون أن يستطيع التصرف ولم تستطع عيناه النظر لها بالكامل ليحاول أن يقنعها متوسلًا:

-       انتي بقالك هنا حوالي ساعة، أنا معملتلكيش أي حاجة ولا قربت منك.. لآخر مرة هقولك أرجوكِ بلاش مشاكل واستني الساعة اللي باقية وبعدها اعملي كل اللي أنتِ عايزاه!

 

اشتد غضبها من مجرد تلك الكلمات، هي لن تتقبل المزيد من الحيل، لن تستمع لكلماته للمرة المائة بعد المليون لكي تُصدقها، هذا الرجل كاذب!!

 

صرخت بقوة حتى يتساقط صوتها على كل من يستمع لها ولكن لم تغادر شفتيها سوى كلمة واحدة:

-       الحقوني أنـ..

 

يـ ــده بالفعل كانت تغلف فمها بعد أن دفـ ــعها لأحدى الجدران وبقية تلك الكلمات انعكـ ـست بأنين مضطرب بكف يده، يقسم أنه لا يريد فعل هذا، ولكنه لا يريد للأمور أن تتفاقم!

 

-       أنا مش عايز أعمل فيكي كده.. أرجوكِ كفاية.. تصرفاتك دي كلها مش هتؤذي حد غيرك!

 

نبرته المتوسلة وهو يُسلط نظراته على الجدار خلفها لم تُصبها سوى باندفاع الغضب والخوف بها على حد سواء، لا تستطيع تحمل اقترابه منها، لا يُمكنها تحمل رائحة عطره، ستتحمل الحريق بالنيران ولكنها لن تحتمل هذا الاقتراب منه!

 

دفعته كي يتوقف عن فعلته ولكن مقاومتها لم تكن كفيلة بردع ثقله الذي تركه يستسلم بين هذا الألم الذي لا يتوقف منذ شهور وازدادت وطأته عندما رآها الليلة، لماذا لم تعد تتحلى بالعقل؟ لماذا تريد دفع كلاهما إلى دائرة من النزاع لن تنتهي سوى بمزيد من الصعاب له ولها!

 

-       أرجوكِ.. كفاية كده، أنا مش قادر أقرب منك ولا ابصلك ولا حتى المسك بعد كل اللي حصل، لا أنتِ تستحقي ده ولا أنا استاهل!

 

ناشدها بصوت غلبه البكاء متضرعًا أن تستجيب لمطلبه الوحيد، لو فقط اتجهت للأسفل بعد هذه التصرفات وتواجهت مع والده وجهًا لوجه، لن يحل الأمر بعقلانية، لن يرى سوى أنه له الحق في إيقاف هذه المهزلة، ولا يستبعد أن تكون صورة أخرى من والدته التي لحق بها غضبه لسنوات سواء أمام أعين الجميع أم خلف تلك الأبواب المُغلقة!

 

خانته عينيه ولم تستطع صون هذا العهد بعدم التعرض لها بما يُثير شفقتها نحوه، كما خانته يديه وهي توقفها مجبرة على تحمله، لا يدري كيف عليه ايقافها سوى بهذه الطريقة، يعرف ما الذي تفعله عند غضبها، ولكن هذا المزيج من الخوف والغضب والثمالة لا يستطيع أن يواجهه بمفرده دون أن تستجيب لمقدار هذه الحرب التي شنتها بنفسها!

 

حاول السيطرة على نفسه وهي يبعد وجهه خافيًا إياه بالقرب من الجدار بجانب وجهها لكي لا تظن أنه يستحث مشاعرها وهو يغمض عينيه حتى يُهيئ نفسه أن هذه هي المرة الأخيرة لاقترابه منها وهو يستشعر أنفاسها بيديه ويستنشق عطرها المصحوب برائحتها التي جعلت كل ما به يهدأ من صراع دام لشهور لم يمتلك نفس تأثيرها أي من تلك العقاقير الواهية عليها وهتف بمزيد من التوسل:

-       لو نزلتي وبابا شافك، هيعمل مُشكلة معاكي قدام الناس، هيطلعك غلطانة مهما قولتي ومهما حصل، هيقنع الكل إنك بتتصرفي بأسلوب مش صح وإنك لسه مرات ابنه، ولو جيبتي سيرة الطلاق قدام قرايبنا هتبقى مشكلة تانية، بابا مستنيلك على غلطة واحدة وساعتها مش هابقى أنا اللي بتصرف معاكي ولا أنا اللي بتتعاملي معاه، أنا عرفت اتدخل واقنعه إنك مش السبب في انتحاري وإن مالكيش علاقة بكل ده.. اصبري شوية.. صدقيني المرة دي بس، اسمعي الكلام لغاية ما الخطوبة تخلص!

 

اخفض يده وابتعد عنها بهدوء ليوجه لها ظهره بينما توالت أنفاسها في ذعر وغضبها يزداد، تحترق تلك المشاهد بداخل عقلها بكل مرة اقترب لها منها خلالها.. يفعلها من جديد، يقترب لها وكأن كل ولى لم يكن سوى أمر عابر له، يظن أن هذا من حقه..

 

هدأت أنفاسها أكثر عندما ابتعد وهو يتوجه نحو الباب ودموعه لا تتوقف بينما كتم أنفاسه لكي تظن أنه يتعامل مع الأمر بجمود على نقيض ذلك الألم الذي لا يترك قطرة من دمائه كما هي، لا يتمنى سوى أن تشعر بفداحة ما تُريد فعله.. يكفي تعقيدًا فيما بينهما قبل أن يتحول كل ما بينهما لمهزلة أسوأ مما أصبحت عليه بالفعل!

 

-       أنت لسه فاكر إن كل حاجة هتمشي زي ما أنت عايزها، أو زي ما باباك عايزها.. بس صدقني أهونلي الموت من إني أكون معاك ولو ثانية واحدة، وهثبتلك حاضر!!

 

قالت كلماتها وبعدها شعر بتحركها خلفه ليخفي آثار تلك المشاعر التي باتت تحركه كالدمية وراقب ما الذي تتجه لفعله لتتوسع عينيه وهو يراها تتجه نحو الشُرفة التي ازاحت بابها للجانب وسرعان ما توجهت لتقف على حافة هذا السور فتبعها بأعين تخشى هذا الجنون الذي تملك منها أما عنها فهي تعرف كيف يستجيب لكل ما يظن أنه جديد عليها، جربت آلاف المرات هذه الحيلة معه ولطالما انطلت عليه ببراعة!

 

-       بتعملي ايه؟! مفيش حاجة من كل اللي حصلت تموتي نفسك عشانها! انزلي أرجوكِ

 

هتف بها دون تفكير بينما نظرت هي للأسفل لتشعر بمدى هيبة المنظر، ها هي على مسافة طوابق عديدة، لن تسقط إلا وهي ميتة تمامًا، يستحيل أن ينتهي السقوط منها سوى بالراحة الأبدية، دون خوف، دون غضب، ودون ذكريات وماضي لا تنفك تُفكر به ويُسيطر على كل لحظة في حياتها..

 

حاولت المحافظة على توازنها وبيدها تلك الزجاجة، لوهلة سخرت من تحولها لنسخة منه بكل ما هو عليه، تبدو كالمجنونة التي فقدت عقلها مثله تماما بنفس الشرفة التي توجه لها يومًا عا ريًا دون الاكتراث بمن قد يُشاهده!

 

التفتت له وهي تخبره بتهكم:

-       غريبة، فارق معاك اموت ولا أعيش..

 

ارتفعت أنفاسه بارتباك وهو لا يستطيع النظر لها وكاد أن يتحرك لكي يقترب منها فنهته لتقول:

-       اياك تقرب!

 

رفع كلتا يديه باستسلام لترى ارتجاف يده وقال بهدوء وحرص شديدان:

-       مش هاقرب.. هاعمل كل اللي انتي عايزاه، بس أرجوكِ انزلي من على السور!

 

التفتت مرة ثانية لتنظر أسفل منها وأدركت أن كل الجنون لا يُناسب أن يُصبح حيلة لتحتال بها عليه، ربما أصبح الأمر حقيقة، هي لا تستطيع العودة وبنفس الوقت لا تستطيع أن تُقدم على أن تفعلها وتُلقي بنفسها حتى تتلاقى بأرض صلبة ستدفنها بطياتها للأبد!

 

-       أنا هسألك سؤال واحد بس وابقي اعملي اللي أنتِ عايزاه بعد ما تجاوبيني.. أنتِ عايزة تعملي ده ليه؟ ايه اللي يستاهل تخلصي من حياتك عشانه؟

 

تثبتت عينيها على تلك الأضواء الليلة وهذه المسافة التي بدأت تشعرها بالخوف حقًا بينما فكرت في سؤاليه لبرهة وهي لا تُصدق أنها أقدمت على ارتكاب هذا الجنون، هل ثملت حقًا من هذا المقدار الضئيل الذي احتسته بعد توقفها لشهور؟ لا تظن أنها فعلت!!

 

-       تخيلي ايه اللي ممكن يحصل، مامتك، أخوكي، هيبقو عاملين ازاي من غيرك، شغلك اللي بتحبيه وممكن يضيع ويتهد بعد كل اللي تعبتي فيه عشانه في لحظة.. كل ده ميستاهلش إنك تفضلي موجودة عشانهم؟

 

حاول أن يوقفها بكلماته التي يعلم أنها أحيانًا تُفيد في مثل هذه المواقف، فلقد عانى من الأمر بالسابق مرات ومرات، لقد فكر وتوصل بتفكيره أنه ليس هناك من سيتألم لموته، أمّا هي فهناك من سيتألم لمفارقتها للحياة، وهو لن يتحمل أن يستمر في هذه الحياة لو فعلتها بسببه وبسبب كل ما فعله بها! ربما تأخر في قراره كثيرًا، ليته تركه "عُدي" ليفعلها منذ شهور..

 

-       لو حد فينا المفروض يموت بعد اللي حصل فهو أنا مش أنتِ.. على الأقل أنا مفيش حد هيزعل عليا، مفيش شغل هيوقف من غيري!

 

ابتعد آخذًا خطوات نحو نفس السور فالتفتت باحتراس لتتفقد ما سيفعله فوجدته هو الآخر يصعد وحاذاها ليتكلم بخفوت نادمًا:

-       يا ريتني عملتها من بدري!

 

تفقد تلك المسافة أسفله بينما تجمدت عينتيها عليه وهي تتابع ما سيفعله، لقد كانت تخدعه بالأمر ليس إلا لتدفعه للموافقة بمغادرتها دون أن يمنعها، لم تكن تتخيل أن هذه ستكون ردة فعله!  

 

 ارتفعت أنفاسها في خوف ثم خرجت الكلمات بصعوبة منها:

-       هتموت نفسك عشاني؟

 

غابت تلك الضوضاء المنبعثة من ذلك الشارع بالأسفل ولقد بدأت بالفعل في الهدوء نظرًا لتأخر الوقت وغاب عقله بعد سماعه لسؤالها، ولقد اكتفى بالإجابة بينه وبين نفسه أولًا، هو يتخلص من الحياة لأجل نفسه، من أجل هذا الألم الذي لا يندثر، لفشله في التحمل والمواكبة والاستمرار، لخوفه من مواجهتها، ولعدم وجود ثمن لحياته بنظر أحد.. على كل حال هذا بأكمله صُنع يداه وهكذا لابد أن تكون النهاية!

 

استمرت في متابعته بعد أن ظل ينظر نحو الأسفل بجـ ـسد لا يظهر عليه ولو ذرة من التراجع، على ما يبدو أن كلمات "عُدي" عنه كانت صحيحة، الأمر لم يعد خدعة، هذا يحدث حقًا، واحد منهما سيسقط في أي لحظة الآن وستنتهي هذه الليلة بمفارقة أحدهما للحياة!

 

اتجهت بأنظارها للأسفل والمشهد يزداد هيبة، تشعر بالذعر لو تحركت حركة واحدة خاطئة، ستلاقي حتفها وليس هناك مزاح في هذا!

 

-       أنا خايفة..

 

ابتسم بحسرة وعينيه لا تتوقف عن الشرود في كل هذه التفاصيل التي ستكون آخر ما تراه عينيه في حياته وقال معقبًا بيأس:

-       عارف، بس لو اتحركت حركة واحدة هتبطلي تخافي مش كده؟ كل اللي عملته فيكي هيبقى اسهل، هتتأكدي ساعتها انه انتهى ومش هايحصل تاني!

 

أغمض عينيه للحظة ولم ير أمام عينيه سوى تلك النظرة بعينيها عندما التقى بها منذ ساعات قليلة، لقد حولها من تلك الفتاة يبدو عليها الثقة والحزم وهي تقف أمام مكتبه لامرأة لا تمتلئ عينيها سوى بالذعر والألم!

 

-       أول مرة شوفتك فيها كنتي حلوة اوي، أحلى من أي واحدة شوفتها في حياتي، وبعدها معرفش كان ايه اللي بيحصلي معاكي.. كل حاجة عدت بسرعة، كنت بحاول، صدقيني حاولت أكتر من مرة.. بس زي ما أنتِ خايفة دلوقتِ أنا كنت خايف كل يوم عشناه مع بعض.. لغاية ما كل خوفي اتحول وافتكرت إن كل مرة قررت مخافش وإن ده مجرد وهم، حسيت إني كنت غبي، وفي الآخر شوفت إن خوفي حقيقي.. كل اللي عملته فيكي كنت مصدق إنك بتحبي راجل غيري، مشوفتش غير إنك نسخة أسوأ منها..

 

فتح عينيه ليجد تلك الدموع تشوش ذلك المشهد الأخير في حياته ليُتابع بهمس:

-       أنا عارف إن خوفي زمان مش زي خوفك مني بعد كل اللي حصل، وعارف إني عملت غلطة كبيرة أوي لا ينفع تسامحيني عليها، ولا ينفع حد فينا ينساها.. بس كل اللي حصل صدقيني كان غصب عني.. زي ما أنتِ واقفة وبتفكري تموتي نفسك عشان ظروف اتفرضت عليكي غصب عنك، أنا كمان الوجع اللي كان جوايا ساعتها خلاني اتصرف بطريقة مش صح.. بعيد عن العقل.. والتفكير، كنت بتحرك بسبب حبي ليكي اللي افتكرته انتهى بخيانة وسرقة واختيار منك إنك تهدديني وتبعدي عني!

 

تساقطت دموعها عندما صاغ ما حدث بينهما بهذه الكلمات ولكنه لم يدع لها الفرصة بالتفكير وتكلم وهو يحاول منع دموعه:

-       مش سهل تعيشي وانتِ خايفة، أنا اكتر واحد عارف ده.. أنا عشت طول عمري خايف، وكنت بعمل كل حاجة تثبت إني قوي ومش جبان بس في الآخر الخوف هتقدري تتعاملي معاه.. هتتغلبي عليه، وبالذات لو سبب الخوف ده خلصتي منه!

 

اتسعت عينيها وهي لا تستطيع مواكبة حديثه هذا وتأهبت عندما التصقت قدماه بالسور لتجده يتابع حديثه لها وهو يزفر بين بُكائه:

-       أنا اتعلمت من اللي بابا عمله أول مرة، لما قال إنك قتلتيني.. بس المرة دي متقلقيش، أنا كتبت حاجات كتيرة وأي حد هيقراها هيقول إني مجرد مجنون وانتحر..

 

تعجبت لتلك الابتسامة الساخرة التي لمحتها على تعابير وجهه وهي لا ترى سوى جانب واحد منه فقط وانصتت لقوله:

-       تعرفي، بيكون فيه محاولات انتحار جماعية، وبمجرد ما بيبدأ أول واحد فيهم ويموت نفسه، الباقين بيرجعو في كلامهم ومبيقدروش ياخدو القرار ده.. بيخافو على حياتهم وبيقرروا يستحملو خوفهم من الحياة ويواجهوه.. بيقولو كمان إن فيه ناس حياتها بتبقى أحسن بعد التجربة مع العلاج والدعم من اللي حواليهم.. أنا متأكد إنك هتكوني كويسة، هتبطلي خوف، ومش هتاخدي وقت وهتنسيني وحياتك هتبقى أحسن..

 

يستحيل أن يحدث هذا، ليس على يديها، ليس من جديد، لقد عانت مرة هذا الصراع وعقلها لا ينفك عن التفكير بأنها من دفعت به للانتحار!

 

-       عمر..

 

نادته بهمس فأغمض عينيه كقبول منه بأن هذه أفضل نهاية لحياته، أن يستمع لها تنطق باسمه، ألا يُمكنها أن تغفر له؟ وكيف لها أن تفعل؟ هناك بعض الأشياء لا يُمكن للمرء أن يغفرها، لقد عانى حياة بأكملها ولم يستطع الغفران لامرأة خائنة، ولم يسعه أن يغفر لنفسه على فعلته معها، كيف يُطالب هو بهذا؟

 

على كل حال، هذا أفضل بكثير مما يستحق.. أن يكون معها وتستمع منه لكل هذه الكلمات في هدوء وهو ينهي حياته حقيقة يُمكنه الفخر بأنه مات وآخر من كان معه كانت هي بنفسها!

 

-       أنا كنت بحبك وفضلت أحبك حتى بعد ما صدقت إنك روحتيله هو وسيبتيني أنا.. ممكن تخافي ويبقى صعب عليكي تتعاملي مع كل اللي حصل، ممكن تحسي بأي إحساس في الدنيا، بس استحالة تفكري إني محبتكيش! لو كنت بس إنسان مش مريض يمكن كانت حياتنا بقت أجمل حياة لاتنين عرفو وحبو بعض..

 

احتبست أنفاسها بالكامل عندما وجدته يخرج احدى ساقيه من فوق هذا السور وشعرت بأن حركة واحدة أو كلمة واحدة في غير محلهما قد تكون النهاية حقًا لأي منهما لتجد نفسها تتكلم بتمني أن يستجيب لها لتهمس له:

-       عمر، أنا محتاجاك.. أرجوك متعملش كده! 


 

يُتبع..