رواية كما يحلو لها بتول طه - الفصل التاسع النسخة العامية
رواية كما يحلو لها
الجزء الثالث من رواية كما يحلو لي بقلم بتول طه
رواية كما يحلو لها
الفصل التاسع
النسخة العامية
منذ
خمس دقائق مضت..
غمامة،
بل سماء من ركام أسود يراها أمام عينيه وكأنها تصرخ به ساخرة بأنه لم يعد هناك
أخرى صافية سيراها حتى مماته، العمل، العلاج، علاقاته الفاشلة - المنعدمة بوصف أدق
- وبعدهم يأتي والده الذي لا يتوقف عن الإلحاح عليه بشأن العمل، ذلك الجدول الصارم
الذي يتبعه، يومياته، العقاقير، ثم التكرار كل هذا من جديد بداخل عقله بالرغم من
أنه يبدو في أعين البعض بعقل خاوي وجسد نائم ولكن هناك تلك الدوامة الداخلية
المستديمة التي ستُغرقه بالكامل عما قريب!
جلسات
لا يقتنع بأكملها بعد، يظن أنها لا تنتهي طوال عمره، تجارب لا تنتهي للكثير من
العقاقير، بعضها يجعله يظهر بمظهر النائم المخدر تمامًا، كأن رأسه لا تحترق بالفعل
بما تعج به من أفكار، ولو ترك هذا فهناك آخر قد يعرضه للسِمنة، وإن قرر أن يتوقف
عن التفكير في الأمر بعد أن رفض تقبل فكرة اكتساب بعض الوزن، هناك هذه الرعشة
السارية بيده اليسرى مؤخرًا، لولا نجاحه في احتياله بإخفائها عن أعين الجميع لكان
رأى الشفقة في أعين كثيرة لا يريد أن ينظر أيًا منهم إليه بها!
أطنب
النظر إلى يده الممسكة بهذا الفنجان الموضوع فوق طبقه الصغير والأدخنة تتصاعد منه،
يده وخاصة في المساء لا تتوقف عن الارتعاش، يحاول أن يتذكر ذلك الحديث بما نصحته
به الطبيبة، سيأخذ وقت ليس بقصير إلى أن يجد الحل المناسب له في هذه العقاقير،
الأدوية الملائمة بجرعاتها، لقد عبرت الساعة التاسعة بقليل من الدقائق، وهو يحدق
بفنجان القهوة وابهام يده اليسرى لا يتوقف عن التحرك بإرادة منه ظانًا أن لو أحد
رآه من بعيد سيظن أنه رجل مشغول البال ليس إلا، ولكن الحقيقة هناك تلك التحركات
التي لا يستطيع التحكم فيها على الاطلاق!
لولا
تلك الحرية التي يشعر بها في اختيار تجاربه بنفسه لكان تخلص من هذه المرأة، ولكنه
لا يتصف بصبره، يعرف أنه ليس صبور، منذ أن كان طفلًا عندما يُريد أن يتخلص من شيء
أو يمتلك شيء، أو حتى يتخلص من شيء، كان يفعلها دائمًا..
العمل
الذي يُناديه به والده منذ سنوات أصبح لا يُحتمل، هو لا يدري ما الذ يحدث له، ولا
يستطيع أن يخبره بما يمر به لأنه سيقول إن هذا جنون وانظر لما حققته.. ونفس تلك
الكلمات الرتيبة منه التي لم تتغير لسنوات! كيف عليه النجاة في خضم كل هذا؟!
هو
بنفسه كان يتعجب، يتعجب من كل ما حققه يومًا ما، ولكن كلماتها فسرت له الأمر، وبعد
ما رآه بعينه يحدث بينه وبين الوحيدة التي أرادت رؤيته بخير لم يعد يقبل برأسه سوى
أن هذا الاضطراب اللعين يفتك به وعليه أن يتخلص منه، ومرة أخرى يجد نفسه أمام حائط
سد لا يمكنه أن يتخلص منه بعد كلمات اقتنع بكل ما فيها!
❈-❈-❈
منذ
سبعة شهور ونصف..
- لو
أن في مشكلة فعلا، زي ما كل الكتب دي بتقول وزي كلامك، أنا مقتنع، بس إزاي قدرت
لسنين أشتغل صح وأنجح في قضايا، عندك رد على السؤال ده؟ ليه محصليش الهوس ده في
أيام تانية؟ اشمعنى لما وصلت للسن ده وبيحصل ليه دلوقت؟ مش يمكن تشخيصي كله غلط
ومفيش حاجة صح في كل الكلام ده ويبقى مجرد اكتئاب عادي أو أي حاجة تانية؟!
- أنا
سألتك قبل كده، إيه الدافع لشغلك نفسه إذا كنت مبتحبوش وبتحس إنه بيضغط عليك طول
الوقت.. بس أنت مصمم متجاوبش وأنا مش هضغط عليك!
تصمم
من جديد على أن تجعله يبوح بهذه الطريقة، بينما هي رأت هذه المشقة واضحة عليه
فقالت بكلمات داعمة قد الإمكان:
- لازم
تقولي ولو لمحة بسيطة إذا كنت مستني مني إجابات على كل حاجة، مش لازم نسميها دافع،
فهمني ابتديت شغلك ازاي حتى عشان نحاول نفسر ده
- أنتِ
فكراني غبي مش فاهم يعني ايه دافع؟
عقب
بسخرية غاضبًا لتحدثه بهدوء وهي لا تريد منه أن يأخذ الأمر بمحمل شخصي على
الاطلاق:
- بالعكس
أنت ذكي جدًا، وفاهمة إنك مثقف وفاهم الكلمة.. بس التفاصيل هي اللي بتوضح دوافع
الانسان والاحداث اللي بتحصلنا هي اللي بتفهمنا احنا بنتصرف ازاي وليه!
زفرة
طويلة بتأفف استمعت لها من على مسافة منه بعد مرور عدة لحظات من الصمت وكلما حاول
البوح لا يستطيع أن ينطق بالكلمات بسهولة إلى أن نطق بعصبية جمل متفرقة:
- بعد
الجيش، أخدت المكتب اللي بابا جابهولي، وأي حد خلص جامعة ومرتبط المفروض يبتدي
يشتغل عشان حياة معينة عايزها ويحقق فيها حاجات للي بيحبها، فاتصدم فيها، كانت
طماعة ووصولية ومعندهاش مانع تعمل أي حاجة عشان الماديات.. فأثبتلها إنه يقدر يعمل
حاجات كتير لواحده من غير ما يكون ابن محامي مشهور وده كان سبب أنها استنته لسنين
كتيرة! الماديات والسمعة وبس!
أخيرًا
لاقى عينيها في نقاش طبيعي بين مريض ومعالجته، ولقد فهم نظرتها، ولقد فهم ما مر به
وأراد لكثير من السنوات أن يُكذبه:
- يعني
الشغل بسبب علاقة، انتقام من شخص؟
جملتها
الأخيرة آتت بنبرة استفهامية فأماء لها مُضطرًا أن يفعلها وقال وهو يُريد أن ينهي
هذه المُعضلة بالإجابة على سؤاله الذي لا يجد له تفسير:
- آه..
أديني قلت اللي حصل، الإجابة ايه؟
- أنت
كنت بتتكلم عن نفسك وفجأة حاولت صيغة الكلام كأنك بتكلم عن واحد تاني، مش قادر
تقبل لغاية النهاردة إن ده حصل؟
تبًا،
نعم لا يريد تقبل الأمر، كما لا يريد تقبل الكثير، هذه المرأة لابد أنها تعرف
والده، عليها أن تنهي الأمر معه اليوم:
- أنا
فاهم يعني إيه صدمة، آه ويعني إيه الواحد ميعديش الصدمة بعد علاقة سبع سنين، بس
إزاي إنسان عنده خلل في حاجات كتير استمر لسنين دي بيشتغل وبينام وبيعمل كل حاجة
بشكل طبيعي وفجأة حياته تتغير.. سؤالي لسه ما تجاوبش عليه!
- هجاوبك
لما تجاوبني، كنت حاسس بإيه وقتها؟
يا
لهذه اللعنة!! ما الذي تريد تحقيقه اليوم؟ أن تعيد الماضي بأكمله للإجابة على سؤال
بسيط؟ لديه آلاف الكلمات المقتضبة إذن:
- حياتي
انهارت! تمام.. أظن جاوبتك!
هزت
رأسها له بالموافقة وقالت بهدوء ناقض ذلك الاشتعال الذي يحرق رأسه بتذكر أيام لا
يريد أن يتذكرها:
- كنت
حاسس بنفس إحساس الزعل وإن مفيش حاجة باقية في الدنيا تحاول عشانها غير مجرد رغبة
انتقامية جواك من البنت اللي حبتها؟ لو حابب أتكلم ولو مش حابب ممكن تهز راسك..
بآه أو لأ!
بعد
مُدة شرد خلالها وهو يتذكر كلمات والده له عنها اعطى إشارة بالموافقة على كلماتها
ولم يُرد البوح بالمزيد استمع لصوتها المتسائل:
- كان
عندك كام سنة لما سبتها؟
- أربعة
وعشرين وكام شهر تقريبًا!!
نظر
نحوها بتفحص، وتبدل حاله صح لتقرأ الغضب جليا بعينيه فأضافت من جديد مستفهمة:
- وامتى
ابتديت تحس إنك عديت العلاقة نفسها ونسيتها؟
حاول
أن يتذكر، لا يجد اجابة، من جديد يصل لنهاية طريق مسدود فقال بضيق:
- معرفش،
يمكن لما قربت من مراتي!
حتى
هذه اللحظة هي لا تعرف أي شيء عن طلاقهما، عليها أن تجيبه فقط وتنهي هذه اللعنة:
- إنت
كنت قلت لي إنك بتشرب كتير امتى بتدي تشرب بالظبط؟
- في
نفس الوقت، بعد ما سيبتها
قوله
آتى بنفاذ صبر عندما التمعت برأسه ملامح "يُمنى" بعد آخر لقاء بينهما
فسألته مرة أخرى:
- امتى
حسيت إن الشغل سهل عليك وتقدر تعمل فيه حاجات كتير، عمرك حسيت إنك مش بتكره شغلك
وممكن فعلا تنجح فيه وتحقق فيه حاجات كتير؟
اجابها
بتنهيدة وهو يغمض عينيه من غضبه الشديد أو من صعوبة الأمر عليه، لم يكن ليُدرك
وقتها ما هي مشاعره الحقيقية خلف كل هذا:
- بعد
آخر مرة شوفتها! ركزت على الشغل وحاولت انساها!
أدركت
أنه لا يحتمل لتنطق بسؤالها الأخير:
- ولو
فاكر، فضلت حوالي قد ايه مركز في شغلك من غير ما تحس إن الحياة وحشة اوي وحسيت إن
عندك رغبة تكمل في محاولتك في الشغل؟!
تردد
بداخله لبرهة، صور تتضح أمام عينيه، فسرها بالانتقام، منذ تسع سنوات، كانت مجرد
انتقام، واليوم هو يفهم ما حدث، لقد كانت نوبة هوس خفيف دامت لفترة من الزمن ليست
بقليلة، لم يكن معه أحد على الاطلاق ليُلاحظ الأمر، وظن هو في قرارة نفسه أنه بات
أفضل وأصبح يقترب من صورة هذا الرجل الذي أراده دائمًا!!
نكس
نظره بالأرضية وهو يتذكر الكثير من الأحداث التي لم يعد لها سوى تفسير وحيد ثم
أجاب بنبرة خافتة عندما أدرك أنه ليس هناك مجال للكذب:
- سنة
وشوية!!
❈-❈-❈
عودة
للوقت الحالي..
عودة
من ادراكه بأولى نوبات هوسه التي ساعدته في عمله وعينيه تحدق بفنجان قهوته، يأبى
إبهامه التوقف وهو يتحرك بطريقة غاضبة أو بطريقة لا يستطيع التحكم فيها على حافة طبق هذا الفنجان، ضربات منتظمة أو غير منتظمة لا يستطيع التحديد لقد بات الأمر
لا يحتمل، غضب مستمر ويد لا يتحكم بها، لا تتوقف تلك الأفكار ولا يتوقف الملل ولا
تتوقف الأسئلة، آلاف من الافتراضات تغزو عقله، محاولات منه لا يدري أيا منها سيفلح
في النهاية!!
هل
حقا بات يفكر كل هذا التفكير من أجل احتساء بعض قطرات من القهوة؟ لو فسد أن هو
مجرد ما يعانيه بالفعل من ضغوط عقله وحياته على حد سواء قد يتعرض لنوبة من الهوس
اسوء من الأخيرة التي لا يكره أكثر من أنه نسي كل ما بها ولم ينقذه سوى مجرد تسجيل
مرئي بكل ما فعله!
ارتجاجات
هذا الفنجان أصبح توتره أكتر وهو واقف لا يستطيع أخد مجرد قرار تافه بتناول قطرات
أو رشفة من منبه يتناوله المراهقين بمنتهى الأريحية، وغضبه أصبح لا يحتمل، إبهامه
سيهشم هذا الفنجان عليها أن يتوقف عن حمله لكي لا يسكبه على ملابسه، اللعنة عليه
وعلى عقله وعلى هذا المنبه التافه!!
دفعه
غضبه متخذا قراره بأن يتخلص من تناول منبه بعد أن عبرت الساعة السابعة ليلًا،
ليتخلص من هذا الفنجان بإلقائه على الطاولة الموجودة خلفه، وفي خضم هذه الدوامة
الفكرية التي يمر بها، وفضلا عن وجود أي مهدئ يساعد في راحة عقله ولو لعدة لحظات،
لم يجد سواها خلفه، هذا ما كان يعنيه منذ قليل، هذا هو التجسيد الحي لقوله بأن
قدره لا يمن عليه بالحظ أبدا.. إلى متى سيظل فقير الحظ هكذا؟
لقد
أصبح رعبه يتجسد أمام عينيها بالكامل بصحبة صوت تهشم هذا الفنجان الذي تساقط
أرضًا، الآن لا يمكن لهذه الليلة أن تصبح أسوأ، والده، ارتجافه يده المستمر، عودته
للعمل، توقف عن تناول هذه الأدوية، وحضورها الطاغي!
بالطبع
اختارت اللون الذهبي لتجعله يفقد عقله وتنتشله من كل أفكاره إلى أفكار أسوأ لا
يريد السماح لها بالتواجد داخل عقله، لقد أخبرها هذا بالسابق، يبدو أنها أتت وستشن
حرب عليه مستخدمة كل حيله ضده!!
يا
له من مسكين، هذه لا تمثل سوى نقطة في بحر مما سيواجه معها لاحقا!!
❈-❈-❈
حياة
كاملة، منذ رؤيتها لتلك الأوراق، سماعها لاسم "عمر الجندي"، الطريق
الطويل، مكتبه الجالس عليه ببرود منيع، ونهاية بهرولتها في الشارع أمام الجميع
حافية القدمين وهي تتوسل المساعدة من رجل لا يرتقي بأن يكون واحد من أقل موظفيها
وهي تبكي وتترجاه أن يُساعدها!
غمامة،
بل سماء من ركام متكتل كجبال شاهقة من سواد يصرخ بها بأن هذا الخوف الذي تشعر به
مجرد نظرة واحدة بعينيه الثابتتين دائمًا بصحبة هذا السواد اللامع بهما في هذا
الليل وكأن لونه نسخة طبق الأصل من هذا الثعبان الذي لا يدعها تنام كل ليلة!
ها
هي بجو صيفي يحترق بفعله الجميع ولكنها تشعر بقشعريرة تحتل كيانها، برودة دفنت
جسدها حتى أصبحت غير قادرة على التنفس بشكل طبيعي، وكأن برؤيته أصبحت بلا روح، لا
تستطيع التصرف كبشر طبيعي ترتجف بشدة، صوت اصطكاك أسنانها المتوالي من تلك اللعنة
التي كان يفعلها بها تدوي حولها، جليد يغلف كيانها بعد هذه السخونة التي لامستها
منذ ثوان.
تنافسها
تصارع وتباعد شفتيها بتلقائية وشعرت بصفي أسنانها ترتضي ببعضها البعض مكونة حرب
من التحام ضاري متتالي، ولكن عينيها لم تترك خاصتيه بعد، لن تتنازل له، فهو لم يعد
يملك هذا الترف بالهروب منها بعد الآن!
كيف
له أن يستطيع مواجهتها بعد كل ما حدث؟ يا له من منظر خلاب، يقف أمامها متجمد هو
الآخر، ولكن بالطبع ليس بنفس البرودة التي تشعر هي بها، فهي لم تقم بأسره بعد في
جو مميت من البرودة الشديدة التي كادت أن تجعلها تلفظ أنفاسها الأخيرة التي انعدمت
وقتها!
في
هذه اللحظة لا يدري ما الذي عليه قوله أو فعله، جف حلقه واحتبست أنفاسه وشعر
وكأنه ضُرب بعاصفة جليدية جعلته لوح من الثلج لا يستطيع أن يحس بشيء، لا يملك سوى
أن ينهار أمام تلك النيران الغاضبة المفعمة بخوفها الذي استطاع قراءته بمنتهى
السهولة عليها.. فهو يعلم كيف تتحول عينيها من الخوف إلى الغضب وبالطبع يعلم
مقلتيها العاشقتين!!
يبدو
أنه قد ودعهما للأبد، ولكي يثبت لنفسه هذه الحقيقة، تحركاتها عندما نهضت وهي تنظر
له وتقهقرت الخلف مبتعدة لكي تغادره برفض صريح له من عسليتيها بشأن تواجدهما معًا،
أكدت له أن كل ما قرأه بمقلتيها حقيقة وواقع لا يحتمل التكذيب!
تكلم
بجمود عكس تلك النيران التي لا يدري متى شبت به بعد حالة من الصقيع الذي جمده
للحظات أمامها وكأنه انعزل عن الحياة بأكملها:
- أنا
آسف
عودته
من سماء الأفكار بسرعة الضوء إلى أرض الواقع التي ارتطم بها بقسوة لم تكن هينة على
الإطلاق، الآن يدرك فداحة ما ارتكبه بها، عسليتيها أكثر ما يعشقه بها تلاقيه بعذاب
جحيمي لن ينجو منه حتى أنفاسه الأخيرة التي سيلفظها في حياته الفاسدة، تصفعه بلوم
الذي خالطه عذاب ومازجهما سخرية احتوى ثلاثتهم الغضب الكاسح ليتركوه بأكمله على
شفا حفرة من الموت وهو يرى خوفها يطغى على تلك الأمواج من عينيها فلم يستطع تحمل
متابعة النظر إليها واكتفى بتنكيس عينيه أرضا في خجل وخشية من متابعة عذابه الأبدي
الذي تألمه به بقسوة!
راجع
قوله سريعا بعد أن تفوه به دون وعي ليقول بسرعة مصححا:
- مكنتش
أقصد
ارتبك
أكتر وهو يعقد حاجباه واستمع لما قاله بينما لم يقتنع بقوله وظل ناظرا للأرضية:
- مكنتش
أعرف!!
الكلمات،
منطقته التي طالما عرف حدودها دائمًا، لعبته الدائمة مع الجميع وهو يقنع الكون
بها، واحدة من مناطق لطالما بعثت به الثقة بالنفس، يعتذر، لم يكن قصده، لم يكن
يعرف، بأكملها رسائل مختلطة لا توضح شيء..
لا،
لن يفعل بها ذلك، لن يتركها لتتذكر لحظة ما حدث بينهما بالسابق، هذا لو أنها لا
تُفكر في الأمر، لو لم تكن تفعل، لما كان بدى عليها هذا الخوف، على كل حال لا يريد
أن يكون السبب في المزيد مما قد يحدث لها بفعل هذا اللقاء العابر لهما، كان عليه
أن يوضح الرسالة مليًا:
- مشوفتكيش
ورايا!
- مرحبًا،
أتسمعيني؟ هل ما زلت معي؟!
فاقت
عند استماعها لصوت "دايفيد" بعد لحظات من صمت جعلها تستعيد تاريخ كامل
حافل بالألم ولم تلاحظ أنفاسها المتسارعة عندما قامت بالرد عليه مجيبة بالفرنسية:
- نعم!
- إلى
أين ذهبتِ؟ لقد ظننت أنني فقدت اتصالي بكِ!
فكرت
إلى أين ذهبت؟! ذهبت إلى إعصار دام لما قارب عامان وعادت بسرعة شديدة بفعل هذه
الرياح المدمرة التي جعلت منها امرأة غريبة لا تعرفها!
- لا
عليك، لقد ذكرتني كلماتكِ بأن عليّ انجاز الكثير من الأعمال المعلقة عندما ذكرت
ذلك المشروع العقاري، كنت أقوم بتأجيلها والآن يبدو وقت مناسب للعمل عليها، أنت
تعلم، العمل لا ينتهي أبدًا..
استعادت
وعيها وهي تحاول السيطرة على هذا التوتر الذي التهمها بمجرد ملاقاة لأعينهما،
وحقيقة أنه يتواجد أمامها، بعد أكثر من عشرة شهور مرت تجد نفسها في نفس الحالة
التي غادرت بها المنزل من جديد، لتجذب نفسها بقسوة من هذا الاعصار وحاولت التركيز
بمكالمتها:
- أنتِ
مُحقة، العمل لا ينتهي أبدًا.. ولكن علينا أن نجد وقت للترفيه..
كادت
أن تغادره وهي تلتفت ناسية ملابسها التي فسدت بالكامل لترتفع عينيه وهو يتابعها
ليرى هذا الوشم بلمحة سريعة قبل أن يغطيه شعرها المموج الذي اكتسب المزيد من الطول
وتابعت هي مكالمتها:
- لا
تذكريني بهذا الآن وأخبريني، هل لديك بعض الوقت لنحصل على بعض المرح كتلك المرات
بباريس؟
- استني!!
ناداها
فتوقفت وتابعته وهو يخلع سترته ويتركها على المقعد دون أن ينظر لها مباشرة وتوقفت
عينيه على هذا الثعبان الذي يُحيط رُسغ يدها ليبتلع بخوف وقال مخبرًا إياها
باقتضاب وصوت مهتز من وسط تلك الدوامة المهلكة التي كاد أن يفقد خلالها مقاومته
ويستسلم لها بالكامل:
- عشان
متدخليش كده قدام الناس!
لمحته
بتهكم وهي تتذكر هيئتها المُزرية وهي تغادر هذا السجن أمام الناس وهم يتفقدون
مظهرها البادي كالهاربة من الموت بذلك الثوب الذي اختلط بدمائها وقدميها التي
اتسخت من الأرضية كالمشردة التي لا منزل لها يأويها فلم تكترث لما اكترث هو به الآن فلقد
آتى متأخرًا للغاية وتابعت كلماتها بالفرنسية:
- لدي
ارتباط اليوم، وربما لن انتهى حتى ساعة متأخرة من الليـ..
توقفت
لجزء من الثانية ونفت سريعًا ما قالته من تلقاء نفسها:
- أتعلم
ماذا؟ هل قمت بحضور حفل خِطبة بمصر بالسابق؟
لا
يحب هذه اللغة، ولا شعبها، ولا تاريخها، وعليها أن تتوقف عن التحدث بها، فهو لا
يفهم حرف وواحد مما نطقته، أو ربما عليها الاستمرار بالتكلم بها!
فصوتها
المترنم بهذه اللغة اللعينة أفضل صوت يُمكنه أن يُريح عقله من تلك الضوضاء التي
آلمته بطنين ظن أنه لن يبرأ منه طوال حياته بفعل أصوات أفكاره دام طوال عام دون
وجودها بجانبه!
- بالطبع
لا، هذه زيارتي الأولى
تفقدته
حينما أدركت أنه ما زال لا ينظر لها ووجدته يجمع يديه خلف ظهره بطريقة لم يكن
يفعلها سوى عندما يصمت ويشرد من نافذة مكتبه لتتحدث لكي تُنهي هذه المكالمة:
- سأرسل
لك العنوان، لا تتأخر.. كما أنني بفندق جيد، سأجد إن كان لديهم جناح شاغر ولنقضي
الليلة معًا بعد الخطبة.. أعرف أن يوم السفر لا يكون الأفضل، ستشعر بالإرهاق في
نهاية الليلة! فلتهاتفني عند وصولك!
❈-❈-❈
عدم
تواجد كلاهما بات يثير الرعب بداخله، لن يحبذ مواجهة مصيبة جديد من مصائب أخيه،
وبما استمع له منه من طبيبته لن يكون الأمر هينًا!
لو
كان هو مختفي بفعل مصيبة، أين اختفت هي، هل هي مغناطيس للمصائب أم ماذا؟ ولماذا لم
يجدها منذ بداية هذا الحفل؟ وإلى أين يذهب أخيها؟ لابد من أنه يعرف أين هي!!
تبعه
ليجده يتجه نحو الخارج وناداه ولكن على ما يبدو لم يستمع له فقام بملاحقته بسرعة
إلى أن تواجد اربعتهم بالشرفة وبمجرد إدراك "بسام" تواجد هذا الحقير
معها سأله بانزعاج:
- أنت
بتعمل إيه معاها؟
تفقد
"عُدي" ذلك الفنجان المهشم أرضًا ومن ثم إلى ملابسها بينما تصرفت هي
سريعًا واقتربت من أخيها الذي اتخذ نحوه خطوتان مقتربًا بتحفز:
- استنى
يا بسام اديني الجاكيت بتاع البدلة بتاعك، وابعت السواق يجبلي هدوم من البيت!
لم
تعد تلك الفتاة التي تصدم من المواقف المفاجأة، ونعم، لقد أصبحت على هذه الدرجة من
الاستغلال التي لن تمانع سرقة طريقته الفظة لتتصرف بها، فلو لديه هو الحل لديها هي
نفس الحل..
حدقه
بغيظ بينما لاحظ أخيه سترته المتواجدة على المقعد فاقترب منهما ونادى بنبرة ودودة:
- روان،
حمد الله على سلامتك، مشوفتكيش من أول الخطوبة، عاملة ايه؟
التفتت
له بعد أن ارتدت سترة أخيها وهي تجذبه بخفة من أمام "عمر" والتفتت له
مبتسمة وكأنها اختلفت كثيرًا عن تلك المرأة التي قامت بطرد الجميع من منزلها
واجابته:
- كله
تمام.. معلش، يا دوب جيت، سلمت على يونس وعنود، واتشغلت في مكالمة مهمة، مبروك..
التفتت
نحو أخيها وقالت:
- كلم
السواق على ما أكلم هدى تجهزلي حاجة تانية البسها.. مش هينفع امشي عشان اديت معاد
لحد هنا كمان شوية
نظرت
من جديد نحو أخيه وهي توجه له ظهرها وبداخلها كانت ممتنة لتواجدهما معها بدلًا من
أن تصبح معه بمفردها لتخبره:
- ثانية
يا عُدي..
قامت
بمهاتفة "هُدى" وهي تبتعد عن الجميع ولم تر عينيها الملاحقتين لها بولهٍ
تام وكأنما توقف الوقت حوله وانشغل أخيها بمهاتفة السائق، بينما تابع
"عُدي" الجميع..
أنهت
مكالمتها وعادت لكلاهما من جديد بينما أخبرها "بسام" بملامح منزعجة:
- السواق
مبيردش..
- معلش
تلاقيه بياكل ولا أي حاجة، كلم حد من الأمن اللي معاه أو شوفه في جراج الاوتيل، اه
وقول لهدى تجهزلي شنطة هقعد يومين هنا!
قصدت
أن يستمع لما تقوله بينما تفاجئ "بسام" من قرارها فهي للتو عادت من
سفرها وهمس إليها:
- ليه
يومين هنا؟ انتي لسه راجعة!! احنا متفقناش على كده!
- اسمع
الكلام وهفهمك بعدين..
بدت
لها الفكرة جيدة للغاية لتقتله بدل المرة آلاف المرات، ستجعله يندم بشدة على ظنه
أنها قد تخونه مع رجل آخر، لتريه الحقيقة مُجسدة أمام عينيه، هي حرة منه الآن بعد
طلاقهما الذي مر عليه أكثر من عشرة شهور!!
تثبتت
عيني "بسام" نحو "عمر" بغيظ من هذا الرجل الذي قلب حياتهم
رأسًا على عقب وأخبرها بنبرة خافتة مقتربًا منها:
- تعالي
معايا، مش عايز اسيبك هنا لواحدك!
تفقدته
بثبات وأخبرته بخفوت لكي لا يستمع لهما أحد:
- انا
هاروح مع عُدي ولو فيه حاجة هكلمك وهستناك في الـ lobby
(ردهة) عشان الجو هنا برا حر ومش هاستحمل الخنقة، هروح اقعد في التكيف.. متخافش
عليا أنا كويسة لو حصل حاجة هكلمك زي ما كلمتك من شوية!
نظر
لها بتردد فهزت رأسها له أن يفعلها فنظر بمزيد من الغيظ له ثم تركهم وغادر ما دام
هذه ارادتها، لتتابع ذهاب أخيها فركزت نظراتها نحو أخيه وحدثته بود وابتسامة
مُتسعة:
- عامل
ايه؟ بقالنا كتير مبنتكلمش.. تعالى نقعد شوية!
خلعت
سترة أخيها وسارت أمامه بخطواتها المخلفة لصوت حذائها الأنثوي بخطوات جعلته يشتعل
غضبًا وقصدت اصابته بالغيظ وهي تجمع شعرها لإحدى الجوانب وهو يرى هذا الوشم اللعين
بينما استمع لصوتها الذي اختفى وضوحه وهي تبتعد:
- مش
ممكن الجو حر اوي.. بس هنا أحسن من الدوشة اللي جوا عشان اعرف اسمعك، قولي عامل
ايه وايه اخر اخبار شغلك؟!
تابعهما
من مسافة بعيدة حيث اختارت آخر طاولة تبتعد عنه ثم جلست بأنوثة طاغية وهي تضع
قدمًا فوق الأخرى ونظرت له بأعين تدعوه وابتسمت له وقالت متصنعة التعجب:
- اقعد..
هتفضل واقف ولا إيه!
ابتسم
إليها بارتباك ثم التفت ليتفقده فوجده يتابعهما فجلس بتردد، لابد أن يُنهي حديثه
معها وليس هناك أنسب من هذا الوقت، أما لساقها التي ظهرت بفعل جلستها آتت ردة فعله
عليها بنفس اللحظة عندما تناول سترته في صخب وهو يزيح هشيم هذا الفنجان بقدمه
وارتمى المقعد أرضًا الذي أعاق مروره وهو يتجه مغادرًا كلاهما لكي لا يقتله وهي جالسة
معه، حساب هذا الوغد مع سيكون عسير!!
❈-❈-❈
بعد
مرور عدة دقائق..
ضيقت
عينيها نحوه وهي تحاول أن تصل إلى نهاية هذا الحديث الذي سيصيبها بفقدان عقلها لو
حقًا طالبها بما تظن أنه يرمي إليه:
- والمطلوب
يا عُدي؟
ملؤها
الغضب عكس ما تُظهره من هدوء وتحمل وتظاهر بأنها بأفضل حال، ولكنها هي على شفا
حفرة من السقوط في هاوية هذا الغضب وستحرق هذا الفندق بمن فيه لو فقط نطق بعودتهما
لبعضهما البعض مرة أخرى:
- مفيش
حاجة مطلوبة منك، بس حاولي على قد ما تقدري متكلميهوش، أنا ما صدقت إنه وصل
للمرحلة اللي وصلها دي دلوقتي.. أي حاجة فاكرة إنها مش مهمة أو صغيرة ممكن ترجعه
أسوأ بكتير من الفترة اللي فاتت..
هدأت
قليلًا، لقد كانت تتوقع أن ما يقصده هو أمر مغاير تمامًا، جيد، ما زال بهذه
العائلة واحد يتحلى بالعقل منهم دون المبالغة بقول ترهات لا تعني شيئًا!!
أومأت
بالموافقة وأخبرته وهي تنهض بعد أن تفقدت الوقت بهاتفها:
- صدقني
أنا مش عايزة أكتر من إن ده يحصل، أنا مش عايزة اعرفه تاني يا عُدي.. أنا مفيش أي
علاقة تربطني بيه بعد النهاردة..
ارتدت
سترة أخيها من جديد لكي لا تظهر أمام الجميع بملابسها التي فسدت بالفعل وحدثته
بهدوء:
- أنا
محتاجة منك حاجة واحدة!
عقد
حاجباه ناظرًا لها مستفهمًا وهو ينهض مثلها عندما وجدها أوشكت على المغادرة لتخبره
بتسلط وتحذير شديد اللهجة:
- فيه
توكيل عمر عمله ومضاني عليه غصب عني، تكلمه وتبلغني باليوم اللي هنروح نلغي فيه
التوكيل ده!
استغرب
للغاية من هذا الأمر الذي لم يعرفه سوى منها الآن وسألها:
- ده
توكيل ايه ده؟!
هزت
كتفيها وقالت بتغطرس ملحوظ ونبرة مُتشفية:
- اسأله،
يمكن افتكر، بعد اذنك عشان ورايا حاجات محتاجة اعملها!
اتجهت
لكي تقوم وتُنهي أمر الحجز لها ولـ "دايفيد" فهي تعلم أنه رجل لديه
علاقات جيدة وبمجرد بعض اللقاءات القليلة قد يُكسبها هذا من عقد لثلاثة عقود جديدة
لشركتها التي ستحتاج منها كل التركيز في الفترة القادمة بعد إهمال دام لشهور بينما
لعن "عُدي" حظه الذي اوقعه في رجل وامرأة كلاهما أكثر تعقيدًا من الآخر
وكاد أن يصل لمرحلة من الغضب لا تضاهي ولكنه حاول بلباقة من جديد وهو يتبعها:
- روان،
استني بس..
التفتت
له وهي تحاول أن تبتعد وتُنهي الأمر برُمته فليس هناك أسوأ من أن تتحدث عنه، مجرد
الحديث يعيد ذكريات تتمنى لو تنجح في أن تمحوها بالكامل من رأسها فأخبرته:
- معلش
يا عُدي أنا مشغولة!
لم
يُصدق تلك الكلمات، بم ستكون منشغلة وهي آتت لتوها لحضور حفل خِطبة ابن خالتها
وأخته، هي حتى لم تتواجد بالحفل لعشرة دقائق كاملة، ولكن طرف منهما لابد من أن
يتحلى ببعض العقل ويتوقف عن هذه الأفعال الطفولية، وليس عليه أن يواجه محاولة من
محاولات انتحار لأخيه من جديد.. لا وقته ولا قدرة تحمله تسمح بهذا!
- بس
احنا لسه مخلصناش كلامنا، لو مش فاضية ممكن استناكي.. انتِ هتخلصي شغلك امتى؟
لم
تتوقف وأكملت طريقها نحو المصعد وتلك الدقائق مع أخيه كانت أكثر مما يستحقه ولكنها
تريد إنهاء هذا التوكيل بأي طريقة ممكنة دون أن تتحدث له شخصيًا لتجيبه بنفاذ صبر:
- مش
هخلص يا عُدي ولسه سهرانة شوية
زفر
بضيق ولكنه حاول التماسك فلقاءها معه اليوم أفضل بكثير من تلك المرات التي حاول أن
يحدثها بالسابق ولا يريد أن يخسر ما أحرزه من تقدم معها ولا مع أخيه فقال مقترحًا:
- طيب
نتقابل بكرة لو تحبي هتكوني فاضية؟
تنهدت
وهي تغمض عينيها بنفاذ صبر ثم نظرت له بانزعاج وعقدت ذراعيها وسألته:
- قولي
بسرعة هو ايه المهم اوي يا عُدي اللي مصمم تكلمني فيه؟
تردد
قبل أن يذكر الأمر بهذه الطريقة المُقتضبة ولكنه حاول أن يستدعي انتباهها التام:
- عمر
فضل معاكي في مينيسوتا شهرين!!
❈-❈-❈
في
نفس الوقت..
عاد
للداخل من جديد لكي يمر فقط للجهة المُقابلة حتى يختفي عن أعين الجميع، لقد تصور
الأمر آلاف المرات، تخيل رؤيتها والاستماع لما قد تقوله، فكر كثيرًا طوال الفترة
الماضية لو حدث وتقابلا ولو حتى صُدفة، ما الذي قد يتحدثان به، وما الذي قد تقوله،
لقد توقع غضبها وتوقع الكثير ولكن أن تكون خائفة لهذه الدرجة الشديدة لم يكن يتصور
هذا!
بمجرد
اتجاهه للمغادرة استمع لوالده يوقفه مناديًا فالتفت وهو يحاول أن يخفي يده اليُسرى
التي ترتجف بشدة خلف ظهره ورسم ابتسامة مقتضبة على شفتيه ظهرت كخط مستقيم فأخبره
والده بابتسامة رسمية:
- تعالى
عايز أعرفك على هاشم دويدار..
أعطى
هذا الشاب صغير السن نظرة تقييمية بحتة واقترب ليصافحه بيده اليُمنى ودس الأخرى في
جيب بنطال ملابسه الرسمية وتمنى أن يُفلح تهربه من اعين الجميع ليقول اسمه مُضطرًا
أن يفعلها بعد أن ورطه والده في الأمر:
- عمر
الجندي!
لعل
هذا اللقاء ينتهي في لمح البصر أو تنشق الأرض وتعانقه بطياتها أفضل من تحمل وجوه
غريبة لا يريد أن يتعامل معها ولا التعرف عليها:
- والدك
كان لسه بيكلمني عنك.. ازيك عامل ايه؟
حدثه
ببشاشة تلقائية ليتعجب منذ متى يعرف والده شباب صغير يبدو بهذا النقاء واجابه
رغمًا عنه لكي لا يفسد هذا الحفل بأكمله:
- تمام،
أنت عامل ايه؟
لم
يترك والده الفرصة لتمر دون أن يقتنص هذه الفُرصة ثم تكلم في صلب الموضوع مباشرة
فالرجال لا يضيعوا الفُرص السهلة:
- هاشم
عنده مُشكلة في مجموعة شركات عقارية، الموضوع هيحتاج كذا قضية مع الدولة عشان كل
حاجة واقفة ومُتحفظ عليها، وهو يُعتبر الممثل القانوني ليها بعد ما أخوه ساب البلد
واتقطعت اخباره، لسه كنت بكلمه إنك فاضي الفترة دي ووقتك هيسمح تتابعله الموضوع!
نظر
له بصدمة شديدة، لم يكن يمزح بشأن العمل غدًا، لابد أنه يمزح معه، هل قام بتوريطه
بالفعل مع هذا الشاب؟!
- بصراحة
عرضت الموضع على كذا محامي، وفيه بالفعل محامين معايا بس مش قادرين نوصل لأي حاجة
جديدة!
قالها
"هاشم" لينظر نحوه بتجهم صريح فاحتوى الموقف بسلاسة خبرته وقال:
- خير..
الكارت بتاعي اهو وكلم الرقم اللي فيه ونتفق على معاد وأكيد كل حاجة وليها حل..
بحث
عن تلك البطاقة بجيوبه فلم يجد وأخرج حافظة نقوده وبالطبع العمل بات آخر ما يُفكر
به ولم يعد يحمل رقم "باسم" معه بعد الآن وقبل أن يحتوي الموقف بكذبة أن
بطاقاته نفذت بالفعل تحدث والده بما دفع غضبه للتحكم به بالكامل:
- أنا
اديته رقمك!
تبًا،
منذ متى وهو يُعطي رقمه لواحد من العملاء؟! هو لا يمزح بشأن هذا، هو يُريد أن
يورطه بالأمر بالفعل، لا، لن تسير الأمور بهذه الطريقة، ولكنه تعلم من ضمن قواعد
عمله أن ما يجري في الخلفية لابد من أن يبقى طي الكتمان أمام العملاء، وخاصة لو
كان يجري بين محامي مخضرم وتلميذه!
- تمام،
كلمني بكرة وانا هبلغك بالمعاد.. معلش ورايا حاجة مهمة..
أماء
باقتضاب ورسمية هائلة ليلتفت وعينيه تلتمع بالغضب الشديد ليلحق به والده بعد أن
ترك كلاهما "هاشم" خلفهما ليوقفه قائلًا:
- استنى
يا عمر احنا هنتكلم!
التفت
لوالده بنظراتٍ غاضبة لم تستجب كامل تحركاته لها بعد بفعل تلك اللعنة التي
يتناولها وسرعان ما حدثه بانزعاج:
- أنت
بتورطني يا بابا قدام الناس!
حدجه
بجدية ورد بعصبية:
- القضية
دي مهمة والدنيا كانت مقلوبة على اخوه ومراته وسمعت في البلد كلها ومفيش حد إلا
واتكلم عنها، إذا نجحت فيها هترجع تاني عمر الجندي اللي اسمه مسمع والكل هيرجع
يعملك الف حساب!
نفخ
بأنفاس ذات لهيب بركاني ولكن في الحقيقة كان يبدو في غاية الهدوء لتناقض ملامحه ما
احترق له عقله بالفعل:
- ما
تتقلب البلد على اخوه، أنا مالي، تدبسني ليه في حاجة زي دي.. اسمع يا بابا!
تريث
لبرهة بعد أن نطق بالكلمات دون حساب وهو لأول مرة يُحدثه بهذه الطريقة ثم تابع
بسرعة:
- أنا
هاسمع منه التفاصيل وهقابله مرة عشان خاطرك وعشان شكلك قدامه بما إنك اديته كلمة
وهشوفله أي محامي كويس عندي واديله القضية، أنا مفياش دماغ للشغل ومش عايز قضايا
ومش عايز أي حاجة من الدنيا غير إنكم تسيبوني في حالي!
التفت
ليتجه مكملًا طريقه إلى نفس المصعد الذي دخلته هي من قليل واستقلته للأسفل بصحبة
"عُدي" ولكنه لم ير أي منهما حيث كان يُعاني معاناة أخرى تمامًا ولا
يفكر سوى بالاختفاء بعيدًا عن أعين الجميع!
لحق
به والده نحو المصعد ودخل معه ليغمض الآخر عينيه بنفاذ صبر ولاحظ والده كبسه لزر
يحمل طابق ما بينما قام هو بالضغط على زر الدور الأرضي فهو لن يترك ابنه يغرق في
هذه الدوامة التي قد لا ينجو منها على الاطلاق وسيتوارى اسمه وكأنه نكرة لم يكن،
وهذا ليس الهدف الذي عمل بكد على رؤيته وتحقيقه في يوم من الأيام، عليه أن يستيقظ
من هذه الغيبوبة التي أخذت منه الكثير من الوقت بالفعل!
- أنت
رايح فين؟
لم
ينظر له واتجه حتى تصبح يده اليسرى إلى الجانب الآخر حتى لا يلاحظ والده ما يمر به
لو عادت يده للارتعاش من جديد واجابه باقتضاب:
- هاحضر
شنطتي واعمل checkout
وهاروح!
لم
يُعجبه والده تلك النبرة التي أجابه بها وقال:
- براحتك،
اقعد مكان ما تحب، بس القضية دي مش هتروح لحد غيرك، وأنا معاك وهتقدر تكسبها
قلب
عينيه وهو لا يدري ما الذي عليه قوله أكثر من أنه لا يريد الأمر، هل كانت كلماته
غير واضحة أم تحمل إشارة أخرى؟!
- بابا
أرجوك، أنا معنديش استعداد لقضايا دلوقتي.. ولو خايف على اسمي ففيه كذا قضية
مسكتها و..
- من
كام سنة آخر قضية مسكتها؟ القضية التافهة دي اللي كانت للبنت اللي اتجوزتها مش
كده؟ من حوالي سنتين، وعلى ما تمسك قضية مهمة تاني وتحضرلها هتاخد منك شهور فتبقى
دخلت على سنتين ونص وعلى ما يتحكم فيها بما إنها قضية مهمة ممكن نوصل لاربع وخمس
سنين كأنك لسه محامي صغير وتدمر كل اللي بنيته عشان خاطر واحدة ست سابتك وهربت يوم
ما شافتك غرقان في دمك ومفرقش معاها تسأل عليك مرة ويوم ما عرفت إني ممكن اتهمها
بقتلك راحت هربت برا البلد!
صرخ
به مقاطعًا بعد أن صم أذنيه بهذه المحاضرة اللاذعة واتجه ليقف أمامه مباشرة ناظرًا له بغضب،
عينيه وغضبه الذي بالكاد ينعدم أمام الجميع اندلع على وجهه بأكمله حتى تحول للحمرة
الشديدة وقام المصعد بالفعل بالتوقف في هذا الدور الذي يقع به نفس الجناح الذي
جمعه بها في يوم من الأيام بينما تصاعد لهاث والده الغاضب وأدرك "عمر"
أنه لا يعلم ما الذي يتحدث عنه، وهو حقًا غير مستعد ليوضح له ما لا يعرفه عنها
وعنه وعن كل ما حدث بينهما!
- عايز
تفشل والناس تشمت فيك بعد العمر ده كله؟ تعبي معاك عايز ترميه على الأرض بعد
السنين دي كلها؟ عايز الناس تشاور عليا وتقول إني مجبتش راجل اتسند عليه بعد ما
أكبر؟ قصرت معاك في ايه من ناحية شغلك وتعليمك وتربيتك عشان على آخر الزمن تعمل
عمايلك دي وكأنك عيل صغير؟ ما ترد عليا!! عايز توقف حياتك على واحدة ست؟!
اتجه
المصعد للأسفل بالفعل وهو لا يدري كيف يُجيب كل هذا، هو يعلم كيف دعمه والده وكيف
شيد كل ما وصل له بمساعدته، ولكنه لا يستطيع احتمال الأمر، لا يستطيع فعلها الآن،
بالسابق كان الأمر مختلفًا، هذه ليست كتلك الفتاة الجشعة المحامية مثله التي ظنت
أنها ستتفوق عليه في يوم من الأيام!
- أكيد
يا بابا لأ مش عايز اضيع ده وأنا عارف إنك ياما ساعدتني.. بس
- مفيش
بس!! القضية دي بمجرد ما تبدأ جلساتها هتخليك من أهم محامين البلد، مفيش فُرصة
أكبر من دي، شهاب الدمنهوري الفترة اللي فاتت كان واحد من حيتان البلد، كل مشروع
بيتبني كان ليه صِلة بيه، كبر هو ووالده في سنين قليلة، والبلد حجزت على فلوسه وكل
املاكه وفضيحة الفيديو بتاعه هو ومراته الدنيا كلها اتكلمت عليها، الموضوع محتاج
أدلة وترتيبات ووقت بس أنا واثق إنك هتقدر تحلها، وأنا معاك ومش هسيبك، الموضوع
كبير بس ليه حل وبسهولة ممكن تثبت مصدر راس المال وساعتها هتكسب القضية!
هل
يقتل نفسه من جديد للمرة الرابعة لكي يريح الجميع، والده وأخيه وهي نفسها؟ هل حقًا
ما زال يتحدث عن القضية وصاحبها وتفاصيلها؟ هل هذا كل ما يكترث به؟
- بابا..
أنا مش عايز اشتغل الفترة دي!
انقلب
وجه والده وهو يتفحصه ثم التفت ليخبره محاولًا احتواء غضبه أمام بروده الشديد الذي
سيضيع بها مستقبله بالإضافة لسنوات كثيرة من مجهود ليس بهين!
- اطلع
يا عمر..
تنهد
وهو يغادر المصعد ليلحق به والده ثم سأله بهدوء استعاده ببساطة شديدة مستندًا على
خبرة سنوات من الهدوء في حل أمور معقدة وسأله:
- مش
عايز تشتغل ليه؟
لمحه
بنظرة جانبية، هل يخبره عن فترة اكتئابه الفترة الماضية؟ أم نوبة الهوس التي يتوقعها
في أي لحظة؟ أم عن تلك العقاقير التي يعلم أنه سيبرهن له بأسباب شتى أنها السبب في
افساد عقله وفي الحالة المُزرية التي بات عليها؟ هل عليه أن يريه بأم عينيه تلك
الفواتير بما أنفقه بنوبة هوس واحدة؟ أم ربما عليه أن يُريه كيف قام باغتصا بها
لمرات ومرات لعله يُصدق؟ أم يخبره مذعنًا عن محاولتين انتحاره وهو بأمريكا؟ أو
لديه فكرة أفضل، عدد تلك الزجاجات التي تناولها بالكامل في نوبة هوسه، هل سيقتنع
وقتها أم أنه سينفي بنضالٍ وشجاعة حقيقة جنون ابنه؟!
- مش
هقدر اركز الفترة دي والقضية اللي بتتكلم عنها مهمة وغلطة واحدة بس فيها ممكن تبوظ
كل حاجة، أنا لما كنت قادر اشتغل كنت مخلي كل وقتي للشغل، حوالي عشر سنين مكونتش
بعمل فيهم حاجة غير الشغل.. تحب امسك قضية كبيرة زي دي وأخرب الدنيا فيها؟!
التحدث
عن العمل طريق أقصر بكثير من أن يُثبت له أنه مريض ولا يحتاج سوى لإيجاد توازن في
حياته ربما لم يجده بالسابق على الاطلاق!
- اقعد..
توقف
أمام احدى الطاولات ثم أشار للنادل وهو يخبره:
- اتنين
قهوة مظبوط!
لا،
هذه الليلة تريد أن تهلكه بالكامل، قهوة، مجددًا؟ لماذا يتآمر عليه القدر مصافحًا
يد "يزيد الجندي"؟ هل يعرف أنها الطريقة الوحيدة لإجباره على فعل ما لا
يتحمله؟ لن يغامر بتناول القهوة والساعة قاربت على العاشرة مساءًا.. لن يفعلها،
لقد استمر طوال هذه الفترة الماضية دون أن يفسد أحد هذا النظام الصارم الذي يفرضه
على نفسه وليس مستعد أن يفقد القليل ولو حتى ساعة واحدة من التأخر عن موعد نومه!
جلس
أمامه بملامح تُشابه ملامحه الهادئة وكلمه باتزان وتلقائية تنافي غضبه السابق:
- أنا
هشتغل معاك عليها من غير ما حد يعرف حاجة!
هز
رأسه باستنكار وهو لا يصدق مدى تصميمه على الأمر ونظر في اتجاه بعيد عن وجهه حتى
لا يرى تلك النظرات الغاضبة في عينيه هذا لو كانت تتضح بمقلتيه من الأساس ليراها
تقف بجانب أخيه، ترتدي سترة أخيها، وتفعل ما لم يتوقعه على الاطلاق!
- معتقدش
هتلاقي حد أكتر مني فاهمك وعارفك ولا حد اشطر مني يساعدك في قضية زي دي!
كلماته
كانت كضوضاء غير واضحة، تتراقص في الخلفية وهو يراها تُمسك بتلك الكأس بين يديها
وهي تتناول كل ما به دُفعة واحدة وتتحدث لأخيه بتحركات غاضبة، من الواضح أن والده
يتحدث بالمزيد، يتفوه بكلمات لا يستطيع أن يُفسرها، وعينيه تأبى العودة نحوه
وتشبثت بصدمة أخرى تضيف إلى صدماته معاناة جديدة.. منذ متى وتلك الفتاة النقية
تتناول مشروبات كحولية بهذه الشراهة؟ هل طالبت بآخر وتجرعته دفعة واحدة؟ أم هذه
هلوسات أخرى يُخيلها له عقله؟!
التفت
والده ليُسلط نظره نحو ما جعل ابنه كمن فارقته الحياة لتوه وكأنه جسد ميت بجفون
تخشبت بسكرات الموت ولم يُمهله القدر أن تتلاقى في سلام ليجد تلك الفتاة اللعينة
تقترب من رجل غريب وهي تقبله وتُرحب به ثم جلست بالقرب منه على تلك الكراسي التي
تقع مباشرة بركن المشروبات وبجانبهما ذاك الفاشل الآخر عديم المروءة الذي يُعاملها
وكأنها أخته!
نظر
له بسخرية ثم تعجب متهكمًا:
- هي
دي اللي موقف حياتك عشانها؟!
يُتبع..