-->

رواية كما يحلو لها بتول طه - الفصل الثاني عشر النسخة العامية

 رواية كما يحلو لها

الجزء الثالث من رواية كما يحلو لي بقلم بتول طه

 

رواية كما يحلو لها

الفصل الثاني عشر

النسخة العامية


تحتاج إليه؟ هل هذا حلم أم واقع يعيشه واستمع له بأذنيه؟ ما حاجة امرأة مثالية مثلها لرجل مضطرب مثله؟ هل ما زالت تحمل بداخلها ولو ذرة من العشق له لذلك تحتاج إليه؟ هي تريد أن توقفه عن فعل الأمر ليس إلا!

 

تجمد بمكانه وأنفاسه ارتبكت بفعل ما استمع له، ورأت هي تلك الحالة التي أخذته وكأنه غير مُصدق لقولها، أيًا كان الدافع خلف نطقها بذلك، هي مُدركة أنها لا تريد أن تراه جثة هامدة على ذلك الأسفلت البعيد!

 

-       بُصلي.. أنت ياما كنت بتقولي ابصلك في أسوأ لحظات في حياتنا وعلى قد ماكنتش بقدر بس كنت بسمع كلامك..

 

ابتلع وهو يدرك ما المغزى من وراء كلماتها، تعيق عقله بتذكر كل ما مر بينهما، تنبش في ماضيهما بكلمات كسيوف تقتل كلاهما، دائمًا وأبدًا تطالبه بكل ما لا يتحمله ولا يطيقه، أن يكون رجل غير سادي معها، وأن يتقبل كونه فاقد لعقله، وأن يتكيف على حياة بأكملها ظن أنه سيفشل بكل ما بها، وتأتي الآن لتطالبه بالأقسى عليه.. أن ينظر بعينيها.. وبكل ما يُعانيه وما يؤلمه حد الموت، وبكل ما سيُعانيه وسيتركه كجثة هامدة بأعين شاردة لا يُمكنها سوى رؤية صور لذكريات شتى جمعتهما، لها ذلك.. كل ما يحلو لها سيفعله، وحتى لو ارادته أن يبقى على حياته التي ليس لها معنى دونها سيفعل!

 

التفت بحرص وهو يخشى النظر لها بتلك الدموع التي ما زال أثرها يلتمع على وجهه في وسط هذه الليلة السوداء التي لا تريد أن تنتهي ليرى الخوف ينهمر من عينيها، هل تخاف منه؟ لأجله؟ أو تخاف على حياة إنسان مثلما خاف هو في يومٍ من الأيام من قتل امرأة لا تعني له شيء؟

 

-       ممكن تساعدني.. أنا خايفة..

 

تلعثمت لوهلة ثم انهمرت دموعها التي لا تدري ما الدافع خلفها، الغضب منه على ما فعله، الحزن، أم هيبة الموقف نفسه بأن تجده من جديد يحاول قتل نفسه أمامها، لا تعرف ولكنها لا توافق على أي شيء يحدث بينهما الآن:

-       أنا خايفة اتحرك.. حاسة إني لو اتحركت حركة واحدة مش هاعرف وهاقع من هنا!

 

امتنع عن البكاء وعن التحرك عندما ناشدته بعسليتيها ولقد حرقه جحيم الاشتياق لكل نظرة منهما ليُصبح تذكرة دائمة له بأن كلما اشتاق كلما تعذب بفعل يديه، وعقله، وكلماته، وأفعاله.. هو الوحيد الذي وصل بهما إلى هنا، نهاية الطريق الذي ظن أنه السبيل للحياة، بعد الكثير مما ظن أنه سيتغلب عليه معها، أوقفهما هنا بنفسه ليكون الموت هو النهاية لكلاهما من طابق فندق شهير، يا للسخرية!

 

تراجع عن فعلته لو أن هذا ما تُريده، تطالبه بالإنقاذ؟ تريده أن يظل حي يُعذب بابتعاده عنها وبإدراكه أن كل ما آلت له الأمور كان هو السبب به، لها كل ما شاءت!

 

هبطت قدماه أرضًا وتوجه نحوها ومد يده يقدمها لتأخذ بها وقتما يحلو لها، نظرة أخيرة منها تجاه الأسفل حدثت بطريقة غير مباشرة ثم فجأة شعرت وكأن قدميها كالهلام، لا تستطيع حملها، ولا يُمكنها التحرك، شعور بالقشعريرة يماثل ذاك الشعور وهي كانت على وشك اليقين بأنه سيقتلها لا محالة، الموت، وللاقتراب منه شعور خاص، وبرودة لا يماثلها شيء..

 

-       هاتي ايدك!

 

ربما الكلمتان المقتضبتان السابقتان يفسران أمر مباشر، ولكن تلك النبرة التي تتمزق ألمًا كانت ابلغ من آلاف الكلمات المتوسلة التي لو نطق بها بنبرة مختلفة كانت لتصيبها بالتقزز والغضب، ولكن كل ما تشعر به في هذه اللحظة أنها ستسقط مثل ما كان سيفعل منذ ثوانٍ ولن تستطيع التحرك.. هي لا تشعر سوى بالخوف، وبكل ما بداخلها من عفل ما زال يستطيع التفكير ولو بنسبة، هي لا تريد الموت بأي شكل من الأشكال!

 

-       أنا خايفة.. مش قادرة اتحرك..

 

نظرة ثم احتواء لها بين ذراعيه؟ يقسم أن تلك القفزة منذ قليل أسهل بكثير مما تطالبه به الآن، لماذا تتملك المزيد لتعذبه به؟ ألا تعي أن اقترابه منها أصبح أسوأ من الموت عليه؟! تبًا له، وليديه، ولكل ما فعله بها وبنفسه يومًا ما!

 

اقترب وهو يحتوي خصـ ـرها بذراعه اليُسرى وتملكت الأخرى ساقيها لتتساقط هي بين ذراعيه ببكاء هيستيري لم تدرِ ما السبب خلفه تحديدًا، وسقطت تلك الزجاجة من بين يديها أرضًا وشعرت وكأنها لا تستطيع التحكم في أي من اعصابها على الاطلاق!

 

لن يحتمل هذا، هذه ليست قصة عشق تاريخية اسطورية حيث تقع البطلة في عشق قاتلها بعد أن اعتادت عشرته، هذه قصة واقعية، بطلها ليس إله اغريقي بحكم منه سيجعلها تتناسى أو سيحولها لنهر أو شجرة حتى يدوم عشقهما للأبد، بل بطلها رجل مضطرب بأعراض فصامية كل ما قد يكترث له هو خوفه من مواجهة نوبة جديدة وهو معها قد تقتلهما حقيقةً وواقعًا وليس بمجرد سطور خطها رجل مات منذ ألفي عام!

 

حاول أن يخفضها لكي تنهض بينما انعدمت قوة قدميها في أن تحملاها ليلعن بداخله وهو لا يقوى أن يتحمل وزنها ليتجه سريعًا لنفس تلك الأريكة التي كانت تجلس عليها منذ قليل واخفضها لتحمل هي الثقل بدلًا منه، فيكفي عذاب اذنيه بسماع صوتها الباكي الذي كان ليكون اطيب ما استمع له يومًا، ولكن ربما بالسابق، الآن بكائها يعلم أنه ليس لغرض مُتعته، بل لتذكيره بفداحة ما ارتكبه!

 

-       كفاية ارجوكِ، كفاية عياط..

 

توسلها لتكف بينما وجدت نفسها تنشج بغير وعي لصوته الهامس:

-       مش عارفة.. يا إما اعيط وأخاف يا إما أحس بعصبية وبتجيلي أفكار وحشة اوي!

 

اتجه بعيدًا لكي يتحاشى النظر إليها، لطالما كان ضعيف معها ولها وأمامها وما تفعله به الآن يدفع به لضعف من نوع آخر، لا تدفعه بفعلتها هذه سوى بأن يتشبث بالموت بكل ما تبقى داخله من عقل، لا يرى سوى أن هذا هو الحل الوحيد ليلهمها بعض من الراحة، وليُبرهن لوالده أنه لا يستطيع العمل وهو ميت، ويقترب خطوة من العذاب الأزلي الدائم الذي سيناله عندما يأتي وقت حسابه، فهو لم يفعل الخير قط في حياته.. ليُعذبه الله على ما فعل بها إذن!

-       ايه فكرة أوحش من إنك تموتي نفسك عشان بس قابلتي راجل صدفة سابلك أسوأ حاجة في حياتك، مظنش إن فيه حاجة أسوأ من إنك تبقي عايزة تخلصي من حياة أنا شخصيًا اتمناها!

 

اوقفتها كلماته عن البكاء، وكأنما اختفى نحيبها تمامًا، ليُكمل هو من حيث توقفت هي وتواترت دموعه دون أن تراه، يعرف أنه سيستغلها لو أدركت ما أصبح عليه، ويعرف أنها لطالما امتلكت قلب من ذهب مهما مر عليه الزمن بمصاعبه لن تتوقف عن العشق أبدًا!

 

نهضت وهي تنظر نحوه بغلٍ شديد وقالت بقهر نقل تلك النيران التي تحرق روحها:

-       فيه، أسوأ من إنك تنهي حياتك هو إنك تؤذي غيرك..

 

ابتسم بحسرة على كلماتها وابتعد قليلًا حتى لا يُلاقيها بوجه لن يحمل سوى عار ما ارتكبه طيلة حياته هذا لو بقي بها الكثير وعقب هاكمًا:

-       خديها من واحد أذى ناس كتير، الأذى حاجة وإنك تؤذي نفسك وأنتِ بتؤذي غيرك بس من غير ما يطولك الأذى حاجة تانية خالص صعب اللي زيك ينجحوا فيها

 

هل يُعطيها دعم نفسي؟ أم يشعر بالخوف من أجلها ويكترث بما يحدث لها؟ أم ربما جلساته جعلته فيلسوف نفسي جديد ليصبح مهووسًا بالتاريخ، الأساطير، شعر هذا الوغد أوفيد، بالإضافة إلى امتهانه العلاج النفسي، يا له من مثال ليراه الجميع ويبصقون عليه!

 

-       اللي زيي!! والمفروض كلامك ده أخد منه العبرة والدرس المستفاد مش كده؟ ليه، ضعيفة زيك، ولا غبية ومبقتنعش بصوت العقل؟

 

امتنع عن البكاء في راحة شديدة، راحة سرت بدمائه لم يشعر بها منذ بداية الليلة، لقد استطاع استفزازها بنفس المكان الذي استفزها به بالسابق، ولكنه اليوم كان لا يريد سوى أن يُخلصها من هذا الخوف، سيتحمل هذه الإهانة لو كان السبيل هو أن يراها كما عهدها يومًا ما!

 

لم يُزدها صمته سوى استفزاز وتملك كيانها ذلك الغضب الشديد الذي بات يسيطر عليها ثم صفعته بكلماتها متابعة:

-       على الأقل أنا مش ضعيفة لدرجة إني مبصش في عين حد.. ومش ضعيفة عشان أحاول اموت نفسي مرة واتنين وتلاتة والرابعة كانت من شوية، ومش ضعيفة عشان أروح انتقم من حد في إنسان تاني مالوش أي ذنب..

 

جففت دموعها بعد أن فهم ما تعنيه من كلماتها التي تقصده بها فلقد فعل هو كل ذلك يوم ما وهتفت به بلهاثٍ غاضب:

-       على الأقل أنا مش أنت.. أنا مش جبانة زيك!

 

كادت أن تلتفت لتغادر لتسمع ما تفلت منه دون أن يُفكر بكلماته:

-       مش جبانة، ومش ضعيفة، هصدقك، والشرب ودمارك لنفسك وخوفك مني ومحاولة إنك تموتي نفسك قدامي، حياتك اللي اتقلبت عشان واحد زيي ميستاهلش

-       وياريته ميستاهلش وبس، لا ده مش راجل كفاية إنه يبص فـ عيني، ولا يقدر ياخد قراراته بنفسه، محتاج دايمًا حد يوجهه، بابا، يمنى، بابا، روان، بابا، عُدي.. صدقني أحسن كلمة قولتها من يوم ما عرفتك هو إنك متستاهلش فعلًا..

 

قاطعته ولم يعد هناك لعقلها دور سوى في الادلاء بكل ما سيجعله يتألم حقًا، لقد جربت معه أن تصفه بقلة الرجولة يومًا ما ولقد رأت ما فعله، لم تنسه، ولن تتوقف عن فعل كل ما سيهلكه، لن ترضى سوى برؤيته يُعاني ليلًا ونهارًا بكل الطرق الممكنة!

 

من جديد عزمت على أن تغادر غير مكترثة بما يشعر به وتوقف بداخله لجزء من الثانية ليلتفت وهو يتابعها بعينيه ليتحدث مستفهمًا بصوتٍ غالبه الألم:

-       ولما أنا مستاهلش، منعتيني ليه اموت نفسي؟

 

اكتفت بإعطائه لمحة جانبية في غاية الغطرسة ثم اجابته:

-       الموت راحة ورفاهية ومبيجيش في الوقت المناسب غير للمحظوظين بس، وأنا مش هاسيبك ترتاح أبدًا!

-       لو ده كل هدفك وأكتر حاجة هتريحك، فاعملي كل اللي أنتِ عايزاه.. أنا عمري ما هامنعك..

 

اجابها في نفس اللحظة دون اطناب بتفكير أو محاولة منه لتضييق خناق الحديث عليها لتلتفت نحوه وهي ترمقه باحتقار لتجده لا يستطيع النظر لعينيها مجددًا لتقول وهي تنطق الكلمات بمنتهى الهدوء دون أن تدع أي من مشاعرها ليقف بينهما هذه المرة حتى ولو كانت الغضب:

-       متستعجلش، ويكون في علمك، مبقتش هتقدر تمنعني عن حاجة، لو كنت زمان حاولت تقنعني بالتخلف اللي كان في عقلك بتاع أنا اللي امشي حياتنا وأنا الست تسمع كلامي والطاعة وكل اللي حاولت تقنعني بيه وفشلت لأنك فاشل طول عمرك، مبقاش هينفع دلوقتي.. خلاص أنا عرفتك على حقيقتك، وأكتر حاجة اتعلمتها منك إني ازاي اتفنن في الأذى، وازاي أقدر الاقي طريقة اوجع بيها اللي قدامي..

 

اقتربت من الباب ولم تلق بالًا لإعطائه نظرة واحدة من جديد فهو حقًا لا يستحق المزيد من الوقت لتضيعه عليه ليزداد شعوره بتلك السخرية وذلك الاحتقار الذي هتف بكل كلمة نطقت بها ليدفع عقلها للمزيد من التشويش الذي لم يقصده، فهو لم يقصد سوى البوح بعد كتمان دام طوال ذاك الوقت الذي حرم وجودها معه وبجانبه:

-       ويا ترى اتعلمتي كمان ازاي متؤذيش نفسك زي ما أنا مكونتش بؤذي نفسي؟

 

زفرة ساخرة انطلقت منها والتفتت نحوه بتلقائية شديدة لتجد الكلمات ترتمي على لسانها بمنتهى السهولة ولم تشعر ببذل أي مجهود بالنطق بها:

-       ومين قال إنك كنت مبتؤذيش نفسك! أنا مش هتكلم على اضطرابك ولا اللي كنت بتعمله بسببك عشان مكنش ليك ايد لأغلب اللي بيحصلك وبتعمله بسببه، بس مش فاكر صورة نفسك اللي كنت فاكرها باباك وصورتي اللي عايزها تبقى نسخة من مامتك عشان بعد ما تحقق صورة الأب والأم اللي اتربيت عليها ترمي نفسك في حضني في آخر اليوم وأنت فاكر إني هعوضك عن اللي اتحرمت منه؟

 

التوت شفتيها بسخرية بينما تغيرت ملامحه للصدمة الشديدة ولكنها لم تتركه واستطاعت تبين ما يحدث له من ألم شديد وتابعت بتفسيرات شتى وجدها عقلها في وقت لم تفكر خلاله سوى بكل ما مر عليهما معًا:

-       هي كرهتك فبتنقل كل كرهك للستات بإنك سادي، وإنه أسلوب حياة، مع إن المفروض تواجهها هي مش أنا ولا يمنى ولا اللي كانت هتموت في ايدك، بس أنت جبان.. ضعيف، ببساطة مش راجل! تصدق إن دي أكتر حاجة صح أنا قولتها وأنت عاقبتني عليها إنها غلطة من غلطاتي بس كان كلامي صح! يا ريتني فهمتك من بدري!

 

رأت الألم واستحسنت ذلك الوجع الذي تسببه له، ولكن لم الاستعجال في كل ما يتضح على ملامحه التي يوجهها نحو الأرضية، ما زال في جُعبتها المزيد:

-       مين قالك إنك مكونتش بتؤذي نفسك وأنت شايف كل الناس أحسن منك وبتحارب تطلع قدامي إنسان كويس وبتداري حقيقتك، حقيقي معرفتش قد إيه أنت بتعاني من واحد زي يونس اللي اثبتلي واثبتلك إنه أحسن منك بكتير، فكر كده، أو اقولك.. اكتب..

 

تفقدته بتشفي فرحة بما وصلت له أمامه ثم أخبرته بشماتة:

-       امسك ورقة واقسمها نصين واكتب في ناحية عمر وفي ناحية يونس، عمر المتخلف ويونس الراجل اللي حب بجد وحاول أكتر من سنة عشان يرتبط بصراحة وشرف واحترام بنت شافها وعجبته، وعمر المتخلف اللي بمنتهى القذارة هدد وأجبر وعذب البنت اللي شافها وعجبته.. تخيل بقا، يونس اللي كل الناس بتعتبره طفل زنان أحسن منك.. أشرف منك، والنهاردة بس وأنا شايفاه مبسوط ندمت كتير أوي إني موافقتش على جوازي منه.. شوف قد إيه اذيت نفسك وأنت صورتك عبارة عن واحد ضعيف مكروه من الناس كلها، سواء اللي يعرفوني ولا يعرفوك..

 

احتقنت دماء وجهه بالغضب المختلط بالصدمات المتلاحقة التي سببها حديثها لتهمس له في النهاية بانتصار والمزيد من شعور التشفي الذي تشعر به:

-       لو إني اؤذيك معناها إني اؤذي نفسي فأنا موافقة.. صدقني أنا جربت كل أنواع الأذى اللي ممكن تتخيلها على ايديك، تمثل بقا دور الضحية المتعذب عشان تستعطفني، ولا تفكر إنك هتكفر عن اخطائك بإنك تعمل إن هدفك أكون كويسة وكل المثاليات بتاعتك دي وأنت عامل موجوع وبتعاني، فافهم إن كل حركاتك معايا بقت محفوظة وتكرارها كأنك بتتفرج على فيلم ممل شوفته آلف مرة.. أعمل بس حسابك إن الأذى لما بيجي من حد حبك في يوم من الأيام بيبقى أقسى ووجعه عمره ما بيعدي ولا بيتنسي!   


❈-❈-❈


أدخنة تتصاعد من كل مكان حولها، تسير في طريق تشتم لرائحة الحريق المنبعثة من كل مكان حولها، لا ترى وجوه ولا تستمع لأصوات، فقط أدخنة بفعل هذا الحريق الذي اندلعت به نيران غضبها وتركتها هي وكل ما حولها تحترق ولكنها على يقين تام، هي لم تتحول لرماد بعد!

 

لم تر ولم تستمع لما في هذا الرواق الذي يفصل غرفتها عن غرفته، لا ترى ولا تستمع سوى لكلماتهما منذ قليل، كل ما فعلته، كل تلك الشهور التي حاولت خلالها أن تصبح بخير، كل هذا العلاج، الاستيقاظ مبكرًا، ممارسة الرياضة، مجموعات الدعم، الإقلاع عن الكحوليات لفترة ليست بقليلة، يأتي هو، وأربعة جدران، وعدة كلمات بالإضافة لمحاولتي انتحار لا تدرك أي منهما كانت حقيقة وليست خادعة، وينهار كل شيء من جديد.. نفس الخوف ونفس الغضب!!

 

ارتمت بكامل ثقلها على تلك الأريكة التي وُضعت بداخل الجناح الذي لم يختلف كثيرًا عن الجناح الذي يمكث به، نفس الألوان، نفس التفاصيل، ونفس هذه الحالة من الذهول التي انتابتها بصحبته يومًا ما عندما واجه أقسى نوبة هوس عايشتها معه.. إلى متى سيستمر هذا؟ إلى متى سيكون عليها معايشة نفس القصة معه من جديد؟

 

لم تكن قوية بالكامل، لا تستطيع فعلها، والأسوأ أن بقرارة نفسها هي تعلم أن تأثيره عليها يفوق تأثير أي شيء آخر، لا تريد المزايدة بينها وبين نفسها ولكن مواجهته منذ قليل كانت أصعب من مواجهتها وجوه لا تعرفها وهم يقومون بإبلاغها بتعازيهم الحارة لفقدانها والدها ويتأسفون بشدة لما حدث لوالدتها! ما الذي يحدث؟ وإلى متى سيستمر بالحدوث؟ هذا الضعف معه آنى لها أن تتخلص منه؟! هذا ليس بسبب ما حدث بينهما في النهاية، هي لطالما كانت ضعيفة معه!

 

غليان يسيطر عليها، تشعر بانفجار وشيك قارب على أن ينثرها لأشلاء، لا تفكر سوى في أن تذهب له من جديد وهي تقتله بيديها وليتهمها والده بكل ما شاء.. لماذا لم تتركه ليتخلص من حياته؟ هل خائفة من جريمة قتل؟ أم خائفة من فقدانه هو نفسه؟ لماذا تفعل؟ ما حاجتها له؟

 

رأسها يغلي بها تلك الأفكار، بركان من صور شتى لا ترى سواها أمامها، تريد أن تؤلمه بأي طريقة ممكنة، أنفاسها تتعالى، هذه نوبة قلقها التي تعاني منها، هذه الأعصاب التي تحترق لا تتوقف، أين تلك اللعنة التي تتناولها؟ أين حقيبة يدها؟ أين تركتها؟

 

حاولت أن تتذكر ما الذي حدث قبل أن يقترب منها ويسبب لها مواجهة هذه الحالة من جديد واتجهت نحو الباب لتجد هناك جمع غفير في انتظارها، "بسام"، "دايفيد"، والدتها، "عُدي"، هؤلاء الرجال المسؤولون عن أمنها، أين كان كل هؤلاء وهي بين يديه وبمفردها معه؟ لا تطيق حقًا النظر بوجه أي منهم!

-       شنطتي فين؟

 

سألتهم وهي تنظر لهم بحقد لا تفرق بين أي منهم وأنفاسها تتعالى ولا تدري هل ترتجف أم لا أمامهما بينما سمعت أحد منهم يسألها:

-       انتي كويسة؟

 

لا تعرف من الذي سألها هذا السؤال، لا ترى سوى وجهه أمامها بداخل كل هذه الأعين، ولا ترى أن هناك أي من الحلول سوى بهذه العقاقير فأعادت سؤالها هاتفة بالجميع بمنتهى القسوة:

-       شنطتي فين؟

 

نظر جميعهم لبعضهم البعض بتعجب بينما حاول "عُدي" التدخل ليقول مجيبًا:

-       متقلقيش هشوفلك هي راحت فين.. فاكرة طيب سيبتيها آخر مرة فين؟

 

ارتبكت وهي تحاول التذكر بينما تلك الحالة التي هي عليها لم تتركها لتسلط تركيزها على أي شيء:

-       معرفش، حد يتصرف ويجبهالي، مش معقول عشرة واقفين قدامي مش لاقين الشنطة!

 

ازدادت أنفاسها في التعالي ونبضات قلبها تخبرها أنه سيتوقف إن لم يُساعدها أحد بإحضار حقيبتها لتتناول هذا الدواء بينما فر "عُدي" سريعًا بعد أن أخبرها باستغراب وهو ينظر لأخيها ووالدتها:

-       أنا هاروح اشوف شنطتها!

 

اقترب أخيها منها وهو يسألها بحرص وحاول أن يلمس كتفها باهتمام:

-       روان فيه ايه اللي حصل احنا قعدنا ندور عليكي وملقناكيش، انتِ كويسة؟

 

تفقدته بنفس هذه الحالة المُزرية وهي تحاول أن تسيطر على ما تمر به ولا تدري بم عليها اخباره فأجابته بأنفاس متعالية:

-       هابقى كويسة، حد يجيبلي الشنطة بس!

 

تفقدتها والدتها وهي ترفع عينيها للأعلى حيث جلست على مقعدها المتحرك وسألتها:

-       فيه ايه يا حبيبتي انتي كنتي كويسة من شوية!

 

ابتلعت وهي تتفقد أعين الجميع ولم تجد بداخلها المقدرة على مواصلة كل ما يحدث حولها لتجيبها قائلة:

-       أنا كويسة، محتاجة أنام وهكون كويسة.. بسام روح أنت ومامي!

 

لم تستطيع أن تسيطر على ما يحدث لها وكانت جملة أخرى من والدتها لم تقصد بها سوى الاهتمام من قلقها عليها، السبب الأخير في ايصالها لدرجة لا تحتمل من الانفجار الذي تضرر كل من أمامها به:

-       طيب يالا يا حبيبتي نروح لو حاسة إنك تعبانة وابقي فهمينا ايه اللي حصل!

 

توسعت عينيها وأنفاسها لا تهدأ على الاطلاق لتصيح قائلة:

-       اللي حصل إني اتجوزت، مبسوطة دلوقتي؟ مبسوطة من كل حاجة بتحصلي؟

 

تفقدتها وهي لا تدري ما الذي حدث أوصلها لكل ذلك فمنذ قليل كانت بخير لتحاول تفهم الأمر فسألتها من جديد وهي تتحدث بخفوت وقلق واضح بنبرتها:

-       هو عمر حاول يكلمك تاني؟

 

بمجرد استماعها لاسمه انطلقت الكلمات من فمها كأسهم طائشة تشتعل مقدمتها لتصيب الجميع دون اكتراث:

-       أنا مش عايزة اسمع سيرة الاسم ده، امشو وروحو وسيبوني في حالي، ارحموني بقا كلكم!

 

نظرت نحو أخيها بملامح اندلعت عليها تلك النيران التي تحرقها بداخلها ولا يبدو أنها ستخمد سوى بعد الكثير من الوقت:

-       بسام خد مامي وامشو انا عندي مواعيد وشغل هنا في الاوتيل!

 

تفقدت "دايفيد" ثم حدثته بالفرنسية بما شابه اللهاث ورأت الاستغراب الشديد على ملامحه:

-       اعذرني دايفيد ولكنني لست بخير، سنتناول الإفطار معًا..

 

اقتربت نحو الباب وهي تدفع كرسي والدتها للخارج وتحدثت للرجال الخاصين بأمنها وكأنهم سيفيدون في أي لعنة:

-       مش عايزة حد يتحرك من هنا لغاية الصبح، محدش يسيب الباب ده!

 

لم يعي "بسام" ما يحدث لها بعد أن ظن أنها أصبحت بخير فحاول أن يُحدثها بهدوء نظرًا لتلك الحالة التي أخذتها ودفعت القلق بالجميع:

-       روان أرجوكِ بس طمنيني عليكي، فيه ايه حصل لكل ده؟

 

هنا لم تحتمل وصرخت به وهي تدفعه للخارج:

-       قولتلكم سيبوني في حالي بقا!

 

صفعت الباب خلفه بعد أن أخرجته واتجهت لتجلس وهي تحاول أن تهدأ من نفسها مؤقتًا لتمارس بعد تمارين التنفس لتشعر بأن الوضع يزداد سوءًا وهي ترى الغرفة بأكملها تدور أمامها، كل التفاصيل بنظرها يتغير حجمها الطبيعي، يا لهذه اللعنة، الأمر برُمته بدأ بسببه!

 

تعرف الأعراض، لقد عايشتها بالسابق، هل الكحول هو السبب أم تواجده الليلة ومواجهته أم الاثنان معًا؟ الدوار لا يقل، نبضات قلبها تزداد، أين حقيبتها اللعينة؟ هل هو السبب في إخفاء الدواء منها؟ لماذا لا يأتي أحد بها ويريحها من هذا العذاب المتواصل، لماذا لا يتوقف الدوار؟

 

أنفاسها لا تود الهدوء، هذه النوبة أقسى من كل المرات السابقة، دوار ودموع تحجب الرؤية بشكل مناسب، هذا اللعين ستقتله بيديها، لن تتوقف حتى تراه يطالبها بالرحمة، لن تتوقف حتى تراه يتوسل لها ولن تُعطه ولو نظرة شفقة!! عليها أن تتخلص من هذا الدوار أولًا فحسب..

 

استمعت لتلك الطرقات على الباب فنهضت لتتوجه بخطوات مترنحة وهي تستند على كل ما قابلها من جدران أو أثاث وفتحت الباب لترى "عُدي" يُمسك بحقيبتها فأخذتها منه بملامح شبه واعية فسألها بقلق:

-       روان انتي كويسة؟ تحبي أكلم دكتور؟

 

أومأت له بالنفي وسرعان ما أغلقت الباب دون أن تنطق بكلمة ليستغرب الأمر وحالتها المُزرية التي باتت عليها ولم يستطع سوى تخمين أن "عمر" قد ازاد الطين بلة!! 

❈-❈-❈

-       ايه اللي حصل مع روان؟

 

أغمض عينيه بنفاذ صبر وهو يُعطي له ظهره بعد أن اضطر أن يقوم بفتح الباب له بعد إلحاح منه لا ينتهي بتلك الطرقات المستمرة وبمهاتفته دون توقف، فلقد كان على وشك أن يُنهي حياته منذ قليل، وبعد تلك الكلمات التي استمع لها منها، وبعد كل ما يدور بحياته منذ شهور، قد اكتفى ووصل إلى درجة لا تُحتمل ولا يدري ما السبيل للتعامل معها!

 

-       هتفضل ساكت ومش هترد؟ بقولك إيه اللي حصل، روان كان شكلها مش طبيعي، عملت معاها إيه؟

 

هتف به بنبرة نافذة للصبر بينما لم يستطع "عمر" تحمله أكثر من هذا ثم التفت له ليسأله بغضب:

-       أنت عايز ايه من كل ده؟ اهتمامك بيا وبيها، عايز توصل لإيه؟

 

تفقده "عدي" وهو يستنكر سؤاله ثم قلب عينيه واجابه:

-       تاني هتقولي بتعمل كل ده ليه وبتساعدني ليه، يا ابني أنت غبي؟

 

ابتسم بسخرية شديدة من كلماته وتفحصه بملامح يائسة من الحياة بأكملها وليس منه هو فقط أو من أجل عشق لم يتمن سوى أن يدوم للأبد وأفسد كل ما فيه بيديه ثم رد مجيبًا:

-       لا مش غبي، بالعكس، أنا فاهمك كويس.. من وأنت صغير لغاية ما كبرت، عدي دايمًا عايز ياخد اللقطة، عايز يكون في الصورة، لأنه ببساطة أحسن واحد فـ الدنيا زي ما ماما مفهماه، مش كده؟

 

عقد حاجباه وهو ينظر له بصدمة شديدة بينما تناول "عمر" أحد سجائره التي أشعلها والتهم منها عدة أنفاس متتالية ونفثها بزفرات ضاحكة هاكمة على ما آلت إليه حياته التي يحاول أخيه الاستفادة منها بأي شكل وخصوصًا بعد قوله الذي استمع له وهو ما زال يُدافع عن نفسه كما عودته والدتهما العزيزة فهو لا يخطأ أبدً بأي شيء ولا يقول ولا يفعل سوى الصحيح:

-       أنت هتفضل بكلامك ده طول عمرك، مهما عملت معاك هتفضل بالوهم اللي أنت عايش عليه ده!

-       وهم آه!

 

كرر من كلماته مشتقًا بالمزيد من السخرية ثم أكمل كلماته:

-       بص يا عدي، أنا يمكن عملت حاجات كتيرة غلط بس معترف إنها غلط، مش محتاج لا ماما ولا بابا يعرفوني إنها غلط، يمكن في يوم من الأيام كان ليا نجاح وسُمعة بس بتعبي أنا وبمحاولاتي مش بسبب مساعدة حد و

-       على أساس إن يزيد الجندي مكنش في ضهرك في كل حاجة بتعملها

 

قاطعه وهو لا يُصدق كلماته ولا تلك الترهات التي يتفوه بها فاقترب "عمر" منه وهو يتابعه بعينيه المُرهقتين ومن جديد كل منهما يبحث عن نفي التهم المنسوبة إليه منذ أن كانا طفلان إلى كونهما الآن رجلان بالغان ولم تتغير تلك التنافسية الشديدة بينهما:

-       حلو، يزيد الجندي ساعدني، ومها الجندي مساعدتكش؟ الحاجة الوحيدة اللي عشانها باعت دهبها وراحت تعيط لاخواتها من أبوك واتصرفتلك في فلوس عشان تقوم وتوقف على رجليك.. لا ومنجحتش من أول مرة، فشلت، وشركتك القديمة وشغلك كله راح، ورجعت تاني تساعدك وتتصرفلك.. إيه، مش شايف الفرق ما بينا؟ لسه تاني هتحاسبني إني شبه بابا، المفروض احاسبك إنك شبهها، أو ابنها الوحيد اللي طلعت بيه من الدنيا!!

 

أكفهرت ملامحه وهو يُذكره بالكثير الذي ظن أنه قد أصبح في طي النسيان للأبد ولكنه لم يُمهله المزيد من الوقت وقرر أن يُنهي هذا العام الطويل الذي أصبح ملازم له خلاله وتابع بكلمات متهكمة:

-       أنا فاهمك، فاهمك من زمان أوي، وفاهم مُشكلتك معايا، وفاهم المرحلة الجاية هتعمل ايه.. تعالى احكيلك..

 

نفث من دخانه وهو يبتسم له بتشفي ثم أكمل كلماته مطنبًا بنبرة باردة شابه صقيعها صقيع الجليد المتحجر لآلاف من السنوات:

-       دلوقتي أنت اخدت اللقطة مع عنود، وبعدها مع عمر، وكده كده واخدها مع ماما من زمان، فمستني يزيد يشوفك، بس ده مش هيحصل، وهتبدأ الدنيا تكبر عن ايديك، مشاكل عمر ومراته، مشاكل عنود وخطيبها، شغلك، رضا ماما عليك، المليون واحد اللي تعرفهم، البنات اللي بتبدل فيهم كل يوم واحدة، فهتبدأ تتعب وتجيب اخرك وتمل ومش هاتقدر تستحمل.. مع أول موقف بجد هتجري، لأن السهل عدا خلاص، واللي جاي هو الأصعب!

 

قسى على بقايا سيجارته التي انتهت بالفعل وهو يُلقيها بالمنفضة بينما أخفى يده اليسرى بجيبه وأكمل وهو ينظر لها بتفحص:

-       فسيبك بقا من روان مالها، وأنت كويس ولا لأ، وكل الحاجات دي عشان الدور ده لا يناسبك ولا أنا بقيت مصدقه.. لا تعرفني ولا تعرفها وعمرك ما هتقدر تعرف اللي كان ما بيني وبينها.. عايز تبقا الراجل اللي طول عمرك بتبذل مجهود عشان الكل يصقفله، روح شوف عنود، روح حل مشاكلك مع بابا، مُشكلتك مش معايا أنا.. أو اقولك، عندي فكرة أحسن..

 

القى بنفسه على واحد من هذه المقاعد غير مُكترثًا بتواجد أخيه ولم يحمل ذرة من امتنان له وقال مُكملًا:

-       احنا نرجع زي زمان، عدي مالوش دعوة بعمر، ايه رأيك؟ عشنا سنين كده وكنت مريح دماغي ومريحك.. ابعد وسيبني، اموت نفسي ولا اكل ولا ماكلش ولا اخد دوايا ولا لأ، واقولك حاجة، لما يكلموك يقولولك أخوك مات ابقا قولهم كان موصي إني ماليش دعوة بيه! أظن كده بخلي مسؤوليتك من كل حاجة.. امشي وسيبني بقا!

 

نظر إليه وبداخله لا يعرف إلى متى عليه تقبل هذا الشعور منه، الرفض المطلق بأن يكون أخيه، أن يكون قريبًا منه، أو على الأقل الانتماء.. ربما لن يفهمه للأبد، وبقرارة نفسه قد سأم المحاولات الكثيرة معه التي ليس لها نهاية، لقد طفح الكيل منه ولم يعد لديه هو الآخر القدرة على المتابعة في علاقة أخوة يرفض طرف بها الاستجابة لمحاولات الطرف الآخر بشتى الطرق!

 

-       أنت الكلام معاك مبقاش منه فايدة يا عُمر، عايزني اخرج من حياتك، تمام، هاخرج، بس متبقاش تدخلني في أي حاجة تاني، لا أنت ولا أهل مراتك!

 

لم يكترث بكلماته عندما ذهب، ولم يهتم بالنظر إليه ولا متابعة ما يفعله، من يريد أن يذهب ويتركه فليذهب، لقد تعود على الوحدة منذ سنوات كثيرة، لقد باتت هي رفيقه الدائم الذي لا يخيب أمله أبدًا.. على كل حال، هو في حاجة لها، تلك الدوامة التي تغرق رأسه بالكثير من الأفكار لم يعد لها نهاية ولا تريد تركه وشأنه لينعم ببعض من الراحة، فكل ما حدث لا يتركه سوى خاوي من الحلول، والقرارات، بل والأفكار..

 

عاصفة لا ترحمه ولا تشفق عليه، لا تترك له سوى الفشل التام الذي يراه ينعكس على كل حياته، وحتى الموت الآن أصبح رفاهية وراحة لا يستحقها كما قالت.. ولكن لو كان هذا ما تريده فلها ذلك!

 

وكأن الكون يتآمر عليه للمرة الأخيرة هذه الليلة، أو يتمنى أن تكون الأخيرة، من الطارق يا تُرى هذه المرة؟ ملك الموت الذي يتمنى النظر بعينيه وهو يخبره أنه اشتاق له؟!

 

نهض بتكاسل وهو يتوجه نحو الباب، يقسم بداخله أنه لو كان "عُدي" لن يتركه سوى بملامح مجهولة لن يستطيع آلف طبيب من الطب الشرعي أن يتعرف عليه وهو مذهول بعدم تشابه وجه الجثة بملامح الرجل في نفس الصورة!!

 

والده؟! حقًا؟! لقد ورطه في قضية بالفعل، وكاد أن يفتعل كارثة منذ قليل، ما الذي يُريده بعد؟ هل يُريده أن يحل القضية الفلسطينية هذه المرة؟ فهو على ما يبدو يرى أن ابنه البكري رجل خارق يستطيع فعل كل شيء في أي وقت وكأنه معدوم المشاعر!

 

-       خير يا بابا؟

 

سأله بتنهيدة ليدفع والده الباب واتجه للداخل، لا تتفهم هذه العائلة ما هي الخصوصية أو أن أحيانًا يريد البعض أن يحظى ببعض من الخصوصية، هات ما عندك والدي العزيز!!

 

-       اسمع، أنا شوفتلك القضية دي عشان تفوق من الغيبوبة اللي أنت فيها من يوم ما طلقت مراتك.. لكن استنى لما مشاكلك مع مراتك تعملي فضايح قدام الناس ده أنا مش هاسكت عليه!

 

التفت نحوه وهو يرمقه بملامح ساكنة بينما بداخله اشتعل من شدة لهيب الغضب الذي لا يتوقف بصحبة هذا الدمار الذي سببته هي له ووجد أن أسلم الحلول مع والده هو أن يدع هذه الزوبعة لتمر دون أي ردة فعل تُذكر لأنه لو قرر المواجهة هذا معناه أنه سيتحدث والحديث مع والده لن ينتهي وبالطبع، ومما يحفظه عن هذا المحامي الشهير، لن يهزم أبدًا في أي من المناقشات، كما أن هذا يحتاج للكثير من المجهود، ويقسم أنه بالكاد يستطيع الوقوف قبل أن يسقط أرضًا!

 

-       بقا أنا، يزيد الجندي، بأهل بيتي وعيلتي المحترمين، تيجي بنت صغيرة قد ولادي تخلي الناس تقول شوف مرات ابنه عاملة ازاي وهي بتترقص وسط الرجالة!

 

حسنًا، رؤيتها أمام الجميع دفعته للغضب من جديد، جيد، آتى بحرب أخرى ليقوم بشنها عليه، ماذا بعد؟ هو ليس لديه طاقة للقتال ولو ترك غضبه يتحكم به ستقوم حرب دامية لن يسلم منها أحد!

-       بابا أرجوك أنا اتدخلت وخلاص، مبقناش هنشوفها تاني، ومبقاش لينا تعامل معاها تاني!

 

لا يدري هل قوله يؤلمه أم يُهدأ والده، لا يعرف هل عليه البُكاء الآن من نطقه بهذه الحقيقة أم الاستسلام والاذعان لوالده من خوفه عليها، لُعن عقله الذي لا يتوقف عن التفكير!

 

-       أنت أهبل ولا بتستهبلني؟ وأختك اللي صممت تتخطب للعيل ده، شايف كده إننا ملناش تعامل معاهم تاني؟ جرا ايه، مش فاهم إنها عايزة تكيدك قصاد الناس، عايزة تقول للناس بتصرفاتها شوفو عمر وابوه مش فارقين معايا، لو كنت ربيتها زي ما قولتلك مكنتش هتـ

-       خلاص يا بابا الموضوع خلص وأنا اتدخلت.. وخلاص مبقاش فيه بيني وبينها اكتر من كتب كتاب عنود وفرحها، وبكرة نعرف الناس إني طلقتها

 

قاطعه زافرًا بضيق وغضبه بداخله لا ينعكس منه ولو ذرة واحدة بفعل هذه الأدوية التي لا يتوقف تأثيرها ولكنه كاد أن يفقد وعيه من كل ما يحدث نحوه، وبالطبع لن يترك والده الأمر ليمر مرو الكرام، كان لابد من أن يختلف معه، نعم قراراته صحيحة ونظرته المستقبلية وحكمه على الأشخاص لطالما كان صحيح، لكنه في وقت وحالة لا يسمحان له بأخذ كل هذا دفعة واحدة:

-       لا يعرفو ايه، هيبقا فشل في جوازك وشغلك والناس تدور ورا الموضوع وكمان محاولة انتحار! افهم بقا إن مش كل حاجة تطلع قدام الناس!

 

فشل، من جديد نفس الكلمات، جيد للغاية، ما الذي تبقى ليؤلمه به؟ ألم يُكفِه سنواتٍ من نجاح بذل قصارى جهده بها؟

-       حاضر يا بابا.. بلاش موضوع طلاقنا ده دلوقتي، اللي تشوفه، أنا عارف إن معاك حق، وعارف إن كلامك دايمًا بيكون صح عشان عارف مصلحتي فين..

 

لم يتوقع هذا من ابنه بسهولة فتفحصه مليًا للحظات مطولة ليسأله بمنتهى الهدوء:

-       دي واحدة ست، ست في الآخر ملهاش غير البيت والعيال مهما عملت، عايزها تخسرك كل حاجة يا عمر؟ أنت موقف حياتك عشانها، مش عشان شغلك ولا دراسة مثلًا ولا مشكلة كبير! عايز توصل لفين تاني بسببها؟

 

أغمض عينيه واتجه ليجلس حيث لا تصل عيني والده ليده التي لا تبدو أنها ستتوقف عن ذلك الارتجاف الذي بات يجعله يود بتر يده بنفسه واجابه متضرعًا أن يُنهي هذا الحوار ويتركه في سلام:

-       أنا بكرة هروح أكلم سليم الخولي، وهرجع الشغل، وكل حاجة هتبقا كويسة

 

ابتسم الآخر بسخرية وغمغم باستهزاء:

-       لغاية امتى ناوي تفضل كده؟

 

حتى قتل نفسه لا يفيد، ما الذي عليه فعله حقًا كي يقتنع والده أنه مستسلم للغاية لكل ما يريده، سيعود للعمل، ما الذي يريده بعد؟

 

خلل شعره بعصبية بدأت في الوضوح على ملامحه وتركت نبرته الهدوء ليصيح غاضبًا:

-       يا بابا قولت راجع شغلي وكل حـ

-       انت فاكرني بكلمك عن شغلك ولا جوازك، أنا بكلمك على الحنية اللي أنت فيها من وأنت عيل، ربيتك تبقا راجل وقولت قسوتي معاك هتتعلم منها، إنما أنا لو بربي حمار كان زمانه اتعلم.. أنت طيبتك دي مش ناوي تتعلم إنها متنفعش الرجالة، ضعفك وإنك دايمًا مستخبي من عيون الناس رجعلك أول ما عرفتها، أربي واتعب واعلم واوقفك على رجلك ويوم ما تعرف البنت دي تمشي تستخبى في ضلها ولا كأنك راجل.. فوق يا عمر أنا اللي مربيك وعارفك وحافظك.. ما تتجوز وتطلق ألف واحدة.. خد إجازة من الشغل وارجع تاني زي الرجالة، اعرف ناس واتعامل واتمرمط عشان تبقى راجل، أنت محامي، عارف يعني ايه محامي؟! أنت دخلت مدرسة في يوم كان الكل بيعملك فيها ألف حساب وأنت وسطهم ابن يزيد الجندي اللي محدش يفكر يهوب منه، فاهم ده يعني ايه؟ كان الكل بيخاف منك لأنك كنت قوى وقلبك جامد، أنت طلعت ناس من الإعدام والمؤبد، يعني قلبك ميت.. جاي بعد سنين تجري ورا واحدة ست عشان بتحبها وكنت هتموت نفسك عشانها، يا ابني ارحمني بقا، ارحمني.. هافضل أربي فيك لغاية امتى وأنت بقيت راجل وشوف وأنا في سنك كنت فين، والمصيبة إنك بتكرر نفس غلطتك زمان، عايز واحدة تاخد من حياتك سبع سنين ودي ناوي تديها سنين عمرك الباقية.. ما تغور في ستين داهية ويجلي مليون غيرها!

 

قاطعه بحرقة إلى أن رأى حمرة الغضب تُغلف وجه والده وكل تلك التفاصيل التي ذكرها كونت له غضب مماثل لغضبه حتى ارتبكت أنفاسه ولكن والده أضاف بنفس مقدار الغضب ونبرة لا تحتمل النقاش:

-       لو متعدلتش في شغلك وحياتك يا عمر ده آخر تحذير ليا، لو هي كانت بتتعامل مع عمر الجندي فالمرة الجاية مش هاستنى.. وهتتعامل مع يزيد الجندي.. وأنت لو مفوقتش فأنا هعرف افوقك ازاي، انا مكونتش بربي في راجل عشان في الاخر يقلب واحدة ست!

 

تركه وغادر ليشعر الآخر باحتراق عقله ونهض وهو يتجه نحو سجائره لكي يتناول المزيد منها بينما وجد أنها لن تفيد، كما لا تفيد العقاقير، ولا تلك الجلسات، ولا أي لعنة في حياته.. إن لم يثمل الآن لا يدري ما الذي سيفعله مع والده والجميع يعلم أنه لن يستطيع مواجهته ولا مواجهة غضبه لو نفذ صبره حقًا!!

 

قد يكون الكحول الحل الوحيد له بعد كل ما استمع له منذ قليل وهو من كان يتهرب منه طوال عمره، أين تلك الزجاجة اللعينة التي كانت هنا؟ لم يظن أنه سيُطلق هذه القنبلة من جديد ويتركه ويغادره، ليثمل ويتناسى، وليحدث ما يحدث، هو مستعد لنوبة من الهوس، وقد يستعد لنوبة اكتئاب، انتحار، انتكاسة، غضب والده، العمل بالإكراه، مواجهة الماضي.. هو على استعداد لكل هذا، ولكنه ليس بمستعد أن يؤذيها من جديد، لن يقدر على هذا! هل التهمتها بالكامل وكانت في وعيها وهي تُحدثه؟! إلى هذه الدرجة أصبح الخمر لا يؤثر بها؟

❈-❈-❈



بعد مرور ساعتان..

الأرق لا يتوقف، بالطبع لن يفعل، بعد هذه النوبة التي توقفت بأعجوبة لن ترى النوم ولن تلمحه، ليست مستعدة لأن تبدو غدًا كإنسان آلي يحتسي القهوة وهي تباشر عملها، لقد حذرها أكثر من معالج، وهي تعرف أن قلقها لو وصل لهذا الحد ستنقلب حياتها من جديد رأسًا على عقب.. وكل هذا بسبب رؤيته!

 

الأفكار تلوح بعقلها، لا تتوقف، لا تريد سوى أن تؤلمه مثل ما تألمت هي على يده، تريد أن تفقده عقله، موته ليس بحل، لن يسكن عقلها سوى هذا، رؤيته وهو يتألم الليلة ولا يستطيع النظر إليها كانت بداية جيدة، وبداخلها لا تريد سوى المزيد!

 

هذا القهر الذي تحملته بكامل أنواعه وأشكاله بمختلف ألوانه على يديه، هي لم تنس، ولن تفعل، ولن يُكفيها أن يعاني لأعوام حتى تخمد تلك النيران بداخلها..

 

تقلبت على جانبها الآخر، صداع رأسها يزداد، والنوم اللعين قد هرب منها بالكامل، هذا الوغد كان مُحقًا يومًا ما وهو يقتنع بأن التأهيل النفسي مجرد ترهات، لقد أخبرها يومًا أن والدتها أخذت وقت ما لكي تتقبل صدمة موت والدها، هو مُحق للغاية، هي لن يُكفيها عُمر بأكمله لتراه أمام عينيها كما كانت هي يومًا ما!

 

الذكريات تنهمر على رأسها بكل ما عايشته معه، الأيام القليلة التي استطاع أن يخدعها ببراعة بعشقه لها، والأيام الكثيرة التي رأت بها أسوأ ما به، وصراخ السُباب الذي يدوي بعقلها كاد أن يفجر رأسها، اللعنة عليه وعلى العشق والزواج والعلاج النفسي وعليها هي نفسها!

 

عينيها تكتوي من انعدام النوم، هذا الصداع لا يتوقف، نهضت جالسة وهي تنير ذلك الضوء الجانبي للفراش ورفعت شعرها بينما صوت افكارها تستمر بشكل غير مسبوق، هي لم تنس تلك الأوراق التي تملكها، ولكن يتبقى لها القليل بعد، لن تستطيع أن تقدم على مثل هذه الخطوة وهي خائفة منه ومن الوغد الذي رباه!  

 

حدقت بهاتفها لتجد أن الساعة عبرت الثالثة صباحًا، متى ستنام، لن يتوقف "دايفيد" بالصباح عن الثرثرة وهي تريد أن تضم على الأقل ثلاث شركات فرنسية وتقنعهم بتوقيع اتفاقيات معها، وهذا الحقير عليه أن يُخلصها من هذا التوكيل غدًا..

 

نهضت تتجه نحو ركن المشروبات بالغرفة وبالطبع لم تقم بطلب أي لعنة ظنًا منها أنها توقفت، وهي ليست بالعميلة المميزة لهذا الفندق ليقوموا بإرسال زجاجة ترحيبية لها.. إدارة لعينة، تُقسم أنها ستحرمهم أي اكراميات..

 

اتجهت للهاتف ثم توقفت لحظة نظرًا لتأخر الوقت كما أن خدمة الغرف تتأخر، لن يمكنها التحمل، كما أنها لا تريد زجاجة بأكملها وإلا ستعود لتناول تلك الكميات الهائلة دون توقف، فقط ستحتسي القليل وغدًا ستتخلص منه للأبد بعد فسخه هذا التوكيل، وسيعود كل شيء على ما يُرام، ولكنها لابد من أن تخلد للنوم بأي طريقة ولا يُمكنها التهام المزيد من هذه المنومات التي لم تُفدها!

 

اتجهت لترتدي حذاء غير رسمي ولم تكترث بهذا البنطال الضيق والقميص القطني العا ري الذي يُظهر ذراعيها ومقدمة نهـ ديها وشعرها المرفوع بفوضوية واتجهت مباشرة نحو المصعد ومنه إلى ركن المشروبات دون أن ترى ما حولها وجلست لتطالب النادل المتواجد:

-       كاس ويسكي..

 

أومأ لها النادل بالموافقة وسألها:

-       تحبي تلج يا فندم؟

 

هزت رأسها بالموافقة واغمضت عينيها وعقلها لا يتوقف عن التفكير بينما مدت يدها دون أن ترى إلى أين تتجه وتحـ ـسست طريقها إلى أن وصلت للكوب وأخذت في التناول منه وكل ما أمامها هو وجهه وهو يتوسل لها بأن تنظر له برحمة، لن تتوقف حتى تصل لهذا!

 

لقد انتهى الشراب، تريد المزيد، ستطالب بكأس أخرى لعلها تثمل وتستطيع النوم، لعل أي شيء يساعدها، لو لم تكن المخدرات صعبة للغاية للوصول إليها لكانت داومت عليها حتى الموت!!

 

كأس وآخر ثم المزيد والوقت يتفلت من بين يديها، لا تعرف ما مقدار ما احتسته، ووجهه لا يغيب عن عقلها بملامحه اليوم، يا تُرى كيف سيبدو وهو ابن المحامي الشهير المتورط في قضايا تعج بالتدليس والكذب والخداع واخفاء الأدلة، ستكون ضربة له ولوالده على حد سواء!

 

-       تعرفي إنك شبه مراتي اوي

 

هذا الصوت تعرفه، ربما بدأت تثمل وتتخيل الأصوات، ولكنه بدا حقيقيًا للغاية.. ماذا قال؟ زوجته.. من هذا؟

 

التفتت بجانبها وهي تُزيح يدها عن عينيها لتلعن بداخلها ثم وجدت أمامه زجاجة فارغة ووجدته لا ينظر لها ويبحث عن النادل بعينيه ثم ناداه ليقول:

-       واحدة تانية!

 

من جديد نظر لها وجـ سدها يأبى التحرك ليجدها أمام عينيه وضحك بخفوت بينما أوشكت هي على البكاء وكل منهما يحارب بداخل عقله شعور مختلف، فلا هي تستطيع التوقف عن الخوف والغضب، وهو ممزق بين الموت والحياة دونها وفي الحقيقة الأمران بالنسبة له لا يُشكلان فارق!

-       بقينا بنتقابل على البار! يااه.. مش بقولك انتي شبه مراتي!

 

حاولت دفع البار لتستلهم منه القوة لكي تنهض بينما المهدئ والمنوم ثم الكحول جعلها لا تقوى النهوض وهي تشعر بأنها كجبل يأبى التحرك لتنادي النادل وأخبرته بنبرة متذمرة شبه باكية:

-       هاتلي الـ check

 

جلس بالمقعد الموازي لها وهي تتفقده بخوف ليلمحها بأعين ثملة وابتسم نصف ابتسامة ليُحدثها بانكسار:

-       معنديش مانع اننا نتقابل على بار.. نتقابل في أي مكان!

 

لم تمر ثانية حتى انهمرت دموعه أمامها ولم يتذكر سوى تلك الأيام معها وهو يخبرها بكل شيء، الوحيدة التي كان يبوح لها بالكثير، يبوح لها بكل شيء، ليت تلك الأيام تعود، بأي طريقة ولكنه يحتاج لها:

-       أنا مبقتش قادر استحمل!

 

ارتمت دموعه في انهمار غير مسبوق وصوته يعج بالألم ولكنها لم تشعر سوى بالخوف، الغضب، والتشفي لما تقع عليه عينيها!

 

-       اتفضلي..

 

نبهها صوت هذا النادل فحاولت أن تتعرف على تلك الورقة وامسكت بالقلم لتوقع ولكنه مد يده ليوقفها وقام هو بالتوقيع بدلًا منها وتوقف عن البكاء وغمغم بخفوت:

-       أنا عازمك، على حسابي.. هعزمكم كلكم على حسابي عشان تتبسطو وتنسوني!

 

صوته الثمل جعلها تتذكر الكثير من الأيام وهو يشكو لها الكثير، كما تذكرت تلك النوبة اللعينة، ومن جديد ينعقد لسانها أمامه، تبًا لخوفها، بل تبًا لها!

 

وجدته يخبر النادل بشيء ما وتحاملت على هذا الثقل لتنهض بصعوبة وهي تترنح بشدة وكل التفاصيل حولها غير واضحة ولكنها حاولت التظاهر بالتلقائية وهي تعاني لكي تصل لطريق المصعد الذي نست أين يقع فتوقفت ونظرت حولها مليًا لتتيقن أنها تسلك اتجاه خاطئ فتوجهت نحو الطريق الصحيح لتجده بجانبها لتتجعد ملامحها كمن اوشكت على البكاء وظنت أنها تهرول منه ولكنها في الحقيقة لا تتحرك سوى بخطوات مترنحة مثله تمامًا..

 

-       أنا نفسي احكيلك حاجات كتيرة اوي!

 

رمقته باستخفاف بعينيها شبه الغامضتين وفي طريقها تعثرت ليحاول أن يحملها قبل أن تسقط لتهمس عندما شعرت بيـ ـده على خصرها:

-       ابعد عني بقا.. ابعد!

 

رفع يده باستسلام بينما الأخرى تحمل زجاجته الثانية وقال بدون وعي:

-       هكلمك وانتي بعيد مش هاقرب منك..

 

حاولت التركيز للذهاب للمصعد وهي تزفر متذمرة لتجده معها بنفس المصعد وتناول من الزجاجة دون اكتراث فشعرت بالخوف منه لتتكوم بركن بداخل المصعد فاقترب هو منها لتشعر بأنفاسها تلهث وحاولت دفعه للخلف بينما ألقى بكامل ثقله عليها وهو يحدق بوجهها بنظرات تعلمها جيدًا..

 

-       لا يا عمر! ابعد عني أرجوك.. احنا متطلقين، أنا مبقتش مراتك..

 

تفقدها مليًا وملامحها لم تترك بجـ ـسده خلية واحدة إلا وقد ذكرته بالكثير مما حُرم منه ليبتلع ثم همس لها بنبرة ظنت أنها لن تستمع لها أبدًا وأنفاسه تنـعـكـ ــس على وجهها:

-       وحشتيني اوي



يُتبع..