-->

رواية كما يحلو لها بتول طه - الفصل السابع النسخة العامية

  رواية كما يحلو لها 

الجزء الثالث من رواية كما يحلو لي بقلم بتول طه

 

رواية كما يحلو لها

الفصل السابع

النسخة العامية


بعد مرور ثلاثة أيام..

 

بملامح متجهمة ومقلتين شاردتين مُسلطة على اللاشيء في هذا الفراغ الذي لا يشاركه به سوى حقيقة أنه رجل مريض بمرض لا يعتبره غير مرض عقلي بحت سيقلب حياته رأسًا على عقب، جلس يُراجع كل ما انتقل من محتوى الترهات والخرافة لديه لحقائق ملموسة ورأى بأم عينيه الدلائل على كل ما يُثبت أنه مريض بلا شك..  

 

كل كلمة نطقت بها يومها كانت صحيحة، صادقة، وعقله الرافض لشناعة الأمر رفض أن يُصدقها، لأنه بالطبع لا يقبل أن يكون رجل ناجح وفاقد الأهلية بوقتٍ واحد.. لو نما علم هذه الحقيقة لأي أحد حياته لن تكون واحدة على الإطلاق.. لن تستمر كما هي.. لا يستبعد أن يُعاد النظر في أغلب القضايا التي تولاها والطعن على كل الأحكام الصادرة بها!

 

هذا التوكيل وتلك الأموال التي أنفقها بل واعطاها له بكامل ارادته لم تكن كاذبة بشأنها، كما أنها لم تكن تريد سوى إقناعه بالأمر، وإلا لكانت استخدمت كل ما حصلت عليه من معلومات – أو في الحقيقة هي مصائب – ودفعت به للسجن.. أين هي الآن على كل حال؟!

 

ارتجل عقله الكثير من المشاهد الأخرى بعد أن رأى الكثير من نوبة هوسه مُسجلة بفعل الكاميرات التي استطاع "عُدي" التغلب على مشكلة كلمة المرور لكل السجل الخاص بتاريخ كامل فقده عقله أو اسقطه سهوًا، هل ينسى أشياء أخرى مثل ما نسي هذه الفترة؟!

 

لا يجد كامل الإجابات بداخله، أو ربما وجدها ولا يستطيع التعرف على الرابط بين الإجابات وبين هذا السؤال، استفهام لعين يطرأ على عقله جعله يُعيد مراجعة حياته بأكملها منذ أن كان طفل إلى أن أصبح رجل بالرابعة والثلاثين من عمره، لماذا لم ينس أي شيء حدث له سوى هذه المرة فقط؟!

 

حسنًا، لو كان مريض، وما أيقظه كانت تلك العقاقير التي قامت الطبيبة بوصفها له، وبالطبع "روان" التي كانت تساعده وهو كالساذج الغبي لا يدري ما الذي يحدث له ولا كيف انتشلته من الأمر، إذن ما الذي عليه فعله الآن؟ المداومة على المزيد من العقاقير؟ سيكون بخير حينها، لن يتعرض لمزيد من النوبات، أليس كذلك؟ وما السبب؟ لابد أن يكون هناك سبب لهذا التشخيص!

 

تبًا، لقد قرأ الكثير عن الأمر وفي النهاية هو يعلم أنه لن يشفى منه للأبد، ليتها كانت هُنا في هذه اللحظة تحديدًا، الوحيدة التي كان يستطيع معها التحدث بأريحية ذهبت دون رجعة!!

 

وهذه الدموع لن تفيد، لو بكى بمقدار محيطات الكون لن يُكفي أن تعود له، هو بقرارة نفسه لا يتقبل الفكرة على كل ما فعله معها وبها، يا تُرى كيف حالها الآن؟!

 

جفف وجهه وهو يحاول التغلب على هذه الدموع التي لن تُزيد عقله سوى شتات، أليس كل ما أرادته هو علاجه وعندما لم يقتنع بالأمر طالبت بهذا؟! لها كل ما ابتغته..

 

العشق يدفع المرء لفعل كل ما لا يؤمن به، والعشق هو فعل ما يُريده حبيبك، يقسم أنه حاول آلاف المرات، لقد حاول ألا يفعل ما لا تريده ولكنه كل مرة كان يعود لنفس الأفعال، أحيانًا كان برغبته وأحيانًا كانت تذهله بتصرفات غريبة، لم يكن ليتقبلها على الإطلاق سواء منها أو من غيرها.. يكفي تفكيرًا.. عقله لم يعد يتحمل الأمر!!

 

نهض واتجه دون أن يلقي بالًا لمظهره ولا بما يرتديه واتجه مباشرة لمنزل عائلتها، حلم مُستحيل أن يراها أو يتحدث لها بعد ما فعله، كيف عليه مواجهتها؟ ما الذي سيقوله حينها؟ ليس لديه أدنى فكرة!!

 

وجد من يمنعه من الدخول، بالطبع سيكون غير مرغوب بزيارته ولكن لابد من أن هناك خبر ما عنها سوى أنها غادرت البلاد بأكملها، عليه على الأقل أن يتحدث لأحد ما زال يُكلمها، فقط ولو كلمة واحدة لتريح عقله المُفكر بشأنها كل ما أخبره به "عُدي" لم يكن كافيًا له!

 

أخرج هاتفه ثم اتصل بأخيها الذي اجابه بعد القليل من التريث وبداخله كان يتوقع أنه لن يجيبه على الإطلاق:

-       بسام، أنا مستني قدام باب البيت، عايز أتكلم معاك شوية!

 

هنا ضاع كل التملق وتلك الألاعيب التي كان يبرع بها مع أخيها وهو يحاول استمالة قلبه إليه لكي يحصل على إعجابه، أمر لطالما امتازت به أصحاب الشخصيات السامة خاصة إذا كانت لهم غاية أخرى، اللطف واللباقة ليستا سمتان مما يتصفان بها!

 

تفاجئ للغاية عندما وجده قد أنهى مكالمته له ليتفقد شاشة هاتفه ليستغرب ردة فعله ليزفر بحرقة في النهاية، ما عساه أن يتوقع؟ هل يظن أن كلًا من والدتها وأخيها سيستقبلانه مثل السابق؟ اندفاعه ولهفته عليها جعلاه يأتي هُنا دون تفكير!

 

حسم أمره وكاد أن يدخل سيارته ليغادر دون رجعة ليجد أخيها يقبل من على مسافة واكتفى بأن يُحدثه من خلف بوابة المنزل الرئيسية باحتقار لاذع:

-       عايز ايه؟ عايز تكلمني في ايه بعد ما روان حصلها كل ده بسببك وبعدت عننا بسببك؟ هتفتكرني صغير وهاسمع كلامك زي زمان؟

 

حدجه بنظرات تمتلئ بالغيظ الشديد ليس فقط لما فعله بأخته، بل لأنه كان يشعر نحوه بودٍ من نوع خاص، هو لم يؤذيها وحدها بخيبة الأمل، بل فعل فعلته بثلاثتهم!

 

-       ما تتكلم، عايز تقول ايه؟ إن باباك لما جه ميكنش يقصد يزعلها وهو بيقول إنها قتلتك؟

 

انعقد لسانه وهو يُلاحظ هذا الغضب الشديد البادي عليه، لأول مرة منذ أكثر من عام يستمع لتلك النبرة منه وحاول أن يتفوه بأي شيء ولكن كلما قارب على النطق وجد أن أيًا كان ما أوشك على قوله سيكون ليس له فائدة!

-       مش كلمتني وعايزني؟ عايز ايه؟ هتتكلم تقول إيه؟

 

لهث بغضبٍ شديد وهو يتفقده بكراهية هائلة، لا يعرف حقًا ما حدث، وقلبه يذوب ألمًا كلما تذكر الكثير مما مر عليه بصحبة أخته بالأيام الماضية وكلما رأى ملامحها الصارخة ذعرًا على فراشها وهي ترتجف وحالتها المُزرية التي آتت بها منذ ما يزيد عن شهرين بقليل لا يجد بداخله سوى رغبته بأن يبرحه ضربًا بين يديه!

-       أنا مش جاي عشان أعمل مشاكل يا بسام، وجاي أكلمك أنت.. محتاج بس إنك تطمني عليها، روان عـ..

-       أنت متجبش سيرتها على لسانك ولا تنطق اسمها تاني!

 

قاطع نبرته المهتزة بالفعل، هو ربما ليس في نفس عُمره ولكن بعد أن آتت هي من جديد بعد غياب بتلك الهيئة، وبعد أن آتى والده ليتهم أخته بقتل هذا الرجل الذي يكره أنه عرفه بالفعل في يوم من الأيام، وبعد أن حضرت عائلته في ذاك اليوم ووضحت أخته أنها لم تعد تربطها علاقة معه، لا يراه سوى حقير، دنيء، وهو السبب في كل ما حدث لها!

-       اللي يخلي روان زعلانة بالمنظر ده وهي لا بتاكل ولا بتنام ولا بتكلم حد يبقى ميستاهلهاش، وأنا عمري ما هعرف إنسان تاني خلى أختي بالمنظر ده من غير ما اعرف اللي حصل!

 

بالرغم من مدى طفولية هذه الجُملة، ولكنه كان مُحق، من يفعل بمن يعشقها ذلك هو لا يستحقها في النهاية، أو لو كان ليحكم على صاحب هذه القصة بأنه لم يعشقها من الأساس، ولكنه كبطل روايته المشؤومة يعلم أنه لم ولن يعشق سواها في حياته!

 

رمقه بتقزز من أعلى رأسه لأخمص قدمه وحدثه بحسرة شديدة على ما آلت إليه الأمور فيما بينهما فهو لا ينسى كم أحب هذا الرجل يومًا من الأيام وظن أنه سيُمثل له الأخر الأكبر الذي لم يحظ به في حياته ثم عاتبه متكلمًا:

-       لا أنا ولا ماما ولا هي عملنا فيك حاجة مش كويسة، وهي حتى لما شافت قرايبك قالت إنها بس كانت نفسها تشوفك كويس.. ليه توصلها للي هي وصلتله ده أنت وباباك! عملت ايه عشان توصل إنها تسبنا وتمشي وهي تعبانة بالمنظر ده!

 

نظر إليه بندم ولم يقو على النطق بأي حروف، لقد كان قرار في منتهى الغباء أن يأتي إلى هنا بنفسه، هو لا يريد أن يزيد الأمور بشاعة، عليه الصمت ربما، أو الاعتذار، ليس هناك بين يديه حل آخر:

-       بسام أنا آسف وقولـ

-       آسف!!

قاطعه بسخرية شديدة وتفقده ناظرًا له وبصق الكلمات من بين شفتيه باشمئزاز:

-       الآسف بتاعك مرجعليش أختي دلوقتي زي ما كانت زمان، متجيش هنا تاني، انتو اتطلقتوا خلاص، متحاولش تكلمها أو تعرفها تاني لو سمحت!

 

تفقده وهو يرى شدة القهر في عينيه ثم التفت وغادره ليبتلع قهرًا من شدة هذا الألم الذي شعر به بمجرد مواجهة مع أخيها الصغير، كيف سيكون لو أنه رآها أو تحدث لها، لابد من أن تكون هذه هي النهاية لكل ما فعله بها، أن تسترد هي حُريتها بعيدًا عنه..

 

اتجه بسيارته إلى مقر شركته وفي منتصف الطريق شعر بأن التواجد بهذا المكان سيصيبه بالموت، فاكتفى بالعمل على إجراءات طلاقها رسميًا منه فأرسل بعض الرسائل إلى "باسم" كي يعمل على الأمر معه.. وأمّا عن أمر التوكيل فوقتما يحلو لها سيُنهيه بمجرد أن تطلب منه ذلك!

 

أحيانًا لا تُعجبنا نهاية القصة، ولكن لابد من أن تكون منطقية، لم يعد يملك بين يديه سوى فعل ما يحلو لها، حتى ولو لم يكن هذا ما يُريده.. لقد فرغت جعبته من الاعذار والوعود، وليس هناك ما يُمكن قوله بعد محاولاته في جعلها امرأة مجنونة، أو ميتة.. أيهما أبلغ لوصف ما كان يفعله بها قبل أن يحاول قتل نفسه!

ليته نجح في فعلها، هو إلى اليوم لا يعرف كيف فعلها، لا يدري كيف هيئ له عقله بأن يقدم على مثل هذا الفعل، نعم أحيانًا يتمنى الموت لينتهي من حياته البائسة، ولكنه كان مجرد تفكير، تمني، حلم مستحيل التحقيق، ربما أخذته مشاعره يومها أمامها وهو لا يعرف كيف عساه أن يُكفر عن خطيئته معها.. أم هذا بفعل مرضه؟! اللعنة، يستحيل أن يكون وصل لهذه الدرجة الشديدة التي قرأ عنها.. الأمر أكثر مما يستطيع تحمله، هو ليس بفاقد عقله لهذه الدرجة.. ليته مات يومها وتبًا لهذا التفكير الذي لا يتوقف!

 

-       متصدقهاش، أنت بتمر بفترة صعبة عشان بتحبها.. أنت مش مريض ولا حاجة..

 

صوت يقبع بآخر ثنايا عقله يشوش تركيزه فيما يُريد فعله، هل هذه الحقيقة؟ هل عليه عدم تصديقها؟ لا، يستحيل بعد كل ما رآه مصورًا بعينيه، هو من يكذب على نفسه وليست هي.. لطالما كانت صادقة معه وهذه المرة عليه أن يؤمن بها شاء أم آبى! 


❈-❈-❈

ولاية مينيسوتا، أمريكا..

-       بعد كل تلك المهدئات والمنومات التي لا تفيد سوى بجعلي أسقط في النوم لعدة ساعات، وبعد كل ما اتفهمه عما مررت به، هناك هذا الغضب الذي لا يخمد بداخلي.. غضب من كل شيء، غضب منه هو نفسه، وغضب من نفسي، كل ما يحركني هو الغضب.. بآخر تلك اللحظات معه غضبت للغاية لأنني أصبحت كاذبة بشكل بارع صدقه هو نفسه، أكره ما أشعر به وأنفر منه.. ثم..

 

تقززت ملامحها بملامح غاضبة وهو تحاول العثور على الكلمات ثم أردفت:

-       أشعر بأنني ضعيفة وأغضب من هذا، أريد الانتقام بآلف طريقة منه، لا أريد الانتقام بمجرد اللجوء إلى القانون، وقانونًا في بلدي الأم ليس هناك ما يسمح للمرأة بأن تقاضي زوجها قانونيا، لا أعرف أن كنت تتفهمني، أنا أريد رؤيته أمامي ضعيفًا مُنكسرًا كما كنت أنا يومًا ما، لا اريد الشل القانوني مع أنه قصاص مشروع.. تلك الحرية التي أعايشها الآن ليست كافية، لا أعرف هل السبب أنني تأخرت باللجوء لمختص بسبب ما عانيته من صدمات معه؟ وكيفية افتراقنا؟! لا أعرف ولكنني غاضبة، أشعر بأن هناك نيران بداخلي لا تخمد أبدًا..

 


تفقدته لوهلة وهي تبحث عن المزيد هناك كلمات لوصف ما تشعر به بصحبة أفكارها التي تعلم أنها خاطئة بالكامل لتتفوق بمصداقية وحروف مبعثرة نقطتها بألم الغضب الذي يختنق صدرها به وتركها المعالج لكي تستمتع ف تحديث حيث تتضح على ملامحها إرادتها في قوله المزيد:

-       لقد أخبرتك بجلستنا السابقة أنه تم تشخيصه باضطراب ثنائي قد من الدرجة الثانية أنا أتفهم الأمر بأكمله أتفهم ذلك الذهان الذي قد يدفعه لارتكاب الكثير مما لا يدرك أنه يرتج به أو يفعله ولكن ما يغضبني أكثر من أي شيء هو أنه يستحيل رجل يعشق امرأة أن يسبب لها هذا الضرر الشديد وكأنه كان يحاول أن يقتلني أو يجعلني أواجه كل هذا ما لا أعرف حقا كيف أصف الأمر لقد اختبرت هذا معه السابق

 

اتجهت لتتثبت مقلتيها هذه الأرضية اللامعة في محاولة صياغة المزيد وهي تبحث عن الكلمات الصائبة:

لقد واجه نوبة هوس شديدة في السابق ولقد كنت معه حينها، ونعم هناك تلك الأفعال غير المتوقعة منه، ولكن المرة الأخيرة كان يبدو في كامل وعيه بكل أفعاله ثم فجأة استطعت ملاحظة امارات الاكتئاب عليه، ما يغضبني حقًا أكثر من أي شيء هو استطاعته أن يفعل كل هذا بي.. بمنتهى الأريحية، وكأنه رجل لا يريد سوى أن يعذبني إلى الأبد، لم يكترث بكل خوفي وذعري الذي دام طوال الفترة السابقة معي وأثناء كل ما فعله وقتها، وحتى إلى الآن، جزء بداخلي لا يصدق ولا يتقبل إلى وقتنا هذا أن كل ما اختبرناه سويًا بيوم من الأيام لم يكن حقيقي، أو كان مجرد خداع، كما أنني لا أصدق أنه استطاع أن يصدق أنني امرأة خائنة، ما اسأله لنفسي كل يوم هو كيف!! كيف يصدق عليّ هذا، كيف لامرأة أحبته لهذه الدرجة الشديدة أن تقوم بخيانته!

 

التوت شفتاها بحسرة هشمت قلبها بخيبة أمل لا نهائية والكثير مما عايشته معه بالفعل بدأ في التواتر على عقلها كصور متلاحقة توضح حياة بأكملها اختبرتها وعايشتها ثم تأتي لتقارنها بلحظاتها الأخيرة معه لتشعر بغضبها يحرقها بداخلها لتتابع:

-       بالسابق كنت أعشقه بشدة، أعشق كل ما به، ربما قد تسخر من تعبيري هذا ولكن دعني أؤكد لك أنني كنت أوشكت على أن أتنفسه بدلا من الهواء، يومي بأكمله كان معه، لقد كان يستحوذ على كل لحظة في حياتي، ولعشقي الشديد له كنت أسمح بهذا، وكأنني منحته موافقة ضمنية على كل ما بي للأبد، يومي وعملي وأسرتي وحياتي كل شيء كان معه وله، ولم أكن أشكو، كنت في غاية السعادة بفعل هذا أه وبالرغم من اندهاشي من فعلتي وأنا أقص الأمر بهذا التتابع الذي يتضح أمامي..

 

سكتت ثم نظرت له بدموع تلتمع داخل عينيها مكونة سحابة من العديد من المشاهد التي تساقطت على عقلها لتتكلم من جديد بحرقة وصوت عج ببكاء تحاول منعه فلقد سأمت نحيبها الذي ليس له نهاية ولا ينتج عنه سوى صداع رأسها المُرافق لكامل أيامها بهذه الآونة:

-       بعد كل تلك الحميمة التي ظننت أنها فريدة من نوعها والعشق الملحمي وتلك الوعود منه وكلماته ومحاولاته معي، يأتي ليفعل بي هذا فقط لبعض المخيلات برأسه، سؤالي فقط كيف؟ كيف نتحول من هذا إلى ما فعله؟

 

أطلقت زفرة مصحوبة بصوت ساخر وتابعت بتريث:

-       وأنا، أنا مذهولة، كأنني بشكل تلقائي أريد أن أفعل كل ما لا يعجبه، لقد أصبحت، أو ربما أحاول أن أصبح، لست أدري ما الذي يحدث، أتمسك بشدة أن أكون امرأة أخرى غير التي عرفها، لا تشابهها على الإطلاق، أحاول أن أدمرها كل يوم بنفسي، أذهب للرقص، للاحتفال، احتسي الكثير والكثير من الشراب، أرتدي كل ما لا يعجبه وأعرف أنه لو رآني ارتدي هذا أمام أعين الجميع سيغضب بشدة، أستمر في العمل على جزء وحيد فقط لكي أوسعه على نطاق عالمي، وفي حقيقة الأمر أنا لا أحب هذا الجزء، هذا عمل إدارة المبيعات لدي، آه لكنني أستمر في العمل على هذا الجزء خاصة لأنه ذكره في السابق، كان يسخر مني بشدة ويقول أنني غبية ولا أستطيع فعلها ولا أصلح فقط سوى لترميم الأشياء ليس الا، ولكن ما عهدته عن نفسي هو أنني لا أحب سوى الجزء التقني والبرمجة نفسها، الآن كل ما أصبحت عليه هو أنني أصبحت آلة موجهة لا تعمل ولا تتحرك إلا من أجل أن تفعل كل ما لم أعهد نفسي عليه فقط من أجل أنني أعلم أن أفعل يلا يحلو له ولو كان معي الآن كان سيغضب بشدة!!

شعرت باليأس يجتاحها تجاه كل ما أصبحت عليه وسلطت نظرتها على المعالج بشكل مباشر ولم تقو دموعها على التماسك أكثر من هذا ومرة أخرى خانتها وانهمرت دون إرادة منها:

-       أتعرف؟! لم أكن تلك الفتاة، ولم أظن أنني سأتحول لأكون هذه المرأة التي أنا عليها الآن، كان لدي أحلام بسيطة ظننت أنها ببعض العمل قابلة للتحقيق، أردت أن أكون ناجحة في كل شيء، متفوقة في دراستي وعملي، ولقد كنت.. كان لدي هذا الطموح والأمل على حد سواء أن أجد الرجل المنشود الذي سيكون زوجي وأقع في عشقه ونعيش سعداء للأبد، لم أكن أريد اختبار الكثير من العلاقات والتفريط في مشاعري وتجربة الأمر مع أكثر من رجل، الأمر كان في غاية البساطة، لو سألني أحد منذ عام ونصف لماذا أنتِ غير مرتبطة كنت لأجيب بمنتهى الثقة أنني أريد أن أغرم برجل واحد فقط دون تجربة الكثير من العلاقات التي ليس لدي وقت إليها، وأتزوج هذا الرجل وأقضي معه بقية حياتي إلى أن أموت، كنت تلك الفتاة الجيدة التي تعرقلها قضية فتذهب مباشرة لتبحث عن حل قانوني مشروع لها، تلاحظ تصرفات غريبة من زوجها فتذهب لاستشارة متخصص بالأمر، أما الآن فأصبحت كاذبة، ممثلة قديرة، أريد الانتقام، غضبي لا يتوقف ويطغى على كامل يومي وتصرفاتي، والأسوأ هو أنني أصبت بلعنة عشقي لتلك الكحوليات، أصبحت امرأة لا تشبهني، خائفة طوال الوقت، تحولت من فتاة هادئة لامرأة جبانة وغاضبة ومتهورة في اختياراتها، وغضبي يزداد ولا استطيع السيطرة عليه، غضب من كل شيء يتعلق به!! 



❈-❈-❈

--

بعد مرور أسبوع..

لقد بدأ صبره في النفاذ، ومكالمتهما الأخيرة لم تساعده على شيء، ربما قرارها بلقائه اليوم كان الأمر الوحيد الذي جعله يتحمل، لماذا الأمر صعب للغاية لمجرد رجل قرر الارتباط بفتاة بمنتهى المنطقية وهو يتبع كامل العادات والتقاليد، ما الذي تريده منه بعد لكي يُثبت لها أنه يريد الاقتراب منها ولا يمزح بشأنها؟!

 

الأمر نفسه فاق توقعه، بأن يستمر في التفكير بها هي دون سواها بعد اختبار الكثير من العلاقات مع فتيات كثيرة، حتى أنه حاول أن يلتفت لفتيات كثيرات والأمر في غاية البساطة بالنسبة له، ولكنه كل مرة يعود ليتذكرها فيشعر بفشله التام أن يخرجها من عقله! لماذا لا يصبح الأمر صعب سوى بالوحيدة التي يُقرر أخيرًا أن يرتبط بها؟!

 

سيطر الوجوم على ملامحه وهو جالس ينتظر قدومها ثم تفقد ساعته ليجد أنه لم ينتظر سوى عشرة دقائق فرفع نظره من جديد وسلطه نحو الباب وهو ينفث أدخنة سجائره بضيق إلى أن لاحظ قدومها بصحبة أخيها ليزفر بضيق، متى سيتثنى له أن يحظى بها وحدها فقط لمجرد محادثة وحيدة بمفردهما كأي رجل وفتاة في علاقة طبيعية؟!

 

على كل حال، كل مكالمة معها تجعله يتجه من سوء إلى أسوأ وتتركه خاوي الوفاض في مزيد من الانتظار ولا تتحرك تلك العلاقة أبدًا! ليته لم يرها يومها!

 

نهض ليصافح أخيها بابتسامة أجبرها على ملامحه وسأله باعتيادية شديدة:

-       ازيك عامل ايه؟

 

عقب "عُدي" مجيبًا بتلقائية مجيبًا:

-       تمام الحمد لله.. أنت ايه اخبارك؟

 

هز رأسه بروتينية وأخبره:

-       تمام

 

تحولت عينيه إليها بانزعاج ليظن أنه يرى ما يُشابه ابتسامة على وجهها نحوه وكأنها تُحية في صمتٍ شديد ولكن هذا لم يكن كفيلًا ليُعد من مزاجه السيء المُلازم له بالفترة الأخيرة فوجه سؤاله لكلاهما بنظرة مقتضبة نحوها ونظر مستمر نحو أخيها:

-       عمر عامل ايه دلوقتي؟ اتحسن؟

-       معرفش!

 

اجابت "عنود" باقتضاب بينما كانت إجابة "عُدي" أطول بقليل:

-       يعني، بيحاول يكون كويس بعد ما صحي، بصراحة بقالي كام يوم مش بكلمه، اتشغلت وورايا حاجات كتيرة، بس هبقا أكلمه النهاردة..

 

اطلقت "عنود" التي جلست لتوها على واحدًا من المقاعد المحيطة لهذه الطاولة زفرة ساخرة وهي تقلب عينيها بتهكم واضح لاحظه هو بينما لم يرها "عُدي" حيث أنه كان يقف بجانبها ولم يلمح وجهها وسأل "يونس" بروتينية مثل ما كان هذا اللقاء منذ البداية:

-       وروان اخبارها إيه؟

 

هز كتفيه بعدم المعرفة وهو يجلس على المقعد المقابل لها واجابه:

-       بصراحة معرفش، بقالي كتير مش بسأل عليها.. تقريبًا كانت يارا جابت سيرة إنها سافرت برا بس معرفش فين..

 

أومأ له "عُدي" فتابع سائلًا:

-       ايه مش هتقعد معانا؟

 

أشار له بحاسوبه ثم أخبره مجيبًا:

-       لا أنا عندي شوية شغل ومكالمتين مهمين كده وما صدقت هقعد في هدوء هنا جانبكم اخلصهم..

 

اتجه لطاولة مقاربة لهما وترك كلاهما لتتفقده بعينيها ولاحظت غياب ابتسامته المعتادة ومزاجه الرائق دائمًا وكلماته المرحة واكتفى بتحديقها بانزعاج فسألته باقتضاب شديد:

-       مالك؟!

 

قلب شفتيه ثم اجابها بسخرية وابتسامة غير ودودة:

-       مش مصدق إنك لاحظتي حاجة، ايه الحظ اللي أنا فيه ده النهاردة!

 

تنهدت بعمق ثم بدأت في الحديث بكلمات مُرتبة مُباشرة فكرت بها وقامت بتنظيمها مليًا من أجل هذا اللقاء دون الالتفات لمواضيع جانبية:

-       أنا عارفة إنك بتحاول تقرب مني بقالك شهور وبعد كل محاولاتك أنت حاسس إن مفيش أي حاجة بتحصل.. بص يا يونس أنا مبسوطة!

 

عقد حاجباه متفقدًا إياها باستغراب واستفسار على حد سواء فهي لأول مرة تنطق باسمه بهذا الهدوء وأخيرًا تخبره عما تشعر به لتهز رأسها بالموافقة وتابعت:

-       عمر ما ده حصل!

 

زفر بضيق عندما سكتت عن الكلام ثم عقب باستياء:

-       ممكن بلاش الغاز!

 

قضمت شفتيها وهي تنظر لملامحه التي لا تنكر جاذبيتها نحوها لتجلي حلقها ثم تذكرت أنها تطنب النظر إليه أكثر من المعتاد هذه المرة فأكملت وهي تحدق بتلك المحتويات على المائدة أمامها وحاولت التوضيح:

-       أنا عمري ما حد بذل مجهود عشاني في أي حاجة، عمري ما حد استناني أو اهتم بيا أو حسيت منه إنه ممكن يستنناني، كل اللي حواليا دايمًا مشغول بأي حاجة عني.. لولا بسمة ونوران أنا حياتي فاضية!

 

بدأت ملامحه تتبدل قليلًا وانتظر ليستمع منها للمزيد حيث أنها تحاول أن تتابع كلماتها فوجدها تنظر إليه بجدية شديدة وغابت تلك الابتسامة الضئيلة التي آتت بها اليوم وقالت:

-       أنا يستحيل أصلًا كنت أوافق على حد زيك، هبقا مجنونة!

 

رفع حاجباه باندهاش ثم سألها حيث ما استمع له لتوه كان بمثابة إهانة له:

-       وده ليه يعني؟

 

تنهدت واجابته بكلمات لم يفهم منها سوى أنها تقر بغبائه الشديد:

-       محدش يشوف حد ميعرفوش ويبقا عايز يكون معاه بالشكل ده ويفضل زن زن طول الوقت

 

أطلق زفرة متهكمة وسألها:

-       ايوة صح، المفروض اللي متعود عليه لو قيت بنت اعجبت بيها وعايز اتعرف عليها وأقرب منها ممكن نتكلم في الموبايل ونتقابل ويبقا من غير زن بس انتي اللي كنتي رافضة ده

قالت بنبرة رافضة للنقاش في هذه النقطة تحديدًا:

-       ايوة طبعًا أرفض لأن اللي بتقوله عن الكلام والمقابلات ده حرام وغلط وأنا مش هاعمل ده

 

قلب شفتاه بامتعاض ثم عقب بقليل من الحِدة ولكن لم تتغير نبرة صوته عن هدوئه منذ أول لقائهما:

-       هو أنا بقولك هاخطفك، انا بقول اتعرف عليكي، ايه الغلط في ده، وبعدين أنا مش طالب منك علاقة مشبوهة مثلًا من ورا الناس.. مبقولكيش هنتقابل في شقة مقفولة علينا!

-       شقة ايه أنت اتجننت!!

 

صاحت به بحرقة ثم انتبهت لنبرتها التي علت قليلًا فتابعت بجدية وغضب:

-       أنا بالنسبالي حرام، وهو ده الصح، مفيش واحدة تقابل واحد مفيش ما بينها وبينه علاقة ويقعدوا لوحدهم إلا وهو حرام وأنا استحالة اعمل ده، اديني اهو بقابلك وفي مكان قدام الناس وعدي لو شاورتله هيجي، عرفت تتعرف على بنت ازاي من غير ما يكون حرام ولا غلط ولا تحب اشرحلك أكتر من كده؟!

 

نبرتها الحادة عادت من جديد لتُزعجه وتلك الحمية التي تتحدث بها عن كل ما تراه صحيحًا فسألها بيأس:

-       طيب وبعدين؟ أنا عملت كل حاجة عشان متبقاش حرام ولا غلط، استنيت اقابلك مع أخوكي، اللي اتقدمتله، ولغاية النهاردة احنا متحركناش خطوة، اخر الموضوع ده كله ايه؟

 

حدقت به بتساؤل وضيقت ما بين حاجبيها واجابته سائلة:

-       وأنت مين قالك اننا متحركناش خطوة؟

 

زفرة مصحوبة بهمهمة ساخرة واجابها باستنكار:

-       يمكن عشان بكلمك بحساب، بشوفك بحساب، ويمكن عشان مش مخطوبين يعني بما ان هو ده مسمى أي علاقة معاكي ان يكون فيه ارتباط رسمي!

 

سخرت منه هي الأخرى ولم تقتنع بكلماته لتضيف موضحة:

-       أنت فاكر إن الخطوبة هتخلينا بنتكلم صبح وليل ونخرج كل يوم ولا ايه!

 

اكتفى بتوجيه نظرات مندهشة لها بتساؤل فقالت بابتسامة سخيفة:

-       لما نبقا نتجوز او نكتب كتابنا!

 

قلب شفتاه وهو يحدق بغير اتجاهها وهمس بتهكم:

-       يعني استنى نتجوز عشان اكلمك في الموبايل، يااه، ولو مشينا بالخطوات دي يبقى الوقت المناسب إن يجمعنا بيت واحد بعد ما نموت.. هايل، حياة مليانة تفاؤل بجد مش عارف اودي كرمك فين..

 

آتى النادل ليقاطعهما بتناول طلبه فيما يريداه من مشروبات وبعد أن غادر زمت شفتيها ببعض اليأس وهي تتفقده وحاولت أن تعود مجددًا لما أرادت قوله منذ البداية:

-       يونس بص، أنا كنت جاية عشان عايزة اقولك كذا حاجة، أنا مبسوطة اوي بجد إنك مستنيني وبتحاول عشاني، وعمر ما كان في حياتي حد عنده استعداد يعملي أي حاجة.. وكمان أنا مكونتش متوقعة أبدًا إني هرتبط في سن صغير اوي كده..

 

نبرتها دفعت به الهدوء من جديد فوجه نظراته نحوها ولكنه ما زال يشعر بالاستياء تجاه هذه العلاقة برُمتها وتجاه هذا الجمود الذي لا يجد سواه منها فتابعت وملامحها تختلف قليلًا:

-       أنت كنت بتقول متحركناش خطوة، انا دلوقتي بقيت عارفة هرتبط بمين وهتجوز مين وبقيت بتخيل حياتي كلها معاك.. أنا بس في الأول كنت مصدومة ورافضة لأن لا كان الكلام ده في دماغي ولا كان عندي أي حاجة في حياتي تقول إني ممكن ارتبط اساسًا بالطريقة دي.. دلوقتي ابتديت اصدق إن الموضوع بجد و..

-       ابتديتي تصدقي!!

 

قاطعها باستغراب لتنهاه بحدة:

-       ما تسبني بقا أقول الكلمتين اللي جاية اقولهم ولا بلاش نتقابل كمان!

 

أشار لها بيده أن تفعل ووجهه يعج بالسخرية على حاله فتنهدت بملامح متحفزة وأكملت:

-       أنا عارفة إن بشخصيتك وتفكيرك واللي اتربيت عليه شايف إني برفضك، بس أنا مش برفضك ولا حاجة، هو بس الموضوع إني طول عمري ماشية على الحلال والحرام عشان ربنا يوفقني في حياتي.. وسبحان الله عمري ما كنت عايزة احقق حاجة إلا ولقيت ربنا بيعوضني بيها وبيجبلي الحل بسهولة.. يونس أنا حياتي مع بابا وماما وأخواتي مش سهلة.. وبالرغم من ده أنا شاطرة في دراستي، عندي أصحاب كويسين، وحتى لما فكرت في انسان اكمل معاه حياتي كان عندي شوية حاجات حطاها كأهداف معاه.. وأنا مش هكدب أنا لقيت فيك حاجات كتير من اللي نفسي فيه!

 

عقد حاجباه وسألها بابتسامة صادقة:

-       حاجات زي ايه يعني؟

 

ارتبكت قليلًا وهي تُفكر ثم اجابته:

-       زي إني بحس أنك قدام مش هيبقى عندك مشاكل في دراستي وطموحي وإنك تساعدني في ده، مش إنسان متحكم اللي هو عايز وعايز واعملي ومتعمليش لأ انت بتتكلم معايا وبتحاول تناقشني في كل حاجة بهدوء، معندكش مشكلة تجاوب على حاجة بسألهالك ومش بتتهرب من حاجة وبتجاوبني على طول، وغير كده إن عندك استعداد تبذل مجهود عشاني، تستنناني وتستحملني، وأنا ظروفي يعني من ناحية الارتباط مش احسن حاجة، بابا صعب اوي يا يونس!

 

همست جُملتها الأخيرة بملامح متوترة بين الضيق والخوف فسألها باهتمام:

-       هو انتي ايه مُشكلتك مع باباكي؟ وليه حاسة إنه هيرفض ارتباطنا؟

 

تريثت لبرهة وهي تُفكر والكثير من المواقف الصعبة التي مرت عليها هي ووالدها ثم قالت في النهاية:

-       هو صعب وخلاص من زمان.. هو وعمر، ودايمًا عُدي مش فاضي، اصلًا عشان اعرف اخرج معاك النهاردة بقالي أسبوعين بحاول اظبط الموضوع ده معاه! وماما..

 

ارتبكت لمحاولة صوغ ما تشعر به تجاه والدتها فقالت باقتضاب:

-       مشغولة دايمًا وخلاص.. مكنتش فضيالي طول عمري..

 

تفقدها باستفهام بينما وجد أن ملامحها حزينة ليتناسى سريعًا انزعاجه من انتظاره الشديد لها وسأل باهتمام:

-       ليه طيب مامتك مش فاضيالك؟ بتشتغل مثلًا؟ وايه المُشكلة مع عمر وباباكي؟ أنا آه حسيت إن عمر صعب شوية ومش سهل كده زي عُدي، بس قولت يمكن عشان معرفهوش، إنما ايه سبب انهم كده معاكي؟

 

كادت أن تخبره بالكثير ولكنها اعرضت عن الفكرة تمامًا وقالت:

-       مش مهم دلوقتي، أنا عايزة بس اقولك على حاجة، وعارفة إنك هتضايق.. بس أنا رجعت الدراسة وطب صعب أوي عندنا مش سهل، وأنا نفسي اتبسط بخطوبتي، كتب كتابي، فرحي.. كل ده أنا عايزة اعمله زيي زي أي بنت.. وبردو الموضوع جالي بدري اوي.. كنت متخيلة اني مش هاجي ناحية الارتباط غير وأنا عندي سبعة وعشرين أو تمانية وعشرين سنة مثلًا.. وأنا حتى لسه متمتش واحد وعشرين سنة.. فاحنا محتاجين نصبر شوية!

 

توسعت عينيه بذهول وسألها باستنكار:

-       نصبر مثلًا خمس سنين مش كده؟ يكون مناسب؟ بحيث ناخد سنة خطوبة وسنتين كتب كتاب تبقي وصلتي للتلاتين وساعتها تبقى علاقة منطقية ونبقى عرفنا بعض حوالي عشر سنين!!

 

قلبت عينيها من استنكاره وعقبت متنهدة:

-       اكيد طبعًا لأ!

 

دلكت عينيها بإرهاق ثم أدلت بما آتت من أجله:

-       انا فهمت إن من أصعب الحاجات بالنسبالك هو إنك تستنى، وبصراحة الموضوع ده بيديني ثقة من ناحيتك.. فلو ممكن نستنى أول ما اتم الواحد وعشرين بس نتخطب في اخر الاجازة، بعدين في إجازة نص السنة اللي بعدها نكتب الكتاب، واجازة الصيف بعد الجاية نتجوز!

 

تبدلت ملامحه لترى الرفض باديًا على ملامحه وقبل أن يتفوه بشيء أخبرته بتوسل:

-       أرجوك مترفضش، أنا مش عارفة بابا ممكن يوافق ولا لأ، واذا كنت معتمدة على حاجة فكنت معتمدة إن ممكن يعني أحاول مع عمر وعدي انهم يقولوا لبابا.. فمعلش الدنيا مش احسن حاجة وهو لسه أكيد مبقاش كويس بعد موضوع تعبه وطلاقه هو وروان.. مش هينفع قدام عيلتنا اخويا يبقا لسه مطلق وكان تعبان فأروح اتخطب أنا.. وأنا كده هتبسط اكتر والموضوع كله حوالي تسع شهور وهيعدو..

 

سكت وهو لا يدري بم يُجيبها ثم استغرب من كلماتها التي دفعته للتساؤل:

-       هم اتطلقوا ليه صحيح، أول مرة شوفته حسيته بيحبها وبعد كده افتكرته بيغير عليها زيادة عن اللزوم، وبعدين فجأة اختفو ولقيته بيكلمني مكالمة غريبة، ليه الدنيا باظت ما بينهم كده؟!

 

هزت كتفيها وهي لا تعرف بم تجيبه ولا ما هي حقيقة الأمر بينهما واجابته:

-       مش عارفة، هو عمر كده كده حد غريب اوي ومعرفش عنه حاجة، وأنا وروان كان بقالنا فترة مبنتكلمش بسبب إنه كان قالي مخرجش معاها ولا اكلمها تاني وانا مكونتش عايزة مشاكل مع بابا بصراحة وهم دايمًا بيحكو كل حاجة لبعض واليوم اللي شافني فيه معاها كان اليوم اللي قابلناك فيه صُدفة..

 

ابتسم إليها وقال موقفًا إياها عن الاسترسال في كلامها وهو يُضيق عينيه بنظرة مشاكسة:

-       مكنتش صُدفة ولا حاجة

 

ابتسمت رغمً عنها ونظرت في غير اتجاه عينيه وقالت:

-       اه ما أنا عرفت إن كل ده كان عشاني

 

اتسعت ابتسامته وقال بمرح:

-       أنا محتاج اصورك صورة عشان الضحكة دي، كنت فاكر إنه كله ضرب ضرب وخناق بس..

 

نظرت له بتعابير مشتتة بين ابتسامتها وبين تلك الصورة الخاطئة التي يتصورها عقله وأخبرته:

-       لا مفيش صور، بس مش طبيعي ابقى أول ما حد يجي يقولي إنه عايز يرتبط بيا اضحكله واكلمه بدون أي حاجة رسمي ومن غير ما ابقا عارفاه ويعرفني..

 

لانت ملامحها وعادت للتلقائية وسألته:

-       قولت ايه على كلامي؟ موافق؟

 

كونها تحاول أن تسأله وتهتم بما يظنه ولم تأخذ قرارها فقط لتبلغه به كانت بمثابة بادرة أمل لهما فأجاب سائلًا:

-       ولو موافقتش؟

 

نظرت بضيق وتوسلت له بملامح طفولية لأول مرة يجدها بملامحها:

-       ليه بقا يا يونس مش هتوافق؟ قولتلك والله الدنيا ملعبكة اليومين دول، أرجوك وافق وهم كام شهر وهيعدو، ماهو مينفعش اخويا طلق مراته اروح أقوله جوزني ابن خالتها وبابا لما يعرف اكيد هيزعل على زعل عمر وهيرفض كل حاجة!

 

تنهد وهو يُفكر بالأمر ليتفاوض من جديد بما يهمه من الأمر:

-       هشوفك في الكام شهر ولا هنقضيها خناق وحضرتك مينفعش تعمل كذا وكذا؟

 

زفرت بضيق واتضح بعينيها الحُزن وقالت:

-       ما أنت قاعد معايا اهو، اكيد هنتقابل بس مع عُدي، وبعدين مبتخانقش ومن ساعة ما جيت وانا بقولك يا يونس وبتكلم بهدوء من غير خناق، اعمل ايه تاني طيب!!

 

استراح بمقعده وهو يُعطيها نظرة تقييمية مُفكرة بالأمر لتقول بتلقائية:

-       عشان خاطري وافق وبلاش نتسرع

 

ابتسامة هادئة تحركت بها شفتاه وأومأ لها بالموافقة ثم تكلم محافظًا على ابتسامته:

-       ماشي.. آخر إجازة الصيف يبقا معاد الخطوبة، مش لسه هاجي أتقدم.. يعني تعارف العيلتين والكلام ده يخلص طول الصيف

 

أومأت له بابتسامة واسعة وملامح متهللة ثم امسكت كوبها لترتشف منه لتتسع ابتسامته على تلك الملامح السعيدة التي لم يرها عليها من قبل واعادت كوبها من جديد ثم قالت بملامح صارمة ناقضت تلك السعيدة منذ قليل:

-       بقولك ايه أنت السجاير دي تبطلها، أنا مش هبدأ حياتي مع واحد بيعمل حاجة حرام وبيموت نفسه..

 

قبل أن يقول أي منهما شيء آتى "عُدي" ليقاطعهما وهو يقول بملامح جادة:

-       معلش احنا لازم نمشي عشان بيقولو لقوا عمر واقع في مكان وفوقوه وهم معايا على الموبايل وقالوا إني آخر رقم لقوه في الـ log على موبايله! 


--

-       شكله مرهق، وخاسس اوي، اكيد من بعد ما فاق مش بيهتم لا بأكله ولا بنفسه.. طبيعي أنه يدوخ ويقع وميحسش بنفسه

 

زفر "عمر" بضيق وهو يجلس على هذا المقعد بالمكتبة التي ذهب الجميع إليها التي عرف "عُدي" عنوانها بعد أن ارسله مسؤول المكتبة على رقمه بينما ابتعدت عنه "عنود" خطوة للخلف بعد أن فحصته عدة فحوصات بسيطة والأمر كان بديهي للغاية بعد أن سألته عدة أسئلة بسيطة ليقول في النهاية:

-       أنا كلمتكم في الطريق وقولتلكم متجوش وان مفيش حاجة واني هبقا كويس، خلاص كده تمام.. امشوا وأنا كويس وهروح!

 

شعر "عُدي" بالغضب منه وهو يُخلل شعره كمحاولة ألا يفقد اعصابه بسببه ليقول "يونس" الذي آتى معهم بلباقة:

-       أنت أصلًا هتقدر تسوق، ممكن اوصلك وابقى اجي تاني اخد عربيتي من هنا

 

رمقه "عمر" بنظرة نارية بالرغم من إرهاقه الشديد ولكنها كانت واضحة للجميع مما جعله نفسه يستغرب لتلقي مثل هذه النظرة منه وارتبكت "عنود" من ردة فعله ولولا وجودهم بمكان عام لكان قام "عدي" بلكمه بشدة ليفسد وجهه الذي يبدو مُدمرًا بالفعل ثم التفت لهذا الرجل الذي قام بإخباره عن الأمر بنبرة لائقة وهو ينظر إلى عبوة العصير التي قدمها لأخيه منذ ثواني:

-       متشكرين جدًا، وآسف لو سببنالك ازعاج..

 

فكر بنفاذ صبر بأن أخيه الوغد لابد من أن يضع أحد حدًا لتصرفاته التي أصبحت غير قابلة لتتعامل معها وهو يلتفت نحو "يونس" و "عنود" ثم حدثهما بهدوء:

-       معلش يا يونس وصل عنود البيت لأني شكلي هطول مع عمر شوية على ما ارجعه البيت

 

توسعت عيني "عنود" وقالت برفض قاطع ونبرة مرتبكة:

-       لا يوصلني ايه، أنا هاخد اوبر أو.. أو هاجي معاك أنت وعمر، مينفعش يوصلني ونبقى لوحدنا!

 

نظر لها أخيها باعتراض بينما انزعج "يونس" من رفضها المستمر ليقول بين أسنانه المتلاحمة من شدة غيظه من أفعال كلاهما فهو لا يدري هل عليه أن يتناقش مع أخته أم يرى ذلك الذي يريد أن يقتل نفسه بشتى الطرق دون كلل أو ملل وحاول أن يتكلم بصوت منخفض لكي لا يلتفت إليهم أحد غريب:

-       المشوار كله نص ساعة لغاية البيت ولو حد قالك حاجة قوليلهم انه صاحبي ووصلك عشان كان عندي اجتماع، وهو اوبر مش يُعتبر راجل وهتبقي معاه لواحدك.. ظرف واتحطينا فيه بسبب عمر باشا اللي مجرينا وراه بقاله شهور متبقيش انتي وهو عليا، اسمعي كلامي وروحي!

--

جلست بارتباك تراقب الساعة وهي تنتظر أن تمر الثلاثون دقيقة بفارغ الصبر وهي عاقدة لذراعيها وأخذت تنظر أمامها في صمتٍ شديد بينما لم تتفوه بحرف ليقول هو في النهاية:

-       انتي مكبرة الموضوع اوي كده ليه.. فيها ايه لما اوصلك!

 

تنهدت ثم التفتت نحوه وأخبرته بتوتر:

-       قولتلك مليون مرة إني مش عايزة مشاكل مع بابا وهو استحالة يقبل إني ارجع البيت مع حد غريب، أنا مبتحركش غير بالسواق، حتى اصحابي مش بيسمحلي اخرج معاهم لوحدي!

 

التفت لها بنظرة جانبية أثناء قيادته وسألها بجدية:

-       بصي هو فيه ايه؟ كل شوية بابا مش هيوافق، بابا هيعمل، بابا مش هيسمح، هو بابا ده عاملك بعبع ولا ايه؟ ليه كل خوفك ده منه؟

 

ابتلعت بارتباك ولم تجبه سوى باقتضاب غير موضحة لمزيد من التفاصيل:

-       هو بابا كده وخلاص..

 

لم يتقبل هذه كإجابة فألح بسؤاله:

-       يعني ايه بابا كده وخلاص، هو انتِ ايه مشكلتك مع باباكي.. نفسي افهم الموضوع ده من ساعة ما عرفتك! فيه ايه بينكم بالظبط؟

 

نظرت له بلمحة سريعة وتوسلت مجيبة:

-       هبقى احكيلك بس أرجوك بلاش تضغط عليا في الموضوع ده، وكمان الكلام عن بابا مش هيخلص وهنبقا محتاجين وقت كبير.. غير إني خايفة لو شافني معاك دلوقتي.. ممكن بس تصبر وصدقني هحكيلك كل حاجة في وقتها!

 

لم يفهم حقًا ما شأنها مع والدها وما الذي قد يفعله رجل ليجعل ابنته تذكره بتلك الطريقة وترتبك بشدة كلما آتت على ذكره وكأنها سيصيبها شر مقيم لو فقط عرف أنها ستقوم بالارتباط به..

--

في نفس الوقت..

-       هو أنت ناوي تفضل كده لغاية امتى؟

 

سأله "عدي" وهو يتجه في طريق منزله بعد أن أصر أن يقوم بالقيادة بدلًا منه وهو يُصيح به في غضب شديد ليغلق الآخر عينيه واجابه بهدوء ضاعف غضب الآخر:

-       أنا مطلبتش منك تيجي ولا تتعب نفسك!

 

التفت الآخر لينظر له بذهول مندهش من رده الذي وجده في غاية الوقاحة ليغمغم باندهاش وهو يُعيد نظره للطريق:

-       أنا غلطان، واستاهل اللي يحصلي عشان فكرت أكون جانبك في وقت زي ده!

 

كرر الآخر بمنتهى البرود:

-       مطلبتش منك ولا عايزك تكون جانبي..

 

من جديد يريده أن يفقد عقله بردوده الباردة المُستفزة ليلكم مقود السيارة بقبضته وأول أن يهدأ من نفسه وهو يحاول أن يجد أي مكان قريب ليحصل منه على بعض الطعام له وبعد القليل من الدقائق وجد مطعمًا يبدو جيدًا فوقف أمامه ثم حدثه بنفاذ صبر قائلًا:

-       انزل يا عمر

 

لم يجبه سوى بما جعل غضبه يتصاعد للسماء:

-       لا وياريت تسبني وتمشي!

 

صرخ به بغضب هائل:

-       أنت مالك؟ مالك بجد؟ أنت مجنون فعلًا عشان خاطر منظرك ده واهمالك لنفسك لدرجة إنك تدوخ في الشارع، وبعدين أنت بتعاملني كده ليه؟ أنت وقفت جانبك وشيلت شيلة مش بتاعتي اصلًا ودخلت نفسي في حوارات عشان خاطر اسمك أخويا بالاسم، إنما بجد أنت مصمم تكمل في اسلوبك المقرف ده لغاية امتى؟ أنا نفسي أفهم أنا عملتلك ايه في حياتك بيخليك تعاملني كده؟ كل مرة ابقا كويس معاك تخليني اندم إني عاملتك كويس.. خلي عندك دم ده أنا لو حد من اصحابي حصله اللي حصلك كنت هابقى عنده ليل نهار، انما أنت بطريقتك دي بتخليني مش طايق ابص فـ وشك، بجد أنت ناوي تفضل مكمل في حركات الأطفال دي لغاية امتى، بقينا رجالة كُبار واللي قدنا متجوزين ومخلفين وكلها شوية واختنا الصغيرة تتجوز، هنفضل كده لغاية امتى معايا على حاجة أنا ماليش ذنب فيها؟!

 

سلط له نظرة جانبية ببرود هائل واعاد عينيه مباشرة لينظر أمامه دون أن تتحرك شعرة وحيدة منه بالرغم من رأسه المتحولة لرماد بالفعل من شدة التفكير المتكرر بكل ما يحدث له مؤخرًا، عقله مشتت وقلبه يحترق، وليس لديه طاقة لنقاش أخوي لا يستسيغه!

-       عدي، لآخر مرة هقولك انزل وسبني وامشي!

 

هز الآخر رأسه باستنكار من أفعال أخيه وسأله:

-       أنا بس نفسي افهم بعد كل اللي بعمله ده أنت بتعاملني كده ليه؟

 

حافظ الآخر على صمته ولم يُجبه بحرف واحد ليكرر الآخر سؤاله الذي يُنادي به منذ ثلاثون عام ولقد نفذ صبره حقًا بشأن عدم وجود إجابة عليه:

-       أنا بقا المرادي مش هسيبك غير لما افهم، اعتبرني آخر مرة هشوفك فيها، بس له بتعاملني كده؟ وأنا المفروض اعملك ايه اكتر من اللي عملته عشان تصدق إني بحاول من سنين اعاملك كويس، وكل ما تعاملني بطريقة زفت أقول معلش، اديله فرصة، مهما كان ده أخويا.. وبترجع تاني لنفس القصة.. مش ماشي يا عمر غير لما ترد على سؤالي!! ليه كل ده؟!

 

أغمض "عمر" عينيه بنفاذ صبر ولم يُجبه فقط ينتظر أن يشعر الآخر بالملل منه ويتركه ويغادر بينما يشعر الآخر بغليان دمائه بداخله ليستفزه بإطفائه لمحرك السيارة وتمسك بما يُريده ومن جديد حدثه قائلًا:

-       مش ماشي، خليك بقا كده بارد زي ما أنت.. أنت شبهه أصلًا!

 

من جديد، وكأنه عار أبدي أن يُشابه والده في نظر أخيه، لا يدري متى سينتهي منه للأبد، بل ولأسئلته التي لا يجد لها إجابة، ولكل تلك الأسئلة برأسه، لا يعرف حقًا أي شيء، أو هو خائف لأول مرة بحق من معرفة ما يحدث له منذ سنوات عديدة!

-       أنا ياما سألت نفسي إن يمكن المشكلة تكون فيا، بس كل ما بكبر كل ما بعرف ناس وكل اصحابي القدام علاقتي بيهم كويسة، استحالة تكون المشكلة مني أنا وأنا الناس بتعاملني وكويس وأنا بفتكرهم وبحاول أكون جدع مع الكل على قد ما أقدر، أنت بجد مشكلتك ايه معايا؟ محتاج اثبتلك ايه تاني عشان تعرف إني معنديش مشاكل معاك واني بحاول اعاملك كويس من أيام ما كنا أطفال؟!

 

حاول الحفاظ على قدرة تحمله بآخر ذرات استطاعته على التحمل في المُطلق، هو ليس لديه الطاقة ولا المقدرة على التكلم، يريد الاختفاء أو الموت أو النوم لأعوام، تلك القراءة اللعينة تأخذ من وقته الكثير ولا يستطيع النوم بسببها، ليته أرسل السائق ليحضر له تلك الكتب لكان حصل على ساعتان من الراحة، ليته لم يتمسك برأيه ألا يعرف أحد شيئًا ولكنه كان في حاجة لتلك الكتب بأي طريقه ولا يريد أن يعرف أحد عن الأمر، اللعنة على عقله الذي لا يتوقف عن التفكير!

 

-       أنا مش فاهم، ازاي واحد يبقى عنده مشاكل مع مراته ويطلقها وينتحر ويروح مستشفى ولسه تقريبًا بيشك في ابن خالتها اللي عايز يتجوز اخته، وأخوه اللي واقف جانبه كل ده مفكرش حتى يعامله معاملة كويسة، أنا مُشكلتي في ايه؟ محتاج أعمل ايه معاك بجد عشان تـ..

 

لم يستطع التحمل لأكثر من هذا ثم صرخ به مقاطعًا:

-       المُشكلة فيا أنا مش فيك ولا فـ ابن خالتها ولا فيها ولا فـ أي حد.. خلاص اجابتك عندك، أنا مجنون ومريض ومحدش ينفع يتعامل معايا ولا يعرفني.. يالا امشي وسيبني في حالي، مطلبتش منك أي حاجة ولا طلبت من حد حاجة!

 

رمقه باستغراب شديد ليترجل من السيارة وهو يُمسك بمفاتيحها ثم توجه للمقعد الخلفي ليُمسك بتلك الكُتب واتجه نحو باب مقعده وقام بفتحه بينما لم يعد "عمر" قادر على المواكبة فحالته يُرثى لها بالفعل وبدنه لم يستطع الصمود أمام تلك الجذبة القوية التي جذبها به أخيه ليخرجه من السيارة وحدقه باحتقار سابقه غضبه وصرخ به:

-       أنا مشوفتش في برودك، واقع في الشارع بعد كل اللي حصلك وحياتك مقلوبة وكل اللي حواليك مش طايقينك والوحيد اللي بيحاول يكون كويس معاك بتعامله كده لا ومبسوط ورايق وكل اللي بتعمله نازل تجيب شوية كتب وليك مزاج تقرا اوي.. أنا قرفت منك ومن معرفتك، اتفضل اولع أنت وكتبك وعربيتك وروح موت نفسك المرادي في حادثة عربية، أنا غلطان واستاهل ضرب الجزمة لو فكرت اعاملك أساسا في أي حاجة تاني، اعتبر أخوك مات!

 

ألقى بالكتب ومفاتيح السيارة عليه في آن واحد لتتبعثر محتويات ما معه أرضًا ليرمقه الآخر بغيظ لجعله ينحني من أجل أن يلملم تلك الأشياء ويرفعها من فوق الأرضية فتابعه أخيه بنظرات غاضبة وهو ينحني ليلتقط الأشياء فلاحظت عينيه عناوين الكتب التي وجدها بأكملها تتحدث عن نفس الأمر واغلبها باللغة الإنجليزية واثنان فقط كُتب عليهم باللغة العربية وعلى ما يدبو أن منها ما هو مُترجم، ثنائي القطب، وكتاب آخر يحمل عنوان التدريبات العملية لعلاج اضطراب ثنائي القطب ليحدق به باندهاش قد ذهب بغضبه في ثوانٍ وسأله بنبرة مصدومة:

-       هو أنت لما روحت للدكتورة قالتلك ايه بالظبط؟!

 

تفقده في صمت وانتهى من جمع الأشياء بينما شعر بالدوار وهو يرفع رأسه ليلقي بالكتب من جديد بسيارته ثم اتجه بخطوات متباطئة نحو الباب الآخر لكي يتركه ويذهب ولكن بداخل "عُدي" بعد ما تفهمه وهو لتوه كان يسخر مما يفعله شعر ببعض الندم فلحق به لكي يمنعه من الذهاب بمفرده!

--

بعد مرور حوالي ساعة..

-       اديك اتطمنت إني أكلت.. امشي وسيبني وروح، أنا هبقا كويس..

 

حاول أن يحدثه بقليل من الهدوء بعد أن نظر باتجاه طبقه الذي بالكاد تناول البعض منه ليسأله من جديد:

-       طيب انت ليه مش عايز تقولي عملت ايه مع الدكتورة اللي كانت روان بتروحلها!

 

ابتلع وشرد عندما استمع لاسمها ليجد نفسه يسأله بتلقائية ولهفة لا يدري من أين آتت الآن ليبدو كالمراهق الطائش:

-       انت تعرف هي فين؟!

 

هز رأسه له بالإنكار واجابه دون غضب منه فعلى ما يبدو أنه يحاول أن يفهم ما الذي يعاني منه عن طريق تلك الكتب:

-       معرفش، يونس قالي انها سافرت وميعرفش فين، أظن ممكن اللي يعرف هو أخوها أو مامتها وبصراحة أنا مبكلمش أخوها فمعرفش حاجة..

 

التوت شفتاه في حسرة، أخوها!! أخوها الذي احتقره بشدة ورفض التعامل معه، ووالدتها التي تعرضت لأزمة قلبية بسبب رؤيتها لابنتها وحالتها المُزرية التي دخلت بها لبيتهم كما أخبره أخيه، ربما سيساعدان الكون بأكمله وسيخبران الجميع أين هي ولكن يستحيل أن يساعدانه أبدًا..

 

-       أنت عايز تعرف هي فين ولا ايه؟

 

رفع رأسه له بقليل من الأمل بعد أن سيطر عليه الإحباط بالثواني الماضية وهز رأسه له وعادت له تلك اللهفة من جديد واجابه سائلًا:

-       تقدر تعرف مكانها؟

 

ضيق عينيه نحوه واستغل الموقف ليسأله:

-       لو قولتلي الدكتورة قالتلك ايه هعرفلك هي فين بالظبط!! ها، هتجاوب ولا مش مهم تعرف؟

 

اجابه دون تفكير ولا احتراس بما أنه يخبر أول شخص عن حقيقة ما يمر به وصدقه بالكامل فقط من أجل أن يصل إليها:

-       قالت إني bipolar من الدرجة التانية.. ها، هتعرف ازاي ومن مين؟

 

لم يستطع أن يفهم حرف مما يعنيه واجابه سائلًا:

-       ده عبارة عن ايه ده؟

 

هز كتفيه وهو يُسلط اهتمامه على طريقة ايجادها:

-       اديني بعرف من الكتب لغاية ما ابقا اروحلها تاني، قولي بس هتعرف ازاي!!

 

عقد حاجباه من تلك الخطة المتهورة التي يوشك على فعلها ولكن قرر أن يستغل الأمر لصالحه أكثر وحدثه بقليل من المرح وهو يشعر بداخله بالانتصار فهو لأول مرة يرى أخيه لديه الاستعداد لفعل أي شيء:

-       هتعاملني عِدل ولا ناوي تكمل بهبلك ده؟

 

قلب الآخر عينيه وزفر بنفاذ صبر وقال:

-       ماشي بس تعرفلي حالا هي فين!

 

زم الآخر شفتيه وهز رأسه مستنكرًا من أفعاله فهذه هي المرة الآلف أو ربما المليون التي يحاول خلالها أن يحظى بعلاقة طبيعية مع أخيه فغمغم قائلًا:

-       مقداميش غيره..

 

تابعه "عمر" بلهفة وهو يتصل برقم ما وأشعل احدى سجائره بينما ارتقب حديثه بأعين تتحرق شوقًا لرؤيتها من جديد:

-       ايه وصلتو؟

 

لم يستمع ما قاله الطرف الآخر له واستمر في الانصات له:

-       بنتنا جامدة شويتين.. تستحملها لغاية الآخر، اللي يختار حاجة يستحمل نتايج اختياره للآخر

 

فتاة ماذا التي يتحدث عنها!! اللعنة لو كان يتحدث لهذا المخنث من جديد!!

-       بقولك يا يونس، أنا بصراحة روان صعبانة عليا، وميصحش يعني مهما كان بعد خطوبتك أنت وعنود وبعدها جوازكم هتبقى قريبتنا، وأنا كنت عايز اتطمن عليها مش اكتر، متعرفش هي سافرت فين؟!

 

اللعنة على حظه، تنقلب الآن الأمور ليُصبح هو من بيده أن يساعده على أن يجدها، وعلى أي شيء يغمغم هذا الغبي الفاشل!! فليخبره أين ذهبت ويكتفي بهذا!!

 

-       طيب معلش حاول بردو تطمن عليها وأنت عارف اخوها صُغير وواضح إن موضوع الطلاق ده كان صعب سواء عليها ولا على عمر.. كلمه وشوف لو محتاجين حاجة وهي بقت فين دلوقتي.. وأنا بردو يمكن يومين كده واعدي عليهم.. من باب الذوق يعني مش اكتر.. دي كانت مرات اخويا بردو وعمري ما شوفت منها حاجة وحشة وفاهم ان يوم ما روحنالها كانت لسه متضايقة شوية عشان كده غصب عنها أعصابها كانت تعبانة وطردتنا..

 

صعب!! لقد قارب على قتل نفسه لمجرد فكرة أنها لن تكون معه بعد أن طلقها، لا أحد يُدرك حقًا ما الذي يشعر به كلما تذكر كل ما حدث بينهما في هذه اللحظة!

 

-       يا عم متقلقش أنا هتصرف وخير إن شاء الله، مش هيرفض ولا حاجة.. لما عمر يكلمه أكيد هيوافق!

 

عقد حاجباه ولم يصعب عليه فهم ما يُرمي إليه، لا، لن يكون طرف في زواج هذا المخنث من أخته، ليس له شأن بذلك السخف، لولا هذا الدوار اللعين الذي تملك منه لكان نهض ليبعثر ملامح وجهه ويكسر قدماه الطويلتان اللعينتان!

 

أنهى مكالمته ثم نظر له ليقول:

-       هيعرف من أخوها ويقولي..

 

زفر بضيق والقى ببقايا سيجارته بالمنفضة وهو يشعر باليأس الشديد بينما تابع أخيه:

-       بس مش هقولك حرف من اللي هعرفه غير لما تفهمني كل اللي حصل بينك وبينها، وبينك وبين الدكتورة، وأنت عندك ايه بالظبط، ويكون في علمك أنا مش ناقص مصايب، مش هتروحلها غير وأنا معاك!!

 

سكت للحظة عندما رفع نظره له وهو يتفقده باستنكار فأومأ له بابتسامة متحفزة ثم أضاف:

-       آه، وكمان حاجة.. هتقنع بابا بموضوع يونس وعنود!!

 


يُتبع..