رواية مشاعر مهشمة 2 - بقلم الكاتبة شيماء مجدي - الفصل العشرون
رواية مشاعر مهشمة الجزء الثاني
بقلم الكاتبة شيماء مجدي
الفصل العشرون
رواية
مشاعر مهشمة
الجزء الثاني
إبان خروج "كرم" من فيلا "توفيق"، تحديدا في المرآب الخلفي للحديقة، قاطع توجهه إلى سيارته، ترجل ابنة "توفيق" الوحيدة من سيارتها التي اصطفت جواره، والبالغة من العمر ثلاثة وعشرين عاما، استرعى انتباهه ثوبها القصير، والملاصق لجسدها كجلد آخر، حتى زينتها كانت صارخة، تبرز ملامحها بصورة فجة، لاح التعجب فوق قسماته، فهو لم يسبق له رؤيتها بتلك الهيئة المغرية، غالبا ما تكون ناعمة في ثيابها، حتى أنه لاحظ في المرات القليلة التي التقى بها، خلال بعض التجمعات التي تقام في منزلهم، أنها لا تكترث بوضع مستحضرات التجميل عادةً، صرف ذهنه عن أمرها، وضغط على زر جهاز التحكم عن بُعد، فاتحا أبواب السيارة، ولكن ما حال دون متابعة دخوله بها، أنه لمح بطرف عينيه ترنح جسدها الواضح، ثبت نظره عليها حينها ليلاحظ تعثر سيرها لأكثر من مرة، كلما كانت تقترب في سيرها من موضع وقوفه، حتى تغادر المرآب توجها إلى الباب الداخلي للفيلا، ولكن اختل توازنها بغتة، مما جعله يسارع لإمساكها قبل أن يرتطم جسدها بالأرض، هاتفا بتنبيه:
-خلي بالك.
حاوط خصرها بذراعيه، حينئذ تفاجأ برفعها ليدها نحو وجهها، وقامت بوضع إصبع السبابة أمام فمها، تحثه على خفض صوته:
-هُشش هُشش.
فاح من فمها رائحة الخمر، مما جعل وجهه يمتعض من الرائحة، كما أنه تفاجأ من سُكرها، بينما هي تابعت بصوت خامل وهي تحرك يدها بغير اتزان:
-أنا كويسة أنا كويسة.
شرعت في السير بعدما أبعد يديه عنها، ولكنها فقدت اتزانها ثانيةً، والتوت إحدى قدميها، منع سقوطها مسكته المتعجلة لذراعها، وقال لها في فتور:
-هتقعي كده.
ابعدته عنها في تذمر، وقالت بصوت خافت منزعج:
-الله، قلتلك أنا كويسة، متلزقش نفسك فيا كده.
رفع حاجبيه في غرابة من أسلوبها الفظ معه؛ والمغاير لطريقتها معه في الظروف العادية، ورغم دفعها له إلا أنه أبى تركها، خيفة من تعثرها أثناء سيرها بمفردها، واقترب منها مجددا، وأمسك بذراعها، قائلا بلهجة جادة:
-طب تعالي بس، هسندك لحد جوا وأي حد يبقى ياخدك من الخدم بعدها يطلعك أوضتك.
انصاعت إلى تصميمه، فقد كانت الرؤية أمامها مشوشة، كما أن شعورها باهتزاز الأرض صعب عليها السير دونه، وبعدما سارت معه مسافة لا تتعدى الخطوتين، توقفت وهي جاحظة العينين، وأخبرته في بعض الخوف:
-استنى كده استنى.
نظر لها بنظرة تحمل الاستفسار، لتبادله هي النظرة بأخرى تراءى له تخوفها بها، وعاجلته متسائلة بصوت خفيض:
-بابي جوا؟
أجابها ببساطة لا تخلو من الغرابة؛ من ريبتها التي تعلو قسماتها:
-ايوه جوا، اومال أنا بعمل إيه هنا!
ازداد هلعها، وحركت وجهها بالسلب، وهتفت بلهوجة رافضة المتابعة في السير:
-لأ لأ، مش هينفع اطلع دلوقتي، لو طلعت دلوقتي هيشوفني وأنا كده.
تفهم خوفها المبرر، ولكنه ليس لديه حل لتلك المعضلة، فمساعدته كانت تقتصر على إسنادها حتى تصل إلى داخل الفيلا، وعندما لاحظ توقفها عن السير، نظر لها باستنكار وتساءل بلهجته الغير مبالية:
-هتفضلي واقفة هنا يعني؟
لم يخبُ الارتعاد من نظراتها، وهي تجيبه بصوت مهتز:
-هو شوية وهيمشي، هستنى هنا لحد مايمشي وبعدين اطلع.
ضم فمه في صمت دام لثانيتين، كان يتخذ القرار في المغادرة من عدمها، ولكنه وجد أن بقائه ليس له فائدة، لذا أخبرها وهو يشرع في الاستدارة نحو السيارة:
-اللي انتي عايزاه.
استوقفه عن التحرك يدها التي أمسكت بساعده، وصوتها الخفيض، الناعم للغاية بفعل ثَمَلها:
-كرم.
التفت برأسه نحوها، أخفض عينيه نحو قبضتها على رثغه، قبل أن يرفع حدقتيه المتسائلتين إلى وجهها، تداركت هي فعلتها المتسرعة، وأنزلت يدها وهي تشعر بقليل من الحرج، ولكن تشوش عقلها، سريعا ما زال طيف الحرج الذي لاح على وجهها لحظيا، وطلبت منه ما استوقفته لأجله:
-خليك معايا لحد ما بابي يمشي، مش عايزه اقعد لواحدي.
ارتبكت ملامحه قليلا من طلبها المفاجئ، واعتصر فكره حتى يختلق حجة يعتذر بها بلباقة، وتكلم بوجه ظهر عليه أمارات الرفض:
-بس..
قاطعته عندما استشعرت رفضه، وسارعت في إخباره بإلحاح:
-مش هعطلك، ده هما نص ساعة بالكتير.
طفا على وجهه معالم السأم، إلا أنه لم يستطع الامتناع أمام تكرار الطلب، لذا قرر أن يبقى لبعض الوقت رفقتها، ريثما يغادر والدها، خاصة وأنه علم -عندما كان بالداخل- أن "توفيق" لديه موعد، تحديدا بعد ذلك الوقت الذي حددته الأخرى، أشار لها على مضض حاول مواراته، نحو أحد المقاعد الخشبية، الموجودة في أحد زوايا الحديقة خارج المرآب، حتى لا ينتبه لوجودهما معا "توفيق" عند توجهه إلى ركوب سيارته، ليقضي رفقة تلك الثملة الدقائق القليلة القادمة، حتى لا تبقى بمفردها كما تزعم عدم رغبتها في ذلك، وبعد انقضاء الأمر سيغادر هو الآخر إلى وجهته.
❈-❈-❈
مهما حاول أن يخفي "عز الدين" حالة البؤس التي تعتريه، من معاملة أخيه المقللة، والقاسية، تنبجس رغما عنه فوق قسمات وجهه، عينيه تفضح ما يواريه عن زوجته، وما لم يخبر عنه حتى والدته، وهذا ما شغل بال "زينة" الأيام الماضية، ولكنها أرادت استغلال طور هدوءه، واستدراجه في الحديث، بينما كان يغلق ضلفة خزانته، فاجأته بقبلة فوق وجنته، التفت لها وعلى ثغره ابتسامة طيبة، بادلته بأخرى رائقة، ثم خاطبته في وداعة:
-مش هتقولي برضه إيه اللي مغير مودك بالشكل ده من ساعة الحادثة.
حافظ على ارتخاء تعابير وجهه، ولكنه مع ذلك لم يستطع إخفاء استياءه من الضغط عليه في الحديث، حتى وإن كان -خلال الفترة الماضية- آتيا من ناحية والدته، ثم قال متهربا:
-مفيش يا زينة.
رفعت أحد حاجبيه في طريقة تنم على عدم تصديقها وهو تردف في مناغشة:
-يا عز.
انفرجت شفتيه ببسمة متأثرة بطريقتها المحققة، الغالب عليها المرح، ورفع يده ماسحا فوق جانب رأسه بمحبة، وقال لها في هدوء:
-موت كمال بيه والورث وعاصم، كل ده ملغبطني شوية، ومخلي مزاجي مش مظبط.
تراءى لها عدم رغبته في الحديث عن موقف بعينه، ولم تنهِ إجابته المائعة إنشغال فكرها، لذا سألته بجدية دون تمهيد:
-انت وعاصم في بينكم مشاكل؟
قطب جبينه في بعض الغرابة من سؤالها، ثم عقب مستفهما:
-ليه بتقولي كده؟
ردت عليه في إيضاح وهي تمسد فوق ذقنه بحنان:
-لما كان هنا خرج وهو متعصب، وانت كمان مخنوق ووشك مكشر من يومها.
رفع يده وأمسك بيدها التي تمسد وجنته، وقرب راحتها من فمه مقبلا إياها مطولا، ورغم رضاءه بعبئها به، ولكن هذا لم يغير من رأيه في عدم إشراكها في ذلك الخلاف الشائك بينه وبين أخيه، رغبة منه في عدم إشغال تفكيرها معه، فيكفيها تعب أعراض الحمل الأولية، ثم قال لها بقليل من المراوغة:
-احنا مش متخانقين، الفكرة بس إنه طباعه غير طباعي، ومش عارف اتعامل معاه.
تراءى لها تصميمه على عدم التحدث فيما دار بينه وبينه أخيه وبدل حالته إلى ذلك الحد، لذا قررت ألا تضغط عليه أكثر، وقالت باستسلام وقلة حيلة:
-أنا مش هضغط عليك يا عز عشان تتكلم، أنا عارفة إنك بتجيلي لواحدك وتقولي اللي مضايقك، عشان كده هسيبك لما تحس إنك قادر تتكلم وتحكيلي اللي فيك، بس مش هستنى كتير ها.
قالت آخر عباراتها بمرح غنج، اتسعت ابتسامته إثرا له، وحاوط وجهها بيديها، ثم اقترب منها برأسه، ملتقطا شفتيها في قبلة نهمة، مليئة بالمحبة الخالصة، فرقها بعد عدة لحظات، وابتسامته لم تفتر فوق وجهه، بينما هي ضبطت أنفاسها، ثم طلبت منه بهمس ناعم:
-ممكن تروح تلعب مع يونس شوية، عشان هو ملاحظ إنك واخد جنب ومش بتلعب معاه زي الأول.
هز رأسه في إيمتءة بسيطة، ثم قال في موافقة لا تخلو من بعض العبث:
-حاضر، هروح ألعب مع يونس، وام يونس كمان..
تسللت بسمة إلى شفتيه مع تتابعه في خبث لذيذٍ يحمل إيحاءً مقصودا:
-بس هنخلي لعبنا احنا لبليل.
ضحكت ملء شدقيها، في حين اقترب هو منها، واختطف قبلة أخرى من ثغرها، ثم ذهب بعدها إلى خارج الغرفة، متوجها نحو صغيره، وابن روحه، حتى يلاطفه، ويلاعبه، كعادته التي انقطع عنها الأيام الماضية، لتدني حالته المزاجية، ولكنه لا يود أن يطيل في بؤسه، وتقوقعه على نفسه، حتى لا يُحرم وليده مما حرم هو منه، ويشعر بإهماله له الذي عانى من عذابه، وأضناه منذ طفولته شعور الفراق لأهم طرف في حياته.
❈-❈-❈
حاولت "داليا" صرف ذهنها عن الظنون التي انبجست في رأسها، مما فعله زوجها أمام مرمى ومسمع منها، والذي لا يحمل إلا تقسيرا واحد لا تود أن تُقنع نفسها به، حتى لا ينهار قناع الزوجة الصبورة، وتخرج حينها عن طور هدوءها معه، فهي إلى الآن تتحمل كل ما يبدر منه، من معاملة قاسية، لا تتقبلها حتى جارية، وذلك لكيلا تلقى عقابه المعتاد، وهو الفراق الذي أحرقها على جمراته لمرات ومرات، ولكن شعور التعسف، والظلم في اتهام عينيه بأمر لم تفعله، أو حتى تفكر في فعله، لن يمكنها إيثار الصمت عنه، لذا بقصارى جهدها ثبطت عقلها عن التفكير فيما حدث، سحبت نفسا مطولا إلى رئتيها، مهدئة به تهدج انفاسها، الذي أصبح يصاحبه رجفات عصبية على طول جسدها، كأنما أصبحت حالة نفسية تصيبها، عندما يبدأ صوته في العلو واختراق سمعها، أو ترى بعينيه نظرات بارقة، تجردها من ثباتها، حتى وإن كانت لم ترتكب خطأً، وإلى أبعد حد مسالمة في أفعالها، وضعت الهاتف فوق أذنها، بعد أن أجرت اتصالا ب"رفيف"، حتى تعتذر منها على إنهائها المكالمة بغتة، دون أن تبلغها مسبقا، وعلى فور مجيء صوت رفيقتها، اعتذرت منها على عجالة من أمرها:
-أنا آسفة يا رفيف إني قفلت من غير ماقولك.
ردت عليها "رفيف" بتفهم ممزوج بالقلق:
-ولا يهمك، بس مال صوتك انتي؟
تنهدت بحزن تفشى بقسمات وجهها، كما اعتلى صوتها وهي تخبرها:
-متخانقة أنا وعاصم.
ضمت شفتيها في أسى وهي تستمع إلى رد صديقتها المستنكر:
-تاني، وبعدين ده لسه مصالحك امبارح هو لحق يتخانق معاكي.
عبرت ملامحها عن استيائها المخالط بخوف أصبح مرضيا وهي تشكو لها:
-أنا معدتش فهماه، وتعبت من أسلوبه ده أوي، أنا بقيت بخاف منه يا رفيف، وبفضل أفكر لما هييجي النهارده هيبقى هادي وهعرف اتكلم معاه ولا هيكون عصبي ويتخانق معايا.
جاء صوت "رفيف" مشددا عليها بانزعاجٍ حانق:
-داليا انتي مش لازم تسكتي على إسلوبه ده، ده كأنه شاريكي، حتى طريقة كلامه وهو بيصالحك، كأنك حاجة من ممتلكاته، مش زوجة ولا حبيبة.
ظهر الاضطراب جليا على وجهها، وزفرت نفسا مختنقا قبل أن تردف في تيهٍ مشبع بالتخوف:
-اعمل إيه بس، أنا مش عايزه أكبر المشاكل اللي بينا، ويزهق ويطلقني، ووقتها هبقى أنا والولدين لواحدنا.
سألتها حينئذ "رفيف" بغير رضاء لضعف شخصيتها معه:
-طب وانتي شايفة إيه الحل معاه؟
نفخت في ضيق من عدم إيجادها لحل ينتشلها من هوة الشتات الساقطة في غياهبها، وردت عليها في ابتئاس:
-معرفش، أنا أعصابي تعبت، وإحساس الخوف ده وحش أوي ومعدتش متحملاه، أنا بقيت خايفة من حياتي معاه، وخايفة من حياتي من غيره، خايفة أوي من حاجات كتير يا رفيف ومش عارفة اعمل إيه.
أخبرتها "رفيف" في نبرة حازمة، محاولة إعادتها إلى رشدها:
-يا داليا مينفعش السلبية اللي انتي فيها دي، انتي تقريبا لاغية شخصيتك وكرامتك خالص، وهو مستغل خوفك سواء منه أو من بُعده وسايق فيها معاكي أوي، ده بيحطمك يا داليا.
جملتها الأخيرة أخذت تتردد في ذهنها لأكثر من مرة، منبهة مداركها إلى كونها أصبحت حطام أنثى، تتناثر أشلاء روحها في نفسها المكلومة، وقلبها تمزق إربا بسهام كلماته المسمومة، التي لا تنفك دون هوادة تصيبها، وتجوس المخاوف والهواجس في رأسها، حتى أصبحت من داخلها مقسومة، نصف يريد استبقائه في حياتها، وبالقرب من نبض قلبها، مهما كلفها الثمن، ونصف آخر يخشى من حياتها معه، ومن استمرار نوبات عنفه، حتى لا يستنزف كل طاقتها، ويُميت روحها، بذلك البطء الشديد مع مرور الزمن.
❈-❈-❈
مر أكثر من عشر دقائق منذ جلوسهما معا في ركن منزوٍ في الحديقة، لاحظ "كرم" خلال تلك الفترة الضئيلة عدم جلوس الأخرى في أريحية بذلك الثوب القصير، وقيامها بإنزال نهايته التي تصل إلى نصف فخذها كل دقيقة تقريبا، شعر بالضيق من تكرار فعلتها، فقد شغلت عينيه حركتها، وركز بصره على ساقيها، وبدأ الشعور الغريزي بداخله يندلع في عروقه، التفت برأسه إليها، وخاطبها في استجان بلهجة منزعجة بعض الشيء:
-لما هو مضايقك لبساه ليه؟
دوار رأسها لم يسمح لها بالجلوس في وضعية مستقيمة، كانت مريحة جسدها على ظهر الكرسي، وهي تنظر له بعينين ناعستين، تكافح لبقاءهما مفتوحتين، توترت قليلا من تساؤله، وردت عليه في إيجاز خجل:
-عادي.
افتراشها على المقعد جعل جسدها يظهر في صورة فجة، منحنياتها كانت واضحة بطريقة تسيل اللعاب، ابتلع "كرم" ريقه وهو يحيد بنظره إلى الاتجاه المغاير، حتى لا يقوده تفكيره الذكوري الشهواني، إلى ارتكاب فعلة هوجاء، لن يأمن مخاطرها، وقال لها بعدم إعجاب بعدما زفر نفسا مطولا:
-غريب نوعا ما عن طريقة لبسك، مشوفتكيش بلبس مشابه ليه قبل كده.
استطاعت ملاحظة نظره الذي يباعده عنها في حديثه، وظنت أنه نافر من النظر إليها، لاح البؤس فوق قسماتها وراحت تسأله بنبرة فاقدة للثقة:
-شكلي وحش؟
تعجب من تساؤلها الذي يظهر له التأثر من رأي عابر، ما كان غيرها ليعبأ به، وأخبرها في بعض الغرابة بنبرته الفاترة:
-انتي حلوة في أي حاجة، بس بصراحة اللبس هو اللي مش حلو.
التمست المجاملة في كلماته، نكست نظراتها أسفل، وامتلأ وجهها بانكسار غريب، وهي تعلق بصوت مبتئس:
-بس أنا ساعات كتير بحس إن شكلي وحش، حتى مامي دايما بتقولي إن لبسي مش حلو، ومش girly (بناتي)، وده مخلي شكلي وحش.
تفشت تعابير الدهشة بملامحه من حديثها العفوي، والمعبأ بحزن استطاع أن يلاحظه في نبرتها، وتراءى له من عينيها المتحاشية النظر إليه، ثبت بصره عليها، واختزل تركيزه مع متابعة كلماتها، وهي تشير نحو ثوبها بضيق شديد:
-هي اللي جيبالي أصلا الdress (فستان) ده لما عرفت إني رايحة فرح واحدة صاحبتي، وخلتني اتقل الميكاب، وأنا أصلا كنت هلبس جامب سوت عادي، وهحط light makeup (زينة خفيفة) زي عادتي، لإني مش بحبه أصلا، بس هي بتحب تتحكم في لبسي بطريقة غريبة، وأنا اتخنقت، وبقيت بحس إني فعلا وحشة من غير ميكاب من كتر ما هي بتشوفني كده، وبتقنعني بكده.
تفاقمت أمارات التعجب على محياه، وازدادت غرابته من تحكم والدتها بها، وغرابة تفميرها، بل وتسببها في فقد ثقة ابنتها بنفسها، عاد "كرم" بتركيزه إلى "سما" حينما تابعت كلماتها الحزينة في خزي، وكأنما تريد تحسين صورتها أمامه:
-على فكرة أنا مبشربش، أنا كنت مخنوقة شوية والwaiter (النادل) حط الdrink (المشروب) قدامي فشربيته عندا فيها مش أكتر.
ضم شفتيه في بعض الأسى، فقد تفهم شعورها، ورغبتها في التمرد على تحكمات والدتها الخانقة لها، عندما وجدته "سما" ما يزال على صمته، ولم يعلق بكلمة على اي مما قالته، توقعت ضجره من ثرثرتها الزائدة، وسألته في حرج:
-صدعتك مش كده؟
هز رأسه في إيماءة بسيطة بالسلب، وأخبرها في دعم لها، محاولا بث الثقة في نفسها:
-لا أبدا، وعلى فكرة انتي شكلك مش وحش زي ما جيهان هانم بتقولك، بالعكس أنا بشوفك جميلة.
تورد وجهها من إطرائه، وانفرجت شفتيها تدريجيا ببسمة خجلى، اتسعت عندما أكمل:
-ولبسك كمان طبيعي جدا ومفيش فيه مشكلة.
توهجت نظراتها في لمعة غريبة، ظن "كرم" أنه نجح في امدادها بالثقة المفقودة، ولكنها فاجأته بتساؤل جريء فاق كل توقعاته:
-هو انت مرتبط يا كرم؟
تحرك بؤبؤا عينيه في حركة مصدومة بعض الشيء، ورد عليها نافيا:
-لأ.
قضمت شفتها السفلى بتردد، ولكنه حسمت أمرها بالأخير، وسألته بطريقة متلاعبة قليلا:
-يعني لو في واحدة معجبة بيك، ممكن ترتبط بيها؟
ضيق عينيه وهو ينظر لها بنظرة ثاقبة، فبدون تفكير توصل إلى كونها من تكن له الإعجاب، وهذا ما كان واضحا له كوضوح الشمس، من نظراتها، وابتساماتها، وتخضب وجهها في حضوره، أراد أن يسايرها في حديثها، ورد عليها في جدية مصطنعة:
-ممكن ليه لأ.
توترت نظراتها، وأخذت ترفرف بأهدابها الكثيفة، قبل أن تسأله نفس السؤال، ولكن بصورة مباشرة، تخص به نفسها:
-طب أنا لو معجبة بيك، ممكن ترتبط بيا؟
انتقل بنظره بعيدا عن عينيها المتلهفتين، والمنتظرتين رده على أحر من الجمر، على الرغم من عدم انجذابه لها من قبل، إلا أنه نظر إلى ارتباطه بها من منظور آخر، فوجود علاقة بينهما سيدر عليه بفائدة كبيرة، مهما سعى للوصول إليها لن ينال جزءً ضئيلا منها، فهي وحيدة "توفيق العاصي"، وإذا أحبته، ورغبت في الزواج منه، لن يرفض لها الأمر، وسيكون كل ما لديه بين يديه، وتحت تحكمه مستقبلا، ارتسمت شبح ابتسامة لئيمة فوق شفتيه، سريعا ما اختفت، بذل مجهودا كبيرا لإخفاء ما يجول في ذهنه، وقرر أن يزيد من ربكتها، حتى يضاعف من لهفتها، التفت بنظره نحو مصدر صوت مكابح السيارة الذي صدح من خلفهما، وقال لها بصوت جاد:
-توفيق بيه مشى على فكرة.
اتبع كلماته نهوضه عن الكرسي، وبينمت يعدل من هندام سترته، نهضت هي الأخرى بتعحل وقالت له بترقب:
-مردتش عليا.
وجه عينيه بنظرة مبهمة، لم تتوصل منها إلى قبوله من عدمه، وسألها مقترحا:
-نخرج بكرا نروح نتغدا في أي مطعم؟
زوت ما بين حاجبيها، فلم يكن ذلك الرد المنتظر، في حين تايع هو في إيضاح:
-وارد عليكي.
ابتسمت له بسمة صغيرة، ومع تحفز مشاعرها، استعادت جزء كبير من وعيها، وبلهفة متلهفة أخبرته في موافقة:
-أوكي، مفيش عندي مانع.
تحفز "كرم" في وقفته، وقال في اختتام للحوار بينهما:
-ماشي، هكلمك نتفق على ميعاد، اطلعي دلوقتي خدي شاور، ونتكلم لما تفوقي، يلا باي.
تحرك من موضعه بعد إنهاء كلامه، وفور استدارته ارتسمت بسمة مغترة على شفتيه، مما لمحه من انجذاب كبير منها تجاهه، لم تكن من الفتايات التي تستهويه، أو سبق ونظر لها بنظرة إعجاب من قبل، جمالها في حد ذاته، ليس بالملفت، وثقتها في نفسها المهزوزة، أو بمعنى أصح المفقودة، لا تساعدها في استغلال مقوماتها بصورة صحيحة، أو إظهار جمالها الطبيعي المحدود الذي حباها المولى به، وهذا بالتحديد ما سيلعب على وتره، وهو إمدادها بالثقة اللازمة، بمعسول كلامه، وإطراءه على جمالها، حتى يزداد تعلقها به، ويتغلل قلبها عشقه، وهنا لن يمنعه شيء من طلب الزواج به، حتى "توفيق" نفسه، سيخنع إلى الموافقة، تنفيذا لرغبة وحيدته، أدار محرك سيارته، وعينيه المرتكزة على التفاتة السيارة بصورة صحيحة، أمسكتا بها وهي ما تزال ناظرة نحوه، سار في مجازه نحو باب الفيلا، وتفكيره انقسم بينها، وبين الشقراء المملوكة لغيره، ولكنه إلى الآن يعجز عن صرف ذهنه عن التفكير بها، بل وتخيلها معه في أوضاع لا تحل إلا لزوجها.
❈-❈-❈
كانت فاقدة للإحساس بالألفة في حضوره، وكأنه غرييا عنها، وليس زوجها ووالد طفليها، فالأيام المنصرمة، منذ شجارهما العابر، وهي تتهرب من ندائه في الفراش، وتقابله بعبوس وتكشيرة، وتظل بداخل المرحاض لمدة كبيرة، منتظرة خلوده للنوم، لكيلا يحدث بينهما عتاب أو ولوم، أصبحت تتجنب الحديث إليه، حتى ظهر الملل عليه، نفذ صبره من ذلك الجفاء، وضاق ذرعا من الإقصاء، فتلك المرة الأولى التي ترفض فيه تودده، أو تنفر من حميميته، أثناء جلوسه على طرف الفراش، جوارها، كان يسترقَ النظر إليها أثناء محاولاتها الدؤوبة في تهدئة بكاء الرضيع، لاحظ ازدياد بكاءه عن الحد، فادعى انشغاله في العمل على الحاسوب أمامه، وتركها مع الرضيع تعاني، دون أن يساعدها في إسكاته، كعقاب لها على طريقتها المتجافية، والغير مرضية، وببرود دون أن ينظر لها تساءل:
-هو مش هيبطل عياط؟
حانت منها التفاتة نحوه، وبيننا هي تهدهد الرضيع بإرهاق، أخبرته بضيق:
-الولد مأريف ومش عارفة اسكته، لو مصدع من عياطه ممكن اروح بيه أوضة تانية.
نظر لها بطرف عينيه، ثم عاود النظر إلى شاشة الحاسوب، وعلق بتهكم:
-اسطوانة كل مرة.
زوت ما بين حاجبيها، وكررت ما قاله باستنكار:
-اسطوانة!
تعمد الحفاظ على جموده، وهو يخبره في نبرة مشبعة بالانزعاج:
-بلاش تعملي مستغربة من الكلمة، انتي طريقتك مش مظبوطة معايا بقالك فترة، وانتي عارفة كويس أوي إني بتخنق، ومش أنا اللي واحدة تمنع نفسها عني.
استدارت إليه في جلستها، وبينما يديها تربت على ظهر الصغير، عقبت على آخر كلماته بضيق متزايد:
-قول بقى إن ده اللي مضايقك.
فقد قدرته على التحكم في أعصابه مع طريقتها الفظة معه، أغلق شاشة الحاسوب، والتفت إليها بطريقة معبرة عن انفعاله، وخاطبها في لهجة حادة:
-انتي ملاحظة إنك اتجرأتي في كلامك معايا، وده محصلش اللي من بعد ماتجوزتك، خلاص ضمنتي وجودي معاكي، ولا عشان قلتلك كام مرة إني محتاجك ومتبعديش عني قويتي عليا.
خشيت لوهلة من تفاقم الحوار بينهما، وتحوله إلى شجار غير محمود العواقب، ولكنه دائما ما يحملها الذنب في نزاعاتهما، والآن يتهمها بالاستقواء في علاقتهما، لذا لم تستطع أن تؤثر الصمت، وردت عليه بنبرة يعلوها اللوم:
-مش أنا اللي بقوى عليك يا عاصم.
استشعر أنها ترمي إلى تطاوله عليه بالضرب، قلب عينيه بسأم قبل أن يخبرها في تجهم ساخر:
-عشان مديت إيدي عليكي مرة خلاص بقيت بقوى عليكي.
رفعت حاجبيها في تعجب، وهي تعقب باستهجان:
-مديت إيدك عليا مرة واحدة بس!
ضم شفتيه في انزعاج من تأنيبها، والتفت بوجهه عن عينيه اللائمة، في حين تابعت بأسى:
-طب بالنسبة لخناقاتك معايا علطول وزعيقك وعصبيتك عليا، ده بيخوفني منك وبيقى باين عليا وانت عارف وبتاخد بالك، كده مش بتقوى عليا؟
اشتد وجهه في حنق واضح، وكطريقة معتادة، ألقى الذنب عليها في أفعاله هادرا:
-مانتي اللي علطول بتعصبيني، انتي مش بتشوفي طريقة كلامك، ده انتي كأنك بتبقي قاصدة تخرجيني عن شعوري.
انشقت شفتيها ببسمة شجية، فقد استنبطت الرد المتوقع مسبقا، هزت رأسها كحركة مجارية للحديث، وسألته في ثبات زائف:
-طب واحنا مع بعض، بيبقى إيه سبب عنفك معايا؟ ولا بخرجك برضه عن شعورك؟
اتسعت عيناه في تفاجؤ من مجيئها على ذكر علاقتهما الحميمية، فتلك المرة الأولى التي تعلق على ما يدور بينهما، أو يلتمس في نبرتها ضيق من شدته معها، وبينما ظل على صمته المتفاجئ، تابعت هي متسائلة وهي تزيح ياقة البلوزة عن كتفها، كاشقة عن ازرقاق موضع ببشرتها:
-بيبقى إيه سبب الحاجات دي يا عاصم؟
أطرق "عاصم" نظره، مبهوتا من إفراجها المفاجئ لما يختلج صدرها، والذي عرى حقيقة ميوله السادية، وطباعة القاسية، والمخزية في نفس الآن، رفع عينيه لها، وظل واجما لعدة لحظات، وما إن كاد يشرع في التكلم واختلاق المبررات كالعادة، لم تمهله "داليا" الفرصة للرد، وأكملت بحزن طغى كل صوتها وكامل تعاببرها:
-عاصم انت عنيف وقاسي معايا في كل حاجة، ولو في حد فينا بيقوى على التاني فعلا فانت مش أنا.
بلل شفتيه في ارتباك جلى على وجهه، وبعد صمت دام لثوانٍ، تساءل بفتور عابس:
-وده اللي مخليكي بتمنعي نفسك عني.
نهضت عن الفراش، متوجهة نحو السرير الصغير الخاص بطفليها، ووضعت الصغير الذي غفى جوار شقيقه، وقالت له بعد زفرة منهكة:
-لو كان ده السبب كان زماني منعت نفسي عنك من زمان، مانا مش لسه مكتشفة الحاجات دي دلوقتي.
اشتعلت أعصابه من طريقتها التي يتضح بها تحملها مكرهةً لما يبدر منه في العلاقة الحميمية، قام من مكانه، وتوجه نحوها وهو يدمدم في سخط:
-وطالما مضايقك أوي كده فضلتي مكملة معايا ليه؟
التفتت إليه، ورمقته بعينين تفيضان ألما، وأخبرته في بؤس عارم:
-عشان بحبك، والمفروض إنك مش مستني أصلا إجابة مني يا عاصم.
استدعى الهدوء من داخله بصعوبة، سحب نفسا مطولا، زفره على مهل، ثم سألها مستفهما:
-تمام يا داليا، إيه السبب اللي مخليكي متغيرة معايا؟
كتفت ساعديها أمام صدرها، وحدجته بنظرة ثابتة، وهي تجيبه في صيغة تساؤلية مترقبة للغاية:
-ليه رنيت على رفيف؟ كنت عايز تتأكد من إيه بالظبط؟ كنت شاكك إن مين اللي هيرد عليك غيرها يا عاصم؟
يُتبع...