-->

رواية مشاعر مهمشة -الجزء الثاني - للكاتبة شيماء مجدي - الفصل التاسع عشر

رواية مشاعر مهمشة الجزء الثاني 

للكاتبة شيماء مجدي



رواية مشاعر مهمشة (الجزء الثاني)

 الفصل التاسع عشر


اضطراب الفكر، وتموجه بين ما يجوس به، من ذكريات ماضية، ومواقف حاضرة، يجعل الرأس تخامر أقصى أنواع الهلاك الذهني، خاصة إذا كان الشخص تائها بين ميل قلبه، وصوت عقله، ضائع بين تلقائية شعوره، وما يتحتم عليه فعله، في الظاهر كان مغمضَ العينين، في دلالة على غرقه في نوم عميق، ولكنه كان تهربا من حديثٍ لم يكن لينتهي تلك الليلة؛ إن ظل مستيقظا على مرمى من بصرها، خاصة وإنها لن تنفك عن لومه، وترديد كلمات الاشتياق على سمعه، وبالرغم من احتياجه إلى حبها أكثر من احتياجها إلى التصريح -اللا نهائي- به، ولكن انشغال عقله برؤية من حرمت على قلبه الراحة لأعوام، وأحاقت على حياته شتى صنوف العذاب، يحول دون اهتمامه الكامل بمن قدمت له كل سبل الطاعة، وأبدت جميع معاني الولاء.


لقاؤه ب"مي شاهين" صباح اليوم، كان له الأثر الأكبر في ازدياد صخب رأسه، فالآونة الأخيره باله كان منشغلا بالكثير من الأمور، وما كان ينتقص ازدحام فكره، وتكدس يومه، بعثها لرسالة تطالب فيها مقابلته، مع اختيار لئيم منها للمكان الذي لطالما شهد لقاءاتهم الماضية، وكأنها تحاول إعادة إشعال فتيلة حبها في قلبه، بعدما تأكدت بنفسها من انطفاء شرارته، واختفاء من عينيه وهجه، ولكن بالرغم من ذلك أساليبها الأنثوية المحنكة، لم تفشل في استرعاء انتباهه، وجعله يصب كامل تركيزه، على وجهها المشع بحُسن يعتريه لمحة جريئة، صاخبة، دائما ما تشغل بصره، وتلعب على أوتار قلبه، حتى نبرة صوتها، رغم أن وقعها على سمعه ليس ناعما، كصوت "داليا" الرقيق، الرهيف، إلا أنه يتدفق منه الاغترار، والثقة الكاملة في كينونتها الأنثوية، حتى نظرات عينيها مليئة بغطرسة شديدة؛ ربما اكتسبها منها مع كل لحظة ماضية جمعتهما، واقتنع بوجوب التعامل بها، كمكمل لشخصية طالحة، لم تكن يوما للإحسان، والحنو مانحة.


ولكن ما يجعله ظاهرا أمامها كالصخر الصلد، لا يهتز مع سائر مغرياتها؛ هو تحليه بجمود زائف محض، في باطنه كان خافيا ثأثره، ومواريا خلف قناعه ضجيج فكره. بينما تريح زوجته رأسها فوق كتفه، يتغللها الأمان بوجودها في حضنه، ذهنه شرد بأخرى، ومع تخيلها بدأت تتجلى على تعبيراته النشوى، خيانة من نوع آخر، حتى وإن لم يكن بتلامس جسدي بينهما بادر، ولكن فكره لغيرها شاغر، وتأثير إعجابه بها ما يزال عليه ظاهر، حتى أنه أخذ يستعيد في ذهنه الحوار الذي دار بينهما، بداية من محاولتها في استمالته، واستدراج مشاعره، وهي تنعش ذاكرته بما مر من علاقتهما، وما كان يجمعهما، مرددة بابتسامة ملفتة، وهي تشير بعبارتها إلى المكان المتواجدين فيه:


-فاكر المكان ده؟


بنظر منصب على الفراغ المحيط، ظل "عاصم" ناظرا، في حين هي تابعت كنوع من إكمال حديث عفوي منها، يحمل تذكر لماضي تدثر، وواراه الثرى:


-كنا بنتقابل هنا، وكان بيبقى معاك صحابك، كانوا اتنين دايما، واحد كان قدنا والتاني كان اصغر بكام سنة، مش فاكرة اساميهم، بس فاكرة الحكايات اللي كنت بتألفها دايما عشان تسيبهم وتجيلي، وفاكرة كمان..


عند ذلك الحد ولم يحتمل "عاصم" محاولتها الواضحة، في إنعاش قلبه، بحب لا يجزم بوجوده من عدمه، وقاطع سيل كلماتها بصوت جامدة مشبع بالضيق:


-انتي عايزه إيه يا مي؟


حركت كتفيه بحركة ظهرت تلقائية، وهي تنظر له بنظرة ساحرة، وتخاطبه في لين:


-عايزه عاصم بتاع زمان.


لم تتغير نظرته التي كانت تبدو خالية من أي تأثر بكل ما تفعله، رغم أنه داخليا كان يتلظى على نيران الغيظ، من استغلال مقوماتها الأنثوية، في سرقة نظراته، وسلب تركيزه، وعلى نفس الشاكلة الجامدة علق باستشفاف معبأ بالبرود:


-عاصم بتاع زمان يفرق إيه عن عاصم بتاع لوقتي؟


ثبتت حدقتيها بداخل عينيه؛ اللتين كانتا تتهرب من النظر لها بأقصى جهده، وأجابته بنبرة لاحت بها بعض الشجن:


-يفرق كتير، عاصم بتاع زمان تقريبا ماعدش ليه وجود، يمكن الحاجة الوحيدة اللي لسه موجودة فيه هي غموضه، وإني ولا مرة كنت بفهم إيه اللي بيدور في دماغه، أو بتوقع اللي بيفكر فيه، بس رغم كده كنت واثقة إنه بيحبني، وإنه مكانش يقدر يعدي يوم من غير مايشوفني، أو ينام في مرة من غير مايسمع صوتي، ولولا اللي بابا عمله كان زمانا مع بعض دلوقتي. 


كأنما لم يشكل فارقا عنده كل ما قالته، وتنبيهها له باتغاير كافة طباعه، وعند مجيئها على ذكر موقف والدها من علاقتهما في الماضي، وعمله على التفرقة بينهما، حتى ارتسمت على شفتيها ابتسامة ساخرة، وردد بنبرة هاكمة:


-كويس إنك لسه فاكرة اللي شاهين بيه عمله.


اضطربت ملامحها، ورفعت يديها واضعة بعض خصلاتها وراء أذنها، واختلقت مبررا كانت تراه مقنعا لموقف والدها:


-بابا كان خايف عليا يا عاصم، انا بنته الوحيدة.


تشنج جسده، والتفت لها بكامل جسده، وعقب باستهجان وهي يشير إلى نفسه بيده:


-كان خايف عليكي مني؟ ازاي وانتي الوحيدة اللي عمري ماكنت هفكر أأذيكي.


انقشعت المسافة الفاصلة بين حاجبيها، وأخبرته في عذر كان بالنسبة له أقبح من ذنب:


-هو مكانش يعرف كده.


اكتسب وجهه صلابة شديدة، واضطرمت عيناه بغضب واضح، وهو يقول لها في سخط:


-بس انتي كنتي عارفة، وكنتي تقدري تواجهيه وتكملي معايا، مش تبيعي حبي ليكي قدام أول مطب وتسافري وتتجوزي.


ارتسم الندم على وجهها، وردت عليه بتبرير آخر:


-أنا كنت صغيرة وقتها، وخوفت آخد قرار بدماغي واندم عليه.


لم تخمد جذوة غضبه، فمبررها الضعيف لم يزيده غير نقما، جلى على وجهه، وطغى في صوته وهو يدمدم:


-وطالما بعدك عني القرار الصح اللي مندمتيش عليه عايزه مني إيه؟ راجعة بعد السنين دي كلها تفتحي في القديم ليه؟


ازداد الندم في التفشي، والانتشار على سائر تعبيراتها، وقالت في صوت انتحب كأنما قد قارب على البكاء:


-عشان ندمت، ندمت إني سيبتك ومكملتش معاك، ندمت إني ممشيتش بدماغي وسمعت كلام بابا.


لم يهتز له جفن، تعبيرا حتى على طيف تأثر أصابه من لمعة الدموع الظاهرة في عينيها، وبمنتهى القسوة أخبرها:


-بس ندمك جه متأخر أوي.


تضاعف تكوم العبرات في حدقتيها، حتى علقت في طرفيها، وارتجف صوتها وهي تسأله في اشتفاف:


-ده عشان جوازك ولا عشان ماعدتش عايزني؟


بغير أن يأخذه بدموعها شفقة، أو حتى يعطف على حالتها الذليلة المتناقضة مع غطرستها المعهودة، أجابها بنفس الطريقة القاسية:


-الاتنين.


سالت دمعة من إحدى عينيها، تلاها دمعة من العين الأخرى، وهي تحدثه في استنكار شديدة لشخصية مغايرة تمام لكل توقعاتها، ولما عهدته منه معها:


-انت ازاي اتغيرت كده؟ انت مكنتش بتقدر تجرحني حتى لو من غير قصد، دلوقتي بقيت بتدوس على قلبي، وبتقصد تجرحني بكلامك، وانت عارف إني ب..


منع متابعة استرسالها، وحُبس تصريحها بحبه له في حلقها، عندما رفع يدها أمام وجهه، وقال لها في نهي صارم:


-متكمليهاش، لإني لا هصدقها، ولا هتفرق معايا.


عاد بذاكرته إلى أرض الواقع، حيث شاع التعجب في كل خلية حية من خلايا عقله. مع رسم الجمود على محياه، كان دائما ما يخفي تأثر مشاعره، فعندما كان يطالع كسرة "داليا"، ويبصر بعينيه دموعها تبدأ في الانسدال، كان يشعر بوخز قاتل يصيب قلبه، إلا أنه تلك المرة كان جامدا قلبا وقالبا، لم يشعر بأي تأثر لمشاهدة عبرات "مي"، أو حتى يشعر بندم داخلي لإيلامه لها، فبكاءها إن كان أشعره بشيء، فقد أشعر بالرضا، وأنه قد ثأر لجزء من عذاب قد أضناه بسببها. انتبه من بين فكره الشارد، إلى صوت خافت صدر من المتوسدة صدره، هاتفة من بين غياهب نومتها باسمه:


-عاصم.


أخفض بصره نحو وجهها، الغارق في النوم، متابعا حركة شفتيها الرقيقة، الناعمة، وهي تضيف من بين نعاسها، بوله شديد، وعاطفة قوية:


-بحبك اوي.


لحظات من الذهول أصابته، استفاق منها سريعا وهو يفكر في تصريح عابر ليس أول مرة يغادر فمها، ولكن ما آثار غرابته أنها حتى خلال تغيب عقلها عن الواقع، تعترف بحبه الساكن أعماق قلبها، والغريب عليه تصديق أن كل ذلك الحب الجم له هو فقط، فأنَّى لها بإحساسها بذلك الكم من العشق لشخص مثله؟ فكثيرا ما يراوده شعور خانق بأنه لا يستحق حبها، ولا يستحق أن يحظى كذلك بها، فهو لا يبادلها ولو بجزء بسيطا من مشاعرها، ولا تلقى منه حتى المعاملة الطيبة التي تستأهلها.



❈-❈-❈



من السهل قراءة الكره على قسمات وجه أي أحد من المحيطين بنا، ولكن من الصعب تحمُل حقيقة أن ذلك الكره ينبع من قلب كان ينبغي أن يكن الحب لنا، والأصعب أن يصرح بكرهه بأفعالٍ لا تبدر إلا من اعدائنا، كان "عاصم" يسدد إلى أخيه نظرات باغضة، كارهة، تحمل كل معالم العدائية، بينما كانا يحضران جلسة إعلام الوراثة، فقد جاء "عاصم" بنفسه، وذلك حتى يكون ظاهرا أمام وسائل الإعلام، ولا يؤلف أي صحفي سيناريو من رأسه، بشأن عدم علمه بوجود أخ غير شقيق له، وذلك بعد أن فشل في إثبات تزوير الآخر للأوراق التي تثبت نسبه إلى أبيه، فعندما انتهت كل الحلول أمامه، سلم تلك المهمة إلى محاميه، الذي فاجأه قبل موعد الجلسة بيوم، أي البارحة؛ مساءً بالتحديد، بأنه قد عجز عن إيجاد حلا في تلك القضية المعقدة، اهتاجت أعصاب "عاصم" ونهض عن مقعده المقابل له في مكتب المحامي، وهدر في استهجان جم:


-يعني إيه مش لاقي حل؟ مش عارف تشوف أي ثغرة تثبت بيها إنه نصاب وبيدعي بنوته لكمال الصباحي؟


لاح التوتر على ملامحه، ونهض هو الإخر عن جلسته، وقال له ببعض اللجلحة التي أصابت لسانه:


-يا عاصم بيه أنا عرفتك إن الورق اللي معاه مستحيل يطعن في صحته، لإنه كله متسجل في الشهر العقاري ومن سنين، مش شهادات جديد كان ممكن اطعن في صحتها بسهولة جدا.


ساد الغضب على أمارات وجهه، ضم شفتيه وهو يكز على أسنانه لثانيتين، كان يحاول خلالهما كبح جماح غضبه، لكيلا يهشم له عظامه، حدجه بنظرة ساخطة، قبل أن يدمدم في صرامة متجهمة:


-أنا غلطان إني سلمت رقبتي لواحد غبي زيك، واعتبر جلسة بكرا آخر شغلك معايا.


توقف صوت ذهنه، عند انتهاء الجلسة، ونهوض الجميع مغادرين إلى خارج القاعة، وقف بعنجهية معدلا من هندام سترته، وغالقا بثبات أزرارها، وهو ما يزال يشيع أخيه بنظراته الحاقدة، المليئة بازدراء، وتقليل من شأنه، كأنما ما تزال رؤيته له تقتصر على الشاب الفقير، الذي تربى في بيئة مغايرة، لأسرة فقيرة معدمة، لم يعبأ "عز الدين" بنظراته التي كانت مفهومة له، فمن أول وهلة حدثه فيها وقد فهم طباعه، ومنظوره الذي يرى به من حوله، حاول "عاصم" أثناء خروجهم ألا يظهر تجهم وجهه لكاميرات الصحافة، ورسم الهدوء على تعبيراته، وربما أيضا بعض الحزن سيفي بالغرض، في توضيح مأساته في فقد والده، كما أنه رأى أن وقوفه مع الآخر كذلك؛ سيكون وسيلة جيدة لمنع ظهور أي شائعة حيال حقيقة نسب ذلك الأخ الذى جاء من العدم، توقف "عاصم" خلف "عز الدين"، الذي كان يشرع في فتح باب سيارته تهيؤًا للرحيل، حال "عاصم" دون ذلك، وهو يخبره بعنجهية شديدة مشبعة بغرور مميت:


-متفكرش انك كده بقى زيك زيي، مهما حصل عمرنا ماهنتساوى.


أغمض "عز الدين" عينيه لحظيا، تزامنا مع لفظه دفعة من الهواء، معبرا عن كظمه غيظه، وتثبيط جذوة غضبه، حتى لا يحقق له مراده، في إثارة أعصابه، ثم التفت وحدثه بنفس طريقته المستفزة:


-مين قالك اني عايز ابقى زيك ولا اتساوى بيك! الحقيقة يا عاصم انت آخر حد ممكن اعوز ابقى زيه.


تصاعدت كراهيته، وبغضه له على وجهه، وحدجه بنظرة حاقدة وهو يستطرد:


-نصيبك في شركة بابا والفيلا المحامي هيحسب نسبته، وهيوصلك سيولة مع فلوس الورث.


قطب "عز الدين" جبينه في تعجب، وانفرج أحد جانبي فمه إلى الجانب بحركة تلقائية وهو يستفسر باستنكار:


-وده إشمعنا بقى؟ وجودي ميشرفش سيدتك في الشركة أو في الفيلا ولا إيه؟


حافظ "عاصم" على تعبيرات وجهه هادئة، غير مقروءة إلى كاميرات الصحافة التي أصبحت مجاورة لهما وهو يجيبه ببرود موجز:


-تقدر تقول كده.


ضم "عز الدين" شفتيه وهو يحاول جاهدا ألا ينساق خلف طريقته الخبيثة في إخراج أسوأ ما فيه، واستخدم نفس منوال الآخر المثير للأعصاب وهو يعلق:


-أنا اللي اقرر آخد نصيبي ازاي وإيه، ولما اقعد مع المحامي هبقى احدد كل حاجة.


اشتاط غضبا من مراوغته، وتلاعبه الصريح معه، ودمدم بنبرة مغلولة بعصبية مكتومة، ووجه حاول أن يرسم عليه تريث ليس له وجود داخله:


-أنا مش تحت رحمتك.


حرك كتفيه في حركة تلقائية، وهو يكرر نفس جملته بهدوء فاتر:


-وانا كمان مش تحت رحمتك.


تابعه "عاصم" بعينين تقدحان شررا وهو يصعد سيارته، حتى أدار محركها، وغادر من أمامه، وبقى هو محله، يشعر بغليان دمائه، ولا يدري أيبغض على والده على إنجابه سرا وعدم إخباره بوجود أخ له، أم يبغض على ذلك المحامي الغبي، الذي فشل في تخليصه من ذلك المقيت، الذي انتسب لعائلته اسما ومضمونا.



❈-❈-❈



نفسا عميقا سحبه إلى رئتيه، لفظه مطولا وهو يشعر بالكدر، والاختناق يضيق به صدره، لم يقدر على مزاولة عمله في ظل الضجيج الصاخب في رأسه، لذا قرر العودة إلى البيت، ليريح أعصابه المستنزفة، وغالب قدر المستطاع شعور الضيق الذي يحيق به، حتى لا يستسلم له، ويقع كل من يقابله تحت طائلة تنفيسه عنه، اقتحم غرفته دون أن يطرق على بابها مسبقا، وطأ إلى الداخل وهو ينظر بنظرة عادية إلى اللا شيء أمامه، ولكنه ثبت نظره عند زاوية بعينها في الغرفة، كانت "داليا" تقف عندها، وتتحدث إلى أحدهم عبر الهاتف، تراءى له توترها حينما انتبهت لوجوده، وإنهائها المكالمة فور رؤيتها لعينيه متوجهة نحو موضع وقوفها، راوده الشكوك على فوره، ولعبت الظنون برأسه، وفي لحظة أصبح أمامها، أمسك بجانب ذراعها، وتوحشت عينيه وبرقت للغاية، وهدر فيها بشراسة مخيفة:


-كنتي بتكلمي مين؟


شعرت بالخوف تفشى في أوصالها، وتلجلج لسانها وهي ترد عليه بتلعثم:


-دي.. دي..


لم يدع لها مجالا للتوضيح ومد يده نحو الهاتف في يدها، وهو يقول بصوت قاتم، كعينيه الحالكة بغضب خالص:


-هاتي التليفون ده.


نزع الهاتف من يدها، بحركة هوجاء آلمت رسغها، فتح سجل المكالمات، ضغط على آخر عملية اتصال به، وأشار نحو الرقم وهو يسألها بصوت اخشوشن للغاية:


-رقم مين ده؟


ازداد خفقان قلبها، ورفرفت في توتر بأهدابها، وأجابته بعدما ازدرد ريقها؛ بتلبك أصاب كل خلية بجسدها:


-ما الاسم متسجل قصادك.


حدجها بنظرة ثاقبة وهو يتساءل بتشكيك في صدقها:


-يعني لو رنيت دلوقتي رفيف اللي هترد؟


نظرت له بغرابة، وتساءلت في نفسها من غيرها إذا ستهاتفه؟ فهي إن كانت قد أنهت المكالمة معها على عجالة من أمرها، فهذا راجعا إلى خشيتها من تشاجره معها، عندما يعلم أنها ما تزال على تواصل دائم معها، وليس لارتكابها خطأ ما كما تستشعر مما يحاول أن يرمي إليه بنظراته، وسؤاله الغير مفهوم، عقدت ما بين حاجبيها وهي تعقب في عدم فهم لمضمون تساؤله:


-اومال المفروض مين اللي يرد؟


حدجها بنظرة حادة مبهمة السبب بالنسبة إليه، وذلك قبل أن يعود بنظره إلى الهاتف، ضغط على موضع إجراء مكالمة بذلك الرقم، وضغط على مكبر الصوت، وبعد بضع لحظات، صدح صوت رفيف وهي تتكلم بغرابة:


-إيه يا بنتي قفلتي مرة واحدة ليه..


أنهى المكالمة قبل أن تتم عبارتها، ووجهه المشتد، تراخى ولاح عليه نوعا من الحرج المبطن، في حين بدأت جذوة غيظها تشتعل، ولم يرد عقلها الآن أن يصدق ما فسره، وبتمسك بآخر ذرات هدوءها سألته:


-إيه اللي حصل دلوقتي ده؟ ممكن تفهمني.


أعطى لها الهاتف في يدها، وتخطاه سائرا نحو غرفة الثياب في صمت، بينما هي ازداد غيظها من عدم رده عليها، وتوجهت خلفه وهي تقول بصوت متجهم:


-استنى هنا يا عاصم أنا بكلمك.


صاح وهو يبدل ثيابه بطريقة منفعلة توحي بعاصفة عصبية على وشك الهبوب:


-أنا من الصبح في حوارات ومش فايق لزنك، فياريت تعدي اليوم.


تحركت لتقف أمام مرمي بصره، وهي تسأله مدهوشة من أفعاله الغير مفهومة:


-أنا اللي اعديه؟ ليه هو أنا اللي بعمل أفعال مش مفهومة بقالي فترة وبخترع مشاكل من الهوا!


ألقى السترة في الخزانة بعصبية مفرطة، وغير طبيعية في منظورها، وأخبرها في امتعاضة حانقة:


-داليا أنا مش فايق.


تمسكت بتصميمها في فهم ما حدث قبل برهة، قبل أن يقودها فكرها إلى المعنى الذي توصل إليه ولا يحتاج لفطنة، لم تعبأ بثورته التي لا ترى لها سببا وجيه، واطنبت متسائلة بإصرار متحير:


-وأنا عايزه افهم إيه معنى اللي انتي عملته ده، كنت متخيل أصلا مين اللي هيرد عليك غير رفيف؟


فكرة -أن يصرح بما جال في فكره، من شكوك تتآكل برأسه حيالها منذ فترة غير وجيزة- ليست بالصائبة نهائيا، خاصة وإنه كل مرة يراوده شكا نحوها، يتأكد بطرقه الخاصة من براءتها من سوء ظنه، لذا حاد بعينيه عنها وهو يتابع خلع ثيابه، وقال لها بنوع من التهرب من تسؤلاتها:


-مش عارف.


لم ترضِها إجابتها المراوغة، وتهربه الواضح من توضيح السبب، ودمدمت في صوت ارتفعت نبرته وانزعج:


-يعني إيه مش عارف؟


ضغط على شفتيه في سأم من تضييقها عليه الخناق، وقال بصبر نافذ:


-انتي مش هتسكتي يعني.


انفعل صوتها وهي تهدر بتصميم في معرفة سبب تصرفاته التي أصبحت تجهل لها معنى:


-لأ مش هسكت، عشان أنا تعبت من اللي انت بتعمله ده، ومبقتش عارفة انت عايز توصل لإيه.


ضم شفتيه في تجاهل لتساؤلها، والتقط بيده منشفة من أحد الأرفف، وقبل أن يستدير متوجها إلى المرحاض، استوقفته بقبضها على كفه وتساءلت بآخر ما كانت تود أن يصل إليه فكرها:


-عاصم أنت بتشك فيا؟


جذب يده من كفها في حركة عصبية، وزجرها في انفعال هادر:


-انتي مبتفهميش، قلتلك مش فايق.


وما لبث أن أبعدها بذراعه عن طريقه وهو يقول في حدة محتدمة:


-ابعدي من وشي.


جحظت "داليا" بعينها من قساوته، وطريقته الفجة معها، ورغم أنه ليس أمرا جديدا عليها رؤية ذلك الوجه المتحجر منه، إلا أنها ظنت لطفه المتزايد معها الليلة الماضية، بداية لزوال حاجز الجفاء المانع مشاعره من الطفو على سطح علاقتهما والظهور، والمتسبب في خلق حالة من التباعد بينهما إلى حد النفور، ولكن ما يتضح لها أن طباعه لن تتغير مهما أظهر النقيض، ولن تهنأ بحياة طبيعية مهما تمنت بدموع من العين تفيض.

يتبع...