رواية تعويذة العشق الأبدي - بقلم الكاتبة سمر إبراهيم - الفصل الثامن
رواية تعويذة العشق الأبدي
بقلم الكاتبة سمر إبراهيم
الفصل الثامن
رواية
تعويذة العشق الابدي
مررتُ بمنزلها الذي غطاه الظلام
محجوبة عني ماذا أفعل كي أراكِ
طرقت الباب فلم يردّ أحد
ليلة سعيدة على عزولنا، حاجبنا!
أيتها المسامير سأخلعك
أيتها المحجوبة مصيري لك
ألست روحي التي تحييني؟
"شعر فرعوني"
بعد مرور أسبوعين
لا يصدق أن والديه وتلك ال سيلين سيرحلون اليوم أخيرًا ليتنفس الصعداء بعد أن قام بتوديعهم في المطار فلقد مرت تلك الأيام ثقيلة على قلبه ليس لوجود والديه بالطبع وإنما بسبب تلك التي كانت تحاصره مثل ظله، تقتحم عليه غرفة مكتبه طوال الوقت دون استئذان، أو تتعلق في رقبته وتقوم بتقبيله أمام الناس بطريقة مثيرة للغثيان.
غمره شعورًا بالتقزز عندما تذكر ليلة الأمس حينما استيقظ من نومه على صوت طرقات خافتة على الباب ليتعجب كثيرًا خاصة عندما نظر في الساعة ووجدها قد تخطت الثانية صباحًا.
قام من فراشه بتثاقل وهو يمسح على جهه، ويفرك عينيه، يحاول أن يفيق من نعاسه، وعقد حاجبيه بغضب وذهب ليرى من الطارق!
تفاجأ عندما وجدها تقف أمامه بتلك الغلالة الرقيقة التي لا تخفي شيئًا أسفلها مرتدية فوقها الرداء الخاص بها والذي يظهر ما بأسفله بسخاءٍ هو الآخر، كما أنها يتضح عليها آثار الثمالة ليصاب بصدمة من هيئتها هذه فحدثها بلهجة مستنكرة وصوتٌ يكاد يكون مسموع:
- سيلين! إيه اللي جابك هنا دلوقتي؟ وإيه الي انتي عاملاه في نفسك ده؟
لم تجبه ولكنها مدت أصابعها بإغراء تتلمس الأجزاء الظاهرة من صدره أسفل منامته وتحدثت بصوت مغوى وهي تقضم شفتها السفلى وتنظر إليه بعيون ناعسة تملؤها الرغبة:
- حبيت أعملك مفاجأة، بذمتك مش مفاجئة حلوة؟
قالت ذلك وهي تترنح وتحاول أن تدخل الغرفة فسمح لها وهو ينظر يمينًا ويسارًا ليرى هل رآها أحد بهذا الشكل أم لا، ولكنه تتفس الصعداء عندما لم يجد أحدًا، فأغلق الباب خلفه واستدار ليوبخها على ما فعلته ولكنه تسمر مكانه وجحظت عيناه عندما رآها تخلع ذلك الرداء وتقف أمامه تكاد تكون عا رية.
مسح على وجهه وخلل شعره بعصبية شديدة على أفعالها المتهورة التي لا تنتهي والذي كان قد اكتفى منها ثم تحدث بغضب:
- إيه القرف اللي انتي لابساه ده؟ وإزاي تمشي في الأوتيل بالمنظر ده؟ مخوفتيش حد يشوفك!
اقتربت منه بخطوات غير متزنة تنظر له بنفس النظرة الناعسة ثم وضعت يديها حول رقبته واقتربت من أذنه لتهمس بنبرة ثملة مليئة بالرغبة:
- إيه بتغير عليا يا يويو؟
جعد جبهته عندما إستمع الى ذلك الاسم الذي لطالما نهاها من أن تطلقه عليه فقام بإبعادها عنه ببعض العنف وتحدث بنفاذ صبر:
- بقولك إيه يا سيلين بطلي حركاتك دي أنا وانتي عارفين كويس أوي إنك مش سكرانة ولا حاجة وإن ده حوار انتي عملاه عشان لما تتزنقي تقولي مكونتش في وعيي.
أعقب حديثه بضحكة ساخرة وهو ينظر لها من أعلى لأسفل:
- طبعا، متغيرتيش وده المتوقع منك و مش أول مرة تعمليها ولا نسيتي؟
أصابتها خيبة الأمل من حديثه فهي كما قال بالفعل لم تكن ثملة ولكنها كان لديها بعض الأمل أن يكون قد نسيَ ما حدث بالماضي ولكن فيما يبدو أنه لم ينسى شيء فقررت أن تغير من خطتها قليلًا فنظرت له نظرة منكسرة وجلست على أقرب مقعد وهي منكسة الرأس:
- انت برضو مش عايز تنسى وتغفرلي غلطة واحدة عملتها زمان وأنا مش في وعيي.
نظر إليها بتهكم ووضع يديه في جيبي بنطاله البيتي وتحدث ببرود:
- انتي عارفة كويس إني لا يمكن أنسى اللي حصل مهما عملتي وبلاش تحطي غلطك على شماعة السكر وإنك مكونتيش في وعيك لاني مش هصدقك.
قال ذلك وأعطاها ظهره وأشار إلى باب الغرفة:
- ياريت تتفضلي دلوقتي من غير مطرود واللي حصل ده ميتكررش تاني انتي في مكان محترم مينفعش حد من النزلا أو الموظفين يشوفوكي بالمنظر ده.
صفعة جديدة يوجهها إليها مغلقًا في وجهها كافة الطرق المؤدية إلى قلبه، ولكن هيهات أن تستسلم بتلك السهولة ستحاول مرات، ومرات إلى أن تنجح ولكن الآن عليها أن تلملم ما تبقى من كرامتها وتخرج، فقامت من مقعدها والتقطت ردائها وتوجهت نحو الباب بغضب ولكنها وقفت عندما استمعت إليه يحثها على الانتظار:
- استني.
للحظات عاد إليها الأمل من جديد واستدارت ناحيته وكادت أن تذهب إليه ولكنه أوقفها بإشارة من يديه ثم أشار إليها من أعلى إلى أسفل وتحدث بتقزز:
- مينفعش تخرجي بالمنظر ده، انتي عايزة تعمليلي فضيحة في الأوتيل؟
قال ذلك ثم أشار إلى حجرة الملابس الخاصة به:
- اتفضلي البسي أي حاجة من عندي قبل ما تمشي.
نظرت إليه بغيظ ثم ذهبت الى حيث أشار لها وهي تمشي بخطوات غاضبة وتناولت قميص يخصه وقامت بارتدائه كما ارتدت أسفله بنطال منزلي تستطيع أن تضيقه على مقاسها باستخدام ذلك الرباط الموجود به ثم خرجت دون أن تنطق بكلمة مكتفية بتلك النظرة المنكسرة التي أجادتها لتنظر بها نحوه وهي تقوم بإغلاق الباب من خلفها ليتنفس الصعداء حال خروجها.
زفر براحة وهو خارج من المطار وذهب ليستقل سيارته عائدًا الى الفندق بعد أن اطمأن بأن الطائرة قد أقلعت بالفعل.
❈-❈-❈
في نفس الوقت في القاهرة
أسبوعين قد مرا الآن منذ ذلك اليوم وهي تطبق نصيحة صديقتها بتجنب الشجار معه ولقد أتى ثماره بالفعل فلم تعد تحدثه في أن يبحث عن عمل أو بالأحرى يمكننا أن نقول أنها لم تعد تحدثه من الأساس وهو رحب بذلك دون أن ينطق بكلمة وكأنه كان ينتظر منها ذلك حتى العلاقة الزوجية بينهما لم يطلبها طوال تلك الفترة وهو ما قابلته هي بصدر رحب ليعيشا معًا كأغراب تحت سقف واحد.
لم تدرك هي أن الحياة لا يمكن أن تستمر بتلك الطريقة وأنها في طريقها للفشل لا محالة فإن عاجلًا أم آجلًا فالنهاية قادمة قادمة.
اليوم موعد أولى جلسات المعالجة النفسية التي قامت صديقتها صفاء بحجز موعد لطفلها عندها، فهي متخصصة في علاج الأطفال دون اللجوء إلى عقاقير، لقد ترددت كثيرًا في البداية لأخذ ذلك القرار إلى أن فاجأتها صديقتها بحجز الموعد دون أن تخبرها بذلك لتضعها أمام الأمر الواقع فاضطرت للذهاب مع سليم وتركت ابنتها مع والدتها ووصلت في الموعد المحدد بالفعل وعندها أمل أن تجد عندها حل لمشكلة طفلها.
أدخلتها المساعدة هي وطفلها لحجرة الكشف فتفاجأت عندما وجدت بها طبيبة صغيرة السن في العشرين من عمرها تجلس خلف مكتبها ترتدي نظارة طبية وتنظر إلى الأوراق التي أمامها بتركيز شديد.
تعجبت ضحى كثيرًا وظهرت علامات الدهشة جلية على وجهها فلقد توقعت أن تكون الطبيبة أكبر سنًا من تلك التي أمامها.
حمحمت لتلفت انتباهها لوجودها هي وطفلها فرفعت رأسها إليها وقامت بخلع نظارتها الطبية ونظرت إليهما بابتسامة وتحدثت وهي تشير إليهما أن يجلس أمامها:
- أهلًا وسهلًا، اتفضلوا اقعدوا.
جلست على مضض، ودون اقتناع بتلك التي أمامها، ولكنها جلست عل أية حال فلا يوجد ما تخسره.
شبكت الطبيبة أصابعها ووضعتهم أسفل ذقنها ووجهت نظرها ل سليم وهي محتفظة بنفس ابتسامتها:
- اسمك إيه يا بطل؟
نظر إليها بتردد ثم وجه نظره إلى والدته التي طمأنته وحثته أن يجيب عليها فأعاد نظره إلى الطبيبة مرة أخرى ونطق بتلعثم:
- س سليم، سليم أحمد النويشي.
عقبت وهي تبتسم له باتساع:
- الله إيه الإسم الحلو ده، وعندك كام سنة بقى يا سولي؟ مش تسمحلي أقولك سولي برضه؟
أماء لها برأسه، ثم أجاب وهو ينظر أرضًا:
- ٧ سنين.
- لا دحنا شاطرين جدًا ونتستاهل ناخد chocolate كمان.
أخرجت قالب كبير من الشوكولاتة من درج مكتبها وأعطتها له ليأخذها منها بتردد بعد أن نظر لوالدته وسمحت له بذلك.
قامت بعد ذلك بالضغط على الزر الموجود أمامها على المكتب لتستدعي مساعدتها وعندما أتت تحدثت إليه وهي تشير إلى مساعدتها:
- إيه رأيك تخرج مع طنط حنان وتلعب في ال kids area على ما أتكلم مع ماما شوية صغيرين وترجع تاني.
تردد في الذهاب معها ولكن والدته حثته على ذلك ليخرج على مضض مع تلك المرأة التي لا يعرفها.
عندما خرج اختفت ابتسامتها تدريجيًا ثم وجهت حديثها لضحى قائلة بجدية:
- أنا خرجته عشان عايزة أسمع منك الأول ومش عايزاه يسمع الكلام اللي هتقوليه، اتفضلي احكيلي مشكلته من غير ما تخبي عني حاجة.
تعجبت كثيرًا من طريقتها التي تحولت في لحظة ولكنها لم تقف عند تلك النقطة فنظرت أرضًا ووضعت شعرها خلف أذنها ثم استرسلت في الحديث لتخبرها عما حدث دون أنت تخفي عنها شيء فكل ما تريده هو أن يصبح طفلها بخير:
- سليم من اسبوع بالظبط حصل منه سلوك عدواني تجاه أخته ولما اتكلمت معاه وطلبت منه يعتذرلها رفض وقال كلام غريب عليه جدًا زي أنه راجل وعادي أنه يضربها وإن جدته أم والده هي اللي قالتله كدا علشان كدا قررت آجي لحضرتك بعد ما رشحتك ليا واحدة صاحبتي عشان لو عنده مشكلة نلحقها من الأول قبل ما تكبر.
كانت تستمع لها بتركيز شديد وتدون بعض الملاحظات في دفتر ما أمامها وفور انتهائها نظرت إليها وحدثتها بجدية شديدة موجهة إليها بضعة أسئلة:
- هل لاحظتي عليه السلوك العدواني ده قبل كدا ولا دي أول مرة؟ وهل فيه سبب تاني غير كلام جدته هو اللي وصله للسلوك ده؟ ولا السبب كان كلام جدته بس؟
تريثت قليلًا قبل أن تجيبها وكأنها تستحضر الإجابة في عقلها قبل أن تتحدث ثم عقبت قائلة:
- أول مرة يبقى بالعنف ده وأول مرة أسمع منه الكلام اللي قاله، كان قبل كدا ممكن يبقى عنيف معاها وهما بيلعبوا مع بعض أو يفرح لو عملت حاجة غلط وأنا عا قبتها، بس أنا كنت ببص لتصرفاته دي على إنها شقاوة أطفال مش أكتر خصوصًا إن الولاد بيقوا في الغالب أعنف من البنات في اللعب وقولت ممكن يكون بيغير منها مثلا أو حاجة عشان عي الصغيرة، لكن عمره ما قال الكلام اللي قاله ده قبل كدا.
سكتت قليلًا قبل أن تكمل على باقي أسئلتها:
- بالنسبة للسبب التاني أعتقد أيوه فيه سبب تاني غير كلام جدته ممكن يكون له التأثير الأكبر على نفسيته:
ضيقت الطبيبة عينيها وأردفت بعد أن انتهت من تدوين ما ذكرته ضحى:
- إيه هو السبب ده؟
حمحمت قبل أن تجيب وكأنها تجد صعوبة في إخراج الكلمات:
- في الحقيقة كانت حصلت شوية مشاكل بيني وبين جوزي في حضور الأولاد وحصل ومد إيده عليا.
أماءت برأسها بتفهم وعقبت على حديثها قائلة:
- طب وانتي كان رد فعلك ايه لما حصل ده.
ضيقت ما بين حاجبيها بعدم فهم:
- تقصدي ايه؟
- يعني عملتي ايه لما مد إيده عليكي؟ غضبتي، ثورتي، سيبتي البيت، رديتي العنف بعنف مماثل، سكتي ومعملتيش حاجة، كل واحد فينا ليه رد فعل مختلف لما بيتعرض للعنف.
أومأت لها بتفهم ونظرت أرضًا وأجابت بحرج من نفسها ومن سلبيتها المفرطة:
- في الحقيقة معملتش حاجة مرضيتش أعمل رد فعل مبالغ فيه خصوصا قصاد الأولاد عشان ميتأثروش نفسيًا أكتر من كدا لو شافوني برد على بباهم رد مش كويس.
لم تبدي أي رد فعل مجرد إماءة من رأسها وهي تكتب شيء في ذلك الدفتر ووجهت إليها المزيد من الأسئلة:
- طب طريقة جوزك في التعامل مع الأولاد إيه؟ بيستخدم معاهم العنف برضه ولا بيعاملهم كويس؟
أجابت دون تردد:
- هو في الحقيقة ولا بيعاملهم كويس ولا وحش هو يعتبر مش موجود في حياتهم تقدري تقولي إنه مالوش دور فعال، يعني مبيخرجش معاهم، ولا بيحب يعرف أخبارهم، ممكن يقابلوه وقت الغدا مثلا واللي بيكون من غير حوار كتير لأن لو حد منهم فكر يتكلم على الأكل بيشخط فيهم عشان يسكتوا فهما بطلوا بالفعل يتكلموا معاه لأنهم بيخافوا من ردة فعله ممكن سليم اللي بيتفاعل معاه شوية أو بيجيبله هدايا إنما أيسل لأ.
هزت رأسها بتفهم لما سمعته وعقبت باقتضاب:
- تمام، تمام.
تعجبت كثيرا من طريقتها ولكنها لم تعقب وانتظرتها الى أن انتهت من تدوين ما تكتبه ثم أغلقت القلم والدفتر، ونظرت إليها وقامت بتشبيك أصابعها معا ووضعتهم أمامها على المكتب وهي تتحدث بتلك الجدية التي لم تفارقها منذ خروج سليم من الغرفة:
- بصي يا دكتورة، عشان أكون صريحة معاكي رد فعل سليم ده رد فعل طبيعي جدًا ناتج عن البيئة اللي نشأ فيها هو كبر وهو بيشوف أبوه بيضر ب أمه باستمرار سواء بسبب أو من غير سبب مش هتفرق، وكمان شاف أمه مبتعملش أي رد فعل لما بتتعرض للتعنيف ده فطبيعي جدًا إنه يترسخ في ذهنه أن ده شيء طبيعي وإن عادي لما الراجل يضرب الست ودا من حقه وبالتالي هو كمان من حقه يضر ب أخته وبعد كدا مراته لما يكبر عادي دا سلوك طبيعي بالنسباله واللي زود ده عنده هو كلام جدته ليه اللي حسسه إن هو ده الصح وبالتالي دا اترجم عنده بسلوكه مع أخته او رده عليكي وكل ما بكبر السلوك ده هيكبر معاه سواء مع أخته أو معاكي أو مع الآخرين خصوصًا الأضعف منه.
صدمة سيطرت عليها مما استمعت إليه فنظرت إليها وعيناها مليئة بالدموع وتحدثت بانكسار:
- طب والحل إيه من وجهة نظرك؟
ردت عليها بنفس تلك النظرات الفارغة:
- عندنا حل من اتنين يا إما تبعديه عن البيئة المؤذية اللي عايش فيها دلوقتي ونبدأ معاه جلسات علاج نغير فيها المفاهيم الغلط اللي موجودة جواه، يا إما يفضل في البيئة دي بس تحاولي تقللي من رؤيته لأي مشهد سلبي ممكن يزود السلوك العدواني جواه ونبدأ معاه الجلسات برضه بس هتاخد فترة أطول لأنه مخرجش برا دايرة العنف.
صمتت قليلًا قبل أن تكمل:
- وطبعًا دا هيكون أسهل بكتير لو والده جه معاه المرة الجاية لان من الواضح إن هو كمان محتاج علاج نفسي عشان يغير مفاهيمه اللي اتربى عليها يمكن ساعتها نقدر نتقذ العيلة كلها.
ضحكت متهكمة من كلماتها فعن أي والد تتحدث هل تتخيل أنه قد يقبل فكرة مراجعة طبيب نفسي وأن في سلوكه مشكلة يجب معالجتها فلقد جاءت إليها دون علمه فلو علم بذلك لكان رفض ذلك رفضًا قاطعًا فإنه لا يؤمن بالطب النفسي وهنا تذكرت جملة الطبيبة الأخيرة
"يمكن ساعتها نقدر ننقذ العيلة كلها"
فنظرت إليها بعدم فهم وهي تسألها:
- حضرتك تقصدي ايه بالعيلة كلها.
أجابتها بما كان يغيب عنها:
- أكيد أقصدك انتي وأقصد البنت الصغيرة كمان واللي أكيد نفسيتها اتأثرت باللي بتشوفه زي أخوها بالظبط بس لسة مش عارفين هترجم التأثر ده إزاي.
هزت رأسها يمينًا ويسارًا علامة على رفضها لما تقوله:
- بس انا معنديش حاجة وأيسل كمان كويسة.
طيف ابتسامة ارتسمت على وجهها وهي تجيبها:
- بيتهيألك، أنتوا أكيد اتأثرتم باللي بيحصل بس ردود أفعالكم مختلفة يعني انتي مثلًا هل سلبيتك وسكوتك على التعنيف الأسري اللي بتتعرضيله دا سلوك طبيعي بالنسبالك؟ كمان هل العنف ده مأثرش على أعصابك وسلوكك مع أولادك أو المحيطين بيكي سواء بالعصبية الزايدة أو الحساسية المفرطة أو غيرها من الأحاسيس اللي مكانتش موجودة قبل كدا؟
صفعة نزلت وجهها واجهتها بحقيقتها نعم هي تغيرت كثيرًا منذ أن بدأ مسلسل عنفه معها لقد أصبحت أكثر عصبية وتتأثر بما حولها بطريقة مبالغ فيها، وقبل أن تطنب في التفكير فاجأتها بالصفعة الأخرى والتي كانت أشد قوة من الأولى:
- أما بالنسبة لأيسل فلسة مش عارفين اتأثرت أو هتتأثر إزاي، هنعرف ده لما تيجي واتكلم معاها بس ممكن تكوني لاحظتي مثلا سكوتها الدائم، أو إنها بقت بتحب تنعزل عنكم وتقعد لواحدها، أو بتحس بعدائية ناحية والدها.
تتوالى الذكريات والأحداث على عقلها فبالفعل ابنتها تفعل كل ذلك خاصة شعورها بالعداء تجاهه.
لم تتركها لتفكر كثيرًا فأكملت:
- بعد كدا وكل ما تكبر هتشوفي تغيير ملموس في شخصيتها يا إما هتبقى عدائية جدًا تجاه أي رجل وهتحس ناحيتهم بكره غير مبرر وهيبقى همها إنها تحسسهم بالدونية والنقص وهترفض تقرب منهم أيا كانت نسبة قربهم ليها، وكمان هتحس بعدائية ناحيتك انتي كمان وهتكره سلبيتك وهتلومك عليها.
صمتت قليلًا وسط ترقب من الأخرى فأكملت بأسف قائلة:
- يا إما بقى هيحصل العكس وتبقى سلبية وضعيفة وديما محتاجة حد يحميها وممكن كمان تتقبل العنف بصدر رحب سواء من والدها أو أخوها وفي المستقبل من زوجها، وأن كنت بستبعد الاحتمال ده إلى حد ما لان ده في الغالب بيحصل لما الطفل نفسه بيتعرض
للعــ نف مش بس لما يشوف غيره بيتعرضله، وعشان كده بقولك لازم البنت هي كمان تيجي الجلسات مع سليم وساعتها هنعرف تأثير اللي بتشوفه إيه عليها.
لم تعرف بما يمكنها أن تجيب عليها فلقد دمرت أطفالها بالفعل دون أن تشعر ولا تعلم هل ستستطيع إصلاح ذلك أم لا.
بعد قليل من الصمت تحدثت وهي مختنقة بالبكاء:
- حاضر هجيبها معايا المرة الجاية.
عقبت باقتضاب:
طب ووالدهم؟
نفت برأسها وهي تقول:
- مظنش يرضى يجي أو ممكن يقبل من الأساس فكرة إنه محتاج علاج نفسي.
- تمام، ممكن بس تستنيني برا وتسيبيني اتكلم مع سليم شوية لواحدنا.
أومأت لها وهي تقف وتتجه نحو الباب بخطوات ثقيلة وضغطت الطبيبة على الزر مرة أخرى لتجعل مساعدتها تأتي إليها ب سليم.
❈-❈-❈
تداوم على العلاج الفيزيائي طوال الايام الماضية الأطباء يخبرونها أن هناك تحسن في حالتها ولكنها لا تشعر سوى بذلك الألم الشديد الذي يجتاح قدمها أثناء الجلسات ولكنها لا تملك سوى أن تتحمله حتى تستطيع السير مرة أخرى والعودة لحياتها الطبيعية.
كما أنها اكتسبت القليل من الوزن وعادت النضارة بعض الشيء إلى وجهها، تتحدث مع والدتها وشقيقتها يوميًا عن طريق ذلك التطبيق الموجود على الشبكة العنكبوتية والخاص بالمكالمات المصورة، لقد اشتاقت اليهما كثيرًا وكانت تتمنى وجودهما بجوارها ليؤازراها في تلك الفترة الصعبة التي تمر بها، ولقد حاولتا السفر إليها بالفعل ولكن والدها رفض ذلك رفضًا قاطعا وقام بمنعهما من السفر، فمن الذي سيصرف على المنزل إن تركت شقيقتها العمل ومن سيقوم بخدمته إن سافرت زوجته هي الأخرى لتشعر بالغضب الشديد تجاهه ويزداد كر هها له ونقمتها عليه يومًا بعد يوم.
لم تفارقها رهف ولو ثانية واحدة طوال تلك الفترة لتشعر بالإمتنان لوجودها معها فبالرغم من أنها قد طلبت منها العودة لحياتها وعملها أكثر من مرة إلا أنها لا تعلم ما الذي كان سيحدث لها لو لم تكن معها فمن المؤكد أنها كانت ستجن لا محالة.
أكثر ما يؤرقها هو تلك الأحلام الغريبة التي تراها أثناء نومها حيث ترى نفسها وهي صغيرة في السن ترتدي ملابس غريبة وكأنها حبيسة في قصر ما تتحدث باللغة المصرية القديمة وتبكي ليلًا ونهارًا لسبب تجهله، فتستيقظ من نومها وهناك تلك القبضة التي تعتصر قلبها فلا تستطيع التنفس بشكل طبيعي الا بعد مرور بعض الوقت كما أنها عندما تستيقظ تجد الدموع تغرق وجهها وكأنها كانت تبكي بالفعل وليس داخل الحلم فقط.
أفاقت من شرودها على يد رهف وهي تلكزها لكزة خفيفة في كتفها فنظرت إليها بتيه وكأنها كانت في عالم آخر فوجدتها تحرك يدها أمام وجهها وهي تبتسم وتقول:
- هيه، الجميل سرحان في إيه بقاله مدة؟ اللي واخد عقلك يتهنابه.
أعقبت قولها بغمزة من إحدى عينيها فتعجبت عهد كثيرًا فهي لم تنتبه لكونها شردت للكثير من الوقت فضيقت ما بين حاحبيها وسألتها بتوتر فهي لم تعي شيئًا مما كانت تقوله:
- ها، كنتي بتقولي حاجة يا رورو؟
- لا دحنا مش هنا خالص، مش بقولك اللي واخد عقلك.
تنهيدة حارقة خرجت من صدرها وتحدثت بلا مبالاة:
- واخد عقلي إيه بس؟ هو فيه أكتر من اللي أنا فيه ده يخلي الواحد يسرح فيه؟
جلست بجوارها وأخذت تمسح على ظهرها بحنان ووضعت قبلة على خدها وهي تقول:
- إيه اللي انتي فيه يا حبيبتي؟ احنا كنا فين وبقينا فين الحمد لله.
عقبت على كلماتها باقتضاب:
- الحمد لله.
تعلم أن ما عانته صديقتها ليس بهين فأردات أن تخفف عنها قليلًا لتخرجها من هذه الحالة من الشرود الدائم التي تلازمها هذه الأيام وتحدثت بصخبها المعتاد وكأنها قد تذكرت للتو شيء ما:
- استني، استني، أنا نسيت أحكيلك عاللي شوفته امبارح بالليل.
استطاعت أن تحصل على انتباهها فعدلت من جلستها لتصبح أمامها وأكملت وهي تضحك:
- مش انا قفشت صاحبك امبارح وهو بيعط.
لم تفهم ما تعنيه فنظرت إليها بعدم فهم وعقبت متسائلة:
- صاحبي مين؟ وبيعط فين؟
أكملت حديثها لتوضح لها أكثر وهي تغمز بعينها اليمنى:
- صاحبك المز صاحب الهالومة دي اللي مظهرش طول الإسبوعين اللي فاتوا.
فهمت ما تقصده بحديثها فلوت فمها بعدم رضى من تلقيبها لذلك البغيض بلقب صديقها فتحدثت بغضب طفيف:
- صاحبي! خلاص عملتيه صاحبي؟ وعمل إيه سي زفت؟
اخذت تقص عليها ما رأته وهي تحرك يديها بحركات عشوائية:
- فاكرة البنت الملزقة اللي كنا بنشوفها طول الاسبوعين اللي فاتوا واحنا رايحين أو راجعين من الجلسات وهي متشعلقة في رقبته؟
أماءت برأسها لأعلى واسفل دليل على تذكرها إياها لكم رهف حديثها قائلة:
- أهو أنا امبارح بقى شوفتها داخلة أوضته وهي لابسة من غير هدوم الساعة اتنين بالليل وخرجت بعد شوية وهي لابسة هدومة.
جحظت بعينيها مما استمعت إليه ولكنها حاولت إخفاء ذلك وادعت اللامبالاة وتحدثت وهي تهز كتفيها بعدم اهتمام:
- طب واحنا مالنا بيه يعمل اللي يعمله مهو ده العادي والمتوقع عند الناس دي وبعدين انتي ايه اللي خرجك من الأوضة في وقت متأخر زي ده؟
أحست بخيبة أمل من عدم اهتمامها بما تخبرها إياه فزفرت أنفاسها بقوة وأطنبت بإحباط:
- دا انتي محبطة يا شيخة والله، هو ده اللي ربنا قدرك عليه، على العموم يا ستي أنا كنت زهقانة ومرضيتش أصحيكي قولت أخرج أتمشى أو أنزل ال night club أفك عن نفسي شوية بس لمحتها وهي ماشية ولابسة بيبي دول شفاف جدًا حتى الروب اللي فوقه مكانش مغطي حاجة، استغربت من الموقف بصراحة ومشيت وراها بالراحة عشان أعرف هي رايحة فين لقيتها بتخبط على أوضة بالراحة، شوية والباب اتفتح وظهر اللي اسمه يونس ده اتكلموا كلمتين بس أنا مسمعتش بيقولوا إيه وبعدين دخلت وهو قعد يبص يمين وشمال عشان يشوف فيه حد شايفهم ولا لأ بس أنا كنت في corner ضلمة مشافنيش وبصراحة الفضول مخلانيش أمشي فضلت واقفة لحد ما خرجت لابسة هدومه بس مغابتش جوه بصراحة هما ١٠ دقايق ربع ساعة بالكتير وكانت خارجة، سريع أوي يونس ده مبيضيعش وقت.
قالت جملتها الأخيرة وهي تضحك بصخب ثم أنهت حديثها قائلة:
- بس يا ستي هو ده اللي حصل.
لا تعلم لما شعرت بالغضب من حديث صديقتها ولكنها خشيت ان تلاحظ ذلك فحاولت أن تتصنع البرود وهي تعقب:
- طيب يختي شكرًا على فيلم السهرة اللي حكيتيه ده
وابقي بطلي تلفي في الأوتيل في انصاص الليالي عشان شكله مكان مش كويس بدل ما حد يخطفك وتبقي انتي بطلة الفيلم المرادي.
لا تعلم ما الذي ألم بها فهي لم تكن بمثل ذلك البرود من قبل ف عهد التي تعرفها كانت ستمضي الليلة وهي تطلق النكات على هذا اليونس وصديقته وكيف لم يستغرق الأمر منه سوى عشر دقائق فقط، حتى يصابا بالإعياء من كثرة الضحك، ولكنها أرجعت ذلك لحالتها النفسية وما تعانيه هذه الأيام فتحدثت وهي تنهض وتتجه للمرحاض:
- يا تقل دمك يا شيخة، تصدقي اني غلطانة عشان حكيتلك اللي حصل أنا هروح آخد شاور وأنام أحسن.
❈-❈-❈
تجلس في انتظار خروج طفلها من عند تلك الطبيبة التي وضعت أمام عينيها الحقيقة المجردة وما الذي يمكن أن يحدث لأطفالها جراء سوء اختيارها، فهي لم تكن تتوقع في أسوأ كوابيسها أن تتسبب في إلحاق الأذى بأطفالها بهذا الشكل حتى وإن كان بغير قصد منها.
الآن بات الأمر بين يديها هل تستمر في هذه العلاقة المؤذية لها ولأطفالها أم تنجو بنفسها وبهم وتحاول إصلاح ما أفسده زوجها، هل حقًا اتخاذها لقرار الإبتعاد صعب للغاية كما ترا هي؟ أم أنه ألحق بها الأذى لدرجة أن أصبحت تتقبل الألم منه وترفض أن تبتعد عنه؟ هل أصبحت مريضة بالفعل ومحبة للألم وتحتاج اللجوء لمعالج نفسي هي الأخرى لكي تقدر على إتخاذ ذلك القرار؟ هي حقا لا تعلم كل ما تدركه الآن أنها مشتتة ولا تستطيع إتخاذ قرار صائب.
مر الوقت دون أن تدري لتجد أن باب الغرفة يُفتح ليخرج منها طفلها ومعه المساعدة لتعطيه لها بابتسامة كما أخبرتها بموعد الجلسة القادمة.
أخذت سليم وذهبت لتركب السيارة وقامت بإغلاق حزام الأمان له ثم بدأت في القيادة لتعود لمنزل والدتها ولكنها لاحظت شروده وصمته الذي طال أكثر من اللازم فوجهت له الحديث متسائلة:
- مالك يا سليم ساكت ليه؟
منحها تلك النظرة البريئة التي لطالما عشقتها منه ومن شقيقته وتحدث بنبرة طفولية:
- مفيش يا مامي.
- طب عملت إيه مع طنط هبة؟ انبسطت وانت قاعد معاها؟
إبتسم وهو يحدثها بحماس:
- أوي أوي يا مامي دي طيبة أوي قعدت تضحك معايا وادتني chocolates وبونبوني كتير.
ابتسمت برضا عندما رأت ابتسامته العذبة:
- يعني عايز نيجي تاني ولا خلاص كدا؟
ألتفت إليها وهو يتحدث بنفس الحماس الشديد:
- ايوة please يا مامي نيجي تاني كتير.
خللت شعره بمرح وهي تحدثه:
- حاضر يا حبيبي هنيجي تاني، وإيه رأيك نجيب أيسل معانا المرة الجاية؟
قالت ذلك وهي تنظر إليه لكي ترا ردة فعله تجاه شقيقته فوجدته صمت قليلًا كمن يفكر ثم تحدث وهو يبتسم:
- ماشي نجيبها معانا ونبقى نلعب سوا في ال kids area.
ابتسمت براحة وحدثته بحب وحنان أمومي:
- شطور يا حبيب مامي أنا عايزاك ديما تحب أختك وتعاملها كويس وتلعب معاها بالراحة عشان هي كمان تحبك ومتخافش منك.
هز رأسه علامة على موافقته وعقب بابتسامة:
- حاضر يا مامي.
وقبل أن ينطقا بشيء آخر قطع حديثهما رنين هاتفها فأشارت الى حقيبتها وهي تخاطبه:
- معلش يا سولي خرج الموبايل من شنطتي وقولي مين اللي بيتصل.
نفذ ما قالته له وأخذ الحقيبة وقام بإخراج الهاتف منها ونظر به ثم قال:
- دي طنط صفاء يا مامي.
أماءت له ووضعت سماعة الهاتف في أذنها حتى تستطيع التحدث معها أثناء قيادتها للسيارة لتستمع الى صوت صديقتها فور الإجابة على الهاتف:
- دودو، طمنيني عليكي وعلى سولي، عملتوا إيه في الجلسة؟ وخلصتوا ولا لسة؟
امتنت لحصولها على صديقة مثلها وأجابتها بهدوء وابتسامة:
- الحمد لله يا صافي كله تمام خلصنا الجلسة خلاص ومروحين في الطريق أهه.
- طب كويس الحمد لله، والجلسة كانت كويسة أهم حاجة؟ والدكتورة شاطرة ولا إيه؟
- هي شاطرة بصراحة مع إني اول ما شوفتها اتخضيت لما لقيتها لسة صغيرة وشكلها كده أصغر مني كمان بس لما اتكلمت معاها ارتحت وحسيت أنها فاهمة في شغلها كويس وسليم كمان انبسط جدا وعايز يروح تاني.
قالت جملتها الأخيرة وهي تنظر لطفلها نظرات مليئة بالحب كما قامت بمداعبته عبر تخليل شعره كما اعتادت ليبتسم لها ببراءة.
- طب قالتلك إيه طمنيني؟
زفرة طويلة وصمتت لثواني قبل أن تجيبها وكأنها تستجمع حديث الطبيبة في ذهنها مرة أخرى:
- والله يا صافي أنا اتكلمت معاها بصراحة وحكيتلها على كل الظروف وهي شايفة إن لازم يكون فيه أكتر من جلسة وكمان طلبت تشوف أيسل عشان هي شاكة إنها ممكن تكون اتأثرت نفسيًا هي كمان.
استمعت إلى تنهيدة صديقتها وهي تعقب على حديثها:
- وناوية على إيه؟
تحدثت بقلة حيلة:
- ولا حاجة هسمع كلامها طبعًا مفيش قدامي حل تاني، أنا مش مستعدة أخسر حد من الولاد دول هما اللي طلعت بيهم من الدنيا.
- معاكي حق وكل مشكلة بتتلحق في الأول بتتحل أسهل من لما نسيبها تكبر لحد ما يبقى مالهاش حل وان شاء الله الدكتورة دي تقدر تساعد الولاد ويبقوا كويسين وزي الفل.
وهنا كانت قد وصلت لبيت والدتها فصفت السيارة في مكانها وهي تنهي المكالمة مع صديقتها:
- يارب يا صافي يارب دعواتك، معلش هقفل معاكي دلوقتي عشان وصلت عند ماما.
- ماشي يا حبيبتي ولا يهمك سلام.
- سلام
قالت ذلك وهي تغلق الخط وتهبط هي وطفلها من السيارة لتصعد لشقة والدتها.
❈-❈-❈
وصل إلى الفندق ودخل مكتبه فوجد مروان يجلس خلف المكتب يصب كامل تركيزه على هذه الأوراق التي أمامه لدرجة أنه لم ينتبه لدخوله فحمحم ليحصل على انتباهه وهو ما حدث بالفعل فرفع رأسه ونظر إليه وهو عاقدًا حاجبيه وحدثه متسائلًا:
- ها سافروا؟
اكتفى بإماءة من رأسه تخبره بأنهم قد غادروا بالفعل ليزفر براحة وهو يقوم من مقعده ويذهب ليقف أمامه:
- أوف أخيرًا.
ضيق ما بين حاجبيه وتصنع الغضب فهو سعيد أكثر منهم برحيلهم ولكنه لن يعترف بذلك:
- أفهم من كدا انك فرحان إنهم مشيوا؟
رفع إحدى حاجبيه وهو ينظر إليه نظرة يخبره بها بأنه أكثر من يعرفه:
- على أساس ان انت نفسك مش طاير من الفرحة؟ مش عليا أنا الكلام ده دنا حافظك صم.
تنهد بقوة وهو ينظر بعيدًا عنه:
- لو كان على بابا وماما مكونتش سيبتهم يمشوا بس ست زفت دي جابت آخرها معايا بجد مكونتش هستحملها أكتر من كدا.
عند هنا ودخل مروان في نوبة ضحك عندما تذكر أفعالها معه طول مدة مكوثها هنا ولم يستطع التوقف حتى عندما وجد نظرات يونس تحتد وبدأت ملامح الغضب تتضح على وجهه فأشار له بيديه كعلامة استسلام وتحدث من بين ضحكاته:
- بس بجد كانت فظيعة لازقة بطريقة مش معقولة دي كانت الناس كلها بتتفرج عليكم وهي متشعلقة في رقبتك ومقولكش بقى على اللي شغالين في الأوتيل واللي مكانوش بيبطلوا كلام عليكم.
اشتعل بالغضب عند سماعه لتلك الكلمات فعقب بصوت مرتفع نسبيًا:
- انا مش فاهم ايه اللي يضحك في اللي بتقوله ده يعني كان عاجبك شكلنا الهباب قدامهم وقدام النزلا؟
حاول أن يخفف من حدة ضحكاته قليلًا وتحدث ولازال صوته يحمل آثارها:
- بصراحة الموضوع مضحك جدا بالنسبالي وخصوصا وانا شايف الموظفين اللي كانوا بيترعبوا منك وهما كاتمين ضحكهم بالعافية وهما شايفينكم قدامهم، وبعدين نزلا إيه اللي خايف على شكلك قدامهم انت عارف كويس ان معظمهم أجانب وعادي عندهم الحاجات دي.
لم يستطع تمالك نفسه وعادت إليه نوبة الضحك من جديد وهو يقول:
- هو اللي كان يضحك بجد شكل اللي اسمها عهد دي وهي مصدومة يا عيني لما شافتكم مع بعض أول مرة مش قادر أوصف لك كانت عاملة إزاي مبرقة ووشها أحمر زي ما تكون شافت مشهد خارج تحس كده يا عيني إن جاتلها صدمة من هول الموقف مع إني كنت متصور إنها متعودة على كده بحكم اختلاطها بالأجانب طول الوقت في شغلها.
سيطر عليه الوجوم ولا يعرف لما غضب بشدة من حديث صديقه خاصة فيما يخص عهد فحاول تغيير الموضوع:
- المهم سيبك من تفاهتك دي وقولي الشغل أخباره إيه؟
استجاب لمحاولة صديقه بسهولة وأجابه:
- كله تمام والأوتيل محجوز بالكامل ل ٦ شهور قدام خصوصًا بعد افتتاح طريق الكباش والمؤتمرات اللي اتعملت في الأقصر الأيام اللي فاتت لتنشيط السياحة.
تنهد براحة وابتسامة رضا ارتسمت على وجهه وحدثه وهو يقوم بفك أزرار حلته ويجلس على المقعد المقابل للمكتب:
- وأخبار عهد إيه؟ مردتش عليك في الكلام اللي قولتوهولها آخر مرة.
نفى برأسه وهو يجلس في المقعد الذي أمامه:
- أبدًا، متكلمتش بس طالما سكتت وبتروح الجلسات بانتظام بيتهيألي يبقى كده خلاص لو كانت عايزة تعمل حاجة كانت عملتها من يومها.
أماء برأسه موافقًا إياه وقام بإخراج علبة التبغ من جيب سترته وأخرج منها واحدة وقام بإشعالها وأخذ بعض الأنفاس منها قبل أن يكمل حديثه:
- انا متابع مع الدكتور بيديني تقرير بحالتها باستمرار وهو شايف ان فيه تحسن مش كبير أوي بس فيه أمل تمشي على رجليها في خلال شهرين بالكتير.
غضب كثيرًا من إفراطه في التدخين الذي لاحظه منذ مجيئه فتحدث باهتمام:
- مش ملاحظ انك بقيت بتدخن كتير جدًا الأيام اللي فاتت ودا غلط على صحتك انت مكونتش كدا أبدا إيه اللي حصلك؟
نظر إلى لفافة التبغ التي بيده واستنشق آخر ما بها من أنفاس ثم قام بإطفائها في المنفضة التي أمامه على الطاولة وتحدث بلامبالاة:
- عادي يا مروان أهي اي حاجة الواحد يطلع فيها عصبيته وخلاص.
غضب كثيرا مما تفوه به ليعقب بحدة:
- يعني إيه أي حاجة؟ لا طبعا اللي بتعمله ده غلط ولازم تقلل منها على قد ما تقدر.
تحدث منهيًا النقاش في ذلك الأمر فهو يعلم تمام العلم أن صديقه على حق ولكنه يأبى الاعتراف بذلك:
- ماشي، ماشي ربنا يسهل، قوم بينا نخلص شغلنا ولا هنفضل نتكلم في تفاهات طول اليوم.
لم يعطيه فرصة للرد وقام ليجلس خلف مكتبه وادعى انشغاله في الأوراق الاي أمامه ليحرك الآخر رأسه بقلة حيلة وقام لينهي عمله هو الآخر.
❈-❈-❈
التاسعة مساءً من نفس اليوم
يجلس في نفس المكان المكان الذي اعتادا أن يتقابلا به وينظر في ساعته بضجر من آن لآخر فلقد تأخرت ما يقرب من نصف ساعة.
تأفف وكاد أن يغادر ولكنه وجدها قادمة نحوه وعلى وجهها نظرة تخبره بمدى عشقها له.
قامت بمصافحته فلم يترك يدها وظل ينظر إليها بوله ليحمر وجهها خجلًا وجلست أمامه ولازالت يدها بين يداه فتحدثت بخجل وهي تنظر أرضًا:
- معلش اتأخرت عليك بس غصب عني والله كان عندي شغل كتير ومقدرتش أمشي الا لما أخلصه.
قام بوضع يده أسفل ذقنها ليجعلها تنظر إليه وعقب وهو ينظر إليها نفس النظرات التي تخجلها بشدة وظلت أصابع يده الأخرى تدا عب خاصتها:
- ولا يهمك يا حبيبتي انا بس قلقت عليكي وكنت هقوم أكلمك برا لأن ال signal هنا مش أحسن حاجة.
ابتسمت بخجل وحاولت ان تهرب بعينيها منه ولكنه أبى ذلك وظل ممسكًا بذقنها:
- مش أنا قولتلك بلاش كسوف؟ وإني مبحبش البنت اللي ببتكسف.
حركت رأسها لأعلى ولأسفل فأكمل بخبث:
- أومال ليه بتتعمدي تزعليني؟
تفاجأت مما تفوه به فنفت ذلك برأسها وأجابته على الفور:
- أنا؟ أنا مقدرش أزعلك، انت عارف كويس انت بقيت إيه بالنسبالي.
ابتسامة خبيثة ارتسمت على وجهه رأتها هي بعقلها المضلل الذي لا يرا سوى ما يخيل إليه أنها ابتسامة عشق مستغلًا سذاجتها وقلة خبرتها:
- لا معرفش، قوليلي انتي انا بالنسبالك إيه.
لم تستطع النطق وأبعدت رأسها عن يده ونظرت للأسفل مرة أخرى فقرر أن يزيد من جرعة المغازلة قليلًا فزفر بحرقة وتحدث بنبرة تغلب عليها الشوق:
- انتي مش متخيلة يا وعد أنا عايش إزاي من غيرك الوحدة صعبة أوي أول ما بببقى لواحدي كل الذكريات الوحشة بتتعرض قدامي زي شريط السينما ومبخرجش من الحالة دي إلا لما بتيجي صورتك قدامي ساعتها بس بحس إن لسة فيه أمل ممكن أعيش عشانه أنا حقيقي مش عارف لو مكونتش عرفتك كنت هكمل حياتي إزاي أكيد كنت هنــ تحر من زمان.
تملكها الفزع عندما نطق بذلك فوضعت يدها بتلقائية على فمه وتحدثت بخوف:
- أوعى تقول كدا تاني، بعد الشر عليك.
أمسك بيدها الموضوعة على فمه وأخذ يوزع قبلات رقيقة على أصابعها الواحد تلو الآخر ثم انتقل لباطن كفها ليقبله ببطئ شديد لتجد القشعريرة تسري في جسدها وعلى طول عمودها الفقري فأغمصت عينيها لتنعم بتلك اللحظة فاتسعت ابتسامته الخبيثة عندما رآها هكذا وتحدث بصوت منخفض مليء بالرغبة:
- تعرفي إن كل يوم وأنا نايم بحلم بيكي معايا وفي حضني ولما بصحى بحس بإحباط انه كان حلم مش حقيقة، امتى يجي اليوم اللي يتقفل علينا باب واحد وتبقي معايا علطول.
لم تفتح عينيها فنظر إليها باستمتاع لتلك الحالة التي وصلت إليها ببضع كلمات منه لا أكثر فأردف مكملًا حديثه:
- ساكتة ليه ؟ مش انتي كمان نفسك اليوم ده يجي بسرعة.
لم تنطق واكتفت بهمهمات خافتة تخرج من فمها فاتسعت ابتسامته ف فيما يبدو أنه سيصل إلى هدفه أسرع مما كان يعتقد ولكنه سرعان ما أخفى ابتسامته وقرر الطرق على الحديد وهو ساخن فتحدث قائلًا:
- افتحي عنيكي وبصيلي.
وعندما فتحت عيناها أردف بنبرة هائمة:
- مش بتردي عليا ليه؟
تحدثت بصوت متقطع من فرط المشاعر التي جعلها تغرق بها:
- عايزني أرد أقول إيه؟
- تقولي اللي حاسة بيه من غير كسوف.
لم تستطع النظر في عيناه وعقبت بخجل:
- أنا كمان نفسي يجي اليوم ده.
- طب والحل؟ هنفضل كدا لحد امتى؟
حدقت به بغير فهم وضيقت عيناها وسألته قائلة:
- تقصد إيه؟
تحدث بنفاذ صبر ليخرجها بلحظة من حالة الهيام التي كانت تعيشها:
- أقصد هنفضل بعاد عن بعض لحد امتى انا مش قادر استحمل أكتر من كدا.
أحست بانزعاج طفيف من حديثه فماذا يمكنها أن تفعل حيال ذلك ولما يلقي عليها اللوم فتحدثت بقليل من الانفعال:
- طب أنا في إيدي إيه أعمله؟ هو انا اللي هاجي أطلب إيدك من أهلك؟ حل الموضوع كله في إيدك انت مش أنا.
- أنا كمان مفيش في أيدي حاجة أعملها أنا اللي معطلني الحالة اللي فيها أختك مهو مش معقول آجي اطلب إيدك من والدك وهي في الحالة دي أكيد مش هيوافق وانتي عارفة كويس اني جاهز يعني يوم ما هاجي أطلبك هما كام اسبوع ونتجوز علطول فمش من الطبيعي اننا نتجوز من غير هي ما تحضر أكيد هتزعل منك صح ولا إيه؟
في لحظة استطاع أن يقلب عليها الطاولة ويشعرها بأنها هي السبب في تأجيل زواجهما وأنه من يعاني بدونها فأماءت برأسها وهي تعقب على كلماته:
- صح عندك حق بس بابا مش هيمانع ولا حاجة دا ما هيصدق طالما مش هيدفع حاجة.
قالتها متهكمة ليسقط قلبه بين قدميه خشية أن تقول له أنه يمكنه التقدم لخطبتها الآن ولكنه تنفس الصعداء عندما وجدها تكمل:
- لكن انا وماما اللي لا يمكن نوافق نعمل حاجة زي دي من غير عهد.
قالت ذلك والتمعت الدموع بمقلتيها وهي تنظر له وتكمل:
- أصلك مش عارف عهد دي بالنسبالنا إيه مستحيل طبعا اتخطب من غيرها.
مد يده يدا عب خدها وهو يتحدث بنبرة تقطر عشقًا:
- شوفتي بقى ان مش انا السبب أنا لو بإيدي كنت خدتك دلوقتي حالًا على أقرب مأذون ومنه على بيتي ومخرجكيش من البيت أبدا بس هنقول ايه الظروف هي اللي عملت فينا كدا.
أمالت رأسها على يده إثر تحرك يده الخبيرة بحركات بطيئة لتدا عب أصابعه وجهها ورقبتها، لتشعر بالرغبة تشتعل في أوردتها مرة أخرى وتحدثت بصوت يكاد يكون مسموع:
- على العموم هانت كلها شهرين بالكتير وعهد ترجع وساعتها نقدر نتجوز.
- ياااه شهرين بحالهم وتفتكري هقدر استحمل شهرين وانتي بعيد عن حضني؟
- هنعمل ايه بس مفيش قدامنا حل تاني.
هاهو اقترب من أن يصل لهدفه فعقب بابتسامة لم تصل لعينيه:
- كل شيء وليه حل عندي متقلقيش.
لم تفهم جملته الأخيرة ولكنها لم تقف عندها كثيرًا فلقد كانت غارفة في بحر من المشاعر الزائفة الذي لا شط له لكي تصل لبر الأمان.
❈-❈-❈
حبيسة هي في تلك الغرفة لما يقرب الشهر لا تستطيع مغادرتها حتى الشرفة ممنوع عليها أن تقف بها، فبتلك الطريقة هي في طريقها لأن تفقد عقلها لا محالة لا تمتلك سوى البكاء ليلًا ونهارًا حتى ذبلت عيناها وضعف جسدها نظرًا لامتناعها عن تناول الطعام فلا تتناول سوى بضع لقيمات بسيطة طوال اليوم لتعود الوصيفات بالطعام كما هو شاعرين بالأسى على سيدتهم الصغيرة.
دخلت عليها ماكنيا بالطعام تحاول اقناعها أن تأكل لتجدها تبكي كعادتها ليعتصر قلبها حزنًا عليها فحاولت أن تواسيها لتكف عن البقاء فاقتربت منها بحذر وجلست أرضًا بجوار الفراش وأخذت تربت على ظهرها وتمسح على رأسها وهي تقول:
- مولاتي الجميلة كفي عن البكاء رجاءً فلقد ذبلت عيناكِ الجميلتين وأصبتِ بالهزال.
لم تستجب لها وظلت تبكي كما هي فاستأنفت حديثها علها تنجح هذه المرة:
- ما تفعلينه هذا لن يجدي نفعًا ولن تربحين منه شيء فمولاي الملك لن يعود في قراره هذا فرجاءً كفي عن البكاء وتناولي طعامك.
لم تكف عن البكاء بل على العكس من ذلك فلقد زاد بكاءها الى أن بدأ جسدها يهتز بعنف من كثرة البكاء وتحدثت من بين بكائها دون أن تنظر إليها.
- أخرجي الآن ماكنيا أنا أريد أن أبقى بمفردي.
أحست بالحزن الشديد لما تعانية صغيرتها ولكنها لم تستطع فعل شيء سوى تنفيذ الأوامر فتركت الطعام على الطاولة الموجودة في منتصف الغرفة وخرجت مغلقة الباب خلفها.
أما هي فظلت تبكي وتبكي دون توقف إلى أن شعرت بيد تربت على ظهرها بحنان فصرخت غاضبة دون أن تنظر لصاحب هذه اليد لظنها بأنها ماكنيا وأنها قد عادت مرة أخرى:
- ألم آمركِ أن تتركيني بمفردي، وأنني لا أريد أن أرى أحدًا.
لم تتلقى ردا لبضع لحظات إلى أن استمعت الى الصوت الأقرب الى قلبها وهو صوت مالك فؤادها وهو يقول:
- حتى أنا أيضًا لا تريدين رؤيتي مولاتي.
يتبع