-->

رواية كما يحلو لها بتول طه - الفصل الثالث عشر النسخة العامية

 رواية كما يحلو لها

الجزء الثالث من رواية كما يحلو لي بقلم بتول طه

 


رواية كما يحلو لها

الفصل الثالث عشر

النسخة العامية


لقلب انعزل برفقة وصبهِ وآلام الشوق لم ير سوى الخلاص لمشقة عام كامل بأعين يقطر منها الندم، ولقلب آخر أسره الهيام لم تتوقف نيرانه لتدوي ببركان يحرقه ليلًا نهارًا لا يخمد سوى بالموت بأعين يقطر منها لهيب الغضب لم تر سوى أن تتحرر من الجحيم التي لا تتوانى عن حرقها..

 

تبادل الأول عدة نظرات للثانية، في حالة من الثمالة التامة، وجرعات متوالية من الخمر، هيئت كلاهما لقول ما لم يستطع منهما قوله في بداية هذه الليلة التي لا تريد النهاية منذ أن التقت أعينهما!

 

بداخلها تريد أن تدفعه وتتخلص منه للأبد ولكن بنظراته تلك التي تعرفها وتحفظها عن ظهر القلب لا يسعها سوى التشاؤم مما سيحدث، وكونه على درجة قاسية من الثمالة أمر لا يبشر بالخير، ولخيبة أملها هي لا تختلف عنه حالًا، هي نفسها بالكاد تستطيع الوقوف وكل شيء يدور حولها، تتشبث بقوة بجدران المصعد الداخلية لكي تستطيع أخذ عدة خطوات بعدها لغرفتها، ليتها لم تثمل، وليتها لم تر وجهه اليوم!

 

-       هاعملك كل اللي انتي عايزاه بس متبعديش عني.. أنا عارف إننا اتطلقنا بس بلاش النهاردة تبعدي عني!

 

تلك الرائحة المُفعمة بالكحول، نفس النبرة التي كانت تؤثر بها في الماضي، لماذا كل شيء معه يتكرر؟ لماذا عليها أن تعيش كل شيء معه من جديد؟ أليس لها الحُرية ولو مرة وحيدة معه في أن تبتعد وتنجح في هذا القرار اللعين؟ لن يحدث، لن يستطيع التلاعب بها بعد الآن.. لقد بكى مرات ومرات أخرى عاهدها على الكثير، ثم في النهاية ليس هناك تقدم ويذهلها بجنونه الذي يتعدى ويتخطى كل الحدود!

 

أومأت له بالنفي، لا تعرف إن كانت تلهث من توعك الخمر، أم تلهث خوفًا منه ومن اقترابه، أم أنها أوشكت على فقد وعيها، أم ربما تُعاني من بداية أو ربما توالي لنوبة قلقها السابقة، لا تعرف، لا تدري ما الذي يحدث لها تحديدًا وخصوصًا وهي غير واعية..

 

-       لو مبعدتش أنا هندهلك الأمن.. امشي وسيبني أخرج!

 

قالتها بتحذير وهي تحاول ألا تنظر بوجهه وازداد تشبثها بتلك الجدران لدعم وزنها بينما رد مباشرة دون أخذ الوقت للتفكير:

-       مش مهم، نقعد والأمن بتاعك معانا، نقعد في الأوضة عندك، نقعد في أي حتة بس خليكي معايا.. بُصيلي.. أنا عارف إني سكران، مش هاعمل حاجة وأنا سكران.. مش فاكرة أبدًا لما كنت بسكر ببقا عامل ازاي!

 

رفعت عينيها نحوه والغيظ ينجرف من عسليتيها الثملتين وكل ما تتذكره عنه في هذه الحالة هو وقت اغـ تصا به لها مرارًا وتكرارًا دون الاكتراث لما تشعر به وعند رؤيته ملامحها التي تزداد غضبًا وفزعًا على حد سواء حاول أن ينفي كل ما تراه الآن عنه وتتخيل أنه سيحدث:

-       أنا مكونتش عارف أنا بعمل ايه، أنا بعد الفترة دي نسيت كل حاجة.. صدقيني لغاية النهاردة معرفش عملت كده ازاي، أنا راجعت كل كاميرا في البيت، كل حاجة كانت موجودة قدامي كنت مستغرب منها، عمر ما حصل كده غير معاكي!

 

لم تفهم ما الذي يعنيه، كلماته كانت مشوشة في عقلها الذي بات مهيئ بشكل تلقائي على عدم الاستجابة لأي من ترهاته وخصوصًا تلك الكلمات التي يستطيع التلاعب بها لتجده يتحدث بنبرة لم تكن واضحة بالنسبة لها:

-       أنا، أنا روحت لمريم، مريم تعرف كل حاجة، انتِ كنتِ بتقوليلها كل حاجة، قالتلي إن الفترة دي اللي نسيت فيها كل اللي حصل إني مكونتش واعي، بتقول إن أكيد حاجة حصلت قبلها وصلتني لده، مفيش حاجة حصلت غير إنك كنتِ عايزة تبعدي عني، ليه كنتِ عايزة تسيبيني؟

 

لحظة واحدة، ما الذي يتفوه به؟ هي ثملة وليست مجنونة، الكحول قد يصنع الكثير مما لا يتناسب مع قرارات المرء الواعية ولكنها لا تغير الشعور والاحساس الحقيقي تجاه شخص، هل حقًا بعد كل ما فعله يرى أنه لديه الحق بالتحدث لها من جديد بل ويطالب بتواجدها معه ويُفسر تصرفاته، والآن بعد معاناة معه يأتي نادمًا ويتحدث عن معالجته، هذا الرجل ليس مُضطرب وحسب، هو مجنون حقيقي لو يُصور له عقله أنها ستستجيب لهذه الكلمات، لحظة أخرى، ما الذي عليها قوله؟ إلى متى سينعقد لسانها أمامه؟ وكيف لها الفرار من تأثيره الذي يسيطر عليها بالكامل كلما رأته؟ لماذا تبكي؟ هي تكره هذا الضعف الذي لطالما احتواها كلما واجهته!!

 

-         ماليش دعوة، ابعد بقا!

 

لا تعرف ما هذا الهراء الذي قالته، هي تريده أن يبتعد ووقتها كل شيء سيكون بخير، يقينها بأن مواجهته ستكون أصعب ما يحدث لها بات حقيقة وواقع تتقاسمه الآن مع عقلها نصف الواعي أو الثمل على التحديد، واقترابه الذي بات لا تتحمله يحدث بالفعل، لماذا لا يتوقف عن كل هذا؟

 

-       متعيطيش طيب، أنا هاعملك كل اللي انتي عايزاه، بس خليني أتكلم معاكي مرة واحدة، تحبي نروح الأوضة بتاعتك ونخلي الباب مفتوح؟

 

أطلقت صياح مكتوم بالتذمر عندما لامست انامله وجنتيها وهو يجفف دموعها فرفعت عينيها ونظرت له لتجده يبكي هو الآخر فهزت رأسها بالنفي ليتفقدها بغير وعي وهو ينظر لتلك الأعين التي اشتاق لها حد الجحيم لتتوسع عينيه ثم سألها:

-       عايزة ايه طيب؟ عايزة تشربي تاني؟

 

ناولها الزجاجة التي يمسك بها لتتناولها بشكل تلقائي واحتست منها وشعرت أنها قاربت على الاغماء بينما شعرت أنه يُمـ ـسك بذرا عيها أو لا، لا تستطيع التميز جيدًا بينما استمعت له يقول:

-       خليني أتكلم معاكي، أنا مش عارف أتكلم مع أي حد، حتى مريم.. أرجوكِ المرادي بس!

 

هزت رأسها بالإنكار وحاولت التوجه للوحة ازرار المصعد لتقوم بوضع أناملها على زر فتح الباب، لابد من أن المصعد قد توقف بعد كل هذا الوقت، لا تستطيع أن تتواجد معه لأكثر من هذا!

 

بمجرد تباعد الباب وكادت أن تذهب ولكنها وجدت ما يمنعها فأطلقت صوت متذمر وهي تهمس بغير وعي:

-       سيبني بقا، كفاية كده النهاردة!

 

لم يختلف حاله عنها في شيء ولكنه ان يشعر بالضيق والغضب لتركها إياه فقبض على يـ ـدها بقوة لكي يمنعها جا ذبًا إياها لكي تتقهقر للخلف وقال مُهددًا دون وعي منه:

-       لو خرجتي مش هالغي التوكيل، مش هاروح معاكي الصبح، وهاروح الشركة وهبوظلك كل حاجة، خليكي معايا النهاردة، أرجوكِ احنا بقالنا كتير بعيد عن بعض وعملتلك كل اللي انتِ عايزاه.. اسمعيني شوية وبعدين سيبيني امشي!

 

لقد اكتفت من هذا البًكاء الذي ينتابها، ولقد اكتفت من السماع له، وكراهيتها لهذا الجـ ـسد الذي لا يستجيب لها وشعرت بدوار شديد يؤثر عليها ورغبة مُلحة في التقيؤ!! 

❈-❈-❈

هذا الشيء اللعين، من الذي يُريدها في هذا الوقت من الصباح، أليس هذا الوقت المناسب للنوم بعد يوم طويل؟

 

جذبت هاتفها لتتفقد من المتصل لتجد اسمه يظهر على شاشة الهاتف فقامت بإغلاق عينيها واجابت مباشرة دون التحرك من على فراشها:

-       نعم يا يونس!

 

استمع لنبرتها الناعسة فابتسم ثم رد قائلًا:

-       انتي نمتي النهاردة، جالك قلب تنامي ازاي؟

 

أطلقت زفرة متذمرة وهي لا تريد أن تستيقظ من نومها لأي سبب من الأسباب لتقول بتثاؤب:

-       هو فيه حاجة مهمة مصحيني عشانها!

 

تريث لبُرهة قبل أن يجيبها ثم تكلم بنبرة يبدو عليها السعادة:

-       آه طبعًا فيه، بقيتي خطيبتي وكده بقا فيه ارتباط رسمي زي ما أنتِ عايزة، يعني مش كل ما اجي اشوفك هتعملي حوار..

 

همهمت بنعاس ثم قالت قبل أن تُنهي الاتصال:

-       التفاهة دي أنا مش فاضيالها وعايزة انام!

 

تركت الهاتف ليسقط من يدها دون أن تنتبه لما تفعله واستسلمت للنوم من جديد بينما الآخر لم يتقبل هذا الجفاء منها فعاود الاتصال بها لتزفر بضيق وهي تجيبه مرة ثانية ونهضت لتجلس بفراشها وهي تفرك وجهها وحدثته بتأفف:

-       أنت عايز ايه الساعة أربعة الفجر والمفروض الناس نايمة دلوقتي..

 

استمعت لرده المباشر الذي آتى دون تفكير:

-       عايز أتكلم معاكي، عايز أحس إنك مبسوطة وفرحانة زيي!

 

غمغمت بنفاذ صبر:

-       لا حول ولا قوة إلا بالله!!

 

رفعت خصلات شعرها الأسود الفحمي تبعدها عن وجهها وبدأ النعاس في التهرب منها لتحدثه بجفاء:

-       هو أنا مش كانت خطوبتي النهاردة ولبست فستان وكنت بضحك وبقول للناس الله يبارك فيكم، أعمل ايه تاني عشان تعرف إني مبسوطة.. وبعدين حتى لو مخطوبين ده ميدلكش الحق تكلمني كل شوية وتصحيني من النوم ساعة الفجر! اه فيه ارتباط رسمي قدام كل الناس بس مش مراتك عشان اقعد ارغي معاك في حاجات تافهة!

 

أغمض عينيه وهو يهز رأسه بآسف وقلة حيلة أمام صلابة رأسها التي لم يعد يتوقع سواها ليُعقب باستياء ونبرة مُشبعة باليأس الذي نقل تمامًا ما بات يشعر به مؤخرًا:

-       هو أنا ليه كل ما باخد خطوة ناحيتك أو اجي أقرب منك بمجرد كلام بتصديني، محتاجة تتأكدي بإيه تاني إني جد ومش بهزر ومش مجرد شهر واتنين وهنساكي، هو المفروض كمان اقولك قوليلي كلمة حلوة أو اضحكيلي أو حسسيني إنك حاسة بمشاعر ليا، لغاية امتى هتفضلي كده.. احنا لسه راجعين من خطوبتنا من ساعتين تلاتة وانتي حتى مش فارق معاكي إنك تقوليلي كلمة واحدة ولا حتى مثلًا تكمليني إنك روحتي ولا نمتي ولا هنعمل ايه بعد كده في حياتنا.. ليه دايمًا الموضوع معاكي معقد وصعب كأنك مجبورة على كل اللي بيحصل ده، بجد مبقاش فيه حاجة تانية في ايدي اكتر من كل اللي عملته يثبتلك إني بحبك ونفسي أحس من ناحيتك إنك بتحبيني.. إنما انتي بتتعاملي كأننا داخلين خناقة ولازم تطلعي انتي الصح واللي تقوليه يمشي ولازم أوافق عليه ومش مهم بقا أنا عايز إيه أو حاسس بإيه!

 

سكتت عن الكلام وهي تكظم غيظها وزفرت بضيق من كلماته، بالطبع هي ليس كل ما يقوله بكل هذه السهولة المطلقة وكأنها هي الأخرى لم ترتعد خوفًا بالأيام الماضية منذ معرفة أخوتها بعلاقتهما ونهاية بهذا الجدار الصعب من رفض والدها إلى حفل الخطبة الذي إلى الآن تظن أنه حلم ما ولا تدري كيف تحقق في الواقع لترتبك وهي لا تدري كيف عليها أن تُجيبه كما أنها لا تريد افتعال أي مُشكلة مع والدها بشأنه ولا تريد أن يعثر عليها وهي تتحدث له في الرابعة فجرًا ليأتي صوته بمزيد من اليأس المصاحب لانزعاجه بعد فترة من الصمت دامت للحظات:

-       بصي، أنا عملت كل اللي أقدر عليه معاكي، لو بعد كل ده مش حاسة من ناحيتي بأي مشاعر ممكن ننفصل خالص، ومتقلقيش، مش هطلعك غلطانة قدام حد وهاقول إن أنا السبب!

 

مجرد الفكرة وحدها أصابتها بالخوف لتقول مباشرة دون تفكير منها بنفس طريقتها الهجومية:

-       أكيد طبعًا لأ، ننفصل إيه بس!

 

رد معقبًا ولم يترك لها المساحة بنفس إلحاحه المعهود منه وسألها:

-       امال فيه ايه؟ ليه دايمًا أنا اللي أتكلم وأنا اللي أحاول أقرب، وأنا الوحيد في كل اللي ما بينا ده اللي باين عليه إنه عايز التاني، أنتِ كل اللي بتعمليه مش بيخليني أشوف غير إن وجودي عادي بالنسبالك، سألت زي مسألتش، اغيب بالشهر عنك ولا بيفرق معاكي اكلم اخواتك زي ما اكلمهومش، اجي أتقدم في البيت ولا فرق معاكي و..

-       يونس، أرجوك ثواني!

 

قاطعته قبل أن يبالغ بالمزيد من الكلمات ثم ذهبت لتقترب من باب غُرفتها وأخبرته:

-       ممكن بس اعمل نسكافيه عشان افوق ولو لسه صاحي ممكن تستناني؟

 

هل تطالبه بالمزيد من الانتظار؟ لقد انتظر أكثر من عام بأكمله من أجل هذه اللحظة التي أخيرًا تمنى أنها ستتحقق، ما الضرر من انتظار القليل من الدقائق بعد؟

 

تنهد وهو لا يدري هل تتهرب منه من جديد أم لا ولكن قد طفح به الكيل منها ليقول:

-       ماشي، هكلمك كمان ربع ساعة!

 

أنهى المكالمة دون أي وداع منه لتتنهد هي وبداخلها تعرف وتتأكد من صعوبة الأمر عليها، عاجلًا أم آجلًا عليها أن توضح له الكثير، وهو ليس الرجل الصبور، وبالطبع ليس رجل هادئ، ربما هذه المرة عليها أن تصارحه بهدوء بكثير مما تحمله، لعله يتفهم، ولعله يُدرك لماذا لا تريد الاستعجال، كما عليها توضيح عدة أمور له لو كان يُريدها أن تُصبح زوجته يومًا ما..

 

مشت وهي تتفقد الغرف وقبضت على هاتفها فوجدت والدتها نائمة بفراشها، وبالقرب من غرفة "عُدي" كان صوته يتردد في حنجرته مما أكد لها أنه ذهب في ثُبات بالفعل.. جيد، أين والدها الآن؟!

 

لو سألها ستبرر أنها استيقظت من أجل المذاكرة وصلاة الفجر، وتتمنى بداخلها أنه لن يمر بالقرب من غرفتها وإلا ليس لديها الطاقة لمواجهة المزيد من موانعه وتحكمه المبالغ به من أجل التحدث لخطيبها بوقت كهذا..

 

اقتربت قليلًا من مكتبه لتستمع له يتحدث في الهاتف لتجد الكلمات تنساب لأذنيها دون إرادة منها:

-       بيعملوا إيه لغاية وقت زي ده؟ هي بايتة في الاوتيل؟!

 

استغربت قليلًا مما استمعت له وهي تغادر في اتجاه المطبخ استمعت له مرة أخرى يسأل من يتحدث له:

-       وعمر طلع معاها؟

 

وجود اسم "عمر" في جملة مفيدة أو سؤال عابر، في الحالتين لا يبشر بوجود خير على الاطلاق، ليس لها شأن بذلك، يكفي أن ليلة أمس مرت على خير دون أن يفسد أيًا منهما خطبتها وإلا كانت اكتسبت ذكرى سيئة أخرى وهي في غنى عن ذلك..

 

مرت عدة دقائق إلى أن صنعت بعض القهوة باللبن وهي تُفكر كيف لها أن تتحدث له بالهاتف في وقت كهذا وبوجود والدها، ربما عليها أن تكتفي بأن ترسل له برسالة وتُخبره أنهما سيُكملان حديثهما غدًا ولكن تذكرها لنبرته المنزعجة وما قاله عن انفصالهما جعلها تتوتر بخصوص صده من جديد ليهتز كتفيها فجأة عندما استمعت لصوت والدها:

-       ايه اللي مصحيكي دلوقتي؟

 

الفتت له وحدثته بنبرة منخفضة واجابته قورًا:

-       صحيت عشان صلاة الفجر قربت وعندنا بحث مهم عليه درجات فقولت اشتغل فيه من بدري عشان متأخرش عن معاد التسليم..

 

رمقها بتفحص ثم سألها وهو يُضيق عينيه نحوها وكرر تساؤله:

-       بحث في مادة ايه؟

 

رطبت شفتيها فهي بالفعل لا تكذب في الأمر وهذا البحث جميع الفرقة الرابعة مُطالبة بتسليمه قبل بداية الفصل الدراسي الثاني ولكن مجرد وجوده يخيفها فأجابته بالتفاصيل كاملة لعلها تنتهي من الأمر:

-       طب شرعي وسموم، الدكتور قالتلنا نجمع البحث ونقدمه قبل ما الترم يبدأ والبحث كبير فلازم ابتدي فيه من دلوقتي عشان الجزء الأول عليا وبعد كده الجروب بتاعي هيكمل بعد مني..

 

هز رأسه لها ولكنه لم يقتنع بالكامل ثم فجأة غير موضوع الحديث تمامًا:

-       اسمعي، الواد اللي انتي اتخطبتيله ده مالكيش خروج معاه، وميجيش البيت غير في وجودي أنا أو عمر، واياكي الاقيكي بتكلميه من ورانا، فاهمة ولا لأ؟

 

هزت رأسها بالقبول له ثم اجابته بارتباك:

-       حاضر يا بابا!

 

وكأنها تُحدثه من الأساس!! ربما المهرب الأقرب بات زواجها منه وليس مجرد الدراسة والفرار بعملها للخارج!

 

-       مفيش حاجة اسمها يوصلك ولا يشوفك برا، تروحي وتيجي مع السواق، وبكرة الصبح على مكتبي الاقي جدولك بختم الكلية، ولو عرفت إن ده حصل اعتبري الخطوبة دي كلها ولا حاجة وهرجعله شبكته ويغور في داهية!

 

هزت رأسها بالموافقة أمام نبرته التي لا تسبب لها سوى الفزع وقالت لتُنهي هذه المناقشة:

-       ماشي يا بابا اللي تشوفه..

 

رمقها من أعلى رأسها لأخمص قدمها ثم قال:

-       لما نشوف!

 

تركها وغادر لتدرك أن أنفاسها كانت مكتومة ثم فُزعت عندما أطلق جهاز التسخين الكهربائي صوت نهاية الوقت فتوجهت لتمسك بالكوب وغمغمت:

-       اعوذ بالله، ربنا يخلصني من العيشة المقرفة دي بقا!

 

اتجهت لتصعد للأعلى ولكنها استمعت لصوت اغلاق بوابة المنزل فتوجهت سريعًا للنافذة وتابعت الطريق لتجد بعد دقيقتان سيارة تتحرك وهو بداخلها لتتنهد في راحة من ذهابه وتأكدت حتى وجدته يغادر بوابة منزلهم الخارجية!

 

اتجهت لتصعد لغرفتها ثم امتدت أناملها لسماعة هاتفها اللاسلكية واكتفت بواحدة فقط وجلست مباشرةً أمام النافذة فهي لا تعرف متى قد يعود والدها وتأكدت أن الباب مُغلق ثم هاتفته هي بنفسها لتجده يقوم بالرد مباشرة فهمست له قبل أن يبادر هو بالكلام:

-       يونس ارجوك اديني فُرصة أتكلم ومتستعجلنيش في حاجة وهم يادوب كلمتين هقولهم وهنقفل على طول!

 

استغرب من تلك الهمهمة غير المفهومة التي استمع لها وقال بتلقائية:

-       انتي صوتك مش طالع، انتي بتقولي ايه مسمعتش!

 

تنهدت وهي تحاول أن تخفض من صوتها بالرغم من معرفتها أن والدها ليس بالمنزل وتحلت بالشجاعة لتقول بنبرة حادة:

-       بقولك اديني فرصة ومتستعجلش في الكلام ومش قدامي وقت للرغي!

 

قلب عينيه من لهجتها الآمرة وقال على مضض:

-       اتفضلي!

 

حاولت أن ترتب الكلمات بعقلها لتكون المرة الأولى والأخيرة التي تنطقها بها فهي ليست فخورة بما تعايشه في حياتها منذ أن أدركت أنها الفتاة الوحيدة تعيسة الحظ لـوالد كـ "يزيد الجندي" فتحدثت بصعوبة في البداية:

-       أنت بتقول إني مش حاسة بمشاعر من ناحيتك، بس الكلام ده غلط، أنا من يوم ما شوفتك صُدفة مع روان وأنا اتوترت وكنت خايفة لأن أول حاجة لفتت نظري ليك هي شكلك، ولما توترت وخُفت اوي لما عمر شافني معاك يومها، لأني أول ما لمحتك من بعيد لفت نظري بس بيني وبين نفسي أنا كنت متأكدة إن استحالة حد زيك ورجل أعمال ناجح وكمان أكبر مني ممكن يُعجب بيا.. ويوم لما بعتلي على الواتساب رقم الدكتور صاحبك مصدقتش إن اللي في الصورة ده قاعد قدامي وبيكلمني عادي، فاكر اليوم ده؟

 

صمت لبُرهة ليجيب تساؤلها الأخير بقليل من المرح:

-       آه فاكر، على أساس إن كنت أحد رقمك يعني واكلمك بس منفعش، كنتي بتقفليها في وشي!

 

زفرة حارة غادرت رئتيها واجلت حلقها ثم أخبرته بتردد:

-       اوعدني إن اللي هقولهولك ده مش هيؤثر علينا في أي حاجة قدام ولا هتقوله لحد ولا كمان هتكلمني فيه تاني لو سمحت!

 

استغرب من كلماتها ثم عقب بتلقائية متعجبًا:

-       وانا هقول لحد حاجة انتي بتقوليهالي ليه؟ وفيها إيه لما نتكلم في أي حاجة مع بعض؟

 

شعرت بالضيق من أسئلته فزجرته قائلة:

-       يعني هتخليني أندم إني بكلمك دلوقتي يعني؟

 

سرعان ما نهاها وهو يقول:

-       لا ابوس ايديكي أنا ما صدقت، بصي قولي كل حاجة واعتبري إنك بتكلمي مريض زهايمر!

 

ترددت لوهلة قبل النطق بهذا ولكنها تحلت بالشجاعة لعله ينتهي ولم تجد سوى المصداقية والشفافية تحول بينها وبينه، فهي لن تقبل رجل يُخفي عليها شيء هي الأخرى وليكون اختبار له على كل حال لترى كيف سيتصرف:

-       أنا عمر يومها لما ناداني وكنت طالعة متضايقة من عنده كان أول مرة في حياتي يضربني، ضربني بالقلم وقالي اروح ومكلمش روان تاني ولا اشوفها، كل اللي فهمته ساعتها إنه شاكك أكون بخرج أو بقابلك، أنت لفت نظري بس واحد زي عمر مش عارفني ولا فاهمني ومفكرش لثانية واحدة إني استحالة اعمل حاجة غلط أو حرام!

 

اندهش مما يستمع له ثم استفهم باستنكار وتقزز بعد أن ترسخ في عقله صورة احتقار كامل لأخيها:

-       هو أصلًا ازاي يمد ايده عليكي ده مجنون ده ولا إيه؟ وليه مقولتليش طول الفترة اللي فاتت دي؟

 

تنهدت لوهلة وابتسمت بانكسار ثم اجابته:

-       هتعمل ايه يعني، هتروح تضربه مثلًا، وبعدين احنا عندنا عادي الست في البيت ده تضرب ويطلع عينها واللي بابا وعمر يقولوه يمشي عليهم!

 

لم يفهم من كلماتها شيء وتسائل بانزعاج وتخبط شديد مما استمع له:

-       ايه الجنان ده، أنتِ أخوكي وباباكي كده على طول؟ ازاي؟ ليه محكتيليش؟ وبعدين عمر المفروض هو اللي اقنع باباكي بالموضوع بتاعنا، ازاي يبقا بيعاملك كده وازاي يبقا هو اللي أقنعه؟

 

أجابت بتلقائية وصوتها يحمل بكاء تكتمه بأعجوبة من شدة خجلها من قول ذلك ولكنها أطنبت موضحة لعله ينتهي ويتفهم ما تمر به:

-       يونس متسألش أسئلة كتير أنا معنديش اجاباتها، بس عمر أقنع بابا لما عدي كلمه ومعرفش خلاه يوافق ازاي، وأنا متأكدة وعارفة إنك بتعمل عشان خاطر وعشان تقرب مني حاجات كتيرة، بس أنا حياتي مش سهلة، بابا وعمر شبه بعض أوي، بابا الست بالنسباله ملهاش لازمة غير تتجوز وتسمع الكلام وتعمل الأكل ومتقولش كلمة.. أنا أصلًا دخلت طب بالاجبار بعد ما كان ممكن أدخل هندسة لأني بحبها أكتر، قالي يومها إن هندسة مش كلية كويسة للبنات، أنا طلعت في بيت الست فيه سلبية ومتقدرش تدافع عن نفسها، وأنا مش عايزة أعيش الحياة دي، مش عايزة أكون نُسخة تانية من ماما من غير ما ادخلك في تفاصيل كتير، وأنا أهم حاجة بالنسبالي هي دراستي وعلاقتي بربنا اللي فوق وقبل أي حاجة، مش هاقدر اغضبه عشان مشاعري من ناحيتك..

 

تريثت لبرهة والرؤية تُصبح ضبابية أمام عينيها ثم تابعت:

-       صُدفة الاقي حد زيك مُعجب بيا، وبيقولي هاعملك اللي انتي عايزاه، وهو اصلًا لفت نظري من أول يوم شوفته، وكمان استناني كل ده وحاول عشاني لغاية ما اتخطبنا، أكيد طبعًا حاسة من ناحيتك بحاجات كتيرة حلوة، ولما شوفتك بتعامل أختك ازاي وولاد أختك وطريقتك معايا ده خلاني أفرح إني في يوم هتجوز واحد زيك مش هيمنعني من حاجة وعمري مثلًا ما سمعت منك كلمة عن روان وشغلها ولا عن شغل أي ست، فأنت فيك حاجات كتيرة من اللي كنت بحلم بيها.. فمتجيش تقولي فجأة اننا نبعد عن بعض أو ننفصل وأنت الحاجة الوحيدة الحلوة في حياتي.. أنا مش هقدر استحمل حاجة زي دي لو حصلت!

 

انهمرت دموعها وهي تتكلم بكلماتها الأخيرة له ليُفاجئ من كل تلك التفاصيل دُفعة واحدة فأخبرها بهدوء مُراعيًا لكل تلك الأسرار التي تخبره بها لأول مرة:

-       طيب اهدي ومتعيطيش، مش هنبعد عن بعض ولا حاجة!

 

تناولت بعض الأنفاس لتحاول تهدئة نفسها وهي تجفف وجهها ثم أكملت ما ارادت قوله منذ البداية:

-       أنا يوم ما فكرت إني أخلص من حياتي مع بابا فكرت إني هخلص منها عن طريق شغلي ودراستي مش جوازي، أكيد طبعًا الجواز دلوقتي بقا أقرب بكتير، بس أنا متعودة إني معملش حاجة غلط عشان محدش يغلطني واتقي شر بابا وعمر وكلام ماما اللي ملوش لازمة.. لو سمحت يا يونس حاول إن أي كلام بيني وبينك أو مقابلات تكون في البيت وبابا موجود أو عمر لغاية ما نكتب كتابنا ونتجوز عشان متحصلش أي مشاكل أنا في غنى عنها.. وكمان أنا من زمان حاطة هدف إن مفيش أي حاجة في الدنيا هتفيدني غير شغلي ودراستي، أنا عارفة إنك بتحاول عشاني واخدت الطريق الصح فارتباطك بيا، بس أنا مفيش أي حاجة في ايدي اقدمهالك غير إني اوعدك زي ما أنت بتوعدني.. أنت بتقول إن عمرك ما هتوقف ما بيني وما بين شغلي، وأنا بردو بوعدك إني عمري ما هاعرف أتكلم معاك براحتي وبحرية وكلام الهزار والدلع والضحك والمشاعر وكل ده غير بعد ما نكتب كتابنا، أنا عايزة احافظ عليك وعلاقتنا ببعض متبوظش ولو مثلًا بابا عرف إني كلمتك او شوفتك من وراه صدقني كل حاجة هتبوظ! أنا آسفة إن حياتي ونصيبي كده بس هو ده اللي أقدر اقدمهولك في الوقت الحالي.. غير إنك تشيل من دماغك أي حاجة حرام ممكن اعملها، وكمان تحط في دماغك وتفتكر كويس أوي إن زي ما أنت ما معجب بيا وعايز تعرفني اكتر وتكلمني أنا كمان نفسي فـ ده.. بس كل حاجة وليها وقتها!

 

أغمضت عينيها والإحراج يزداد بداخلها مما قالته وانتظرت لرد منه على كلماتها بمنتهى التركيز وأصغت مليًا لما سيقوله لتسمعه أخيرًا يتكلم بهدوء:

-       حاضر، هاعمل اللي انتي عايزاه، ولو حصل ما بينك وبين باباكي أو أخوكي أي حاجة ابعتيلي حتى وكلميني وفهميني ومتشيليش كل ده لواحدك، وأوعدك إني عمري ما هكون زيهم في يوم من الأيام.. وبعد ما نتجوز أنا هبعدك عن كل ده ولو مش عايزة حتى تعرفيهم تاني أنا هاعملك كل اللي يريحك وشغلك وعيادتك وكل اللي نفسك فيه هيبقا موجود وعمري ما هقف بينك وبينه أبدًا..

 

ابتسمت بانكسار ووجدت الدموع تنهمر منها دون إرادة ولم تستطع منع نفسها عن البًكاء ليستمع هو لها فتسائل باندهاش:

-       أنا قولت ايه طيب يزعل دلوقتي؟

 

اجابته ببكاء وهي تسارع أنفاسها في اجابته:

-       والله ما زعلانة بالعكس، أنا مبسوطة، بس خايفة أي مُشكلة تحصل ما بيني وبينك

 

أكد سريعًا لينفي هذا التفكير منها وحاول أن يمرح معها قليلًا ليُوقف بُكائها:

-       لا متخافيش، وبعدين بعد الجواز هخطفك من الناس دي وهعوض كل الأيام اللي عدت دي وأنا مش عارف أشوفك ولا أكلمك.. بصي اعملي في حسابك كده لا دراسة ولا شغل ولا أي حاجة اول خمس شهور من الجواز!

 

توقفت عن البُكاء وتوسعت عينيها بسبب كلماته ثم زجرته بجدية:

-       خمس شهور، ليه إن شاء الله، أول اتنين يتجوزوا في البشرية، بص بقا لو كده احنا نفركش الخطوبة دي وروح اتجوزلك واحدة فاضية!

 

سرعان ما قال ممازحًا:

-       بهزر، مبتهزريش، نخليهم تلت شهور كويس، وبعدين يعني اللي يشوفك قدامه ومعاه في بيت لوحده هيقدر يسيبك تبعدي عنه ازاي، مبتشوفيش نفسك في مراية بيتكم، أنا بشر بردو ونفسي في حاجات كتيرة من اللي بتحصل بين المتجوزين دي!!

 

لوهلة انتابها غباء لحظي ثم فهمت ما يُرمي إليه لتزجره وهي تُغير مجرى الحديث تمامًا:

-       عاملي فيها دنجوان وبحبك والحاجات اللي بتحصل بين المتجوزين وهو ده اللي فارق معاك، أنا بقا عايزاك تفهمني ازاي وبأي حق تسيب روان تتعامل معاك كده وترقص معاها وترقص مع زمايلك البنات بمنتهى قلة الأدب ولا كأني كنت موجودة جانبك طول الليل لا وكمان بتعمل الحرام والغلط وعمال بس تديني في وعود واحلام وردية، اقسم بالله يا يونس لو ما حطتش حدود بينك وبين البنات وبطلت سجاير الخطوبة دي ما هاتنفع وكل واحد فينا من طريق!!

 

لابد من أن تعترض على أمر ما، ولكنه يحدثها الآن على كل حال لأول مرة منذ أن وقعت عينيه عليها، يستمع لصوتها لكل هذه المُدة دون أن تباغته بإنهاء المُكالمة.. وهو على أتم الاستعداد في التفاوض معها في كل شيء، هو مجبور أن يفعل كل ما يحلو لها في النهاية ولن يستطيع سوى أن يراها سعيدة وخصوصًا بعد ما قالته عن أخيها ووالدها! 

❈-❈-❈

في نفس الوقت..

شعرت بأن معدتها لم يعد يتبقى بها أي شيء على الاطلاق بعد كل هذا التقيؤ وانزعجت بشدة من أنه هو الذي يُساعدها بإزاحة شعرها للخلف وهو يُربت على ظهرها، اللعنة عليه وعلى الكحول وعلى غرفته التي كانت أقرب للمصعد أكثر من غرفتها!

 

لم تستطع حتى أن تُشير لأي من رجال الأمن وهي بالفعل تتقيأ بجانب المصعد ثم جذبها هذا العين وهي تسير بسرعة معه، لا تود سوى الموت أو النوم، أيهما أقرب، لن تمانع أي منهما، لماذا لم يفعل هو المثل؟ لماذا عليها هي من تعاني دائمًا؟ حتى تأثير الخمر ليس واحد عليهما كما كان تأثير علاقتهما ببعضهما البعض، تبًا له!

 

رفعت وجهها بعيدًا عن مقعد الحمام وهي تحاول أن تتنفس وشعرت بتقرفها من نفسها ومن فعلتها ومن كل ما يجري حولها لتجده يساندها بجـ سد على ما يبدو أنه يترنح أو المرحاض بأكمله يدور واتجهت للمياه كي تغسل فمها واستمعت له يقول:

-       انتي أول مرة تشربي؟

 

رمقته عبر المرآة وانطلقت الكلمات منها دون إدراك ولا وعي:

-       أول مرة من ساعة ما أنت صحيت من الغيبوبة اللي كنت فيها، طول ما أنت عايش لازم يحصلي مصايب بسببك!

 

شعر بألم قبض صـ ـدره وهو يرى حالتها المُزرية أمام عينيه ثم همس بثمالة لم يتخلص منها بعد:

-       أنا آسف، أنا مش هاعملك حاجة تانية ولا هاجي جانبك.. بس اسمعيني المرادي بس!

 

ارتمت بثقل وزنها ليدعمه ذلك السطح الرخامي المحيط بحوض المياه لتخبره بسخرية ونبرة مُتعبة:

-       عايز تقولي كلام عشان اصدقه وبعدين نرجع تاني وتالت ورابع وعشرين، كلامك مبقاش يفرق معايا يا عمر خلاص.. كنت ممكن تضحك بيه عليا زمان بس مش دلوقتي

 

رغبة مُلحة في البكاء اعترته بينما وجدها تغادر فأمسك بها ليمنعها وكلاهما يعانيان بشدة من ثمالتهما في حين أنها بدأت الشعور بالإرهاق والرغبة في النوم بعد تقيؤها أغلب ما تناولته ولكن ما زالت آثار الخمر تتلاعب بكل خلية بها لتسيطر عليها:

-       أنا مش عارف احكي لأي حد عن اللي حصل بيني وبينك، مش عارف انطق أي تفاصيل ولا اكتبها، مش عارف افهم بابا ازاي إني راجل مريض وهو بيضغط عليا ارجع شغلي، أنا عمري ما عرفت أتكلم غير معاكي ولا دلوقتي عارف أتكلم.. أنا مش عارف اعمل ايه!

 

نظرت له مباشرة وحاولت الحفاظ على اتزانها لكي لا تسقط أرضًا ثم همست بسخرية:

-       وأنا المفروض اللي أحل كل مشاكلك واسمعها، ما أنا كنت جانبك زمان، أنت اللي اخترت نوصل لكده

 

تساقطت دموعه وهو يتوسل بكلماته لها:

-       غصب عني، أنا معرفش أنا عملت كده ازاي، أنا كنت فاكرك بتخونيني.. وأنتِ عارفة اللي حصلي زمان بسبب الموضوع ده!

 

ابتسمت لرؤية بُكائه ندمًا وكأنما مياه مُثلجة تطفأ لهيب قلبها الغاضب وقالت بتشفي:

-       يمكن أنت متستاهلش غير إنك تفضل موجوع، سواء بسببها ولا بسبب اللي عملته فيا، أحسن!

 

تركته بعد أن حاولت التخلص منه وهو يحاول استيعاب ما استمع له للحظة ولكنه تبعها قبل أن تغادر وفاقت قوته قدرتها على التملص منه ثم دفعها على الأريكة خلفها لتضحك بسخرية شديدة وما زالت آثار الكحول تسيطر عليها وعلى إدراكها بكل ما يحدث ولكن الأريكة أفضل بكثير من الوقوف وتحمل ثقل وزنها لتهمس بمزيد من السخرية:

-       هتمنعني اخرج، وهتستغل إني سكرانة ومش حاسة باللي بيحصل، ها اغتـ ـصاب؟ نوبة هوس؟ ولا فيه تعبان مستخبي تحت السرير؟ هتحبسني كام يوم؟ ولا هتخليني أبوس رجلك؟

 

أقترب نحوها وهو يجلس أرضًا أمامها لتخفض عينيها نحوه بشماتة وآثار البكاء مازالت تعتلي وجهه وهو يهتف بتوسل:

-       عمري ما هاعمل أي حاجة تضايقك تاني! سامحيني، أنا كل اللي حصل بيني وبينك في الآخر كان غصب عني!

 

ضحكت بخفوت وهي ترى وجهه يتحرك أمامها وبدأت رأسها تُصبح ثقيلة بشكل غريب لتحاول أن تسلط تركيزها بأعجوبة عليه وهي تقول بنبرة كاد أن يتفهم حروفها:

-       تضايقني! بتسمي الموت مُضايقة.. هو أنت شربت أكتر مني ولا إيه؟! باين كده، أنت شربت كام ازازة؟

 

استندت برأسها للخلف بينما هتف بها بتوسل:

-       أنا مش عايز حاجة غير إنك تسمعيني وتفهمي اللي حصلي في الفترة دي، وسامحيني، مش هاطلب إننا نرجع، بس مش عايز أشوفك كده بسببي..

 

أغمضت عينيها ثم قالت بحروف متثاقلة:

-       ارغي.. دايمًا بتقول كلام كتير! بس مش هاسمعه

 

قام بالاقتراب منها وهو يتـلـمـ ــس وجهها بيـ ـده بخفة ثم سألها:

-       انتي نمتي، لا اسمعيني..

 

همهمت له بالنفي وتكلمت بسخرية:

-       أنا مبقتش اعرف أنام!

 

فتحت عينيها لترى وجهه أمامها تمامًا وأنفاسه التي تعرف رائحتها لم تختلف إلى الآن فتفقدته بغير وعي وابتسمت له وهي تهمس بنبرة مُتعبة:

-       أنت وشك اتغير اوي، بس لسه حلو زي ما أنت، يا خسارة، مبقتش طايقاك!

 

ابتلع وهو يتفقد عينيها وتقاسيم وجهها لتتسلط فحميتيه على شـ ـفتيها وهمس قائلًا:

-       انتِ بقا شكلك أحلى، طول عمري كنت بشوفك كاملة، إنما لما شوفتك النهاردة حسيت إنك عاملة زي النجمة البعيدة استحالة المـ ــسك تاني بإيـ ـديا!

 

همهمت بإعجاب وسخرت على ما يحدث ثم عقبت:

-       آها، الكلام الرومانسي اللي كنت بحبه، نفس الخطوات، نفس الاستغلال.. أنت فاكرني لسه هبلة زي زمان مش كده؟ هتسمعني كلمتين حلوين فتصعب عليا واترمي في حُضـ ـنك..

 

أطلقت همهمة تدل على النفي ثم تحدثت بجرأة غير واعية بما تقوله:

-       أنا ممكن أقرب من أي راجل غيرك.. حتى لو هتبقا one night stand (علاقة جنـ ـسية تدوم لليلة واحدة)

 

عقد حاجباه بغضب بينما أغمضت هي عينيها في استسلام للنعاس الذي يلح عليها بشدة ليسألها:

-       انتِ عملتي كده مع حد؟

 

ابتسمت بحسرة ثم تنهدت وهي تقول بنعاس:

-       نفسي، بس أي حاجة زي دي لما بفكر فيها مبشوفش غيرك معايا وقدامي..

 

رفع حاجباه بذهول مما يستمع له ليقترب منها وهو يهمس غير واعيًا بما يتساءل به:

-       لسه عايزاني زي زمان؟

 

همهمت بما لم يُفده ثم اجابته بهمس غالبه النُعاس بعدها مما لا يدع مجال لأي ظن من ظنونه:

-       طبعًا عايزاك، بس لو حصل أنا هاصحى تاني يوم واموت نفسي.. بقيت بقرف منها على كل اللي عملته معاك.. عشان أنا واخدة غبية مفكرتش غير بمشاعري وحبيت شكلك ونجاحك وسًمعتك وفي الآخر طلعت أسوأ راجل في الدنيا! يا ريتني ما قابلتك!

 

اختلطت مشاعره بداخله بين الألم والرغبة ومشاهدتها على هذا المقدار من الإرهاق فهي حتى لا تستطيع النظر له وهو نفسه لا يستطيع تحمل كل هذا التعقيد الذي يُسيطر على حياته، هو حتى لا يدري كيف سيتحدث لها ومعها بكل ما فعله، لا يستطيع فعل هذا، لقد كانت فكرة في منتهى الغباء، ولكنه يشعر بأنه أفضل لطالما هي بجانبه!

 

شاهدها في صمت لتتساقط الدموع من عينيه دون دراية وهمس متحدثًا لها:

-       أنا معنديش حد في حياتي يسمعني غيرك.. وأنا مش عارف اثق غير فيكي.. متعودتش أتكلم مع حد غيرك انتِ وهي وفي الآخر انتو الاتنين بعدتو عني

 

جفف عينيه سريعًا خوفًا من أن تراه يبكي من جديد فهو حتى لا يُريد أي تعاطف منها ولا يريد أن يستغل المزيد من مشاعرها ولكنه يشعر بأن هذا الثقل الذي يطبق على أنفاسه لن ينتهي منه سوى بالحديث إليها وسلط انظاره نحوها من جديد ليسألها:

-       انتي نمتي؟؟

 

لم تجبه وتفقد ملامحها التي دلت على نومها ليشعر بالإحباط الهائل لتخليها عنه من جديد ولكن على كل حال، ربما تكون المرة الأخيرة التي سيعا نقها بين ذراعيه بالقرب من قلبه..

 

نهض ليُطفأ أنوار الغرفة ثم اقترب من نفس الأريكة، خشي لو حملها أن تستيقظ وجلس مقتربًا نحوها بحرص وهو يمد يـ ـده ليحاوط بها خصـ ـرها خلف ظهـ ـهرها وفعل المثل بذراعه الأخرى لكي يعانقها ثم اسند وجهها على صـ ـدره وتقبل أن لو هذا آخر ما سيُذكره بها فهذا أفضل بكثير من صوت عيار ناري يتغلغل بصـ ـدره مسببًا ألم لا يُحتمل.. وقد يكون الوقت أفضل ما يزيح عنه هذا الألم الذي لا يُحتمل ببقائها بجانبه ولو لساعة واحدة من الزمن..

 

أغمض عينيه وهو يستند برأسه فوق رأسها ليشعر بتلك الأُلفة التي ظن أنه فقدها للأبد معها واستنشق رائحة شعرها التي ظن أنه لن يقترب من عبيرها سوى بأحلامه وبمجرد أن فتح عينيه لم يجد نفسه سوى نائمًا خلـ ـفها على نفس الأريكة، ضوء الصباح ينتشر بالغرفة، رأسه تتألم بشدة، وأعين والده مُسلطة نحوه بغضبٍ شديد ولا تبشر بالخير على الاطلاق!! 



الفصل القادم غدًا

يُتبع..