-->

رواية كما يحلو لها بتول طه - الفصل الرابع عشر النسخة العامية

 رواية كما يحلو لها

الجزء الثالث من رواية كما يحلو لي بقلم بتول طه

 


رواية كما يحلو لها

الفصل الرابع عشر

النسخة العامية




هل القدر يمازحه أم يدفعه نحو الانتحار واليأس خطوة أخرى بابتلائه هذا الابتلاء القاسي؟! شخص يخبره بأن ما يراه أمام عينيه الآن حقيقة وليس كابوس، والده يقارب على تهشيم أسنانه وهو يقف ويشاهده نائمًا مع المرأة التي يعشقها، يا للسخرية!!

 

تخيل صداع الرأس، وتخيل مواجهتها له بغضب وخوف، تخيل صراخها، تخيل استيقاظه قبلها وهو يمرر أنامله على ملامحها التي مزقه الشوق لها، حتى أنه تخيل تشاجره مع رجال الأمن الذين يقفون كالبُله أما باب غرفتها، تخيل كذلك أن تقوم بتحرير محضر اختطاف ضده، ولكن أن يرى وجه والده الآن، كان أكثر مما يستطيع عقله الثبات أمامه!

 

-       ممكن أفهم أنت بتعمل إيه بالظبط؟

 

مسح وجهه من اثار النوم وهو ينهض بهدوء لكي لا يزعجها فهو يستحيل أن يترك هذه اللحظة لتفلت من بين يديه عندما تستيقظ وتنظر له، ربما لا يعرف كيف سيواجهها بعد ولا كيف سينظر لها بعد ما فعله ولكنه على يقين أنه لا يريد لأي لحظة معها أن تتفلت من بين يديه!

 

شاهد والده مدى الحرص الذي يتحرك به وهو لا يريد أن يقلقها على الاطلاق لتزداد دمائه احتدام غير مسبوق من حقيقة سيطرة هذه المرأة على ابنه بالكامل واكتفى بمتابعته بعينيه إلى أن فر للداخل ليُلقي نظرة أخيرة بغلٍ شديد نحوها ثم تبع "عمر" للداخل وكرر سؤاله مرة ثانية:

-       بتعمل ايه يا عمر معاها؟

 

التفت له ونظر بعينيه مباشرة بلامبالاة حيث أن هذا الصداع الذي كاد على أن يُفجر رأسه كان كفيل بتسبيب ألم حقيقي له فأجابه قائلًا بمنتهى البرود:

-       زي ما شوفت، كنت نايم!

 

تفحصه ببرود ماثل بروده تمامًا وسأله مرة أخرى:

-       وقبل ما تنام، كنت بتعمل إيه؟

 

كان عليه أن يلتفت غير عابئًا بما سيظنه والده واتجه نحو سجائره وتفقد ساعة يـ ده التي يرتديها منذ ليلة أمس وأجابه بهدوء دون أن ينظر له:

-       خير يا بابا، تحقيق إيه ده اللي الساعة ستة الصبح؟

 

رفع حاجباه مندهشًا من اجابته ولكنه سرعان ما سيطر على نفسه وقال قاصدًا ما آتى من أجله:

-       هو ده الراجل العاقل الكبير اللي هيشتغل وعنده قضية صعبة، مقضيها سُكر وعياط معاها قدام الناس لغاية الصُبح وسايبني قدام بابه ساعة محدش عارف يوصله عشان نايم جنب الهانم ومش قادر يفوق، لو حد شافك يقول عليك إيه؟ يقول عليا أنا ايه؟ ابني صايع ولا يقول اني معرفتش اربي؟!

 

نفث ادخنته وهو يُصمم أن يُنهي هذا النقاش سريعًا بمنتهى الهدوء قبل أن تستيقظ هي ليعقب بنفس المقدار من اللامبالاة ولكنه اطنب بتركيز شديد لا يتناسب مع حالته ولكنه يتناسب مع هذا الرجل الذي تربى على يدي "يزيد الجندي" الذي علمه الكثير من الكلمات التي تستطيع إنهاء أصعب النقاشات:

-       بابا، أنا عارف إنك أكتر واحد في الدنيا عايز مصلحتي، لدرجة إنك بتدورلي على شغل، وليل نهار بتديني في نصايح، لأ وكمان مراقبني وحاططلي عيون في كل حتة عشان خايف عليا طبعًا، بس أنا فاهم كويس ومقدر تعبك معايا وعشاني.. ومكسرتلكش كلمة وقولتلك هامسك القضية، مش معقول هروح للناس الساعة ستة الصبح وأنا بقولهم زي ما قدمتو الأدلة تسحبوها عشان المشاكل وأحلها ودي معاهم.. ولو بتسأل عن إني بعمل إيه سواء بسكر طول الليل ولا موجود معاها فدي حاجة تخصني، أنا آسف بس دي حاجة متخصكش، ومظنش إنك في يوم فرق معاك أنا مع مين غير يمنى، وأظن برضو إن يمنى طلعت زي ما أنت فاكرها وأنا اتعلمت الدرس، إنما روان غيرها وأنا وأنت عارفين كده كويس! هو صحيح مش أنت قولت إن محدش يعرف عن طلاقنا حاجة؟

 

احتقن وجه والده بدماء الغضب بينما تابع الآخر مجيبًا تساؤله بهدوء لاذع جعل دماء والده تفور بعقله:

-       يبقا أظن اللي هيشوفنا هيقول راجل ومراته سهرانين مع بعض، شربو، وطلعو اوضتهم، ولا رأيك ايه؟

 

رؤيته أمامه بهذا الغضب وهو يستمع لصوت أسنانه التي لا تتوقف عن الاحتكاك ببعضها البعض وقال بحدة:

-       رايح تعيطلها وتنام في حضنها وهي كانت في حضن راجل تاني قدامك، للدرجادي مربتش راجل!

 

شاهده بلومٍ دفين ينهمر من مقلتيه واهتز بداخله سماع هذه الكلمة وبالرغم مما يمر به تملك سيطرته على نفسه ولكن هذا لم يُحرك بوالده ولو ذرة من مشاعر فأجابه بهدوء مبالغ فيه:

-       بابا، أسطوانة زمان دي مش هتنفعني، أنا مش طفل هيفرق معايا الكلام ده، يا ريت بلاش السكة دي معايا!

 

تعالت أنفاسه ليصيح به بغضب هائل وبدأت نبرته في الارتفاع:

-       أنت بتهددني ولا نسيت ازاي تكلم أبوك اللي رباك وخلاك عمر الجندي..

 

لأول مرة في حياته يستطيع أن يتغلب على هدوء والده بهدوئه المنيع وبحركات ثلجية استنشق من ادخنته ليقول وهو يزفرها ناظرًا له بأعين نصف مُغلقة:

-       أنت اللي جاي تهزئني على الصبح عشان بس بعمل حاجة في حياتي مش عجباك، أنا لا بقيت عيل صغير مضروب ولا شاب طايش في الجامعة هيتضحك عليه، شكلك أنت اللي نسيت!

 

أن يتحدث له بهذه الوقاحة، لن تمر مرور الكرام على الاطلاق:

-       أنت اتجننت يا عمر عشان تكلمني كده، ما تفوق، ولا كمان الهانم علمتك تتكلم زيها؟

 

استمعت لهذا الصُراخ فظنت أنها بحلم ما ثم استمعت لصوت آخر هي تعرفه جيدًا يصيح بنفس درجة الصوت:

-       بابا، سيبك من روان ومالكش دعوة بيها، شيلها من دماغك بقا!

 

لماذا يذكر اسمها بهذا الصراخ؟ هل كان كل ما مر عليها حُلم أو كابوس وهما ما زالا في منزله وقد آتى والده لزيارته؟ هذا الثعبان وكل هذا العذاب كان كابوس، أليس كذلك؟

 

-       لما تبقا تشيلها أنت من دماغك وتشيلها من حياتك وترجع راجل زي زمان هبقا اشيل الست اللي مبهدلة حياة ابني من دماغها! ده بدل ما توقفها عند حدها ولا تربيها وتخليها تفكر ألف مرة قبل ما تسكر وتتصرف بقذارة قدام أهلنا رايح تتطبطب عليها وتنام جنبها وهي بتسكر وأنت ساندها وبتشرب معاها!

 

هذا صوت والده، يتحدث عن احتسائهما للخمر ليلة أمس، إذن الأمر حقيقي، لم يكن كابوس، بل واقع عايشته بالفعل!!

 

-       آه هي كده، وهسندها، وهشرب معاها، ترقص ولا تحضن غيري هي حرة، أحبها وأنام جنبها ولا اعملها اللي هي عايزاه أنا حر، ما يمكن أنا عايزها وبحبها واتمنالها الرضا عشان عرفت تديني اللي محدش في الدنيا ادهوني.. لا أنت ولا غيرها! إيه، مش قادر تفهم ده ولا تشوفه بعد السنتين اللي فاتو؟ أنا موت نفسي عشان خاطرها، مش واخد بالك هي بالنسبالي ايه؟! ولا عايز تتأكد لما تدفني بإيديك؟!

 

هذه أول مرة في حياتها تستمع له يتحدث بهذه الطريقة، وبهذا الغضب الشديد، وصدمتها مما استمعت له جعلتها تتجمد في مكانها للحظات، هي لا تفهم ما الذي يحدث، كما كانت ردة فعل والده، صدمة شديدة سقطت كاللطمة القاسية على وجهه، وكأن تلك الحقيرة تضربه مستخدمة ابنه الذي بات طوع يدها، يقسم أنه لن يسكت عن هذا!

 

انسحب تمامًا من نقاش كهذا فمن يفعل لا يتكلم سوى بأفعاله التي ستكون أبلغ من آلاف الأقوال واتجه للخارج ليرها جالسة على الأريكة بأثار النُعاس فرمقها باحتقار شديد وابتسم نصف ابتسامة بتحدي وأصر بداخله أن يجعل هذه الفتاة تندم أشد الندم على ما وصل له ابنه بسببها! لم يعد يقف بينهما سوى هذا الموعد وتلك القضية التي جعله يتولاها، أي تراجع في عمله وأي تقهقر أو فشل له من جديد ستكون هي المُلامة على كل ما يحدث له!

تبعه للخارج ولم يبادر بأن يوقفه وكذلك فعل الآخر، لم ينتظر منه أي محاولة لتعديل تلك الكلمات التي قالها منذ قليل!

 

لمحها بطرف عينيه وأدرك أنها تجلس الآن على الأريكة التي تشاركها كلاهما طوال الساعتان الماضيتان وقبل أن تتحدث بأي شيء بارد هو لاكتراثه الهائل بما قد يدور في عقلها بسبب ما حدث ليلة أمس بالإضافة إلى شجاره مع والده وهو على يقين من أنها استمعت لبعض الشجار إن لم تكن استمعت لكل ما جرى بالكامل:

-       أنا آسف على اللي حصل امبارح، كنت سكران ومش عارف عملت كده ازاي!

 

تفقدته بسخرية وها هو من جديد يتحاشى أن ينظر لها بعينيها لتقول بشماتة وهي تقصد أن تغضبه:

-       ولا حتى لو مش سكران، كده كده أنت مش عارف أنت بتعمل إيه!

 

حسنًا تلك الكلمات لا يحتاج لأي منها خصوصًا وهو يشعر بدرجة من الغضب لم يصل لها منذ شهور، وفي نفس الوقت أي كلمة منها له ستكون أفضل بكثير من أي شجارات أو كلمات من أخيه أو والده..

 

تابعها وهي تتجه للحمام مباشرة فوقف عاقدًا حاجباه بينما هي كانت تحاول استرجاع تفاصيل ما حدث بين صداع رأسها الذي لا يرأف بها على الاطلاق وبين محاولة استيقاظها وهي تقوم بغسل وجهها، لقد نامت بجانبه إذن، تبًا لها ولهذا الجـ سد الذي لم يستطع الصمود أمام جرعة ليست بهينة أمام الكحول، حتى الأرق الذي حاولت التغلب عليه بالثمالة لم تُفدها، وكما عادت أفكارها لقيادتها نحو كل ما حدث بينهما وللإطناب في تذكر كل ما مر عليها معه، قادها الكحول للاستلقاء بجانبه في نهاية الليلة!

 

جففت وجهها بالمنشفة التي وجدتها مطوية بالحمام وتفقدته مليًا لتجده وكأن خدمة الغرف لتوها غادرته، بالطبع، لن يتوقف عن هوسه بالترتيب وكأنه رجل يعيش وحيدًا بين قبور لا تتغير، لا شيء معه يدل على الحياة على الاطلاق.. الأمر الوحيد الذي يجعلها تشعر بالراحة حقًا أنها تخلصت من كل هذا! أو هكذا ظنت!!

 

اتجهت للخارج لتغادر هذه اللعنة التي تتشاركها معه، فلابد لها من الحصول على الكثير من السوائل والطعام الجيد والقهوة لتبدد تأثير الخمر عليها، فلو بدأت بهذه الدوامة لن تنتهي منها ولا تملك رفاهية قضاء المزيد من الشهور بمصحات أخرى!

 

أوقفها وهو يُشير لها بمسكن لصداع الرأس بعد أن تناول هو منه، لقد بات خبيرًا الآن في الكثير من أنواع الأدوية التي لا ينفك يقوم بتجربتها لتجد نفسها تنطق بتلقائية بالرغم من شعورها بالخوف بداخلها:

-       لا، مش يمكن يطلع فيه سم، سم تعبان، أو سم عقرب، أو لو اخدته هيخليني أشوف كل حاجة لونها أبيض!

 

حسنًا بعد معاناة دامت حوالي عشر شهور في التحدث عما حدث لها بالسابق استطاعت هذه المرة النطق بمنتهى السهولة لدرجة فاقت توقعاتها هي نفسها!

 

أجلى حلقه ثم ألقى بعيدًا بما يُمسكه ولم ينظر لها مباشرة وتكلم قبل أن تذهب ولكنه لم يأخذ أي خطوة تجاهها وقال:

-       أرجوكِ حاولي تفهمي إني ندمان على كل اللي حصل وكل اللي عملته معاكي بالذات في الفترة دي، أنا معرفش ايه اللي حصلي، ولعلمك كان هدفي إني اموتك انتِ وهو مش احبسك ولا اعذبك.. أنا عارف ساعتها، يعني.. كل اللي عملته.. مش عارف أنا عملت كده ازاي! أنا، أنا بحاول اعملك كل اللي انتِ عايزاه.. أنا طلقتك، وبعتلك ورقتك، والتوكيل النهاردة هيخلص، وبابا مش هيقدر يجي جانبك، والفلوس اللي حولتهالك أنا مش عايزها.. أنا عمري ما هعملك أي مشاكل تاني.. أنا آسف!

 

قلبت شفتيها من تلك الكلمات التي لم تعنِ شيء على الاطلاق، بل وتلعثم، ويعتذر من تلقاء نفسه يا له من تقدم، تقدم لا يفيدها ولن يُصلح مما أفسده بالفعل!

ابتعدت عنه واتجهت للباب لتغادر ولكنه أوقفها مناشدًا بمصداقية ولكن نبرته كان يتضح بها الغضب:

-       أنا مستعد أعمل أي حاجة عشان تكوني كويسة.. قوليلي عايزة ايه وأنا اعملهولك!

 

فكرت للحظة ثم التفتت لترى الغضب يلوح على ملامحه التي لا تراها بالكامل بسبب نظره المُسلط في اتجاه الأرضية فرفعت حاجبيها بسخرية ثم قالت بنبرة مُقترحة بعد أن همهمت لفترة:

-       رجع الوقت! تعرف ترجع الوقت ومتعملش كل اللي عملته معايا؟!

 

احتكت أسنانه ببعضها البعض غير متقبلًا أمنياتها التي ليس لا يدل عليها سوى التعجيز الواضح ليستمع لها تقول بلهجة آمرة:

-       ولما أكلمك تبصلي!

 

رفع عينيه بتباطؤ لتتلاقى بعسليتيها ووجدها عاقدة لذراعيها وتنظر له بتشفي ثم سألته:

-       ايه؟ صعب ترجع لزمان مش كده، الطلب الوحيد اللي بطلبه دايمًا بتبقى اصعب حاجة عليك!

 

رأى اللوم واضح بعينيها ممتزجًا بالغضب ليخبرها بانزعاج شديد وغضب لا يتوقف عن السريان بدمائه:

-       أنتِ بتطلبي حاجة لا أنا ولا غيري نقدر نعملها!

 

هزت رأسها بالموافقة ثم قالت لأول مرة كلمات وجدها منطقية:

-       أنا مش عارفة أنام، مش عارفة ابطل أفكار وحشة اوي، مش عارفة انسى اللي حصل، ولا حتى عارفة أتكلم فيه، تقدر ترجع روان بتاعت زمان؟!

 

آلمته كلماتها، هو يعرف ما تمر به جيدًا، هو نفسه لي لديه القدرة على النطق بحروف ولو مختصرة تصف ما حدث بينهما، ولكنها لن تجعل هذا هينًا عليه:

-       بابا معندوش حل؟ واسطة مثلًا اعرف اتعالج بيها من جنون ابنه، اسأله، يمكن يفيدك، أنا عارفة إن مفيش غيره يقدر يستحملك، لأن انتو الاتنين شبه بعض وفاهمين بعض كويس وبصراحة محدش طايقكم!!

 

رمقته من اعلى رأسه لأخمص قدميه وهي تبتلع بمرارة بينما فهم ما تُرمي إليه، وهو ليس هناك برأسه ما يقوله، اكتفى بالتحامل على ألمه المختلط بغضبه ثم حدثها بنبرة خافتة نوعًا ما مليئة باليأس:

-       الساعة تسعة ابقي جاهزة عشان نخلص موضوع التوكيل!

 

رفعت حاجبيها بسخرية ثم  هتفت به:

-       أنت فاكر إني هروح معاك، أنت هتقابلني عند الشهر العقاري زيك زي أي محامي عملتله توكيل وقررت الغيه، تحب نتفق على اتعابك دلوقتي ولا بعد ما نلغيه هتبععتلي فاتورة على شركتي؟!

 

أعطته نظرة أخيرة مُحتقرة له وتوجهت سريعًا للخارج ليلعن تلك المشقة التي باتت لا تحتمل، ما الذي تريده هي ووالدها منه اليوم؟!

 

زفر بضيق ثم اتجه ليغتسل لعله يهدأ قليلًا ولكن لم يحدث أي نوع من أنواع التغير، الأفكار تتلاحق بعقله بطريقة غير مسبوقة، كيف عليه اصلاح كل هذا، وكيف عليه الصمود، لو فعل والده وقام بإيذائها هو يُدرك بقرارة نفسه أنه لن ينجح في الوقوف ضده، ولو حدث وتضررت بالفعل لن يستطيع التحمل، ليت هذا الغبي تركه وشأنه عندما حاول قتل نفسه!

 

التف بمنشفة قصيرة ولم يلحظ كيف ازداد نهمه للسجائر كما أنه نسي تماما تناول دوائه الصباحي واتجه مباشرة ليقوم بمحاولة الكتابة كما يفعل يوميًا ولكنه لم يدرك أنه فشل في فعلها سوى بعد ساعة كاملة ليقرر في النهاية أن يؤجل الكتابة ويذهب لتناول الطعام لشعوره الشديد بالجوع!

--

السابعة والنصف صباحًا..

دخل المطعم الخاص بالفندق وذهب في اتجاه الأطباق الموضوعة ليتناول واحد منها وبدأ في وضع الطعام به بطريقة عشوائية لتلمح عينيه هذا الخسيس من ليلة أمس فنظر له بتمعن ليجدها تتناول معه الطعام ويحتسيان القهوة وبعدها لم يشعر بما حدث سوى بعد أن نظرا له كلاهما..

 

-       حصل خير حضرتك، اتفضل طبق تاني!

 

نظر أسفل قدميه بعد فترة وجد نفسه بها ينظر لهما وغضبه يحتدم بداخله فوجد الطبق منثورًا لقطع صغيرة بصحبة الطعام على الأرضية والجميع ينظرون له باستغراب وفي لحظات عاد الجميع ليتصرف بمنتهى العفوية سواه هو، لا يُصدق إلى الآن أنها استبدلته بالفعل برجل آخر!

--

-       ما قصتكما معًا؟ لماذا لا تريدين اخباري؟ ما الذي حدث بينكما؟

 

زفرت بضيق وهي تزم شفتيها لتجيبه بقليل من الحصافة:

-       دايفد، أنا اعلم أننا أصدقاء، ولكن لا استطيع التحدث عن الأمر بعد، فقط أريد بعض الوقت، الذي لا اعمل مقداره بالطبع..

 

تريثت لبرهة وملامحها مليئة بالسخرية تجاه نفسها ثم تابعت:

-       اعتبر أن ما حدث بيني وبينه أسوأ ما يمكن الحدوث!

 

ارتشفت من قهوتها بينما تعالت ملامح الاستغراب على وجهه فسألها بفضول:

-       هل قام بخيانتك أم ماذا؟!

 

أطلقت ضحكة ساخرة وعقبت:

-       يا ليت كان الأمر هكذا، لكنت محظوظة حقًا،

 

تنهدت وهي تصمم على تغير الموضوع، فهي إلى الآن لا تستطيع قص الأمر، حتى ولو لمعالج نفسي، عقلها لا يواكب كيفية ترتيبها للأمور وقصها في تسلسل للأحداث، لا تتمنى سوى النسيان لكل هذه الحياة معه!

-       اخبرني، ما الذي ستفعله اليوم؟

 

هز كتفيه كدلالة على عدم المعرفة واجابها:

-       ليس هناك شيء محدد، في الحقيقة لن أبدأ العمل قبل أسبوع من اليوم، وحتى أكون صادقًا كنت أتمنى أن تكونين مرشدتي هُنا.. أعرف أن مصر تختلف كثيرًا عن فرنسا، فلتخبريني أنتِ بما نستطيع فعله..

 

توسعت عينيها وهي تُفكر بينما قالت:

-       لدي فكرة جيدة..

 

جذبت هاتفها ثم قامت بإرسال رسالة نصية باستخدام احدى التطبيقات إلى "علا" بينما تابعها هو بعينيه بفضول ليسألها:

-       ماذا هناك؟

 

همهمت وهي تتابع رد "علا" لتتأكد من أنها ستعمل على الأمر بسرعة ثم أجابته:

-       ما رأيك بالسفر بالطائرة إلى الأقصر، نمكث هناك عدة أيام، وبعدها سنذهب برحلة نيلية إلى أسوان، سترى الكثير من التاريخ، وسيُمكنك العودة بموعد العمل دون أي تأخير؟  

 

قلب شفتاه بإعجاب واجابها:

-       يبدو اقتراح جيد، لطالما استمعت عن التاريخ هنا ولكن لم أملك الوقت لفعلها..

 

ابتسمت له وقبل أن ترتشف من قهوتها أخبرته:

-       جيد للغاية..

 

نظرت له بجدية شديدة ثم قالت:

-       والآن أريد مساعدتك في أمر ما، أنت بالطبع تمتلك الكثير من المعارف بشركات أخرى في فرنسا.. وأنت الوحيد الذي ستساعدني في تقديم بعض العروض لهم!

 

قلب عينيه وهو يزفر بإرهاق ليقول:

-       أنت غير ممكنة، هل أنتِ آلة للعمل أم ماذا؟!

--

التاسعة والنصف صباحًا..

انتظر بداخل سيارته ولا يدري لماذا لا ينتهي غضبه اليوم من كل ما يحدث حوله وتفقد ساعة يده ليجدها قاربت على التاسعة والنصف ليحاول تحمل تأخرها عن الموعد لتصل هي في النهاية فتابعها وهي تبدو في غاية الأناقة والأنوثة كما كانت دائمًا ليزفر بضيق وهو لا يعرف كيف عليه تحمل هذا!

 

ترجل من السيارة وعينيه مُسلطتين عليها ليجد هذا الحقير معها من جديد بل وكان يجلس بجانبها ليشعر بدمائه تغلي بداخله وقبل أن يبالغ بالذهاب والاقتراب منها وجدها تتوجه للداخل مباشرة ويتبعها ثلاثة من رجال الأمن!

 

عقد قبضتاه وتبعها للداخل ليرها تمشي بمنتهى الغطرسة وهي تتأفف في طريقها من كل الناس حولها ليهز رأسه بإنكار وبمجرد تواجده بنفس الغرفة استمع للمزيد من اهانتها الموجهة له تمامًا:

-       كنت عاملة توكيل لمحامي وعايزة ألغيه! اللي واقف ورايا ده!

 

أشارت بسبابتها دون الاكتراث بالنظر له، هكذا سيكون تعاملها معه إذن، هو يستحق هذا على حال، أو لا يستحق، لا يعرف، لا بل هو لا يستحق هذا، لقد عشقها عشق لو وجه لنساء العالم بأكملهن سيكفيهن وسيفيض، هي لابد من أنها فقدت عقلها ونست كل ما كان بينهما!

 

استيقظ من أفكاره ليجد نفسه يقترب ويوقع في الموضع المُقرر له وحاول أن يلمحها أسفل نظارته الشمسية فلم ينجح بمعرفة إلى أن تنظر هي فلقد كانت هي الأخرى ترتدي نظارة ليُلقي بالقلم على المكتب وبعدها توجه للخارج وبرأسه آلاف الأفكار التي تُحرضه على الذهاب والامساك بها وأسرها بعيدًا عن كل هذه الأعين!

--

في تمام الحادية عشر والنصف..

تفقد هذا المنزل بأعين متفحصة ليدرك أن المنزل يدل على مالك ثري للغاية، ستكون محاولة على كل حال، إما يرفض وإما يستطيع إقناعه بالانسحاب، فكما استطاع الوصول لدرجة تؤهله من تحفظ الدولة على أموال "شهاب الدمنهوري" لابد من أنه يستطيع استعادة كل ما قدمه وسينتهي الأمر وديًا دون اللجوء إلى قضايا لن تنتهي سوى بعد الكثير من الوقت، هو يعرف هذا جيدًا وهذه ليست قضيته الأولى..

 

خرج من السيارة وهو يتمنى بداخله أن ينتهي الأمر سريعًا، ليس لديه الصبر لإجراءات لعينة ومتابعة والذهاب للمحكمة صباحًا، هو حتى لم يعرف من هؤلاء الأشخاص ولا يعرف أصحاب القضية، ولكن لو كان "سليم الخولي" من تقدم بأدلة تُدين "شهاب الدمنهوري" لابد من أن هناك ثأر ما بينهما وإما خدع الثاني الأول بأمر يخص عملهم.. اللعنة، هو حتى لا يعرف ما تخصص كلاهما!

 

توجه ليقف أمام بوابة منزله ثم قام برن الجرس وانتظر بنفاذ صبر ليقوم احدى العاملين بفتح الباب ليُعرف نفسه قائلًا:

-       عمر الجندي، بلغتهم على البوابة إني عايز أقابل أستاذ سليم..

 

تعجبت منه المرأة فلا أحد غيب يُناديه سوى بـ "المهندس سليم" ولكنها اشارت له ليذهب نحو غرفة الاستقبال ففعل لتسأله:

-       تشرب ايه حضرتك؟

 

اجابها دون اكتراث وهو يُحدق بساعة يده بعد أن جلس على واحد من المقاعد:

-       قهوة سادة..

-       بعد اذنك هبلغه!

 

هز رأسه بالموافقة وانتظر مجيء هذا الرجل الذي لم يتأخر فنهض وهو يصافحه بلباقة بينما أعطاه الآخر ابتسامة وهو يرحب به:

-       أهلًا وسهلًا.. اتفضل..

 

جلس "عمر" من جديد بعد أن أعطى آلاف الأحكام المُسبقة على هيئة هذا الرجل أمامه فحدثه قائلًا:

-       أهلًا بيك.. معلش مبلغتش قبل ما اجي ولا اخدت معاد..

 

جلس أمامه مباشرة وحدثه متسائلًا بطريقة رسمية:

-       لا ولا يهمك، خير؟!

 

نظر له بجدية وآتت في نفس الوقت قهوته فسكت إلى أن انصرفت المرأة وحدثه مباشرة:

-       أنا عمر الجندي، المحامي اللي شغال على قضية شهاب الدمنهوري والتحفظ على أمواله!

 

انقلب وجه الآخر مائة وثمانون درجة بعد أن كان مرحبًا وودودًا منذ ثواني تحول الآن لرجل غاضب لدرجة أنه سيحرق من حوله ثم نهض وهو يصيح به:

-       آه أنت بقا اللي ناوي تداري على وساخته وتطلع الظالم مظلوم، واضح إنك جيت للشخص الغلط، تشرب قهوتك وتتفضل من غير مطرود..

 

عقد حاجباه بتعجب ونهض بعد توجيه هذه الإهانة له ولكنه قرر أن يحاول محاولة أخيرة:

-       بس أنت لسه مسمعتنيش!

 

صرخ به بنبرة مرتفعة دون التريث:

-       ولا عايز اسمع أي كلمة تخص الحيوان ده، اللي معايا في ايد النيابة والدولة، ومعنديش حاجة تانية أقولها أكتر من كده!

 

كاد أن يغادر بالفعل ولكنه وجد رجل متقدم بالعمر نظرًا للحيته التي تمتلئ باللون الأبيض الذي خالط سوادها ولكنه يمتلك جسد رياضي رشيق للغاية ثم اقترب من كلاهما ووجه نظراته نحو "سليم" ثم تسائل بمرح:

-       مالك يا ابـن الكـ ـلب بتجعر على الصبح ليه؟!

 

يُتبع..