-->

رواية كما يحلو لها بتول طه - الفصل الخامس عشر النسخة العامية

 رواية كما يحلو لها

الجزء الثالث من رواية كما يحلو لي بقلم بتول طه

 


رواية كما يحلو لها

الفصل الخامس عشر

النسخة العامية



كاد أن يغادر بالفعل ولكنه وجد رجل متقدم بالعمر نظرًا للحيته التي تمتلئ باللون الأبيض الذي خالط سوادها ولكنه يمتلك جسد رياضي رشيق للغاية ثم اقترب من كلاهما ووجه نظراته نحو "سليم" ثم تسائل بمرح:

-       مالك يا ابـن الكـ ـلب بتجعر على الصبح ليه؟!

 

حول كامل انتباهه إلى هذا الرجل المتقدم بالعمر بعد أن أعطاه نظرة احتقار صريحة بينما استمع له بنبرة مختلفة قليلًا عما حدثه بها ولكنها ما زالت تحمل الغضب:

-       الأستاذ جاي يتكلم بخصوص قضايا شهاب، مشيه يا بدر قبل ما اندهله حد يمشيه غصب عنه..

 

هز رأسه بتفهم ليجده "عمر" تفحصه إياه بنظرة ثاقبة بينما لم يتفهم من هو حقًا وما قرابته له ولكن هناك شبه كبير بينهما لدرجة أنه ظن في البداية أنه والده ولكنه لتوه ناداه باسمه الأول فقط دون أي ألقاب، ليسمعه يُحدثه بهدوء ومرح غريب لا يتلاءم مع الموقف:

-       طيب خلاص أنا هتكلم معاه، روح شوف أمك عاملة أكل إيه!

 

تفقده بانزعاج واضح ليُردف بنفس غضبه وكل ما فعله "عمر" هو متابعة حديثهما بمنتهى الهدوء:

-       تتكلم معاه في ايه يا بابا، أنت نسيت كل اللي حصلنا من تحت راس الزفت اللي اسمه شهاب!

 

اقترب منه وهو يهمس له بشيء مما جعل "عمر" يتعجب، هو ابنه وهذا والده كما ظن في البداية، هل والده هو الآخر متورط بالأمر ولم يخبره أحد:

-       إهدى يا ابن الأهبل ومتفضحناش يا حيلتها قدام الراجل، خش وأنا هتفاهم معاه وامشيه بطريقتي.. ويمكن يجيبلنا أي خبر عن الكلب التاني.. روح ربي ابنك ولا روح شغلك وسيبني أنا هتصرف

 

أعطاه نظرة معترضة ليتركه ويغادر دون أي كلمة إضافية ليجد هذا الرجل يلتفت إليه وينظر له نظرات استفهامية فسرعان ما تصرف برسمية وقصد أن ينطق اسمه كاملًا هذه المرة لعل اسم والده يُغير من الأمر شيء وخصوصًا أنه يتعامل الآن مع رجل متقدم بالعمر، وعلى ما يبدو أن والده كان مُحقَا بأن اسم "عمر الجندي" بمفرده لم يعد يكترث له أحد وأصبح في طي النسيان:

-       أنا عمر يزيد الجندي، المحامي اللي ماسك قضية شهاب الدمنهوري!

 

رفع حاجباه ثم التفت خلفه ليتفقد إن كان أحد هناك ويراه ثم نظر مليًا لفنجان قهوته ثم سأله:

-       أنت هتشرب القهوة دي؟

 

استغرب من سؤاله وتردد قليلًا فلقد كان يتوقع أن يقوم بطرده مثلما فعل ابنه وتردد في اجابته التي كادت أن تبدو تلقائية ولكنه تمالك نفسه ورد قائلًا:

-       على حسب، لو هنقعد وهنتكلم هشربها..

 

اقترب "بدر الدين" نحو فنجان قهوته ثم أمسكها بيده وحدثه قائلًا:

-       لا أنا هجيبلك عصير، سيبلي أنا القهوة دي هشربها.. ومعلش على اللي سليم عمله بنحاول نبطله عصبيته دي من وهو صغير ومش عارفين!

 

تابعه بعينيه باستغراب بينما لم يفهم ما الذي يفعله هذا الرجل هل هذا اعتذار أم مجرد لباقة ليس إلا، لم يُلق بالًا ولم يكترث لحديثه الودي وانتقل ليتكلم فيما آتى من أجله بجدية:

-       سليم ابن حضرتك زي ما فهمت هو اللي قدم الأدلة في قضية شهاب، واحنا عايزين نحل الموضوع ودي من غير قضايا ومحاكم وإجراءات ممكن تاخد سنين.. أظن أنـ..

-       بتدخن يا عُمر؟

 

عقد حاجباه من هذا السؤال الغريب الذي لا يخص الأمر على الاطلاق بل وقاطعه كذلك غير مُكترثًا بكلماته ليزفر وقال على مضض:

-       ايوة..

 

هز رأسه بتفهم ثم حدثه قائلًا:

-       طب تعالى نقعد برا عشان ريحة الدخان والبيت فيه أطفال..

 

وجده يتركه ممسكًا بفنجان القهوة ويتوجه في طريق ما داخل المنزل فتبعه متأففًا على مضض، من قال أنه سيقوم بالتدخين الآن، ما هذا الرجل الغريب، كان يظن أنه سيحل الأمر وديًا ليُنهي هذه القضية فجأة يجد نفسه يتحدث عن القهوة والتدخين!!

 

جلس على مقعد بحديقة منزله وهو يتفحصه بعينيه والغضب يسيطر عليه بالكامل في انتظار أن يرد هذا الرجل على أي أمر يخص القضية التي يعمل عليها بالإجبار ليستمع للمزيد مما جعل دمائه تغلي:

-       وريني بقا علية السجاير بتاعتك، بتشرب إيه؟

 

هل هو بالصف الثاني الاعدادي وأمام تحقيق من والده بخصوص سجائره ليغمض عينيه وهو يحاول أن يسيطر على غضبه وأخرج علبة سجائره والقاها أمامه وقبل أن يبادر "عمر" بكلمة استغل "بدر الدين" الفرصة ليقول وهو يمسك بالعلبة الكرتونية ويوزع نظراته بينها وبينه:

-       تقيلة أوي دي، مش بتشربها والعة برضو ولا ايه، ولاعتك فين!

 

هذا الرجل لا يُطاق، ما شأنه بسجائره وقداحته، ولكن لو كان هذا ما يسأل عنه في سبيل أن ينتهي من هذا اللقاء الغريب سيفعل، ولتستمر هذه القضية لآلف جلسة لو هذه هي النهاية مع هذا الرجل وابنه، ليته لم يأتِ إلى هنا لتضييع وقته!

 

أخرج قداحته ليُلقيها على الطاولة أمامهما وقال بغضب:

-       أظن معاك القهوة والسجاير والولاعة، ممكن بقا نتكلم في الموضوع اللي جاي عشانه!

 

أشعل احدى السجائر وهو يُدخنها باستمتاع، لم يتذوق التبغ منذ فترة طويلة، وبصحبة فنجان من القهوة الداكنة المُرة، هو في أقصى مراحل سعادته الآن، اللعنة على العشق الذي يُغير الرجال.. ماذا قال هذا الطفل؟ موضوع ماذا الذي آتى من أجله؟

 

-       قولتلي بقا أنت مين، ابن يزيد الجندي مش كده؟

 

قلب عينيه وكاد أن يصرخ به ولكنه تحامل على نفسه وأجابه باقتضاب:

-       أيوة

 

همهم الآخر بتفهم وهو يُريد الاستمتاع بهذه السموم التي لم يتناول منها لكثير من الوقت وتفقد مخارج المنزل خشية لو أن هناك من يراه بينما استرسل في الحديث إليه وأخبره بمنتهى الهدوء:

-       ابعت لبابا سلامي وقوله بدر الدين الخولي بيسلم عليك!

 

عقد حاجباه باستغراب، هل لابد من أن يعرف من هو وهو كالمغفل هُنا؟ تبًا لهذه المهنة التي لا يطيقها!!

 

قرر أن يوقفه عن ترهاته التي يستمر بها منذ أن رآه ومن جديد عاد للموضوع الرئيسي الذي آتى من أجله:

-       بالنسبة للأدلة في قضية شهاب أنـ

-       قضية ايه؟

 

قاطعه ليحدق به "عمر" بنفاذ صبر وقبل أن يجيب تساؤله أكمل سؤاله:

-       أصلهم كذا قضية، خد عندك، غسيل أموال، اغتصـ ـاب، فضايح جنـ ـسية، تورط مع خلايا إرهابية، قولي بقا كده أنت جاي عشان خاطر أي واحدة فيهم؟!

 

سيطر على ملامحه لكي لا يبدو كالغبي الذي لا يفهم شيء، لقد علمه والده هذا، لابد من أن يتحلى بالثقة، ولكن عتابه على والده الذي لم يخبره بكل هذا!!

-       الأدلة اللي قدمها سليم وخلت الدولة تتحفظ على املاكه وفلوسه.. أظن زي ما قدر يعمل كده يقدر يخلي الأدلة دي كأنها مش موجودة، ولا رأيك إيه؟

 

ضحك "بدر الدين" بخفوت وهو يستمع لتلك الكلمات التي قالها بمنتهى الثقة الشديدة وعقب بمزاح ساخر:

-       يااه، بالسهولة دي بعد ما الأدلة في ايد الدولة بقالها شهور! وبعدين هو مش بيقولو إنه نقل كل حاجة باسم فيروز، أنا بصراحة مش فاهم أنت جاي النهاردة ليه؟

 

ثانية واحدة، من هذه المرأة التي يتحدث عنها؟ لم يخبره والده عن هذا، اللعنة على كل هذا، ربما كان عليه أن يقرأ ملف القضية أولًا، ولكنه سيتعامل وكأن شيء لم يكن، عليه أن يدعي أنه يفهم الأمر برُمته حتى لا يُصبح أضحوكة أمام هذا الرجل!

 

ضيق "بدر الدين" عينيه نحوه وهو يتفحصه بثاقبتيه السوداويتين ثم تعجب قائلًا:

-       أنت مش عارف إنه كتب كل حاجة لمراته قبل اللي حصل بيوم واحد ولا إيه؟

 

تبًا!! لقد لاحظ الأمر، هذا الرجل ليس بهين، وإما هو من بات مقروء للغاية أمام الجميع بعد كل ما مر به..

 

رآه على نفس نظرته له ليجده من جديد يغير الموضوع وهو يخبره:

-       أنا سمعت إنك شاطر، بيقولو إنك مبتخسرش قضية، مع إن ده مش باين عليك يعني، شكلك لسه بتسمع الحاجات دي لأول مرة!

 

حسنًا، لقد كانت فكرة في منتهى الغباء أن يأتي اليوم وهو لا يعلم شيء عن قضية ظن أنها سهلة في البداية، ولكنه لم يتخيل هذا التعقيد، واستحالة كان يظن أنه سيلتقي بهذا الرجل الغريب، ولكنه على الأقل يتذكر من هو، يا للسخرية، لم يكن يظن أن كلمات والده حقيقية، لقد تم نسيان كل ما عمل عليه يوم ما!

 

-       أكيد طبعًا مش أول مرة أسمع، أنا بس مستغرب إنك متابع كل حاجة أكتر مني أنا شخصيًا!

 

ابتسم له "بدر الدين" ابتسامة خبيثة لم تُظهر أسنانه وتضرع "عمر" بداخله أنه سيقتنع بما قاله وهو يحاول أن يكون متحليًا بالثقة والتلقائية قدر الإمكان حتى لا يُفضح أمره ليجده يسأله:

-       وأنت بقا شغال على القضية دي بس ولا عليهم كلهم؟!

 

ارتقب اجابته بتركيز شديد وهو يشعل السيجارة الثانية دون تريث فأجابه بثقة:

-       لا على القضية دي بس، وقولت بدل ما ناخد الطريق الأصعب هيبقا بردو أسهل بكتير إن صاحب البلاغ يتدخل ويحلها.. ولا مش هتقدر على ده؟!

 

استعاد سيطرته على نفسه، يبدو أن هذا الرجل بتحدثه بهذه الطريقة يستطيع حل الكثير من الأمور وخصوصًا تلك الرسالة المبطنة بالكثير من الإشارات وهو يُرسل له سلامه مع والده، لقد فهم جيدًا ما يحاول أن يوصله له، هو رجل لديه علاقات بطريقة ما على ما يبدو!!

 

استراح "بدر الدين" بمقعده وهو يتفحصه بتركيز وسأله:

-       وأنا ايه اللي يخليني أنا أو سليم نعمل كده؟ ايه اللي هتقوله أو هتعمله هيخليني اتدخل وأحل الموضوع بعد ما كبر وبقا قضية؟ أنت عارف اللي أنت ماسك قضيته ده عامل إيه معايا ومع ولادي، لو نطول نقدم ألف اثبات كمان على أي حاجة تدينه مش هنتأخر!!

 

ازداد غضبًا فوق غضبه الذي لا يتركه منذ صباح اليوم وشعر بأنه يضيع من وقته مع رجل مثله، لأول مرة يجد أن والده اقترح فكرة غبية، ولكن على كل حال هي مجرد خطوة مبدئية لحل الكثير من القضايا، روتينية أكثر منها مبدئية، وإن لم تفلح فلابد له من أن يلجأ لآلاف الطرق الأخرى دون أن يضيع وقته مع رجل غريب كهذا!

 

كاد أن ينهض بينما آتى ابنه الذي التقى به منذ قليل من خلفه وقد بدل ملابسه لأخرى رسمية وأطبق بيديه على كتفه ثم حدثه قائلًا:

-       ده أنت هتبقا تريند البيت النهاردة، بتشرب سجاير يا بدر!!

 

التفت له عندما فاجئه بهذه الطريقة ثم حدثه على مضض:

-       هتقطلعلي الخلف، ما بالراحة مكنتش سجارة!

 

نظر سليم بالمنفضة أمامه وامتدت يده لتتناول السجائر والقداحة ليخبره بشماتة:

-       ده نوري لو عرفت هتحرمك من الأكل أسبوعين.. أنا هروح اقولها، لا وكمان قهوة، يومك مش فايت النهاردة..

 

تابعهما "عمر" مستغربًا ما يحدث أمامه وظن أنه يُضيع وقته ليس إلا فهو لديه الكثير ليفعله، عليه العودة لمنزله، وعليه أن يُلاقي هذا الشاب اليوم، اللعنة، لقد نسى الدواء، عقله سيغادره دون رجعة هذه المرة!

-       سجايرك ابقا خدها على البوابة..

 

أخبره "سليم" بنظرات منزعجة ليرفع "عمر" حاجباه متعجبًا لينهض ثم قال:

-       أنا كده كده ماشي..

 

أردف "سليم" مجيبًا بابتسامة غير ودودة على الاطلاق:

-       احسن برضو! قولتلك من الأول اللي أنت جاي عشانه خلص في الكلمتين اللي قولتهوملك!

 

هذه الإهانة لا يتحملها على الاطلاق، ليته لم يوافق على هذه القضية، غضبه من هذا المزعج أصبح لا يُطاق، بل تجاه الموقف برُمته!

 

-       استنى بس متمشيش كلامنا لسه مخلصش..

 

اوقفه "بدر الدين" ليُعطيه نظرات منزعجة وهو يقتلع علبة سجائره من يد "سليم" الذي جذبه والده ليتهامس كلاهما بما لم يستطع سماعه ولا تفسيره:

-       ده ابن يزيد الجندي، هو وأبوه محامين شاطرين، اهمد كده بدل ما ندخل في حوارات معاهم وخليني اتفاهم معاه بطريقتي.. أبوه لو اتدخل في القضية دي هيحلها، يغور شهاب بفلوسه بس سبني اتعامل معاه عشان نبعد عن المشاكل وأنا مش ناقص اقفل على شهاب يطلعلي ابن يزيد الجندي!

 

رمق والده ليتساءل باستنكار:

-       ايه يعني يزيد الجندي هيعمل ايه هو ولا ابنه؟!

 

مد يده ليصفعه بخفة على عنقه بينما قال:

-       امشي يا ابن الأهبل من هنا روح شوف شغلك..

 

هز رأسه بحنق وأخبره مستنكرًا:

-       والله أنت بتضيع وقتك يا بدر، سلام!

 

تركه وغادر ليتغاضى "بدر الدين" عن متابعته وعاد إلى "عمر" ليُحدثه "سليم" بتحذير من على مسافة وهو في طريقه للخارج:

-       بطل شُرب قهوة وسجاير يا بدر!

 

مط شفتيه بقليل من الغيظ لقول ابنه ليتحدث معقبًا:

-       معلش فاكرني هموت بدري ولا حاجة.. اقعد اقعد وسيبك من كلامه وتعالى نكمل كلامنا!

 

عقد حاجباه ولم يستمع لقوله بعد أن تأكد أنه يُضيع وقته ليس إلا ليقول باقتضاب:

-       لا انا هامشي، ورايا حاجات معلش!

 

حاول الحفاظ بقدر الإمكان ألا يدخل في صدام معه فلقد اغلق هذا الباب منذ سنوات وليس لديه المقدرة ولا حتى التركيز ليكتسب عداوات جديدة بينما حدثه الآخر بمرح قبل أن يأخذ خطوة واحدة:

-       يا اخي عيب واحد قد ابوك يبقا عايز يتكلم معاك وتسيبه وتمشي، اقعد اقعد لسه مخلصناش كلامنا وأنا هاعرفك كتير من اللي متعرفوش!

 

ازداد الضيق على ملامحه ليجلس على مضض بينما أضاف "بدر الدين" بملامح مازحة:

-       مالك كده متعصب أوي، اسمع الكلمتين اللي عندي وبعدين روح اعمل اللي أنت عايزه.. يمكن حاجة من اللي هقوله هتفيدك في قضيتك!

 

حدقه بامتعاض ولم يتفوه سوى بكلمة واحدة:

-       اتفضل!

 

تفحصه لوهلة ولا يعرف لماذا بداخله يشعر وكأن من أمامه لا يفقه شيئًا عما يحدث ولكنه هو الآخر لا يُريد كسب أي من الأعداء والمشكلات لعائلته وخصوصًا هذا المتهور الذي أخذ القرار في تسليم الأدلة للسلطات، سيفقد عقله لو حدث له شيء!!

 

-       اللي انت ماسك قضيته ده وعايز تجيبله حقه، ده لو كان حقه يعني، اذانا كتير في حياتنا، واذى كل اللي حواليه، حتى مراته اللي نقل كل حاجة باسمها اتأذت منه وأظن أنت عارف هو عمل إيه كويس فيها!

 

لوهلة تذكر كلمات والده من ليلة أمس عندما قال:

-       القضية دي مهمة والدنيا كانت مقلوبة على اخوه ومراته وسمعت في البلد كلها ومفيش حد إلا واتكلم عنها، إذا نجحت فيها هترجع تاني عمر الجندي اللي اسمه مسمع والكل هيرجع يعملك الف حساب!

 

هذا جعله يُفكر بينه وبين نفسه ما عساه أن يفعل هذا الرجل؟ ولماذا هناك ردة فعل من الجميع تجاه هذا الأمر بهذه الأهمية؟ لو لم يدعي فهم ما يحدث وتحلى بالثقة والتفهم وخصوصًا بتلك النظرات الثاقبة من هذا الرجل، سيفضح أمره!

 

-       من مجرد قريب بعيد وصدفة جمعتنا مع شهاب وإني كنت عايز اساعده فجأة قلبلنا حياتنا، فجأة يقرب من بنت اختي ويخطبها بعد ما أتأكد إن ابني بيحبها، لبسهم قضية عندنا في المخازن وابني اترماله يومين بسببها في الحجز، والتانية اتشلت بسببه بعد ما اغتصبها وهي اللي كانت ورا الفيديو بتاعهم وبعدها اختفت، يحصل لابني حادثة غريبة هو وابن اختي.. كل اللي بكلمك عليهم دول يبقوا ولاد عمه.. فأنا مهما قولتلك مش هنخلص من حكاياته.. فأنت فاكر إننا ممكن يعني نتحايل على القانون بمجيتك؟

 

استغرب للغاية من تلك الكلمات التي يستمع لها وعلا ملامحه الجدية بالرغم من أنه لا يفهم كل ما يتفوه به ولم ير ولم يسمع شيء عن هذا الرجل الذي لا يدر لم وقع في طريقه، ولكنه سيطر على ملامحه ببراعة واكتفى بإعطاء نظرات جدية واثقة ليُتابع "بدر الدين" حديثه بسخرية مستفهمًا:

-       مش بيسمو اللي بتعمله ده تحايل على القانون برضو؟

 

تنهد "عمر" واصغى لكلماته وشعر أنه غبي بشدة لحضوره اليوم ظنًا منه أن الأمر هين، لم يكن يتوقع أن قضية أملاك وتحفظ على أموال ستكون مبنية على كل هذا التاريخ..

 

احتدت نظرات "بدر الدين" بمقلتيه اللامعتين وفجأة تحول حديثه الساخر إلى جدية شديدة وسأله سؤال:

-       السيد الوالد محامي مش كده؟

 

استنفر بشدة مما يستمع له، منذ قليل قد أرسل له بسلامه معه، ما هذا السؤال الغبي، أو ما المقصد من تكرار الأمر، لا، هو يعرف تمامًا أن القدر يسخر منه ليُذكره بمن هو والده كل لحظة بكل يوم بكل حياته البائسة!!

 

اشتد غضبه وهز رأسه بالموافقة على مضض ليصل لنهاية كل تلك الكلمات التي ربما ستفيده لاحقًا فتابع الآخر كلماته:

-       طيب لو انتو الاتنين زي بعض، ينفع يصغرك قدام حد في قضية مثلًا حتى لو ارائكم عكس بعض؟ مش ده شغلكم وكل محامي وليه طريقته ولا إيه؟

 

هذه قضية لعينة، قام "سليم الخولي" بتقديم أدلة تدين نزاهة مصدر أموال "شهاب الدمنهوري"، ما شأن هذا الرجل به هو ووالده الآن؟!

 

-       أنا يمكن عشان راجل كبير دايمًا باختار الحلول الودية، بس بعد اللي ابني قدمه أنا مقدرش أصغره قدام حد، زي ما والدك ميقدرش يصغرك قدام حد.. صدقني كان ممكن لو بدري شوية من سنة ولا حاجة كنا حلينا المواضيع، بس سليم عمل اللي عمله ومقدرش اطلعه صغير قدام حد!

 

ابتلع "عمر" وشعر بالتردد بداخله لتلك المقارنة التي استمع لها، ولكنه استمر في ادعاء الثقة والجدية الظاهرة على ملامحه حتى لا يُصبح أضحوكة وأنصت له لعله ينتهي لينهض ويغادره دون رجعة:

-       تعرف أنا اتعلمت إن فيه حاجات مينفعش تتحل ودي وبالاتفاق، وفيه حاجات غصب عننا لازم نعملها سواء بقا كانت قانونية أو لا عشان تجيب بيها حقك.. وأنا راجل كبير عيلة وعندي ولادي وأهلي أخاف عليهم.. يمكن لو كنا قدمنا كل اللي في أيدينا بدري شوية مكناش اتأذينا.. فلو أنت جاي تتحايل على القانون وعايزني اتدخل من تحت لتحت أنا أو ابني عشان القضية تتحل، أنا اتحايلت على القانون من بدري عشان بس اعرف ابعد عن أهلى الأذى.. واعتبره رد اعتبار ليا ولولادي على حاجة واحدة من اللي قولتلك عليها!

 

هل هذا الرجل يقوم بتهديده بطريقة مستترة؟ هو يفعل، بالطبع يفعل، هل حقًا كل ما قاله حقيقي أم مجرد رجل مؤذي ليس إلا؟!

 

تعجب "بدر الدين" من هدوئه الغريب ليضيف:

-       فيه حاجات مبتقدرش تثبتها بالقانون والادلة.. بس فيه الف طريقة قانونية ممكن تاخد بيها ولو جزء من حقك، على الاقل انا وابني ومراته قاعدين دلوقتي في بلد مش خايفين ان شهاب الدمنهوري يدخلها ولا رجليه تعتبها غير كمان عشرة ولا خمستاشر سنة، احيانا التهديد هو اللي بيجيب مع ناس معينة نتيجة بعد ما الحسنى مبتنفعش.. وأنت أكيد فاهم وعارف الكلام ده اكتر من أي حد تاني..

 

حسنًا، لقد وصلته الرسالة، هو لن يقبل طلبه على الاطلاق، ويهدده برسائل أخرى عدة، أنه لو حاول أن يتفوه بحرف لن يسلم منه، من يظن نفسه هذا الرجل؟!!

 

-       شهاب اللي أنت ماسك قضيته ليه علاقة بعيلة مافيا في إيطاليا وقعد هناك سنين، وكل فلوسه دي مصدرها مش معروف، وأنا متأكد إنك محامي شاطر وهتلاقي مليون طريقة تثبت بيها إن الفلوس دي مصدرها معروف.. هتاخد منك وقت، شوف بقا هتثبت ازاي، ممكن تدور وراه في إيطاليا كان بيعمل ايه وتدور ورا والده اللي مات، بس باقي القضايا صعب أوي تتحل، وبعد كل اللي قدمناه مفيش غير الوقت بقا يبقى يسقط عقوباته ولا يفضل ميت أو هربان.. بس لو عليا أنا وابني مش هنرجع في اللي احنا عملناه!  

 

حاول السيطرة قدر الإمكان على نفسه ألا يتفوه بكلمة واحدة بالرغم من آلاف التساؤلات التي يود التساؤل بها، ولكن حرف واحد ينطق به وسيُصبح كالأبله الذي لأول مرة في حياته، كما أنه على يقين أن أحيانًا الصمت أبلغ ما يُقال في العديد من المواقف، وخصوصًا قضية كهذه!!

 

-       تمام، شكرًا على وقتك..

 

نهض يجمع أشياءه من أمامه على الطاولة ليُغادر ليسأله "بدر الدين" بابتسامة:

-       ايه، مش هتستنى تشرب العصير؟

 

نهض ليقف أمامه بينما أومأ له بالانكار واجابه باقتضاب:

-       لا معلش، ورايا حاجات كتيرة..

 

قدم له "بدر الدين" يده ليُصافحه فنظر لها لوهلة وصافحه وبداخله الكثير من التشتت ليجده يخبره:

-       متنساش بقا تقول لبابا بدر الدين الخولي بيسلم عليك!!

 

هز رأسه باقتضاب وسرعان ما توجه ليُغادر وأمسك بهاتفه سريعًا ليتصل بوالده وبمجرد اجابته سأله:

-       بابا، هو مين بدر الدين الخولي؟!

 

--

 

الأقصر.. عصرًا، نفس اليوم..

 

أغمضت عينيها وآخر ما رأته تلك المياه الذهبية بفعل انعكاس أشعة الشمس عليها وامتنت لتلك النسمات الدافئة بصحبة الدفء وهذه الأجواء التي افتقدتها طوال فترة سفرها وحاولت الاستمتاع بهذه اللحظات أمام النيل مباشرة ولم تكترث لأي مما حولها وحاولت تسليط تركيزها على صوت أنفاسها وهي تتحاشى التفكير فيما حدث ليلة أمس وصباح اليوم ليقاطع "دايفيد" الصمت وهو يشاهد ما أمامه بأعين متأملة:

-       الأجواء هنا رائعة.. ذكريني بهذا عندما أقوم بالعودة إلى فرنسا أرجوكِ

 

ابتسمت بعذوبة ولم تحاول النظر له ثم تحدثت بنبرة غارقة في الاسترخاء:

-       لا تفعل، يُمكنك تأسيس عمل جيد هُنا، وسأكون صديقتك المقربة.. لا تحتاج لشيء أكثر!

 

قلب عينيه وزفر بحرقة واستفهم بتهكم:

-       ولمن أترك ماريون؟!

 

فتحت عينيها لتنظر له بعسليتيها التي شابه لونهما لون الذهب بفعل أشعة الشمس الساقطة على كلتاهما ليحدثها بحزن:

-       لقد اشتقت لها بالفعل..

 

ابتسمت له من جديد وقالت بلباقة:

-       هي امرأة محظوظة لأنك تعشقها!

 

تفقدها بتساؤل وسرعان ما هتف بها:

-       وانتِ؟ ما شأنك أنت وهذا الرجل؟ لقد كان زوجك أليس كذلك؟!

 

اختلفت ملامحها للانزعاج وقامت بتعديل جلستها بعد أن تحفزت كل خلية بجـ ـسدها بمجرد الاتيان على ذكره فحدثته بجدية قائلة:

-       أرجوك دايفيد، ليس الآن!

 

قلب عينيه وتوسلها بلوم:

-       هذا ليس عدل، أنا أخبرك كل شيء عن ماريون وأنتِ لا تخبريني عن زوجك، كيف تدعين نفسك صديقتي؟!

 

زفرت بضيق ثم سألته بتحفز:

-       ما الذي تريد معرفته؟

 

وجد نبرتها هجومية بشكل غريب فقال بنبرة هادئة:

-       فقط ما تسمحين به، إن كنتِ لا تريدين التحدث حقًا يُمكننا التحدث بشيء آخر..

 

نظرت له بارتباك مازجه الغضب وهتفت به:

-       لقد التقينا صدفة بسبب قضية، هو يعمل محامي، عرض على الزواج ووافقت وعشقته ولم يفلح الأمر بعدها لذا انفصلنا..

 

تعجب من غضبها الشديد وحدثها بابتسامة معتذرًا:

-       اعتذر لكِ، ويمكننا التحدث عن شيء آخر..

 

حلقت عينيها بعيد عن وجهه وحاولت الغوص في تلك المياه الذهبية من جديد ولكنها أدركت أن مجرد كلمة واحدة عنه وتعود المعاناة مرة أخرى وكأنه مرض خبيث لن تبرأ منه أبدًا وحاولت الهدوء لوهلة ليسألها من جديد بنبرة هادئة:

-       وهو، هل كان يعشقكِ؟

 

التفتت له بملامح غير مقروءة بعد مُدة طويلة حدثت بها بالمياه أمامها لتقول بمنتهى الثقة الشديدة قبل أن تتأهب ناهضة وتغادره:

-       وما زال يفعل، يعشقني لدرجة أنه قتل نفسه من أجلي ومستعد أن يكرر الأمر!

--

في نفس الوقت..

 انتابته حالة من الذهول الشديد وتفاصيل ما رآه تركته لا يريد سوى معرفة ما الذي حدث لكل ذلك، تلك الأوراق العديدة، هؤلاء المحامين الذين لم يفلحوا بشيء ولم يتوصلوا لأي لعنة تخص هذا الرجل، والذي جعله يشتعل غضبًا هو ارادته الهائلة برؤية هذا الرجل الذي فعل هذه الكارثة بزوجته.. هل كان يحر قها حقًا بعد تقطيع جسـ ـدها بسكين وقام بعدها باغتصا بها بهذه الطريقة المُزرية وهو يُجبر نفسه عليها؟! تبًا! هل كان بهذه البشاعة مع "روان"؟!

 

لوهلة شعر بالغثيان من تلك الصور البشعة التي لا تريد مغادرة عقله بعد أن وجدها متاحة عبر الكثير من مواقع الشبكة العنكبوتية ونظر لهذا المبنى المتواضع بعد أن صمم على التحدث لنفس الشاب الذي رآه ليلة أمس والذي حدث والده عن القضية، ليس لديه الوقت للجلوس والانتظار بعدما استحثت هذه القصة برمتها كامل فضوله!

 

صعد للأعلى متجهًا للطابق الثالث كما أخبره "هاشم" الذي لم يستطع أن يذهب له فاختار هو بنفسه أن يحضر ويُنهي هذه القصة ليُنهي هذه القضية وينتهي من هذه المهزلة لعل والده يتركه وشأنه في النهاية!

 

-       أنت عمو المحامي؟!

 

تفقده "عُمر" بتعجب لهذا الطفل الذي يبدو وكأنه بالعاشرة من عمره فهز رأسه باقتضاب ليحدثه قائلًا وهو يقدم يده ليصافحه:

-       أنا حازم.. اتفضل..

 

صافحه واتجه للداخل وهو يخبره بجدية:

-       ممكن تقول لهاشم إني وصلت؟

 

جلس حيث أشار له فتطلعه "حازم" بنظرات متفحصه ليسأله:

-       أنت هتعرف ترجع الفلوس بتاعتي؟

 

تعجب "عمر" مما يستمع له وتفقده باستغراب ليُقصر الآخر الطريق عليه ليخبره:

-       أنا حازم أخو شهاب الصغير، وده ورثي من بابي.. ولو مرجعتش الفلوس أنا همشي من المدرسة بتاعتي اخر السنة دي..

 

أليس "هاشم" أخيه، أهناك "حازم" كذلك؟ ما هذه العائلة الصعبة!! كم هناك أخ لهذا الرجل؟! رأسه بدأت تؤلمه بالفعل!

 

-       لا مش هتمشي من المدرسة ولا حاجة.. ممكن تندهلي هاشم؟!

 

اقترب منه وبدأت ملامحه في التحول للحُزن الشديد ورأى الدموع تلتمع بعينيه وحدثه بغضب:

-       كل المحامين بيقولو كده، أنا مش عايز ابعد عن اصحابي.. أنت هتعرف تعمل حاجة ولا أنت كمان زيهم؟!

 

تنهد بإرهاق عندما بدأ هذا الطفل بالبكاء فهو ليس في حاجة لصداع الرأس ليقربه له من يديه بجذبة خفيفة ليقول:

-       متقلقش، مش هتسيب المدرسة ولا حاجة.. وبعدين الراجل معيطش!

 

داعب شعره على مضض وهو يجبر نفسه على رسم ابتسامة له بينما توقف الآخر عن البكاء ونظر له بصدمة وأخبره بمصداقية شديدة متحدثًا بالإنجليزية:

-       هل أنت غبي؟! ألا يمكن الرجل أن يحزن؟! هبة دائمًا تقول ذلك..

 

دخل "هاشم" بسرعة قبل أن يفسد "حازم" الأمور وحدثه معتذرًا:

-       معلش أنا آسف.. ادخل جوا يا حازم خلي فريدة تعملنا قهوة

 

تفقد كلاهما بنظرات متفحصة وهو يجفف دموعه ليغمغم إلى "هاشم" بنبرة خافتة:

-       هذا الرجل غبي ولن يستطيع فعل شيء!

 

تركهما وغادر لينظر له بندم وتمنى أنه لم يستمع لما تفوه به الآخر قبل مغادرته:

-       معلش، حازم متدلع شوية.. ومن ساعة ما فهمناه أنه ممكن يسيب المدرسة وهو اكتر واحد نفسه يحل موضوع القضية أكتر مني أنا شخصيًا..

 

جلس أمامه مباشرة ليتساءل "عُمر" بفضول:

-       ده اخوك أنت وشهاب؟

 

هز رأسه بالنفي وأجابه بابتسامة تمتلئ بالحُزن:

-       حازم أخو شهاب الصغير من الأب، مامته ماتت في حادثة حريق وباباه مات، وأخوه فجأة اختفى.. مالوش حد غيرنا تقريبًا.. بس مامته كانت مدلعاه شوية!

 

هز رأسه بتفهم له ليُتابع الآخر:

-       أنا تقريبًا بعمل كل ده عشان خاطر حازم.. ده حقه ولازم يرجعله!

 

عقد حاجباه ثم انتبه له بتفحص شديد وسأله:

-       أنا عايزك تحكيلي بمنتهى الصراحة إيه اللي حصل بالظبط وليه اتنازل لمراته عن كل حاجة ونقلها باسمها.. لو خبيت عليا أي تفاصيل مهما كانت صغيرة مظنش هيبقا في مصلحة حد فينا لو كنت عايز ترجع الفلوس دي!




يُتبع..