-->

رواية كما يحلو لها بتول طه - الفصل السادس عشر النسخة العامية

 رواية كما يحلو لها

الجزء الثالث من رواية كما يحلو لي بقلم بتول طه

 


رواية كما يحلو لها

الفصل السادس عشر

النسخة العامية



مساءًا في نفس اليوم..

يعرف أن بعد كل ما ارتكبه في حياته أن نهايته هي العذاب، لن يكون من الأخيار فجأة وسيمن القدر عليه بالجنة ونعيمها الأبدي، يعرف أنه اختار الكثير من السُبل الخاطئة، ويثق بأن مصيره للجحيم، ولكن على الأقل كانت رغبته بأن يعيش كيفما يحلو له، هو لا يكفر بالقدر، بعد كل ما فعله يستطيع وصف نفسه بأنه رجل يؤمن بالمعجزات والقدر والثواب والعقاب وأن من يفعل الشر سيُعذب ومن يفعل الخير سيُكافئ.. ولكن أن يتعذب في حياته وآخرته كان هذا أكثر مما يستطيع عقله مواكبته..

 

-       مين اللي وداهم المستشفى بعد ما الفيديو ده اتنشر؟

 

ابتسم له "هاشم" بسخرية ثم أجابه:

-       يومها ناس كتير اتضرت، بدر الدين اتضرب بالنار، وزينة مرات ابنه سليم اتضربت بالنار، وفيروز بعد ما جسمها اتحرق وحصلها كل اللي أنت شوفته سليم نقلها المستشفى، وشهاب نفسه مالقاش حد يساعده وبيقولو إن معاذ وداه مستشفى..

 

عقد حاجباه باهتمام ثم سأله وشعر بأن رأسه بكل ما بداخلها تُشابه خيوط العنكبوتِ من كثرة تلك التفاصيل وسأله:

-       مين معاذ؟

 

المزيد من الشخصيات، حقًا لا يستطيع مواكبة كل هذا، لا يفهم متى ستنتهي فقرة ظهور الشخصيات الجديدة في هذه القصة:

-       معاذ ده يبقا صاحب جوز فيروز الله يرحمه، ماهر..

 

أومأ له بتفهم وسأله مرة ثانية:

-       كان شغال ايه؟

 

أجابه "هاشم" مباشرة دون إخفاء أي تفاصيل:

-       ظابط في الشرطة..

 

زفر بإرهاق وشرد لوهلة وهو يحاول أن يجمع تلك الخيوط معًا، هذا الرجل بالصباح لم يكن كاذبًا، وأخيه يؤكد على كلماته، وكل ما رآه من تفاصيل، رأسه ستتهشم عما قريب!!

 

-       طيب، ايه الأوراق اللي معاكم بتثبت مصدر الفلوس وتنازل شهاب لفيروز عن كل حاجة؟

 

اتضحت خيبة الأمل على وجهه ثم نهض ليخبره:

-       ثواني هجيبلك كل ورق القضية اللي معايا..

 

تابعه بعينيه ثم تفقد الوقت في ساعته ليجد الساعة قد عبرت العاشرة مساءًا بينما شعر بأن رأسه يزداد صداعها بصحبة غضبه الذي لا يتوقف منذ الصباح ليجده عاد من جديد ثم ناوله ملف يحتوي على بعض الأوراق التي لم تكن كثيرة على كل حال فتفقدها بعينيه بينما حدثه "هاشم" قائلًا:

-       دي كل حاجة تخص توقيع فيروز على العقود، تنازل شهاب ليها، التوكيل العام اللي كان معاها، وملقناش أي حاجة تانية بعد ما حاولنا ندور في بيوته اللي قدرنا ندخلها قبل ما الدولة تتحفظ على كل حاجة!

 

لماذا يملك رجل واحد الكثير من البيوت بهذا المنظر، نعم هو نفسه لديه منزل خاص به، وآخر تزوج به، وعدة أملاك متفرقة ولكنها كانت بأكملها منازل في محافظات ساحلية، القليل خارج البلاد كنوع من أنواع التأمين، ولكن أن يملك أكثر من منزل بهذا الشكل في نفس المحافظة أمر مريب، هل هذا لأنه من يملك كل تلك المجمعات السكنية؟!

 

أجلى حلقه وهو يحدق بهذه الأوراق أمامه وسأله:

-       أنت قولتلي أنه مسكك كل الحسابات في شركته، كل تواريخ الميزانيات وتقارير الضرايب، كل ده فين؟

 

ارتبكت ملامحه لوهلة لشعوره بالذنب بينما قال:

-       تقارير آخر خمس سنين موجودين معايا بس في مكتبي مش هنا في البيت، بس اللي ماتت دي كانت أخت مراتي وتُعتبر زيها زي أختي هبة بالظبط، فيروز مكنتش مجرد مرات أخويا اللي مكنتش اعرفه بقالي سنين، فالوقت كان صعب جدًا إني افكر في ورق واثباتات ومكوناش متخيلين إن فجأة كل حاجة هتضيع.. ده غير إن مراتي كانت حامل وخوفت أول حاجة على مراتي وابني اللي لسه متولدش!

 

فرك جبهته بقوة ثم نهض وهو يخبره بنبرة آمرة:

-       الورق ده مينفعش تسيبه في حتة ويفضل معاك.. أنا عايزه يكون عندي بكرة الصبح في مكتبي..

 

نهض "هاشم" كما رآه يفعل وسأله:

-       أنا مكونتش فاهم كل ده، خبرتي كمان في مجال المحاسبة مكانتش كبيرة وهو فجأة خلاني امسك كل حاجة، بس ممكن تطمني، احنا هنعرف نعمل حاجة؟

 

هز رأسه بالموافقة وهو مشتت للغاية والكثير من الأفكار تتسارع بعقله كسباق لن ينتهي أبدًا ثم تفقده مليًا ليسأله:

-       آخر جلسة إيه اللي حصل فيها؟

 

اجابه بكل ما يعرفه متمنيًا أن يجد لهم حل:

-       آخر محامي كان ماسك قضية الطعن اجلها شهر واداني كل الأوراق واعتذر إنه يكمل القضية!

 

تنهد بضيق وملامحه يسيطر عليها الوجوم التام وسأله مرة ثانية:

-       الكلام ده من امتى؟

 

-       من أسبوع بالظبط، اتأجلت لجلسة 24 أكتوبر!

 

 

حسنًا، أمامه فقط ثلاثة أسابيع لعينة ليعمل على كل هذا، جيد للغاية، بل أكثر من جيد، لن يربح هذه القضية بأي حال من الأحوال وستكون نهايته! وليُريه والده العزيز كيف سيتصرف في هذا!

 

-       طيب أنا هامشي دلوقتي ومتنساش بكرة الصبح تجيبلي الورق اللي قولتلك عليه، ولما أوصل لحاجة هبقا اعرفك!

 

صافحه "هاشم" ثم حدثه بامتنان:

-       أنا متشكر.. عارف إن الموضوع صعب ومن ساعة ما الحكم ما صدر مفيش حاجة غير تأجيل في تأجيل..

 

لم يكترث لكلماته وشرد مُفكرًا للحظة ثم ضيق عينيه ناظرًا له بتفحص وقال:

-       أنا عايز منك أرقام كل ولاد عمه لو معاك، ورقمه ورقم مراته، ورقم معاذ، واصحابهم لو ليهم أصحاب، أي أرقام لأي حد ليه علاقة بيهم أنا عايزها!

 

تعجب من كلماته لوهلة وأجابه:

-       أنا معايا أرقام كتير هبعتهالك حاضر..

--

-       بابا، أنت ليه مفهمتنيش كل الحاجات اللي في القضية دي وليه مقولتليش على بدر الدين الخولي من بدري؟

 

سأل والده مباشرة بمجرد اجابته على اتصاله ليأتيه صوته الجامد كما العادة وهو يستهزأ بتساؤله بطريقة غير مباشرة:

-       وهو أنت أول مرة تمسك قضية صعبة؟

 

عقد حاجباه بضيق من اجابته التي لم تُفده في شيء ليجده يُكمل بجدية:

-       كان لازم تفوق من اللي أنت فيه، بعد سنتين ممسكتش فيهم غير قضية البنت اللي روحت اتجوزتها كان لازم تعيد كل حاجة من الأول، ازاي تحل حاجة بشكل ودي وبعدها تتعب في الأدلة ومتابعة القضية.. فاكر إنك تسيب شغلك سنتين حاجة سهلة؟! كان لازم اعلمك من أول وجديد!

 

ابتلع وعقله يتزاحم به الكثير مما مر عليه بالعامين الماضيين، والده محق، الأمر ليس سهل، بل الأمر هو الأصعب على الاطلاق، أن تظن أنك فررت من مصير مُهلك لروحك وبعدها تجد نفسك في مواجهة مع نفس المصير من جديد.. رجل له علاقة بالمافيا، آلاف من علامات الاستفهام حوله هو وزوجته وما حدث بينهما، والكثير من التفاصيل غير المعلومة!

 

-       ايه، ساكت ليه، مش هتعرف تتصرف وناوي تكمل في فشلك ده كتير؟

 

استمع لكلماته ليقسو على أسنانه بقوة شديدة ثم أجابه بحروف بالكاد تفلتت من بين هذه المعركة بين فكيه:

-       لا هعرف!!

 

أنهى مكالمته ثم اتجه لمقر شركته بعد وقت طويل يحاول التفكير في هذه القضية التي استحوذت على فضوله بالكامل وأخذ يحدق بالأوراق كثيرًا أمامه وأرسل كل الأرقام التي حصل عليها لنفس ذلك الرجل الذي يُساعده عن طريق احضار الكثير من الأدلة بطريقة غير مشروعة ثم أرسل له برسالة صوتية قائلًا:

-       كل الأرقام دي بترتيبها كده عايزك تجيبلي كل المكالمات اللي فيها بالتوارريخ اللي بعتهالك، عارف إنها أرقام كتيرة بس كل اللي توصله ابعتهولي أول بأول!

--

بعد مرور يومين..

نهض من على تلك الأريكة الموضوعة بغرفة مكتبه وهو يشعر بالألم بعنقه وفرك وجهه ثم تفقد الساعة ليجد أنه لم يمر سوى ثلاث ساعات منذ أن سقط في النوم دون أن يشعر ولاحظ مقدار ما تناوله من الشراب ليلة أمس بالقرب من منفضة سجائره التي فاضت ببقايا الرماد المحترق ليتيقن أن التفسير الوحيد على هذا الصداع الذي يؤلم رأسه بشدة هو اسرافه ليس إلا، ولكن هذه هي الطريقة الوحيدة ليستطيع التركيز على ما بين يديه!!

 

أمسك بالزجاجة وتجرع ما تبقى بداخلها كنوع من أنواع التسكين لهذا الصداع ثم اتجه ليبتلع قرصين من المُسكن لعله ينتهي من الأمر سريعًا وبعدها للحمام ليقوم بغسل وجهه وعقله لا يتوقف عن التفكير بتلك المكالمتين، الأولى آتت منه، والثانية كانت من رقمها! ولم يلحظ هذا النشاط الذي بات يشعر به مؤخرًا!

 

منذ حوالي عام..

" ابعتلي حد على بيت اكتوبر ياخد التوكيل ويخلص كل حاجة.. بكرة الصبح عايز كل العقود تكون اتوثقت"

 

"ايه يا بنتي فينك كل ما اكلمك موبايلك مقفول واسأل هبة تقولي مع جوزها برا، ولسه شايفة على اكونت هبة موضوع هاشم اخوها وفريدة.. ما صدقت لقيت موبايلك اتفتح وحمدت ربنا اصلًا بعد ما كنت فقدت الأمل إن رقمك ده الاقيه شغال.. انتو كويسين يا بنتي؟ 

 

-        والله ما بقيت عارفة يا لبنى.. مبقيتش عارفة أنا ايه اللي بيحصلي ولا بيحصل لأهلي اللي ملحقتش حتى اكلمهم

 

-       طيب اهدي بس يا حبيبتي.. اهدي علشان نعرف نتكلم.. تحبي اجيلك طيب؟ 

 

-       ماشي.. كمان شهاب عند مامته وهبات الليلادي لوحدي..

 

-       خلاص تمام.. كلها ساعتين كده ولا حاجة ومعاذ يوصل، انتي عارفة إنه بيخلص متأخر وهو مش هيرفض طبعًا اني اجيلك ده بيعزك جدًا.. هاخليه يوصلني ومتناميش هاجيلك ونقضيها سهر ورغي في كل حاجة

 

-       ماشي.. هستناكي.. "

 

 

تفقد نفسه بالمرآة ليجد أن ملامحه غريبة هذه المرة، ولكنها جيدة، بل أفضل مما كان عليه بالأيام الكثيرة الماضية، لم يعد لديه الكثير من الوقت ليُضيعه، بطريقة قانونية أو غيرها لابد من أن يصل لخيط ما.. عليه التأكد أولًا من شيء أخير!!

 

توجه ليُبدل ملابسه وألقى بكل شيء على نفس الأريكة ليجد منظر مكتبه يعج بالفوضى فتفقد الساعة ليجدها قاربت على الثامنة صباحًا فاستدعى "باسم" وبمجرد دخوله لم يتوقف عن الكلام والالقاء بأوامره:

-       الهدوم دي وديها دراي كلين، والازايز الفاضية ارميها، كريم هيكل يتصرف ويجبلي كل ميزانيات شركة DRE وأي حاجة تخص الحسابات اللي فيها وفيه نسخة جاهزة عندك على المكتب لآخر خمس سنين بس أنا عايز اللي اقدم من كده، من ساعة ما الشركة دي ابتدت، كلملي السواق يجهز عشان عندي مشاوير مهمة النهاردة لازم تخلص، ومحمود يأكل برق والنهاردة معاد الدكتور بتاعه يكلمني لما يخلص عشان عايزه يجهزلي حاجات في البيت، نادر عايزه يراجع كل ورق القضية ويكلم واحد اسمه هاشم دويدار، ياخد منه أي شهادات خاصة بـ فيروز عبد الحي، دراسة أو خبرة، ويجمعلي أي دليل على شغلها وخبراتها وعايز قسيمة جوازها من جوزها الأول، هيلاقي التفاصيل عنده في الملف.. كريم ونادر ميطولوش عن يومين وينجزو.. وهاتلي قهوة، وفطار، ومتقبلش أي قضايا ليا اليومين دول خالص.. وآه خد ده واسحبلي عشرين آلف جنيه وتجيبهوملي حالًا..

 

أخرج واحدًا من البطاقات الخاصة بحساباته البنكية وناولها له ثم ابتعد ليبتلع "باسم" في خشية، هو يعلم هذا الوجه منه عندما يعمل على قضية هامة، يتمنى فقط أنه لم ينس شيء مما قاله:

-       فيه حاجة تانية حضرتك؟

 

التفت نحوه ثم أخبره:

-       حد ينضف المكتب، وآه هو أنا قولتلك إني عايز فطار وقهوة؟

 

أومأ له بالإيجاب ليقول وهو يتفقد كل تلك الفوضى بعينيه:

-       أيوة حضرتك، عشر دقايق والفطار يبقا موجود.. بس ممكن حضرتك تستنى في اوضة الاجتماعات عشان الناس اللي هتنضف المكتب..

 

نهض وهو يتناول هاتفه وارتدى سترته وتوجه للغرفة الأخرى ودون أي وعي منه بتصرفه المندفع وجد نفسه يتصل بها ولم يتوقف إلى أن اجابت مكالمته!

--

من الذي يريدها في هذا الصباح الباكر؟ لقد نامت بأعجوبة منذ قليل!! يستحيل أن "دايفيد" لم يُنهك من كل ما فعلاه بالأيام الماضية وكل هذا التنقل بين الكثير من المزارات الأثرية، ألا يُمكنها النوم، فقط تطالب بالنوم ليس إلا، ألا يفهم الجميع ما الذي تعنيه الاجازة؟ ألا يفهم الجميع أنها مُتعبة؟

 

تناولت هاتفها الذي لا يكف عن الاهتزاز وفتحت عينيها بصعوبة لتجد اسمه يظهر على شاشة هاتفها لتتأهب في خوف وجلست على فراشها وأخذت تتابع الهاتف بتردد لتجد المكالمة تنتهي ففتحت الهاتف وتفقدت الخمس مكالمات الفائتة منه وقبل أن تغلق هاتفها اتصل بها من جديد!

 

ابتلعت وبدأت ضربات قلبها في التسارع قليلًا، كلما حاولت الانتهاء من التفكير به وبكل ما يخصه لتتغلب على نوبات قلقها بالأيام الأخيرة تجد ما يُذكرها به، تُصبح في نفس الدوامة، ما الذي يُريده بعد كل هذا؟ ألم يُكفه عذابها الذي ذاقته على يديه؟!

 

فكرت لبُرهة قبل أن تفعل ما ستندم عليه لاحقًا، والدتها وأخيها، هل سيقوم بتهديد ما لتعود إليه؟ هي لا تنسى ما حدث أثناء ثمالتها معه، لقد قام بتهديدها من جديد، لا يتوقف عن أفعاله ولن يفعلها، لن يتغير أبدًا!!

 

اجابت المكالمة وأطلقت همهمة مفادها أن يتحدث بما لديه لتجد كلماته متلعثمة:

-       أنا، أنا رجعت اشتغل.. وعايز، عايز اخد رأيك في حاجة..

 

رفعت حاجبيها باستهزاء وعقبت بنبرة متسائلة:

-       مكلمني الساعة تسعة الصبح عشان تاخد رأيي في شغلك؟!

 

أطلقت ضحكة مكتومة بزفرة ساخرة وتابعت:

-       كلم بابا هيساعدك!!

 

شعر بأنها تُنهي المكالمة فقال بسرعة قبل أن تفعل:

-       استني بس متقفليش، أنا كنت قفلت باب القضايا ده من زمان، وبطلت اشتغل مع ناس زيه، بس القضية اللي ماسكها صعبة وصاحبها أكيد ليه علاقة بالمافيا وليه حاجات مشبوهة كتير وأنا مش عارف أعمل إيه، ممكن اقابلك واحكيلك كل حاجة، أنا مش هاعرف احكي حاجة لحد غيرك.. بصي، هاخد رأيك بس وبعدين مش هكلمك تاني، بس أنا عايز اشوفك، عايز افهمك كل حاجة.. أنا هقدر اكسب القضية بس هتاخد وقت معايا، ووقت كبير كمان.. بس ممكن ناس كتير غصب عني يحصلها مشاكل..

 

لماذا يُثرثر هكذا في الصباح الباكر، وبأي حق يظن أنه يمكنه أن يخبرها بما يعمل عليه؟

-       عمر أنت سكران؟!

 

لابد من أن يكون، لا يتفوه بالأمور هكذا بهذه الطريقة إلا عندما يكون ثمل، أو؛ أثناء مواجهته لنوبة هوس من نوباته!!

 

-       لا لا، أنا لسه صاحي من شوية، أنا فايق، أنا عايز بس افهمك اللي بيحصل معايا واخد رأيك و..

 

قاطعته دون اكتراث بعدما تواترت الأفكار على عقلها دون انقطاع:

-       أنا طليقتك مش مراتك، مبقاش فيه حاجة ما بينا، متكلمنيش تاني لو سمحت!!

 

أنهت مكالمتها ثم فعلت وضع الطائرة وتجمدت بمكانها لوهلة وبالرغم من معرفتها ما سيحدث لاحقًا عندما يكون في حالة مثل هذه الحالات وتصرفاته الغريبة التي تلحق بكل من حوله كان عليها أن تبتعد عنه بشتى الطرق ولكن خوفها لم يتركها لتستمتع بالأمر!

 

استخرجت رقم هاتف "بسام" وقامت بالاتصال به من هاتف غرفتها بالفندق ليجيبها بنعاس:

-       آلو..

 

ابتلعت بتوتر وهي تشعر بأن وتيرة أنفاسها تتصاعد بدون ارادتها ثم حدثته:

-       صباح الخير يا حبيبي، أنت مروحتش الجامعة ولا ايه؟

 

آتاها صوته مُجيبًا:

-       يا روان قولتلك لسه هتبدأ يوم واحد الشهر الجاي..

 

هزت رأسها وهي تغمض عينيها على هذا النسيان ثم أخبرته مُعتذرة:

-       معلش، أنا نسيت، آسفة..

 

بدأت نبرته في التغير قليلًا وسألها:

-       انتي ناوية ترجعي امتى؟

 

تنهدت بضيق ثم اجابته:

-       بسام، قولتلك هارجع كمان خمس أيام، وبعدين فهمتك إن دايفيد هيقدر يساعدني في الشغل اوي، مش حكيتلك العقود الأخيرة من برا فرقت معانا ازاي؟

 

همهم بتفهم ثم حدثها باستياء:

-       بصي اعملي اللي انتِ عايزاه، أنتِ دايمًا بتعملي اللي أنتِ عايزاه، وعارف إنك بتحبي الشغل، بس أنتِ وحشتيني ومامي كل شوية مقضياها زعل وأنا خايف عليكم انتو الاتنين.. ممكن بقا بعد ما موضوع دايفيد ده يخلص ترجعي وتقعدي معانا زي زمان وتفوقي بقا من موضوع طلاقك ده!

 

حاولت أن تسيطر على انزعاجها من إلحاحه في هذا الأمر وحدثته باهتمام قدر استطاعتها:

-       حاضر.. هانت كلها خمس أيام.. اسمعني كويس يا بسام عشان الكلام ده مفيهوش هزار!

 

استمعت لتنهيدته من الطرف الآخر ليرد بيأس:

-       قولي..

 

حذرته بشدة ونبرة آمرة:

-       متروحش في حتة من غير السواق والأمن أنت ومامي.. وأي مكان تروحه ابعتلي قبلها، فاهم؟!

 

تعجب من قولها فحدثها بتساؤل ونفاذ صبر:

-       هو احنا مش كنا خلصنا من الموضوع ده، فيه ايه حصل تاني؟

 

لم تكترث للإجابة بتفاصيل ستجعلها تفقد سيطرتها على وضعها الذي لا ينتهي وتكلمت بعصبية:

-       اسمع اللي بقولك عليه وخلاص، ولا نسيت أنا كنت متجوزة مين وباباه كان عايز يعمل ايه.. لما ابقا اتطمن عليكم أوعدك إني هخلصك من الحصار اللي عاملاه، وسلام دلوقتي عشان عندي online meeting كمان شوية!

 

أنهت المكالمة وهي تلعن بداخلها على هذا السلطان الوغد اللعين المغرور الذي قرر فجأة أن يُمسك بقطعة من الحديد تتصل بشبكات لا سلكية وقرر أن يُفسد نومها وحياتها للأبد! تقسم أنها لن تسمح له هذه المرة بذلك.. لقد تعلمت الكثير منه بالفعل وتعرف كيف تتصرف مع وغد مثله، لا تنتظر فقط سوى اللحظة الملائمة!

--

بعد مرور ساعة..

خرج من السيارة أمام هذا المشفى الاستثماري التي ما زالت تابعة لجهة مهمة من جهات الدولة واتجه للبوابة مباشرةً بالرغم كراهيته الشديدة للمستشفيات بأكملها واقترب من موظفة الاستقبال ليحدثها قائلًا:

-       عايز احجز عند دكتور عظام..

-       حجز العيادات من الطُرقة دي على طول.. حضرتك امشي على طول وبعدين يمين هتلاقي أكتر من شباك للحجز..

 

توجه حيث أخبرته فوجد الكثير من الناس بالفعل ليسأل ممرضة كانت تمشي باستعجال:

-       مفيش هنا كافيتيريا لو حبيت ادخن؟

 

-       التدخين برا والكافيتيريا فيه واحدة جنب الطوارئ والتانية الدور الأول جنب المعمل

 

اجابته دون اكتراث وتركته ليجد أنه يود صفعها بشدة ولكنه توجه لليقوم بالحجز أولًا فوجد أنه سينتظر كثيرًا ليتابع تلك الأرقام وفكر بأن يقوم بالحجز ببطاقة التأمين الخاص به ولكنه كان يُريد كسب المزيد من الوقت في هذا المشفى بأي طريقة!

 

توجه بعد أن سأل على مكان المعمل لكي يكسب وقتًا أكثر وهو يتفقد هذا المشفى ليجد أن هناك مئات من كاميرات المُراقبة مُعلقة هنا وهناك وبدأ في رؤية اللافتات الدالة على المعمل وبعدها الاستراحة الخاصة بتقديم الطعام والمشروبات فقام بإحضار قهوة وجلس على واحد من المقاعد وهو يتناولها وانتظر رؤية أي عامل، فما يُريده لن يكون قانونيًا بأي طريقة من الطرق ثم أمسك بحافظة نقوده وتابع من على مسافة وهو ينفث دخانه بنفاذ صبر إلى أن وجد رجلين يدخلان لهذا المكان المفتوح ويبدو عليهم الإرهاق ليفترق كلاهما فواحد ذهب لركن المشروبات والثاني جلس على واحد من المقاعد..

 

حاول التدقيق فيما تحمله تلك الإشارة المُعلقة على زيه ليظن أن ما طُبع عليها من على مسافة هو عمله "ممرض مدني" وبعدها حروف لم تستطع عينيه الحصول عليها لابتعاد المسافة.. جيد، ممرض سيقبل إكرامية على خلاف الطبيب!!

 

لن يفضح نفسه بشأن ما آتى لأجله، كان عليه أن يكذب ببراعة وينجح في اقناع هذا الرجل الذي يبدو صغير العمر على كل حال!

 

نهض بعد أن جمع أشياءه ليقترب منه وسأله بابتسامة:

-       ممكن أسألك على حاجة؟

 

أومأ له بعدم اكتراث وهو يتفقد هاتفه مُسلطًا كامل تركيزه عليه:

-       أنت بتشتغل في المستشفى بقالك كتير؟

 

 انزعج بداخله لنفس هزة رأسه اللعينة وكأنه شفاف أمامه لا يُرى ولكنه أجبره على النظر له بعد أن جلس على المقعد الآخر أمامه وهو يخرج هاتفه، سلسلة مفاتيحه، حافظة نقوده التي يظهر منها تلك الأوراق المالية المطوية، علبة سجائره وقداحته وقال متكلمًا بنبرة يسيطر عليها القلق الزائف الذي لم يشك الآخر به:

-       بصراحة والدتي بندورلها على مستشفى كويسة تعمل عملية.. وكنت عايز اتطمن الدنيا هنا كويسة زي ما بنسمع ولا إيه بالظبط وخصوصًا إنك قولتلي إن بقالك كتير هنا؟ هو الدكتور اللي بتتابع معاه بيخيرنا ما بين المستشفى هنا ومستشفى *****.. وبصراحة كنت عايز اتطمن بنفسي من ناحية العمليات والأوض اللي هتقعد فيها والمتابعة مع الدكاترة بعد العملية وكل ده..

 

وجد الرجل يلاحق أشياءه بنظراتٍ متفحصة كما فعل مع ملابسه فأطمئن لأن هذا ما كان يُريده بالفعل وهو يرتشف من قهوته ورد معقبًا بود خالف عدم اكتراثه منذ قليل:

-       الدنيا هنا تمام وزي الفل.. وأظن المستشفى كبيرة وبقالها سنين أكيد بتسمع عنها فمتقلقش..

 

همهم له بتفهم وأمسك بعلبة سجائره وقدم له واحدة ليتناولها الآخر منه بدون تردد:

-       مع إني لسه طافيها.. تسلم..

 

حمم وهو يُعطه ابتسامة ود زيفها ببراعة ثم أخبره باستفها:

-       بس كنت عايز أشوف الأوض يعني.. وبدل ما اعمل شوشرة واجيب والدتي وهي أصلًا بتتحرك بالعافية.. هو أنت بتشتغل هنا بقالك قد ايه؟

 

تفقد المكان حوله ثم حدق بساعته ليقول:

-       يعني حوالي تلت سنين، وعلى فكرة ممكن اوريهالك بس على الساعة اتناشر كده، مش هينفع دلوقتي..

 

جيد للغاية، ثلاث سنوات أكثر مما يحتاجه!! أمسك بحافظة نقوده وهو يخرج مبلغ مالي سال له لعاب الرجل الذي ابتلع وعينيه تتوسع بشدة، هذا المبلغ أكثر من أجر شهر كامل بعمله وليست إكرامية قليلة على الاطلاق هذا لو تذكرهم واحد من المرضى وكل ما آتى لأجله هذا الثري هو رؤية غرف ليس إلا بينما وجده يضيف متسائلًا:

-       أنا سمعت إن فيه ناس كويسين أوي بيجو هنا.. ممكن تقولي يعني لو فيه فرق مثلًا بين أوض وأوض، أو لو فيه جناح ممكن نحجزه؟

 

استعاد الرجل تركيزه بينما تصنع "عمر" الانشغال ليجيبه قائلًا بحماس:

-       أنا ممكن ادي لحضرتك رقمي، واسمي شريف، وكمان ممكن اوريك المكان وقت ما تحب..

 

ابتسم له وقال بامتنان زائف فهو ليس ممتن على الاطلاق، وقام بإلغاء قفل شاشة هاتفه وانتظر أن يُملي رقمه ففعل الآخر فناوله هذا المبلغ ليقول برفض قاطع:

-       لا يا باشا أنا معملتش حاجة.. يعني أي حد بيحب يطمن احنا بنطمنه.. والله ميصحش..

-       دي حاجة بسيطة بما إنك هتساعدني بعيد عن الإجراءات والشوشرة، أنا والدتي عندي أهم من أي حاجة..

 

نظر الرجل حوله بتردد وهو يبتلع ثم أخبره بنبرة خافتة:

-       طيب معلش اعذرني مش هاقدر هنا.. الناس كلها شايفانا والكاميرات حوالينا..

 

ادعى عدم الفهم بينما قال وكأنه لا يفهم فداحة ما يفعله برشوة رجل أثناء عمله:

-       لا ازاي.. مينفعش.. اتفضل، ده حق تعبك أنت في التمريض وأظن ده شغل ناس غيرك وأنت بتعمل أكتر من شغلك كمان.. ومحدش هياخد باله ولا حاجة.. اقولك، لو حد سألك ابقا قولهم إن كان ليك عندي فلوس مستلفها منك..

 

دس المبلغ بجيبه وها هو أول دليل حصل عليه لو تفوه هذا الرجل بحرف واحد، مراجعة كاميرات المشفى وحدها كفيلة بتهديده لاحقًا لو فكر عدم مساعدته..

 

-       متشكر ربنا يخليك..

 

آتى زميله الآخر الذي كان معه منذ دقائق قليلة وهو يضع كوبي الشاي على الطاولة لينهض الآخر وحدث "عمر" قائلًا:

-       اتفضل..

 

سأله زميله الذي يرتدي مثله تمامًا وهو ينظر له باستغراب:

-       ايه يا عم رايح فين؟! مستعجل على الشغل اوي؟

 

نظر له بملامح تحمل الكثير من الكلمات غير المنطوقة وأجابه:

-       هوصل بس الأستاذ وهجيلك تاني..

 

تبعه "عمر" وهو يتفقد الغرف بأعين تدعي الاهتمام وكاد أن يتقيأ من شدة هذه الرائحة الكريهة التي لطالما نجحت في اصابته بالغثيان وسأله بحرص:

-       هو بعد العملية بيطلعو هنا على طول؟

 

 أجابه الرجل دون تردد:

-       على حسب الحالة، فيه حالات لازم تبقى في العناية المُركزة، وناس لما بتفوق على طول بتنزل في الأوض هنا لغاية ما يطلعها تصريح الخروج، يعني مش كله زي بعضه، هي والدة حضرتك هتعمل عملية إيه بالظبط؟

 

التفت له "عمر" بعد أن أصبح كلاهما بداخل غرفة ثم حدق به مليًا وهمهم له قائلًا:

-       مش بالظبط..

 

تعجب الرجل منه وسأله بعفوية:

-       هو ايه اللي مش بالظبط؟

 

عقد حاجباه ثم أجابه باقتضاب:

-       مش عملية اوي يعني.. هو أنا كنت عايز أسألك على حاجة تانية حصلت من حوالي سنة..

 

استغربه الرجل وحدق به ليسأله بسرعة:

-       كان فيه واحدة اسمها فيروز جت هنا وكان فيه شُرطة وموضوع كبير، فاكر عنه حاجة؟

 

اختلفت ملامح الرجل وأجابه بتردد:

-       أنا معرفش مين دي ومعرفش عن الموضوع ده حاجة!!

 

ابتسم له بخبث وقال مستنكرًا:

-       ميصحش بردو ده أنت بتشتغل في المستشفى بقالك تلت سنين وأنت اللي هتفيدني..

 

أومأ له بالرفض وعقب بلهجة يتضح بها أنه لن يُساعده على الاطلاق:

-       ما قولتلك إني معرفش.. مين فيروز دي، المستشفى بيدخلنا فيها حالات قد كده واحد كل يوم هفتكر مين ولا مين..

 

همهم له وهو يهز رأسه بالموافقة وتفحصه بنظرات جعلت الرجل يبتلع أمامه:

-       بس مش كل الحالات بتبقى قضيتها مسمعة والشرطة تيجي تعمل تحقيقات، ولا إيه رأيك..

 

تفلت الرجل منه ليقول:

-       بص حضرتك دي الأوض واديك شوفتها وأنا الموضوع اللي أنت بتتكلم عليه ده معرفش عنه حاجة..

 

ابتسم له ابتسامة لم تتصل لعينيه وأخبره بمنتهى البرود:

-       بس تعرف إن لو الموظف أخد رشوة أثناء تأدية عمله موضوع صعب جدًا في المستشفى هنا وخصوصًا إنها مستشفى تبع الـ ***

 

رمقه الرجل باستنكار ليخرج هذه النقود من جيبه ليُعيدها له:

-       لا حضرتك متشكر وفلوسك اهي و..

-       ما احنا هنا في الاوضة مفيش كاميرا.. وعمومًا أنا مش عايز الفلوس ولا حتى جاي اعملك مشاكل لأني لو عملتلك مشاكل هاعملها لنفسي أنا كمان.. أنا عمر يزيد الجندي المحامي، وكل اللي عايز اعرفه منك هو الناس اللي كانت هنا لما فيروز كانت في غيبوبة!!

 

قاطعه وهو يحدق به ليتردد الرجل وهو يشعر وكأنه وقع في ورطة ليبتلع ثم بدأ في قص كل ما يعرفه عما حدث!!

 

--

تفقد ساعته وهو في طريقه لهذا الرجل الذي باتت كل النهايات تشير إليه، هو من تحدث إلى "فيروز" عندما استيقظت، هو من ذهب إلى منزل "شهاب" عندما تركه الجميع بمفرده، وهو نفس الرجل الذي هناك مكالمة قد تم الغاءها من سجل مكالماته بعد هذه الحادثة بحوالي شهرين، وهو أيضًا زوج تلك المرأة التي تحدثت إليها ليلة الحادث، لماذا كل الطرق تنتهي عنده هو، وهو كذلك نفس الرجل الذي تولى دفنها بمساعدة "هاشم" وبحضور جميع اقاربها؟!

 

القى سيجارته من نافذة السيارة عندما توقفت وترجل للخارج واتجه مباشرة للداخل ليوقفه رجل على باب هذا القسم ليسأله:

-       خير؟ عايز تروح فين؟

 

تفقده بينما أجابه بطريقة واحدة تعرف أنها ستُفيد في دخوله للوزارة بأكملها وليس فقط هذا القسم:

-       عمر يزيد الجندي المحامي.. عايز اقابل الظابط معاذ..

 

تنهد الرجل ثم أشار لآخر بجانبه وأخبره:

-       وصل الأستاذ لحضرة الظابط وتعالى..

 

مشى بجانبه يحدق بأعين الجميع ثم التفت للرُتبة التي يحملها ليبتسم بداخله بسخرية، وتذكر تلك الأيام ببداية عمله وهو لا يكره أكثر من التواجد بمثل هذه الأماكن، ربما المشفى فقط أصعب من التواجد بداخل أقسام الشُرطة ولكنه مر بهذا قبلًا وعليه أن يتحمل قليلًا ليصل لنهاية هذه القضية ليحدثه الرجل متسائلًا:

-       حضرتك عايزه في إيه؟

 

أجلى حلقه وهو يقول بحرص ليبقى دليل آخر فربما قد يكون هذا الرجل شاهد محتمل في قضيته:

-       قوله عايزه بخصوص قضية فيروز عبد الحي وجوزها شهاب الدمنهوري!

 

يُتبع..