-->

رواية كما يحلو لها بتول طه - الفصل الثامن عشر النسخة العامية

 

رواية كما يحلو لها

الجزء الثالث من رواية كما يحلو لي بقلم بتول طه




رواية كما يحلو لها

الفصل الثامن عشر

النسخة العامية



فتح عينيه ليشعر بقليل من صداع الرأس وتفقد الغرفة حوله ليجد نفسه بمكان غريب فنهض جالسًا وهو يرى هذه الجدران الأسمنتية حوله ليظن أن هذا الضابط قد قام باختطافه لوهلة فنظر له وبداخله شعر أنه يُريد أن يقتله بيديه ليخفي ملامح وجهه ليخبره بهدوء عندما رأى غضبه يرتسم على ملامحه:

-       أنا كل ده قدرت ابعد عنه العين، مش عايز بغلطة واحدة منك حد يعرف مكانه!

 

حدجه بنظرات مُحتقرة بينما استطرد "معاذ" باستسلام:

-       أنا مقصدش اعصبك، بس ده الحل الوحيد قدامي، واعتقد إنك لو فكرت شوية هتفهمني!

 

قبل أن يراه عدوه اللدود فكر لوهلة، هذه كلمات "مريم" له، حسنًا، الرجل اعترف له بكل شيء بالسابق، ليس عدوه لو كان بالفعل آتى به لمقابلة "شهاب" كما اتفق كلاهما!

 

-       هو فين؟

 

اجابه بهدوء وهو يتفحصه:

-       هتشوفه، متقلقش.. أنا بس عايز افهمك حاجة..

 

عقد حاجباه باستفسار شديد وانتظر الاستماع له فقال:

-       شهاب الفترة الأخيرة بقا نوعًا ما بيستجيب للجلسات، حالته المفروض أنها بتتحسن، بس مش في دماغه إنه يتسجن خالص.. مش فارق معاه أي حاجة من القضايا.. وخد بالك متستهونش بيه، ممكن في لحظة تلاقيه قرب منك، استخدم طريقة عنيـ ـفة شوية، خليك صاحي ومركز معاه ولو فيه أي حاجة خبط على الباب هنفتحلك، شهاب خنق محامي بالكبلشات بتاعته في مرة والتاني ضرب راسه في الترابيزة الحديد.. كده كده هنقعدك وانت بينك وبينه ازاز!!

 

هل حقًا يخشاه؟ من قام بحرق زوجته واغتصـ ـبها ربما سيفعل ما هو أسوأ بالرجال، حسنًا، لقد بلغ شغفه برؤيته عنان السماء، متى سيذهب لهذا اللعين؟!

 

مرر أصابعه بخصلات شعره بعد أن استفاق بالكامل ولوهلة شعر بأن جـ ـسده مُرهق بشدة، بعد أن خدعه هذا الضابط بتخديره، ما الذي شعرت به هي وهي تحدثه بمنتهى الثقة وتبكي من أجله عندما فعل المثل معها؟ ما الذي شعرت به وهي يتم تخديرها مرة واثنان وثلاثة وتفقد الوعي وتستيقظ لتجد نفسها بمكان مُظلم مُخيف؟ الآن يزدري نفسه على فعله مثلما لم يفعل من قبل! تبًا له وتبًا لهذه القضية التي حكم قدره البائس على فرضها عليه، ليته لم يذهب لحفل خطة أخته..

 

-       احنا عندنا اتفاق، والمكالمة ممكن تفيدك بأي طريقة.. شهاب لو شك بنسبة واحد في المية إن مراته عايشة كل حاجة هتبوظ، واعتقد إنك سألت عليا كويس ودورت مين هو معاذ، يمكن أنا مبستخدمش منصبي في أذى الناس، بس جدعنتي مع ناس كتيرة خليتهم عايزين يخدموني، صدقني مش هتطلع من هنا على رجليك!!

 

شعر بغضبه بداخله أوشك على الانفجار وكاد أن يصرخ به ليسبقه:

-       هاجبلك قهوة، فوق وركز كويس وأنت بتتكلم معاه، يمكن هو مش هيؤذيك عشان بقا عندنا تجارب سابقة كتير معاه، بس للمرة المليون بقولك متستهونش بيه!

--

مشى بهذا الرواق بعد حوالي نصف ساعة وهو يتفقد كل ما حوله، الأمر يبدو كسجن حقيقي، ما الذي فعله هذا المدعو "ماهر" لصديقه "معاذ" حتى يحكم بشدة هذه التمثيلية الرائعة التي يقنع رجل خلالها بأنه حُكم عليه بسجن فعلي؟!

 

هذه القضية بكل تفاصيلها ما زالت تدهشه بالكثير!!

 

دخل حيث الباب الذي فتحه "معاذ" له ليجد غرفة صغيرة تواجد بها مقعدان حديديان مثبتان بالأرضية ولوح زجاجي يفصل بينهما ولم يمر الكثير من الوقت حتى استمع لجلبة من الطرف الآخر وبعدها فُتح باب من الجهة المقابلة فذهبت عينيه بلهفة ليرى رجل في نفس طوله تقريبًا، ربما أقصر منه بالقليل، ذو ملامح مُرهقة، حادة، وكل من يديه موضوعة بداخل اصفاد حديدية وكذلك قدميه، يرتدي زي سجن حقيقي، وهناك عجز ما بقدمه لا يُمكنه من السير بطريقة طبيعية..

 

رأى هذا الرجل ذو الملامح التي لن يحملها محامي قط، ما الذي فعله ذاك الوغد، هل آتى له براقص إيطالي محترف بشعره الفحمي هذا وجسده الممشوق؟ هل بات يفهم أخيرًا أنه يكره بشدة هؤلاء الرجال الذين يحملون اللحم الكثيف والرؤوس الصلعاء؟!

 

تفقد هذا اللعين الذي يملك قبضة فولاذية على كتفه الذي انتزعه من بين يديه وأعطاه نظرة مليئة بالضغينة وبادله الآخر نفسها ليُحذره:

-       اتعدل يا أخويا بدل ما تتمنع من الزيارات!

 

تركه وغادر ليتابعه "شهاب" بامتعاض قالبًا شفـ ـتاه والتفت نحو الآخر الذي سرعان ما حدثه متسائلًا بملامح لم يظهر عليها أي تعابير:

-       ازيك يا شهاب؟!

 

عقد حاجباه من اشمئزازه الشديد من هذا التساؤل وسأله باستنكار مستهزءًا به:

-       أنت غبي؟!

 

ما هذه العائلة؟ أخيه الأصغر والآن هو!! يتبقى أن يتلقى نفس السؤال من "هاشم" بعد أن سأله كلا من "حازم" و "شهاب" هذا السؤال ليكون جميعهم أخوة حقيقين!!

-       فيه حد يسأل واحد محكوم عليه بالمؤبد ازيه!!

 

أومأ له بمنتهى الثقة ثم عقب وهو يرى في وجهه أخيه الصغير الذي يُشابهه كثيرًا:

-       مش يمكن أنت اللي غبي ومفهمتش سؤالي؟

 

حسنًا، هذا الرجل غبي.. لن يتفوه معه بكلمة واحدة، فقط سيُضيع الوقت إلى أن يذهب دون رجعة!

-       ازيك، عامل ايه بعد اللي عملته في مراتك؟!

 

تحولت ملامحه مائة وثمانون درجة ولكن لم تتأثر ملامح "عمر" فهذا ما آتى من أجله، أن يقوم باستفزازه حتى يتحدث، لقد قرأ كتابًا كاملًا ليلة أمس عن كيفية التعامل مع رجل مثله، ولن تكون الطريقة لطيفة على الاطلاق!

 

-       متجبش سيرتها على لسانك..

 

قلب شفتاه وهو يتفحصه بمنتهى البرود وأطلق تأتأة نافية وقال بنبرة مُستفزة:

-       ازاي، ده أنا جايلك عشانها! عارف إنك أكتر واحد بيحبها وممكن يساعدها..

 

هذا الرجل غبي حقًا، يُساعد امرأة ميتة؟ كيف؟ هل سيُرسل معه باقة ورود ليضعها على قبرها، أم يبدل الرمال المنثورة أسفل جثتها التي لابد من أنها تتحلل الآن؟!

 

-       أكيد أنت عارف إن فيه حكم صدر بالتحفظ على الأموال والمنع من الصرف مع إن كل حاجة بقت باسمها، بس كل الأدلة كانت ضدك.. واتقدم تظلم ومتقبلش من أول كام جلسة، وقانونًا ده خلى أهلها يستنو تلت شهور وقدمو تظلم تاني.. محامي جاب تأجيل في تأجيل ومعرفش يعمل حاجة، وجولي أنا.. عارف أنا مين، أنا عمر يزيد الجندي.. سمعت عن الاسم ده قبل كده؟!

 

حدق بملامحه جيدًا ليضحك بسخرية وعقب قائلًا:

-       ابن بابا يعني..

 

بادله ابتسامة مليئة بالغيظ وهو يهز رأسه بالموافقة ليقول:

-       أيوة، بالظبط كده، ابن بابا.. ولو عرفت مين بابا يبقا تقدر تعرف بابا وابن بابا يقدرو يعملو ايه كويس.. وفيه حاجة كمان عايز احكيلك عليها!!

 

نهض ثم أشعل سيجارة بعيدًا عنه وأولاه ظهره لينفث دخانه وهو يتابع:

-       بص، أنا فاهمك كويس، واكتر واحد فاهم إنك بتحب مراتك، أنا ومراتي مرينا تقريبًا باللي انتو مريتو بيه..

 

ابتلع وهو يمنع نفسه من ألا يبالغ في مشاعره أمامه لكي لا يتلاعب به بينما الآخر قد ارتاب في شأن هذه القصة ليُسلط كامل تركيزه في كلماته ليستطرد من جديد:

-       بس أنت موتها، وأنا كنت قربت اموت مراتي.. بس لحقت نفسي في اخر لحظة!!

 

ارتفع غضبه من مجرد سماعه لهذه الحقيقة ليلتفت "عمر" وهو ينظر له بمنتهى البرود وتحكم في مشاعره ببراعة ثم أكمل بنبرة فولاذية كالثلج لا يتضح عليها ولو ذرة من المشاعر:

-       أنا عرفت اعوض مراتي، طلقتها ورجعتلها حياتها وسيبتها تعيش زي ما تحب، الستات بتتبسط بالكلام ده.. أنت بقا ناوي تعمل إيه عشان فيروز؟! تفتكر لو كانت عايشة كانت هترضى باللي بيحصل لأهلها وهم متمرمطين في المحاكم وفريدة أختها هي وجوزها شايلين حازم بمصاريفه هو والوالدة!

 

زفر "معاذ" باطمئنان عندما استمع لنبرته الخافتة من خلف الباب بينما ابتسم "شهاب" بسخرية، "حازم" ووالدته، فليتعفنا معًا، ليحترق كلاهما، هذا الفتى الصغير المُدلل وتلك الأم التي تقبل الجميع سواه هو!

-       وأنت بقا جاي وفاكر هتدخل عليا بالصعبنيات دي عشان أحن يعني، عايزني أعمل ايه، ابعتلهم فلوس ولا اشتغل واصرف عليهم وأنا مسجون؟!

 

هز رأسه باستنكار لترهاته بينما لم يتريث "عمر" فيما آتى من أجله وقلب شفتاه ليجيب سخريته:

-       أكيد لأ، واعتقد أنت مش غبي، واعتقد برضو فيروز الله يرحمها لو كانت موجودة مكنتش هتسيب أهلها يعيشو كده، كانت هتحاول تدور على دليل يثبت مصدر الفلوس دي.. فكر كده دقيقتين، وجاوب عليا، كانت هتسيبهم يتبهدلو البهدلة دي؟!

 

أطبق أسنانه بعنف وامارت الغضب تنعكس على كامل بدنه وليس وجهه فقط وبدأت أنفاسه في الارتفاع، ما الذي يعرفه هذا الرجل عنها؟ بأي حق يأتي هذا الوغد على ذكر اسمها أمامه؟

-       تفتكر لو كنت اديتها ثقتك، واتكلمت معاها بهدوء، وقولتلها ازاي تخونيني مع ابن خالتك بعد كل حبي ليكي، كان حصل كل اللي حصل ده؟!

 

شرد بعينيه ولم يستطع منع هذا الحُزن وتلك النبرة المليئة بالألم واليأس من التجلي عليه وعلى سائر كيانه، هل هذا السؤال موجه إلى "شهاب الدمنهوري" أم موجه إلى "عمر الجندي"؟ الرجل الذكي بشدة أم الرجل الذي قد ينسى في لحظة واحدة فجأة شهر ونصف من عمره؟! المريض العقلي النفسي أم المريض الآخر النفسي بذكاء بارع يتحدث عنه الجميع؟!

 

لا يفرق الأمر كثيرًا، كلاهما خاسران، وكلاهما قاتلان، بشكل أو بآخر يجد نفسه أمام صورة أخرى من نفسه!

 

-       كلمة واحدة عنها وهنده الزفت اللي برا يرجعني زنزانتي..

 

انتبه لصوته المشحون بألم الغضب، لوهلة أشفق عليه بينه وبين نفسه، فليس هناك رجل وحيد على هذه الأرض يشعر بألمه مثله!! ومن أجلها، قرر أن يرأف به قليلًا، فهو الأعلم بما يحدث له!!

 

-       شهاب، دليل واحد على مصدر الفلوس دي هيقدر يخليني أكسب القضية.. وأنت الوحيد اللي تعرف فين الأوراق اللي ممكن تثبت ده، هاشم وفريدة مراته مش عارفين يوصلو لحاجة، المسئوليات عليهم زادت، عندهم طفلين وحازم ووالدتك، هيشيلو كل ده ازاي؟ ومقصدش أجيب سيرتها وأجرحك تاني، بس لو كانت لسه عايشة أنت عارف ومتأكد إنها كانت هتساعدهم.. لو حبيتها بجد عارف إنك هتعمل أي حاجة عشانها، يا إما مكونتش اتنازلتلها على كل حاجة!

 

جلس أمامه بمنكبين منحنيين وهو يشرد بالأرضية وهو يقارن نفسه به، هذه الحرقة التي كان يصرخ بها وهو يبكي أثناء تعذيبه لها لن يفعلها سوى رجل يعشق حتى الثمالة، عشق مؤلم، عشق يدفع المرء للجنون، هو يعرف هذه المصيبة وعاشها بكل ما فيها!!

 

تنهد "شهاب" بعد أن تفحصه مليًا واستشعر القليل من صدقه ليتفوه بتهكم:

-       مفيش ورقة في مصر ولا عايز محامي كسر حافظله كلمتين وكام مادة يلاقي ورق زي ده بسهولة! وطبعًا سايب ورايا بهيم اسمه هاشم مش عارف يعمل حاجة، ادي آخر تربيتها!

 

رفع وجهه بانتباه شديد له وسرعان ما سأله عما يهمه:

-       امال فين؟!

 

رمقه باحتقار ليقول بابتسامة متلاعبة:

-       كاتانيا، أسأل عن بيت ليوناردو بينسوليو.. ده لو لسه البيت زي ما هو!!

 

نهض وهو يتفقده من أعلى لأسفل ونظر له بشماتة لمجرد أنه يستطيع الذهاب وهو لا ثم فجأة آتت له فكرة جعلته يضحك بشدة ليخبره بخبث وهو يتخيل ما الذي قد يقع به:

-       أو اقولك، اسأل عن كلوديا فريدناند فالياني، وكروتشيتا.. ألف مين هيدلك!!

 

تركه وغادر متجهًا نحو الباب ليناديه الآخر:

-       استنى هنا، انتي عايزني اروح بلد تانية وادور فيها على ورقتين تلاتة، الورق فين بالظبط؟!

 

لم يكترث بالتريث وطرق الباب بعد أن مشى بصعوبة نحوه ليُنهي هذه الزيارة التي لا يكترث لها وليدعه يتلقى عقابه بإيطاليا وحده لذكره اسم "فيروز" على لسانه واجابه بما لم يُفده:

-       كفاية عليك كده، ابقا خلي بابا يساعدك، يا..

 

توقف لوهلة والتفت له ليتابع باستحقار وهو يُعطيه لمحة أخيرة:

-       يا ابن بابا!!

 

بمجرد مغادرته وسماع "معاذ" لهذا الباب وهو يُغلق دخل ليتحدث وهو يحذره بحرص ونبرة خافتة وأعين تدل على التأهب والفزع:

-       اياك تجيب سيرة كلوديا في القضية، كلوديا دي اللي شهاب خطف مني الموبايل وكلمها.. هو اللي قالها تقتل أروى الدمنهوري بنت أخت بدر الدين الخولي وبعد المكالمة دي أروى اختفت!! لازم تلاقي سبب عشان لو اتسألت جبت الورق ده منين لازم تكون عارف كويس أنت بتعمل إيه!

--

بعد مرور أربع أيام..

ابتسمت لها لتحاول أن تطمئنها بعد هذا الارتباك الشديد الجلي عليها لتخبرها بما جعلها تفزع:

-       على فكرة بسام حكالي على كل حاجة..

 

اتسعت عينيها في وجل وتبدل لون وجهها للحمرة لتتوسع ابتسامتها وتابعت لتهدئها:

-       ايه ده هو أنا قولت إيه، أنا مقصدش حاجة خالص، بسام حر في اللي عايز يعمله وأنتِ واضح إنك لايقة عليه جدًا.. خوفتي ليه لما كلمتك كده؟ متقلقيش خالص، بالعكس أنا معاه جدًا، وموافقة اوي، وخصوصًا بعد ما قابلتك وشوفتك!

 

خجلت من قولها ومواجهتها لها بهذه الطريقة لتفرك يديها ببعضها البعض لتغمز لها بمرح وقالت باستفسار:

-       متقلقيش واحكيلي بقا التفاصيل بتاعتنا بتاعت البنات دي، اتقابلتو ازاي؟

 

شعرت بمزيد من الإحراج وخصوصًا وهي تجلس أمام أكثر من يهتم لها "بسام" في حياته دائمًا وأبدًا فأجابتها بخجل متحدثة بالإنجليزية وهي تزيح بعض من خصلاتها خلف اذنها:

-       لقد التقينا في معمل العلوم بالصف الثاني الاعدادي ومنذ هذا الوقت أصبحنا أصدقاء..

 

أجلت "رُبى" حلقها بارتباك وتابعت بابتسامة وتجرأت قليلًا في النظر إليها لتقول:

-       وبعدين اخر السنة اللي فاتت بسام قالي إن أنا وهو اكتر من أصحاب، وفعلًا كان معاه حق!!

 

همهمت وهي تتابعها ثم ارتشفت من كوب العصير لتشعر "روان" باستمتاع غريب وهي تستمع لها فسألتها مرة ثانية:

-       وإيه أحسن حاجة في أخويا بقا؟

 

توسعت ابتسامتها وفكرت لوهلة ثم قالت مجيبة:

-       إنه عارفني كويس، وبحسه صاحبي وبنحب كل حاجة زي بعض، ودايمًا بيسمعني، بنفهم بعض على طول، نفس طريقة الهزار، وبيشجعني على كل حاجة بحبها وطيب اوي.. مش عارفة، كل حاجة معاه حلوة وسهلة وجميلة!

 

لانت ابتسامتها لوهلة لتدرك بينها وبين نفسها أن ابنة الثمانية عشر عام قد فهمت ما تعنيه العلاقات بكلمات قليلة قبلًا منها، أدركت ما لم تدركه هي وهي قاربت على الثلاثين عام، وبعد لحظات من الشرود شعرت بالفخر بأخيها، على ما يبدو هذه بداية لقصة حب قوية وجيدة، هنيئًا لهما..

 

توسعت ابتسامتها وهي تمازحها لتقول:

-       لو بس عملك حاجة تعالي قوليلي، وخلاص بقا هنبقا اصحاب

 

ارتبكت أكثر وهي تبتسم لها ثم قالت بنفي مسرعة:

-       لا، بسام مبيعملش حاجة اصلًا.. وأكيد هنبقى أصحاب..

 

وجدته يجلس بينهما فجأة ثم تفقدها ليسألها بمرح:

-       أنا قاعد متابعكم من بعيد وشكلها خايفة وقربت تغرق في الكُرسي، عملتيلها تحقيق ولا ايه؟

 

ضيقت عينيها نحوه ببعض الغيظ الزائف ولكنها اطمأنت بداخلها أنه استطاع تفسير ما تشعر به "رُبى" على هذه المسافة وحاكته مُقلدة:

-       عملتيلها تحقيق ولا ايه!!

 

تابعت وهي توزع نظراتها بينهما:

-       قومو يالا ارجعو لاصحابكم واتبسطو شوية قبل ما الجامعة تبدأ!!

 

تنهد بإرهاق وجذب يد "رُبى" وهو يغمغم:

-       أخيرًا افراج.. دي حفلتي يعني مش كده..

 

تبعته الأخرى وهي تلتفت لها وأشارت لها مودعة بيدها بينما استمعت لضحكتها التي لا تعلم ما سببها ولكنها شعرت بداخلها بالسعادة من أجله ومن أجلها كذلك، فمن الجيد أنه يستطيع الشعور بهذه الفرحة في هذا العمر الصغير ولا تتمنى سوى النجاح لهما سويًا، خصوصًا أنها تمنت يومًا ما أن تفعلها ولم تستطع.. أو هي من منعت نفسها من ذلك!! لقد كانت غبية على ما يبدو!

 

ولمزيد من الحزن، وجدت نفسها تُقارن كلمات هذه الطفلة عن أخيها وكلماتها هي نفسها منذ أكثر من عام عن "عمر" عندما جلست نفس الجلسة مع أخته يومًا ما..

 

"عنده طريقة غريبة اوي بيسمعك بيها غير كل الرجالة، يعني مش اللي بيهز راسه وخلاص ولا قاعد وبيسمعك كتحصيل حاصل، لأ هو بيركز في كل حرف بتقوليه وبيهتم بيه ولو بجد مزاجه رايق عنده استعداد يناقشك في كل حاجة حتى لو مش مقتنع بيها، رومانسي اوي وبيحب الشعر والتاريخ ومثقف جدًا من الناحية دي وبيحب القراية وساعات بلاقيه بيصدمني بحاجات معرفش عنها حاجة.. ليه كلام كده بتبقي واقفة قدامه ولسانك مش قادر يلاقي كلام يرد بيه عليه.

ولما تكبري وتتجوزي في يوم وترتبطي بشخص كويس، العلاقة مهمة اوي بين الست والراجل، وهو شاطر جدًا في ده!

عمر بيعرف يضغط على نفسه، وبيعرف ينجح حسب امكانياته حتى لو مش بيحب الحاجة اللي بيعملها، ولما بيحط حاجة في دماغه بيعرف يوصلها.. وكشخص عمومًا هو حد بسيط، خيالي شوية بس مش انسان متطلب وعايز حاجات كتيرة، بمجرد ما المشكلة معاه بتبقى مش موجودة بحس إني مش محتاجة أي حاجة في الدنيا غير انه يفضل جانبي..

 أو يمكن أنا بحبه عشان هو أول واخر راجل قرب مني فحبيته بمميزاته وعيوبه.. ممكن تكون نظرة سطحية شوية بس بحبه، والحب حاجة مبتقدريش تتحكمي فيها، يمكن عاجبني شكله ومركزه وسُمعته أول ما شفته بس كل ما بقرب منه بحس إني صعب ابعد، حتى لو كان كل اللي باخده منه مجرد ونس وبصة واحدة ليا.. هو بينجح اوي في انه يحسسني إن أنا الست الوحيدة اللي عينه بتشوفها، وده بالنسبالي كفاية.."

 

الهدوء، استماعه بطريقة خبيثة لتحليل الأمور كما يحلو له، الجـ ـنس الرائع، القراءة والأساطير، هي مجرد ترهات، ترهات احتال بها عليها!!

 

لقد عاشت اسطورة العشق بكل ما فيها وفجأة واحدة اكتشفت أنها ليست اسطورة وكل ما عايشته معه لم يكن عشق، بل كان كذب وخداع بحت!

 

ولكن هل سيكذب في قتله لنفسه؟ في محاولات انتحاره؟ في محاولات علاجه؟ في عدم استطاعته النظر إليها؟ واللعنة لماذا تُفكر به؟! لماذا لا تريد الاستمتاع بسعادة أخيها؟! لماذا لا يُمكنها نسيان هذا اللعين؟!

 

-       ايه ده يا روري بتعيطي ليه؟!

 

أدركت أنها تبكي فانتبهت من شرودها ونظرت له وهي لا تدري متى آتى ولا لكم من الوقت تواجد بجانبه وسرعان ما جففت دموعها وهمست هاربة من السبب الحقيقي لبُكائها حتى لا تكون مصدر تعاسة للجميع ونطقت بما سيُصدقه حتمًا لتقول:

-       كان نفسي بابي يبقا معانا النهاردة!

--

"الرسالة رقم 212 لكِ..

اليوم رقم 227 منذ رؤيتكِ لأول مرة..

واليوم رقم 12 منذ رؤيتك بحفل الخطبة..

اليوم رقم 164 منذ عودتي..

بداية الدفتر الثالث..

 

لا أستطيع أن أطلق وصفًا محددًا على ما أشعر به الآن، ولا ما انتظره، فأنا ذاهب لمكان لا أدري ما الذي سأفعله هناك، ولا يمكنني التخمين أكثر، فكل ما حصلت عليه هو منزل في إيطاليا بكاتانيا وثلاثة من الأسماء، ليوناردو بينسوليو، كلوديا فريدناند فالياني، وكروتشيتا، وسوى ذلك لا يمكنني سوى الاستماع لصوت عقلي الذي يخبرني أنني أستطيع فعل أي شيء وكل شيء..

 

أتعرفين صغيرتي ما الذي جعلني أذهب، العشق، العشق الذي يدفع المرء لفعل كل ما لا يؤمن به، والعاشق المجنون هو من يستطيع أن يحرق زوجته ثم ينادي أنه فعل ذلك وهو لا يشعر بفداحة ما يرتكبه، هو نفسه مثل العاشق المجنون الذي كان يبكي بجانبك وأنتِ فاقدة لوعيك، وبمجرد استيقاظك يفعلها من جديد، فقط لأنه يعشقك ويرى من وجهة نظره المريضة أنكِ تستحقين الألم مثلما يتألم هو! ترهات لعاشق مجنون أليس كذلك؟!

 

لقد قابلت هذا الرجل، "شهاب الدمنهوري".. يُذكرني بنفس الرجل الذي عملت معه يومًا ما ولكن الاختلاف هو عمر كلاهما، والعشق.. لم يتحمل أن أنطق باسم زوجته أمامه، وبكل ما بداخلي من قدرة على التمني، لا أتمنى أكثر من أن يكون عشقه لها حقيقي، وقتها سأستطيع أن أحقق نجاحًا في هذه القضية اللعينة!

 

لن أكذب، هذه القصة تُشابه قصتنا كثيرًا، أراكِ هي لذا أقنع نفسي بأنني أحاول أن أعيد لكِ هذا الحق المسلوب الذي لم ترتكب أي منكما ذنب لتحمله، وأراني هذا الزوج المختل الذي قتل زوجته.. والأمر الوحيد الذي يشفع لي قليلًا هو أنكِ على قيد الحياة..

 

أتساءل بيني وبين نفسي، هل لو فعلت كل ما يحلو لكِ يومًا ما، وكل ما كان يحلو لكِ منذ البداية، أن أصبح رجل واعي بمرضي، بعيوبي، أدافع عن الحق، أن أكون على قدر من التفاهم، هل هذا سيشفع لي ولو بمقدار ذرة واحدة على ما فعلته معك؟!

 

ذهابي إلى كاتانيا والبحث عن بعض الأوراق التي قد تبرأ فيروز عبد الحي في قضية الطعن على التحفظ على أموالها والمنع من صرفها والمنع من إدارة شركاتها أصبح بأكمله لكِ أنتِ.. لا أريد أكثر من أن تعرفين هذا في يوم ما..

 

وأمّا عن تلك الرؤية الواضحة أمام عيناي وأنا ألمح وجهي البائس في المرآة وأتذكر ملامح شهاب نفسه، فلا أرى سوى قاتلان، كلاهما ارتكبا جريمة بقتل المرأة الوحيدة التي تقبلت أيًا منهما، أنا لست غبي روان، ربما أنا مريض ولكنني على قدر من الذكاء يؤهلني لأعرف أن هذه المرأة التي رأيتها ولمـ ـستها يوم الحفل كانت امرأة أخرى.. ليست صغيرتي التي عشقتها يومًا ما.. لقد قتلتها بيدي لتذهب وتترك لي ملامح تُشابه طفلة لم تُرد الكثير مني ولم استجب أنا!

 

أشعر بالثقة الشديدة، والأفكار تتسارع بعقلي، لا أترك كوب القهوة ولا كأس الويسكي، لا أنام ولا تغفل عيني، أعمل وكأنني آلة ولست بشر، أثرثر كثيرًا كلما سنحت الفرصة لي بأن أفعل، استمعت لتلك المكالمات بنفسي، أراجع ما يعمل عليه فريقي، أعطي الأوامر واتنقل بين عملي والفندق وأحدث والدي، أفكر بكِ كثيرًا ويقيني بداخلي أنكِ عندما تدركين ما أفعله سأنال استحسانك، وأفكر بحديثي مع معالجتي النفسية التي قمتِ أنتِ باختيارها، وكلما أغمضت عيني لجزء من الثانية أراكِ بعسليتيكِ تتوسليني أن أكمل ما بدأته ولا ابتعد وأنفاسنا تتسارع بلوعة تلك الرغبة المستعرة التي تحتدم بدمائنا .. روان أنا أعاني من نوبة هوس خفيف، أنا أدرك ذلك تمامًا..

 

ربما ليست مثل السابقة، قد يكون تأثير العقاقير عليّ، وربما لأنني قبلت تشخيصي اللعين، أو قد تكون نتيجة لآلاف الأوراق التي قرأتها عن مصابين اضطراب ثنائي القطب من الدرجة الثانية، حلوتي، أنا لم أكن أحاول الانتحار بالأيام الماضية وحسب، بل عملت على الأمر لأنكِ كنتِ واثقة بأنني أحتاج لأن أفهم هذا، كلما اشتد الندم كلما قرأت، وبحثت، وفهمت لعنة ما أعانيه، ولكن دون المزيد من التخمينات والافتراضات، أنا واثق أن هذه النوبة أخف وطأة ومقدارًا لأنني أفعل ما يحلو لكِ..

 

أغمض عيني لجزء من الثانية، وأدع نفسي ليتملكني حلم يقظة بأنكِ يومًا ما ستكونين الداعم لي في هذه اللعنة، لا أريد أخي، وبالطبع قد تقبلت أن أمي لم ولن تكون بجانبي، ووالدي لو ارتاب بالأمر سيقول أنكِ سبب كل هذا، لا أملك أصدقاء ولا أملك رفاهية البحث في هذا العمر عن صديق، ولكنني أملك بعض منك، بعض المحادثات، والمشاعر، والكثير من العشق الذي لن يفهمه ولن يؤمن به سواي أنا وأنتِ.. حلم يقظتي يجعلني أراكِ بجانبي تجلسين، وتخبريني أنني سأستطيع التغلب على هذا يومًا ما..

 

كل يوم انظر لتلك الأقراص، أتناول منها مرة، ومرة اتركها بعيدًا، لا أريد الغرق في هذه النوبة ولا أريد التخلي عنها، فأنا احتاج هذا النشاط وانعدام النوم لأنجز الكثير، ودعيني أخبرك بمزحة كنت أبدو خلالها كرجل غبي لا يقارن بغبائه أحد..

 

في واحدة من جلساتي بصحبة "مريم" أخبرتني أنني سيكون لي نمط مُعين، نمط يحدث لي عند كل نوبة، سواء اكتئاب أو هوس، ولن أتعرف عليه إلا بمراقبة تصرفاتي، واقترحت عليّ أن أسجل يومياتي لأتعرف عليه أكثر.. سخرت منها للغاية.. ولكن مع مرور الأيام عرفت أن هذا يُفيد للغاية..

 

دعيني اصحبك برحلة لذلك النمط اللعين الذي على ما يبدو سيُلازمني طيلة حياتي، نوباتي تحدث بعد تحفيز لصدماتي، وهناك الكثير منها، أنتِ تعلمينها بأكملها بالفعل، ولا يُسفر عن التحفيز سوى نوبة من النوبات الشديدة.. اكتئابي مرتبط بالماضي، وهوسي مرتبط بآخر من تتوقعينه.. أنتِ محفزي روان!

 

لا أقصد بأن ألقي باللوم عليكِ، ولا أقول أنكِ أنتِ السبب، وبالطبع هذه ليست مشكلتك، بل كلما تواجهت معكِ في مرحلة فاصلة بحياتي معكِ أجد نفسي أغرق في هوسي، مرة حدثت عندما أردت الابتعاد، وأخرى حدثت عندما رأيتك من جديد.. ولتصرفاتي المخزية بعدم الالتزام بما يُفترض أن يفعله رجل مختل مثلي، غرقت في نوبة جديدة، أولى نوبات هوسي الخفيف بعد ما حدث بيننا، وأول نوبة هوس وأنا أدرك ما يحدث لي تمامًا..

 

ولكنني أقبل الهوس عشقًا وأنا مولع بكِ صغيرتي، بدلًا من أن أسقط في الهوس لأي سبب آخر، لو كنتِ فقط معي الآن روان لكان كل شيء أفضل!!

 

أنا في رحلتي لكاتانيا، يتبقى ثلاث ساعات حتى تهبط الطائرة وستكون كفيلة بالحصول على قسط جيد من النوم، وسأبدأ في البحث عما يبرأكِ أنتِ وهي، لو فعلت كل ما علي فعله في أي أمر في حياتي وأنا على يقين أنكِ ستحسنين ذلك فسأنجح به دون نقاش.. اطمئني سأكسب هذه القضية حتمًا.. وسأشاركك نجاحي بيني وبين نفسي وسطوري، ولن أفعل سوى ما يحلو لكِ حتى النهاية..

 

اعشقكِ حلوتي..

المهووس المختل ذو نوبة الهوس، عُمر! "

 

أغلق دفتره الأزرق الداكن الجلدي ثم نهض ووضعه بالحقيبة بصحبة الدفترين المنتهيين بالفعل وقلمه الذي يكتب به، لا يستطيع أن يبتعد عن أي من هؤلاء الثلاثة فجميعهم يمثلونها هي، حياته، والكثير من الأدلة التي لو وقعت في يد أحد ستكون بمثابة نهايته للأبد..

 

تناول قرصين من أقراص المنوم بصحبة قرص آخر يحتوي على أملاح الليثيوم ويتمنى أن يملك تأثيرًا ولو بسيط في التحكم في هذه النوبة التي لا يريد التخلي عنها حتى تنتهي القضية بأكملها..

 

جلس على مقعد الطائرة وأغمض عينيه وحاول أن يصفي ذهنه بأعجوبة والكثير من الأفكار تتسارع وكأنها مارثون خيري لآلاف المشتركين، يبتعد عن كل العدائيين ويقترب منها هي وحدها، يُركز عليها، على ملامحها وعسليتيها، نبرة صوتها، جـ ـسدها الذي يتمنى لمـ ـسه بأنامله، استجابة باستسلام جارف للسقوط في النوم وهي بين ذرا عيه، ليس هناك أفضل من هذا، المزيد من التأمل، والمزيد من الاسترخاء، وبعض الدقائق مرت في محاولة صعبة، نجحت في النهاية!!

--

فتح عينيه عندما استمع لتلك التعليمات بالطائرة وأحكم ربط حزامه ثم تناول الكثير من المياه وهو يزيل اثار النعاس من على وجهه وبداخل عقله الكثير من الأفكار التي لم تتوقف بعد.. هل عليه أن يغادر المطار ويُنادي ليوناردو بينسوليو، كلوديا فريدناند، كروتشيتا، أم ما الذي عليه فعله؟!

 

غادر سريعًا حيث أن ركاب الدرجة الأولى لطالما غادروا أولًا واكتفى بحقيبته الصغيرة حتى لا تُعرقله الحقائب وأنهى إجراءات الدخول بنفاذ صبر شديد.. الأفكار بدأت تتسارع، رجل يعمل بالمافيا، لديه الكثير من الصفقات المشبوهة، أين سيستدل عليه؟!

 

من كل البحث خلفه ومن معرفة ملامحه وعلاقاته بالنساء، حانة ستكون جيدة، أو مطعم ما، لابد من أن تلك الأسماء ستكون بمثابة خيط يوصله لما يبحث عنه! عليه الذهاب أولًا لترك هذه الحقيبة بالفندق واستقلال السيارة التي رتبها له "باسم" كي يتنقل بها هُنا..

 

يملك الكثير من عملة اليورو، لطالما كانت الاكراميات للعاملين تأتي بمفعول السحر، ومن قراءته عن الشعب الإيطالي لا يختلف حالهم كثيرًا عن هؤلاء العاملين بمصر..

 

مسافة قصيرة قطعها بالسيارة بعد أن قابله جميع العاملين بالفندق بعدم تعرفهم على هذا الاسم، وجبة مذاقها رائع، ونبيذ إيطالي شهي، اللعنة على هذا الطعام، هو مستعد أن يتناول المزيد منه، ولكن هذا النادل عليه أن يُساعده!!

 

-       لقد كان الطعام رائعًا..

 

حدثه بالإنجليزية التي لا يعرف سواها، فلغته الإيطالية فقيرة للغاية لا تحتوي سوى على القليل من الكلمات، وهذا النادل يبتسم بلباقة في هذا المطعم الجيد، حسنًا، ينتظر رده بفارغ الصبر، لم يعد يُطيق التحمل والانتظار، تبًا لنوبته اللعينة!

-       شكرًا لكِ سيدي..

 

أخرج الكثير من الأوراق المالية وهو يتركها على الطاولة ثم سأله:

-       هناك صديق لي اسمه ليوناردو بينسوليو، يُقال أنه شهير هنا للغاية والجميع يعرفه، أردت أن افاجئه بزيارتي.. هل تعلم كيف اذهب لبيته؟!

 

تفقده الرجل بلمحة عين سريعة وسرعان ما سلط تركيزه على حمل الصحون الفارغة وغمغم بالإيطالية عدة كلمات تحتوي على الكثير من كلمة لا والآخر لم يفهمه ولكن ارتباكه كان جلي فسرعان ما سأله:

-       ماذا عن كروتشيتا؟!

 

تجمدت ملامح الرجل الذي أومأ بالإنكار وذهب بعيدًا فتابعه بعينيه ليجده يتحدث لواحد من أصدقائه فذهب إليه متصنعًا سكب المزيد من النبيذ في كأسه ليسأله بنفاذ صبر:

-       أخبرني كيف أذهب لليوناردو بينسوليو؟!

 

أخرج المزيد من الأوراق المالية ليذهب الرجل وابتعد هو الآخر فنهض في تأفف وابتلع كل ما بكأسه وبمجرد خروجه وجد طفل صغير يُعطيه ورقة كُتب عليها عدة حروف لم يفهم منها شيء..

 

سرعان ما طبع هذه الحروف على هاتفه في محرك البحث بمجرد أن استقل سيارته، هو عنوان ما.. ليذهب إذن وإمَا نجاح أم فشل ذريع!

 

بيت أخير، ليس هناك حوله الكثير من المنازل، طراز رائع، ولكن كيف سيمر من هذين الرجلين؟!

 

ترك السيارة ثم اقترب بابتسامة وتحدث لهما:

-       لا اتحدث الإيطالية، ولكنني ابحث عن ليوناردو بينسوليو..

 

تفقده الرجلان وأشار واحد منهما له بأن يدخل وهو يقوم بفتح الباب له، هذا أسهل مما توقع، الأمر مريب، وملامح كلاهما مريبة، ولكنه عليه الوصول لحل أو ورقة واحدة تُفيد قضيته!

 

دخل ليرى هذا المنزل الغريب الذي يبدو عليه الثراء واستمع لصوت البحر القريب لتتنقل عينيه هُنا وهناك بعد أن تركه هذا الرجل، الآن من هو ليوناردو بينسوليو؟ وأين هو؟ هل يتواجد أحد بهذا المنزل؟!

 

لم ينتظر وبدأت قدميه في التنقل هنا وهناك بالطابق الأرضي، جيد، هناك غرفة مكتب، وغرف المكتب تحتوي على أوراق، هل يمكن أن تكون هذه الغرفة النهاية لما يبحث عنه؟!

 

بدأت عينيه تتفحص هذه اللوحة الفارغة من أي رسومات، وتنقلت عينيه لتجد أدوات هندسية على ما يبدو، بعض الكُتب التي ليست بالكثيرة، أثاث يبدو عليه الثراء المُزعج، ومكتب رُص عليه بعض الأدوات المكتبية!!

 

نظر خلفه فلم يجد أحد فتوجه لتلك الكُتب الموضوعة على بعض الرفوف وهو يرى أغلبها بالإيطالية، لا يفهم الكثير منها، هناك كتاب بالفرنسية!! تبًا، لا يكره أكثر من هذه اللغة، ولكن ليس هناك المزيد خلف هذه الكُتب..

 

نظر خلفه ليطمئن فلم يجد أحد وامتدت يده ليفتح واحد من الأدراج ليجد بعض الأوراق القليلة التي بأكملها كُتبت بالإيطالية وفجأة شعر بشيء حاد يوضع على عنقه وهناك من يجذب شعر رأسه بقوة وصوت نسائي يقول بالإنجليزية:

-       بربك ما الذي تفعله أيها اللص الجذاب هنا؟! تكلم بسرعة قبل أن اجردك من رجو لتك في لمح البصر!!


يُتبع..