رواية مشاعر مهشمة الجزء الثاني - بقلم الكاتبة شيماء مجدي - الفصل الثاني والعشرون
رواية مشاعر مهشمة الجزء الثاني
بقلم الكاتبة شيماء مجدي
الفصل الثاني والعشرون
رواية
مشاعر مهشمة
الجزء الثاني
سرى بداخل شغاف قلبها، مشاعر متضاربة، جديدا عليها كليا تجربتها، أو الإحساس بمثلها، عندما أبصرت مجيئه نحوها، بصحبة أحد رجال والدها المدعى ب"صلاح"، افترت شفتيها عن بسمة رائقة، متحمسة، قابلها هو ببعض التوتر من انتباه "صلاح" لها، وتوجيهه نظراته الثاقبة من فوره نحوه، يسدده بنظرة مشككة، رفع حينها "كرم" يده يحك مؤخرة عنقه، وهو ينظر إليه بعدما قد توقف عن التحرك جواره، آنذاك فطن "صلاح" انتظار الأخرى له، والذي سيترتب عليه عدم ذهابه رفقته بالتأكيد، هز رأسه في تفهم لا يحمل أي تعابير، تزامنا مع ربتةً مودعة فوق ذراعه، والتفت مغادرا في صمت مريب، وما كاد يبتعد عن محيطهما، حتى توجه "كرم" نظره لها، ولاح القليل من الضيق فوق وجهه من الاستنباط المحتمل الذي سيدور في رأس الآخر عنهما، وقال لها بلهجة فاترة:
-مش خايفة يعرَّف توفيق بيه إنك واقفة مستنياني؟
تقدمت نحوه وبسمتها أصبحت ملء شدقيها، ظاهرا على محياها حماسا ممزوجا ببعض الخجل، وردت عليه بنبرة ناعمة:
-بابي عارف إني عندي صحاب ولاد، فهيفكر إننا صحاب عادي.
ضيق عينيه بنظرة ماكرة وهو يعلق عليها باستنكار متريث:
-وهو فيه واحدة بتقف تستنى صاحبها في الجراج كده؟
شعرت بالقليل من التلبك، ومسدت جانب ذراعها بيدها وهي تقترب منه أكثر، محافظة بذات الوقت على مسافة مقبولة بينهما، وأخبرته بنبرة شاع فيها الانزعاج:
-مانت مردتش عليا، ولا حتى عرفتني أي حاجة لما اتغدينا برا.
وضع إحدى يديه في جيب بنطاله، ليظهر في وضع مستقيم، وجسد مشدود، مليء بالجذابية الرجولية المعهودة عليه، وتخابث في رده معها قائلا:
-انتي لسه قايلة من شوية إنك بتصاحبي ولاد عادي، وانا بصراحة مبحبش اللي تبقى معايا تبقى مع غيري.
سارعت في الرد عليه، خيفة من سوء فهمه لكلماتها التلقائية، موضحة على عجل:
-بس انت حاجة وهما حاجة تانية.
ضيق نظراته عليها، محاولا سبر أغوارها، لمعرفة ما تكنه له داخلها، وسألها بنبرة تحمل الاستدراج:
-إيه الفرق؟
تلجلجت قليلا من نظراته المنصبة فوق وجهها، ومباغتته بذلك السؤال، الذي لم تكن واضعة تساؤله عنه في الحسبان، وردت عليه بتلعثم:
-هما صحاب، لكن انت..
ألجم خجلها لسانها، وحال دون تفوهها بإجابة قاطعة ترضي فضوله، بينما هو شعر بالضجر مما ظهر على محياها من حياء باعث على الملل، وضاعف من ضغطه عليها وهو يقول لها بتحفز:
-لما تبقى تعرفي أنا إيه ابقي كلميني.
حينما أبصرت استدارته نحو سيارته، اتسعت عينيها في ربكة، وحاولت استوقافه عن السير وهي تقول دفعة واحدة:
-كرم انا معجبة بيك اوي، وحاسة بمشاعر جوايا ناحيتك بقالي فترة.
انفرجت شفتيه بابتسامة ماكرة تحمل الاغترار، سريعا ما تحولت إلى بسمة جذابة، ساحرة بعدما التفت إليها، وسألها دون تمهيد:
-تحبي نتخطب.
تشكل على وجهها أمارات التفاجؤ، وقبل أن تعلق على عرضه الصادم، تابع هو في توضيح لئيم:
-عشان توفيق بيه على الأقل لو عرف إن في بينا حاجة في السر أكيد هيتضايق، وممكن يرفض إننا نكمل مع بعض.
هزت رأسها في نفي سريع، وأخبرته بثقة منقطعة النظير:
-لأ استحالة بابي يرفض حاجة زي دي.
ضم ما بين حاجبين في غرابة، وسألها باشتفاف مترقب:
-إيه اللي مخليكي واثقة كده؟
مدت يدها ومسكت يده في حركة جريئة فاجأتها قبل أن تفاجئه، وأجابته في خجل غريزي:
-لأن أنا عايزاك، وبابي مش هيرضى يزعلني او يوجع قلبي ويبعدنا عن بعض.
ارتسمت بسمة معتدة على شفتيه، فقد حصل على مبتغاه أخيرا، ودون أن يبذل أي مجهود، ومع جرأتها الغير معهودة، تجرأ ورفع يده معيدا خصلاتها إلى الوراء، وعلق بتساؤل موجز، ببحة آسرة:
-يعني أكلمه؟
تخضب وجهها، مع قربه المهلك لوجيب قلبها، وسألته بنبرة هامسة ببعض التلبك الخجل:
-تكلمه في إيه؟
أمال وجهه نحوها، ورد عليها ببسمة عابثة:
-في خطوبتنا.
حاولت التماسك أمام سيل مؤثراته الذكورية، وابتسمت باهتزاز في توتر ملحوظ، ثم خفضت عينيها وهي تهز رأسها في إيماءة موافقة، تلهفها لخوض تلك العلاقة معه كان شديدا، ومشاعرها كانت كالكتاب المفتوح أمامه، وذلك كان عائدا لقلة تجاربها، وانغلاقها طوال عمرها على نفسها، حتى أنها لم تكن كالفتايات الساقطات اللاتي يرضين غرورهن الأنثوي بدخولهن في علاقات حب عابرة، والسبب ليس تربيتها الصالحة، أو رغبتها في اختزال مشاعرها لصاحب النصيب، وإنما في المقام الأول لعدم التفات أي شاب لها، وفي المقام الثاني لثقتها المعدومة في نفسها، التي منعتها من التفكير في احتمالية إعجاب أحد بها، أو حتى رؤيتها لنفسها كفتاة متكاملة الأنوثة كما فتايات سنها، وهذا الشعور بالتحديد الذي غمرها "كرم" به، فهو الأول والوحيد الذي رأت في عينيه لمعة إعجاب بشخصها، ووجوده الغير مرتب في حياتها، بالنسبة لها كان كالقشة التي انتشلتها من الغرق، في حياة بائسة، واحتمالية فقدها له، أو خروجه من حياتها، سيكون بمثابة تحطيم قهري لها.
❈-❈-❈
التفكير في أمر غير مكتمل الأركان، محاولة حل الألغاز، واعتصار الرأس لتحليل المواقف، واستنباط الأحداث، جميعها لا ينجم عنها إلا تآكُل خلايا العقل، وأرق شديد للذهن والبدن، تعب "عاصم"، وأُرهق من كثرة تفكيره فيما قالته الخادمة، تفكيره في خيانة "مجد" له، واحتمالية تحالفه مع خصمه، كانت معدومة، وغير منطقية، ولكن من عساه يكون الذي رأته تلك الخادمة غيره! أغمض عينيه بشدة عندما شعر بالصداع احتل رأسه، ضغط بأصابع يديه فوق جانبي جبهته، عله بتلك الطريق يخفف من الوجع المؤلم الذي داهمه، في تلك الأثناء دلفت "داليا الحجرة، كانت آتية لأخذ بعض الأمتعة الخاصة بها، وذلك لانتقالها لغرفة أخرى، كعادتها الأونة الأخيرة كلما تشاجرت معه، تترك له الغرفة، كأنما أصبحت تجد في انفصالها عنه، نهاية لشجاراتهما التي ليس لها نهاية، وضعت يدها على ذراعه من الخلف، وسألته في تفقد قلق:
-مالك يا عاصم؟
التفت لها برأسه، ووجهه مشدود للغاية، معبرا عن تألمه الشديد، ورد عليها في نبرة منهكة:
-دماغي بتوجعني شوية.
لاحظت عبثة في أدراج الكومود خلفه، وخمنت بحثه عن دواء مسكن لوجعه، وعرضت عليه على عجل:
-أجيبلك حباية للصداع؟
توقف عن بحثه، واستقام بجسده وهي يومئ لها في موافقة، قائلا بعد زفرة متعبة:
-أيوه.
تناست حزنها منه، وعلى فورها ذهبت صوب التسريحة، فتحت درج بعينه بها وأنتشلت منه شريط الدواء المنشود، وعادت إليه مسرعة، أخذت قنينة الماء من فوق الكومود، ووضعت منها في الكوب الزجاجي الموضوع جوارها، ثم توجهت بالكوب إلى "عاصم"، الذي تمدد على أحد جانبي الفراش، جلست جواره، وأعطته الكوب في يده، ثم أخرجت من الشريط قرصا، وضعته في فمه، ثم حثته على رفع الكوب ليرتشف منه، وضعه فوق الكومود عندما انتهى، وأعاد رأسه إلى الخلف، مستندا على عارضة الفراش، قالت له في تلك الأثناء بمحبة تقطر من صوتها:
-بالشفا.
شعر بتهيؤها للتحرك من جانبه، فتح عينيه على عجل، وأمسك بيدها وهو يطلب منها بصوت امتزجت فيه صلابته، برجاء، انبثق بشدة من عينيه:
-خليكي معايا يا داليا.
على الرغم من إذعان قلبها، ومناشدته لها بتلبية رغبته، إلا أن صوت كرامتها، يمنعها من الخنوع لطلبه، أخفضت نظرها في عدم قبول استطاع استنباطه من صمتها، وتنكيس رأسها، لذا تابع في استمالته لها، وللحقيقة كانت نابعة من حاجته لوجودها:
-بلاش تنامي في الاوضة التانية، أنا عايزك.
أدارت وجهها للجهة الأخرى، محاربة ضجيج وجيبها، الذي يطالب باحتوائه، وتلبية حاجته، بينما هو مد يده ممسكا بكفها، وأطنب في هدوء آثار تعجبها:
-أنا مش عارف أنا بعمل كده ليه..
رفعت عينيها له، تنظر له في غرابة من أسلوبه المغاير للمعتاد منه، والذي فأجأها أنه شدد من ضمته لكفها، واعتذر منها في تريث:
-متزعليش مني.
ابتلعت في تشوش، وخوف أصبح غريزي بداخلها، من تحوله الجذري، وعصبيته المهيبة عليها، بعد كل مرة يسترضيها، وعلقت بتخبط متخوف:
-أنا بقيت بخاف من اللي بيحصل بعد مابتصالحني.
حاجته الملحة لها، كدعم دائم له، وحضن يرتمي به عندما تنغلق كل الأبواب أمامه، جعلته هادئا في محاولة استرضائها، واستبقائها معه، وقال نافيا هواجس رأسها:
-مش هيحصل حاجة.
أحبت نبرته اللينة في مخاطبتها، بل وتبادل أطرف الحديث بينهما، بهذه الودادة دفعها إلى البوح بمخاوفها المستبدة بها، وعقبت بنفس النبرة الخفيضة، التي تخشى من القادم بينهما:
-بس انت كل مرة بتصالحني بتتخانق معايا بعدها، وأنا بقيت بخاف يا عاصم من عصبيتك عليا.
زفر نفسا مطولا، تبعه قوله بلهجة تظهر ضيقه من أسلوبه القاسي معها، وحاول التبرير مرددا:
-أنا مش ببقى عايز اتخانق يا داليا، بتحصل حاجة بتخليني اتعصب غصب عني.
زمت شفتيها للحظة، تنفست فيها على مهل، ثم سألته في تعب:
-وياترى إيه اللي هيحصل المرادي يخليك تتعصب عليا غصب عنك.
تشكل على ثغره بسمة صغيرة، وقال لها بإلحاح خافت وهو يقترب منها:
-مفيش حاجة هتحصل..
ساد الاحتياج بكل جسده لها، وصرخت خلاياه برغبته بها، وقبل أن يدع لها فرصة لقول المزيد، أضاف في عبثية، ليستولى عن طريقها؛ على كامل انتباهها:
-بس ده في حالة إنك بطلتي كلام وسمعتي كلامي أنا شوية.
لاح التعجب للغاية على محياها، من مزاحه الغريب، ففي العادة، إذا تكرم عليها وأقبل على مصالحتها، يكن أسلوبه جامدا، فاترا، مغايرا للأسلوب الحالي الذي يحمل طابعا مرحا، وكسِمة أنثوية متأصلة، عندما يتودد الزوج لزوجته، تبدأ في التدلل عليه، ولكن تدللها كان من نوع آخر، فقد كان ممزوجا بحزن حقيقي، إن حاولت التغلب عليه، ينبجس بشدة على من وجهها الباهت، وصوتها الذي قال له في همس ناعم:
-بس أنا لسه زعلانة منك.
قرب يده من وجنتها، ومسح عليها بطريقة باعثة على الإغواء، وبنفس درجة الصوت المتبادلة بينهما، همس لها ببسمة بالكاد تشكلت على شفتيه:
-يبقى تسيبيني أصالحك.
رفعت بؤبؤا عينيها له، تنظر بداخل عينيه الساهمة بها، والتي ترى بها رغبة مشتعلة للإنغماس في علاقة حميمية معها، يستخرج عن طريقها نيران اختناقه، ويعبر بها عن احتياجه لهدوء يعم ضجيج نفسه، ارتسمت على شفتيها بسمة ناعمة أخفاها داخل فمه، في قبلة كانت على قدر هدوءها، مليئة بالمشاعر المتضاربة، من ناحيته قبل أن يكون من ناحيتها، فهي استسلمت رغم حزنها البالغ منه، إلى تلبية نداءه، لضعف قلبها عندما يتعلق الأمر به، إنما هو كان يود الهرب من أفكاره، ومن صخب تساؤلات رأسه، وفي وسط اكتظاظ حياته، تبقى هي ملاذه الوحيد، وملجأه من ضياعه، والتيه الذي يششتته، ويبعث على تخبط مداركه.
❈-❈-❈
اتضح له أنه بالهدوء، اللين، والود، يستطيع أن يستحوذ على قلبها، عقلها، وجسدها، فبعد كل ما جابهته معه، وعانته من طباعه القاسية، تغيرت، وأصبحت لا تخنع له بسهولة، ولا تذعن لاحتياجه لها، إلا عن طريق إمدادها بما تحتاجه هي، ولكن بقاءه على طور الهدوء؛ يستهلك من طاقته الكثير، فهو لم يعتَد إلا على الصلابة، الجمود، والصرامة، ومن الصعب عليه بعد كل تلك السنوات، أن يعتاد على غيرهم في معاملاته، ولكنه حتى يحصل على مراده، ويحظى بالحنان الذي أضحى في حاجة ماسة، ودائمة له كطفل صغير، مُجبر على التغيير، وحث نفسه على ألا يلحق بها العقاب المرير، فالأونة الأخيرة، كان كالذي قد عَين نفسه عليها الناهي الآمر، لا يتوانى عندما يبدر منها خطأ عابر، ولا يمرر تمرد مقصود منها، على كلمة شدد على قولها.
ولكن هذا العناد من قبلها، أصبح خانقا له، وكأنما ترغمه على طريقتها بالخنوع لها، و تلوي ذراعه عندما لا ينال معاملته رضائها، ولكنه بات يغمض طرفيه عن ذلك عمدا، حتى لا يخسرها، ويفقد كل ما يشعر به في حضنها، ويزيل طيف النور الوحيد، الذي يلوح في أفق حياته، بحركة سريعة من يديه ضبط هندام سترته، وهو ينظر في خلفية المرأة، على صورتها المعكوسة بها، بتلك الهالة الهادئة وهي نائمة على الفراش، إلى الحين، وبعد مرور تسعة عشر عاما، منذ أول يوم رآها وهي رضيعة، ما يزال يشعر أنها طفلة، تحتاج إلى لمسة مداعبة، ضمة حانية، مثل ما اعتادت عليه في طفولتها منه، اعترى عينيه حزن طفيف، فلوهلة تمنى أن يعود إلى الفتى ذي الثلاثة عشر عاما، فبكل عيوبه، ومساوئه، لن يكون نقطة في بحر آثامه الحين.
غادر الغرفة بخطوات ثابتة، متوجها إلى الدرج، استرعى انتباهه الخادمات السائرة جواره يحملن بعض الحقائب كبيرة الحجم، وقبل أن يتساءل عن محتوياتها، لمح من أعلى الدرج "عز الدين"، واقفا في منتصف البهو، على بُعد غدة خطوات من بداية الدرج، في لحظة تحول هدوء وجهه، إلى غضب جحيمي، وعيناه برزتا في محجريهما، أخذ السلالم نزولا بسرعة مهولة، وقوة جامحة، وبعد أن أصبح قبالته، سأله بزئير غاضب:
-انت بتعمل إيه هنا؟
رمقه "عز الدين" بنظرة غير آبهة، ورد عليه ببرود مصطنع:
-هو المحامي مبلغكش بالقرار اللي أخدته!
كز على أسنانه، وازداد صدره نهجانا، وهو يخبره بعدائية شديدة:
-انت كده بتلعب معايا، وأنا لعبي وحش.
مط شفتيه بطريبة بتعثة على الاستفزاز، ثم قال له بلا مبالاة:
-شغل التهديد بتاعك ده ماعادش جايب همه، شوفكلك طريقة تانية تطفشني بيها.
حدجه "عاصم" بنظرة محتدمة بشرارات الغضب، ودنا منه أكثر، وفح أمام وجهه بلهجة معبأة بالشر:
-وانت أكيد عرفت إني مبهددش.
تشكلت الجدية على قسمات "عز الدين" وهو يعلق بغير تساهل:
-وأنت أكيد عرفت إني أخوك، يعني ليا في البيت ده زيك بالظبط.
اهتاجت أعصابه أكثر من رده، وصاح في خشونة حانقة:
-وأنا قلتلك المحامي هيتمن البيت وهيديلك نصيبك فيه سيولة.
قابل صوته الهادر بتعبيرات عادية، كأنما اعتاد على أطور عصبيته العارمة، وهتف ببعض الشجن الذي اعتلى صوته:
-أنا مش عايز فلوس، أنا عايز أجرب العيشة في فيلة كمال بيه، عندي فضول اعرف عاملة ازاي، بصراحة كده عايز اعرف أنا فاتني كتير بحرماني من حقوقي فيه، ولا كل دي كانت شكليات ملهاش لازمة.
رفع ناظريه إلى أعلى الدرج، متفقدا وجود زوجته أو والدته، ثم عاد إليه ببصره وهو يتابع في تريث جاد:
-ماما وزينة ملهمش دخل في وجودي هنا، أنا اللي فارض عليهم، وطبعا ميعرفوش إن في مشاكل بينا، فبلاش تحسسهم بحاجة.
غادر من أمامه فور انتهاءه، لينضم إلى زوجته ووالدته في الأعلى، ويتفقد الغرف المخصصة لهم، أو بالأحرى الفارغة في ذلك القصر الكبير، تاركا الآخر في أوج غضبه، وبعد أن حاول أن يصفي ذهنه، ويزيح الخبر الذي أبلغته بها العاملة أمسا عن رأسه، أتى "عز الدين" اليوم، ليبعث في نفسه اختناقا عظيما، وضيقا شديدا.
❈-❈-❈
التفكير بشكل منطقي، في حل سريع -ينتشل اسمه، من السقوط في الهاوية، وضياع سمعة شركاته، في سوق العمل- كان أمرا مستحيلا، فما وصل له من أخبار عن صفقته الأخيرة، تعد بمثابة كارثة، ستؤول به إلى نتائج وخيمة، ومشاكل كثيرة، بين كل من عملائه، وشركائه. الفاعل كان معلوما بالنسبة له، ومعروفا أيضا أسبابه في هدم عمله، ف"توفيق" يحاربه بضراوة منذ سنوات، حتى يأتي اليوم الذي يرفع له الراية البيضاء، ويطلب منه العون والمدد، وفي تلك الأثناء؛ يقايضه بعمله معه في أعماله النكراء، وهذا آخر ما قد يُقبل على فعله، أو يفكر حتى في إنقاذ شركاته عن طريقه، ولكن تلك المرة كانت الضربة قاضية، ناهيك عما ستكلفه من أموال مهولة، ولكن الخسارة من جميع النواحي كبيرة.
كأنما قد أتت تلك الحادثة، في الوقت الصحيح، فلتوه قد علم بوجود خائن في محيطه، ولكن أن يكون ذلك الخائن، والمعين لذلك الوغد، من كان يوما صديقه، هذا ما لا يستطيع التغاضي عنه، خرج "عاصم" من المقر الرئيسي لشركاته، وهو مقرر وجهته، سيذهب إلى شركة "الكيلاني"، حيث الفرع الذي يديره "مجد"، يجب أن يتأكد من صحة شكه نحوه، حتى يمنع حدوث المزيد من الخسائر، التي ستنهي اسم شركاته من السوق، برعونة شديدة، أخذ خطواته نحو مكتب "مجد"، بدون أن يستأذن للدخول، أو حتى يستمع إلى النداءات المتكررة من السكرتيرة، السائرة خلفه محاولة منعه من الدخول وهي تقول:
-يا عاصم بيه مينفعش كده.
فتح الباب بغضب عارم، على إثر الضوضاء الذي خلفها، ودلوفه بشكل مباغت، رفع "مجد" ناظريه نحوه، ورمقه بنظرات تجمع ما بين التفاجؤ والإنزعاج من فعلته، أشار إلى سكرتيرته بالمغادرة، في حين اقترب الآخر منه، وملامحه تعبر عن عصبية مفرطة، تظاهر "مجد" بعدم العبأ بما هو واضح عليه من غضب جحيمي، وسأله بضيق، بنبرة باردة:
-يعني هو مفيش احترام خالص؟
تقدم "عاصم" من مكتبه، نفخ دفعة من الهواء مطولا، مثبطا انفعاله، ثم قال له في جدية:
-أنا متعودتش منك على الغدر يا مجد، عشان كده جيتلك لغاية عندك أفهم منك
زوى ما بين حاجبيه في غرابة من جدية لهجته، وغرابة كلماته في نفس الآن، واستفهم منه وهو يحرك وجهه بغير فهم:
-غدر إيه؟ وتفهم مني إيه بالظبط؟
على نفس الشاكلة الجادة، الممزوجة بغضب مكتوم، أردف "عاصم":
-سؤال واحد وعايز رد واضح عليه، وأنا عارف إنك ملاكش في اللف والدوران.
بدأت أمارات نفاذ الصبر في التصاعد على وجه "مجد" من عدم دخوله إلى صلب ما أتى لأجله، وحدثه في سأم:
-خلص يا عاصم وقول اللي عندك علطول، وبلاش جو الألغاز ده.
ثبت "عاصم" نظره عليه للحظات، بنظرة مطولة، متفقدة، ومشككة، ثم سأله بترقب شديد:
-في مقابلات بتحصل بينك وبين توفيق العاصي؟
يُتبع ...