رواية كما يحلو لها بتول طه - الفصل الثاني والعشرون النسخة العامية
رواية كما يحلو لها
الجزء الثالث من رواية كما يحلو لي بقلم بتول طه
رواية كما يحلو لها
الفصل الثاني والعشرون
النسخة العامية
في
صباح اليوم التالي..
دخل
مكتبه و "كلوديا" صممت على أن تتبعه فهي إلى الآن الوحيدة التي ما زالت
تملك الأدلة بأكملها وترفض رفض كامل أن تُعطيها له واكتفت بأن تطلعه عليها ولن
تُسلمه إياها إلا في طريقهما للمحكمة.. أمّا عن كل ما يشعر به فهو في حالة لا
يُحسد عليها!
بالأيام
القليلة الماضية أدرك فداحة ما فعله، من تخلف عن حضور الجلسات والمواظبة على علاجه
الدوائي، أما عن تصرفاته تلك الليلة مع "روان" فهو لا يدري كيف سيواجهها
لو حدث وتلاقت الأوجه، لقد أفسد كل شيء أكثر مما أفسده بالفعل!
- أين ذهبت ثرثرتك أيها اللص
الجذاب؟!
سألته
بمرح وهي تُحدق به حيث جلس على مكتبه وقام بتبديل ملابسه بعد أن ترك كل ما آتى به
من المصحة من متعلقات خاصة به من ملابس ودفاتر وعقاقير بمكتبه ليستعد للذهاب
للمحكمة بملابسه الرسمية على أن ينقلها لاحقًا لمنزله واكتفي بلمحها بطرف عينيه ثم
اجابها بجفاء:
- إن كانت تُزعجك فتوقفي أنتِ
عن الثرثرة بما لا يُفيد الآن!
حاول
أن يستجمع تفاصيل القضية بما وجد ببريده الالكتروني وبعض الأوراق القليلة التي
وجدها في مكتبه وانتظر وصول "باسم" بينما كان فاقد للثقة في نفسه
تمامًا، فكل ما مر عليه بالأيام الماضية لا يصيبه سوى بالإحباط، يرى أمامه حياة
سوداء لا يعرف كيف سيستطيع التغلب على كل ما فيها، وليكون صادق مع نفسه، هذه
القضية اللعينة هي آخر ما يُفكر بها، وآخر ما يكترث له، ويظن أنها آخر قضية
سيتولاها، وقد تكون كذلك القضية الأولى والأخيرة التي سيخسرها في حياته!
- لا أصدق أنك لم تنطق سوى
بكلمات معدودة منذ أن غادرنا المصحة، بربك ما الذي يحدث لك؟!
سألته
من جديد بينما زفر بإرهاق وهو لا يريد سوى القليل من راحة البال، ليس مستعد لإلقاء
محاضرة وهو يشرح خلالها اعراض اضطرابه ونوباته وكذلك طبيعة شخصيته.. خصوصًا لتلك
الفضولية التي تسخر من كل شيء، ليته لم يقابلها قط بنوبة هوسه!
سلط
نظرة متفحصة جادة للغاية على ملامحها بينما توقفت هي وهي تنظر له باستغراب لتلك
الطريقة التي يُحدقها بها ثم سألها بنبرة جامدة:
- ماذا تريدين كلوديا؟ ألا
يمكنك التوقف قليلًا عن الكلام حتى أرى ماذا يمكنني فعله بعد أربع ساعات من الآن؟
رفعت
حاجبيها متعجبة واجابته سائلة بتهكم:
- وهل سترى ما يُمكنك فعله بعد
أربع ساعات من الآن؟! بربك هل تمزح معي؟!
قلب
عينيه بنفاذ صبر ثم رد ببرود هازئًا:
- ومن أنتِ لكي امازحك؟!
اندهشت
ملامحها لتبتسم له ثم تبادلت هذا الحديث السخيف معه بتهديد اختفى خلف نبرتها
الساخرة:
- هل اشتقت لسكيني أم نسيت ما
فعلته معك منذ أيام؟! أم أنك تهزأ بي لجعلي أسافر لآلاف الأميال وأترك ما لدي حتى
أنقذ مؤخرتك العاهرة من ذاك السجن الذي كنت تمكث به لأيام حتى تستطيع إتمام عملك
الذي بدأته أنت أيها الأبله؟!
لم تتبدل ملامحه على الاطلاق ثم أشار لها ببرود وكأن كل
تلك الكلمات التي سمعها لا تخصه على الاطلاق:
- غادري
وابحثي عن محام آخر إذن!
تبدلت ملامحها للغضب لتخبره بلهجة حادة:
- حسنًا
إلى هنا وانتهى هذا المزاح السخيف، دعيني أوضح لك أيها الثرثار الصامت، إن لم تكسب
هذه القضية أقسم لك أنني سأقتلك أنت وتلك الجميلة وكل من عرفتهم يومًا!
استمع كلاهما لطرقات على الباب قاطعت حديثهما ليدخل
"باسم" بملامح مرتعدة مما أوشك على قوله ثم تحدث قائلًا:
- صباح
الخير.
تفقده بأعين متعجبة ليسأله على الفور:
- فين
الورق اللي قولتلك تجيبه؟ عايزني اعرفك شغلك واعلمهولك من أول وجديد ولا إيه؟!
ابتلع بصدمة وحاول أن يشرح الأمر بأفضل طريقة ممكنة:
- بصراحة،
أستاذ يزيد كلمني امبارح وسهرنا طول الليل امبارح أنا وهو واستاذ كريم واستاذ أحمد
واتفقو إن القضية هيأجلوها عشان حضرتك مكنتش موجود!
تفقدت "كلوديا" ملامح كلاهما وهي تحاول تفسير
هذه الكلمات ولكنها لا تجيد العربية بشكل كافي ومن تلك التعابير والصدمة على وجه
"عمر" أدركت أن هناك شيء غير جيد:
- ماذا
هناك؟
لم يجبها بينما عنف "باسم" دون ذنب له بقسوة:
- تتزفت
تروح تجيب الورق من تحت الأرض ويجيلي كامل واحمد وكريم حسابهم معايا، وبعد كده
متروحش تنفذ حاجة من دماغك وإلا حسابك هيبقا معايا أنا شخصيًا..
ابتلع وهو ينظر له باستياء فهو لم يفعل شيء خاطئ وطوال
الفترة الماضية هاتفه كان مغلق وكان لابد من العمل على القضايا التي يتركها كما
جرت العادة، لا يفهم بأي شيء أخطأ هذه المرة، ولكن هذه عادة "عمر
الجندي" منذ أن عمل معه.. يُفكر حقًا بترك العمل لديه، يكفي كل هذه الإهانة
التي يتحملها منه على مدار سنوات، ومهما حاول أن يفعل الأفضل لا يراه سوى أنه فاشل
بعمله!
جلس على مكتبه وهو لا يدري كيف له النجاة من هذه الورطة
وهو لتوه قد أبلغ والده بمجرد استقبال مكالمته صباح اليوم، لقد شعر بأنه على وشك
الانهيار، يصل الأمر للاستيقاظ فجرًا وحل محله في الكثير من الأمور والمغادرة
بساعة متأخرة من الليل، ثم ماذا بعد؟! لولا تلك المسئوليات المُعلقة بعنقه لكان
ترك العمل لديه بعد أول عام!
صورة من صور تأثير الشخص السادي على موظفيه، الحط من
شأنهم والتنمر الشديد الذي لا يتوقفون عنه وكذلك الإهانة طوال الوقت والتأكيد على
أن كل ما يفعلوه لا يساوي شيء، بالطبع لا يعرف "باسم" تشخيص اضطراب رب
عمله، ولو ترك العمل لديه بالفعل سيقع "عمر" في ورطة بعيدة المدى!!
- هو
جه امتى؟!
افاقه صوت "يزيد الجندي" الذي سأله دون أن
يتوقف وهو في طريقه لمكتبه فنهض برسمية وهو بداخله حالة من الانكسار لا يتحملها
سوى بشق الأنفس وأجابه على الفور:
- بصراحة
هو كلمني من بدري ويادوب على ما جيت لقيته موجود.. انا بلغت حضرتك من ساعة ما
جاتلي المكالمة
هز رأسه باقتضاب وبمجرد دخوله للمكتب وجد ابنه يُطالع
بعد الأوراق على مكتبه ليتحدث دون أن يرفع رأسه له:
- لقيت
الزفت ولا ناوي تطرد النهاردة؟
بالطبع لم يكن يأخذ في حسبانه أنه يتحدث لوالده الذي
لاحظ امرأة جالسة على مقعد جانبي بغرفة مكتبه وسرعان ما وجدها تتحدث بالإنجليزية:
- لقد
وصل اللص الجذاب الأب! مرحبًا أيها العجوز!
ابتسمت له وهي تلوح له بيدها ورأت مدى الشبه الكبير
بينهما وبالطبع لم تأخذ ثوان حتى تستطيع توقع من هو لتغمغم لنفسها بالإيطالية:
- هذه
القضية تزداد حبكة درامية رائعة، لنرى ما سيفعله هذا العجوز!
أعطاها لمحة جانبية بينما نهض "عمر" في نفس
الوقت وهمس:
- بابا!
حدقه
بغضب وأغلق الباب خلفه ثم نظر نحو المرأة الجالسة وأعاد نظره له ليسأله بسخرية:
- ودي بقا الممرضة اللي جت معاك
من المصحة ولا الهانم الجديدة اللي مش قادر على بعدها فجايبها معاك الشغل؟
عقدت
ذراعيها وهي تتابعهما باستمتاع هائل ليزفر "عمر" ثم أجابه قائلًا:
- دي كلوديا اللي قابلتها في إيطاليا،
معاها كل أدلة مصدر الفلوس، مصممة متطلعش الورق غير لما نبقى في الطريق للمحكمة،
ورتهومني والورق سليم ومظبوط!
التوى
فمه ببسمة ساخرة وعقب باستهزاء:
- القضية اللي هتتأجل مش كده؟! لا
مش ضروري تشغل بالك بيها!
تحاشى
الغضب الشديد على والده واستهزاءه به ليطبق أسنانه بغلٍ شديد ليحاول كظم غيظه
ملتهمًا بعض الأنفاس وزفرها ببطء ثم حدثه بجدية قائلًا:
- بابا أرجوك أنا عارف أنا بعمل
إيه، خليني أخلص القضية و..
- لا فيه قضية أهم من دي محتاج
تعرفها كويس!
قاطعه
بينما تحولت ملامح الآخر للاستغراب ليستكمل والده حديثه:
- شوية قضايا ضدك، على حبة
فضايح جنــ ــسية، على أدلة لقضايا قديمة أنت كسبتها، تقدر تقول كل اللي اديته
للبنت اللي انت اتجوزتها دي هيتقدم ضدك!
حاول استيعاب ما يتحدث به والده لبرهة ولم يُرد أن يُصدم
من جديد بها، هو لا يريد لعقله أن يُفكر في هذا الاتجاه، لو كانت فعلتها حقًا،
لماذا الآن؟ لماذا انتظرت قرابة عام كامل لتفعلها؟
أنبه والده بسخرية شديدة ولم ينس بالطبع ذلك التحطيم
الذي يظن أنه سيستجيب له وسيعي فداحة أفعاله بفعل كلماته:
- بعد كل اللي اتعلمته مني في سنين رايح تسيب ورق
قضايا في ايديها، وساكت، ومحاولتش بعد طلاقكم توصله.. مفكرتش ثانية واحدة منظري
أنا وأنت وعيلتنا هيبقا ازاي لو المستندات دي طلعت للنور، عايز تعب سنين تهده
بفضيحة ليك على اخر الزمن؟ لا وبالذات منك أنت، المحامي اللي المفروض فاهم هو
بيعمل ايه كويس؟!
تابعتهما "كلوديا" بملل وهي لا تستطيع تفسير
أغلب الكلمات بينما "عمر" لا يُريد أكثر من أن تنشق الأرض وتبتلعه، ليت
كان هناك زر واحد بكبسه يتغير مصيره من محامي مثلما أراد والده دائمًا إلى مجرد
نكرة في الحياة!
- عارف
الهانم راحت لمين؟ سابت كل الدنيا وراحت لشريف بنداري، اللي ماشي يدور ورانا بقاله
سنين وجاتله جاهزة! مبسوط باللي عملته أنت وست الهانم اللي موت نفسك عشانها؟
حسنًا، هذا الاسم وحده كفيل بتذكيره بصراع دائم لطالما
حارب خلاله والده، في هذه المرة تحديدًا لا يدري ما الذي عليه قوله، وتعابيره التي
لا تحتوي سوى على الصدمة الواضحة والخزي من تأنيب والده له كانت أبلغ من الكثير من
الكلمات!
حاول أن يجد مفر من هذه الورطة ليقول بتردد:
- أنا
هتصرف معاه ومعاها وهعرف أ..
- تتصرف،
أنا كل حاجة بقت معايا، لسه هستناك تتصرف؟!
قاطعه ليشعر الآخر بالراحة داخله، لقد وفر عليه الكثير
بالفعل، ولكن سخريته المنتهية بسؤال جاد ومحدد كانت بمثابة ورطة جديدة لم يتوان والده
أن يضعه بها في لمح البصر:
- لما
أعرف إن ابني في مصحة مش عارفلها عنوان يبقا لازم اتصرف أنا! ايه اللي وداك المصحة
دي؟ اتجننت خلاص؟!
لقد ظن أنه مضطر للعمل، ولكن أن يكون مضطر لتفسير ما يمر
به لوالده الذي لن يُصدق حرف من كلمات لن تملك له تفسير منطقي حتى لو نادى بها
لسنوات، هذا أسوأ ما يمكن حدوثه بالفعل!
ما الكذبة المناسبة الآن؟ ما الشيء المنطقي الذي سيصدقه
والده؟ لا يجد بداخله أي مهرب، يحتاج للقليل من الوقت بعد للتفكير!!
- ابني بينتحر وبعدين اسمع إنه
اتجنن وفاقد الأهلية عشان يترمي في مصحة! أنت عايز تدمرنا بمصايبك دي؟ عايز يتقال على
ابن يزيد الجندي مجنون؟
صراخه
عليه جعل "كلوديا" نفسها تشعر بالغضب مما يحدث لتنهض وتتجه نحوهما ثم
تدخلت قائلة:
- حسنًا أيها العجوز، أنت ثرثار
أكثر منه، لقد انتهت هذه المناقشة ولدينا قضية هامة بعد قليل!
رمقها
بانزعاج بطرف عينيه وتحدث لها بإنجليزية غير متقنة:
- عن أي قضية تتحدثين؟
قلبت
عينيها بنفاذ صبر ثم اجابته:
- ليس من شأنك، غادر قبل أن
تصيبني بمزيد من الغضب، أقسم لك أنك لا تريد رؤية غضبي!
التفت
لها بكامل الاهتمام بينما حاول "عمر" منع معركة على وشك الحدوث:
- كلوديا، لا تتدخلي بالأمر!
لمحته
وهي تزجره قائلة:
- اسكت أيها الأبله!
سلطت
نظرها من جديد على والده الذي أشار نحو ابنه ثم تابع بإنجليزية فقيرة:
- أتريدين لهذا الفاشل أن يتولى
قضيتك، هو لتوه خرج من مصحة للمجانين، فلتأخذيها مني، لو ذهب للمحكمة اليوم لن
يستطيع فعل شيء، لقد نسي بالفعل كل ما علمته إياه!
ارتابت
قليلًا بالأمر وبالرغم من تأكدها أن كلاهما جيدان بعد تحريها عنهما منذ أن التقت
"عمر" بإيطاليا فلم تنتظر حتى جذبت سكينها واقتربت من والده لتسلطها على
عنقه وسألته بنبرة مهددة:
- ما الذي تقصده أيها العجوز؟ ما
الذي أصابه؟ وأجب بالتفصيل وإلا سأسرع من لقاءك بربك في لمح البصر!
لاحظت
ارتباك أنفاسه ولكن لم تتغير نظرة عينيه وكأنه جبل ثلجي لا يكترث بفقدانه لحياته بينما
نهض "عمر" خاشيًا أن تفعلها لتنهاه قائلة:
- اياك والاقتراب، وإلا ستحضر
جنازة والدك وفتاتك الجميلة في يوم واحد! وأنت أيها العجوز أبدأ بالكلام!
ازادت
من ضغط سكينها لترتبك أنفاسه أكثر ليحدثها بثبات:
- عمر لم يتول قضية واحدة منذ
عامان، ولتوه غادر مصحة، لم يعمل على القضية بالشكل الكافي، وإلا أن نتأكد أن ليس
هناك من سيستغل هذا الأمر ضده بالقضية لا أرى أنه يمكنه تولي قضية، وإن كنتِ
تريدين التجربة فأفعلي ولكن لا تأتي لتبكين لاحقًا!
ارتابت
أكثر بما سمعته منه، محامي ومجنون، بالطبع سيستخدم ضده بالقضية بأنه ليس أهلًا
لتولي الأمر، تبًا، كيف لم تُفكر بذلك؟!
تابع
والده بعد أن ابتلع وبدأ يُصدق حقًا أنها قد تفعلها فهي على بعد القليل من نحر
عنقه:
- هذه القضية سيعمل عليها
فريقه، سيؤجلون القضية لنكسب وقت في بحثنا خلف فضيحة هذا الفاشل، وبعد تأكدنا
نستطيع وقتها تقديم الأدلة، فريقه لا يعلم كامل التفاصيل التي يعلمها هو بعد بحثه
بايطاليا! لذا التأجيل أفضل حل الآن!
شعر
"عمر" بالتوتر الشديد وفي نفس الوقت لم يستطع تحمل ما يفعله والده وهو
يُناديه بتلك الكلمات لتبتعد "كلوديا" في النهاية عنه ووزعت نظراتها
بينهما بغضب ثم تفوهت بمقت تام:
- لا أدري بعنق من منكما سأبدأ إن
لم يُنفذ ما قلته أيها العجوز المقزز!
اتجهت
سريعًا نحو الباب وفي رأسها خطة أخرى تمامًا ولكن الوقت المتبقي لا يسمح لتنفيذها
على الإطلاق طبقًا لكلمات هذا العجوز! هذه المرة تحديدًا عليها اتباع طريقة
"ليو" في تدمير الأدلة بأكملها!!
افتعال
حريق بالمصحة، بعد قتل كل من كان يعرف من هو "عمر الجندي" بداخلها..
التأكد من حرق أي أدلة ورقية وتدمير أي تصوير مُخزن بأي ذاكرة لعينة قد يُرى خلاله!
تبدو خطة جيدة لمحو الكثير من الآثار!
❈-❈-❈
- شوفت وصلتنا لإيه؟!
بعد
أن ظن أنه أُلهم ببعض الراحة أعاد والده تأنيبه مرة ثانية وتابع:
- لولا إن ماسك مصايب على شريف
كان ودانا كلنا في ستين داهية، عارف ده معناه ايه؟ إن أنا لولا وجودي جنبك كان
زمانك قربت تتفضح! تقدر تفهمني أنت ازاي هتقدر تحافظ على كل التعب اللي تعبته معاك
وترجع راجل عليه القيمة بعد كل اللي أنت عملته من غير ما تحسبله حساب؟
لم
يستطع التحمل أكثر ليجيبه قائلًا:
- خلاص يا بابا، كتر ألف خيرك
على كده، أنا من هنا ورايح مش هبقى محامي ولا هاعملك أي مشاكل تانية!
حدقه
وهو يرسم ابتسامة متهكمة على وجهه ورد سائلًا:
- لا بجد؟ مش هتبقا ايه؟!
زفر
متحاملًا على هذا الثقل الذي يشعر به من كل ما يدور مؤخرًا في حياته وبات اليأس يتحكم
بكل ما فيه ليخبره بجدية:
- أنا مبقتش الاقي نفسي في
المحاماة، هدور على أي حاجة تانية اعملها، كده كفاية اوي!
وبالطبع
بدلًا من الدعم الذي لابد من أن يتلقاه منه كان الغضب هو كل ما تلقاه من والده
الذي نهض وهو يتكلم بين أسنانه:
- أنت مبقتش هتعمل في حياتك
اللي خربتها غير اللي أنا أقوله وبس بدل فشلك اللي هيودينا في داهية!
قام
بإغلاق زر سترته الرسمية مستعدًا للمغادرة ليلقي بأوامره تباعًا وهو لن يقبل سوى
تنفيذها:
- تقعد، تشتغل على القضية كأنها
أول قضية في حياتك واللي شغالين عنهدك بيجبولك تأجيل في القضية، ولو حد جابلك سيرة
عن المصحة دي متقولش أي تفاصيل غير إن كان عندك اكتئاب بسبب طلاقك عن مراتك، شريف
البنداري هو أو أي حد من عنده لو جولك أو كلموك متخليهومش يستفزوك، أما الحيوانة
اللي عايزة تفضحنا بأي طريقة دي فأنا ليا تصرف تاني معاها ما دام أنت معرفتش
تربيها وتحكمها، أنا بنفسي هربيها من أول وجديد، وابقا أعرف بس إنك كلمتها أو
حاولت توصلها تاني.. وإياك تعمل حاجة غير اللي أنا قولتها!
نهض
من مقعده ليحاول أن يوقفه قبل أن يُغادر وهو يناديه:
- بابا استنى فهمني بس هتعمل
ايه!
لم
يُعره اهتمام ليقول في طريقه للخارج:
- هصلحلك حياتك وسمعتنا اللي
كنت هتوديها في داهية، يا ريت تخليك راجل جوا مكتبك ومتجريش ورايا زي العيال قدام
اللي شغالين عندك، واللي قولته يتنفذ، زي ما هنفذ وعدي، أنا حذرتك إن البنت دي لو
عملت حاجة أنا مش هسكتلها!
خرج
ليستمع الآخر لدوي صوت الباب الذي اغلقه والده بعد أن غادر ليشعر بغليان الدماء في
رأسه وبالطبع بعد محاولات كثيرة من مهاتفتها والوصول إليها لم يُفلح بأي من
محاولاته، ولن يُخاطر بعداء والده أكثر من هذا، فهو لا يرى سوى أنها السبب في كل
ما يحدث له، ولكن ما لا يعلمه أنه هو من فعل كل هذا بنفسه!
❈-❈-❈
بعد
مرور خمس ساعات..
هذه
كارثة حتمية، أكثر من خمس وعشرين عميل من أكبر عملاءها التي ظلت هي ووالدها تعمل
على الاحتفاظ بهم لسنوات وسنوات يريدون فسخ العقود بين شركتها وبين شركاتهم!! كيف
يحدث هذا؟!
رأت
هاتفها يهتز ويظهر على شاشته اسم هذا المحامي الذي لجأت له، يستحيل أن يكون هو من
وراء كل ما يحدث لها، لقد تيقنت أن هذا الرجل لا يطيق "عمر الجندي" ولا
والده ولا عائلتهم بالكامل!
اجابت
بلهفة وأخذ الانتفاضات المتوالية تحركها بالكامل:
- آلو..
ايه اللي بيحصل بالظبط؟ أنا مش فاهمة أي حاجة!
استمعت
لصمت دام للقليل للحظة واحدة تخيلت خلالها الكثير من الفجائع التي قد تحدث فصاحب
به غاضبة وطريقة تفتقر لأي نوع من أنواع اللباقة:
- ما
تنطق إيه اللي حصل، مكلمني عشان اسمع سكوتك؟
استمعت
لنبرته المعتذرة فورًا وهو يقول:
- أنا
آسف يا مدام، يزيد الجندي عرف يوصل لكل الأدلة ونسخ الأوراق اللي معانا وملقيتهاش
في المكتب، للأسف قدر يوصل لناس من اللي شغالة عندي وأنا طردت الموظف و..
اجابت
سريعًا زهي تقاطعه دون تفكير:
- أنت
مشغل معاك شوية عيال صغيرة، يعني ايه عرف يوصل للأوراق.. أنا عندي منهم مليون نسخة
تـ..
سكتت
من تلقاء نفسها بعد أن بدأت بتجميع خيوط الأمر في وقت لم يأخذ أكثر من لحظة واحدة
وجـ سدها بأكمله ينتفض بشدة من كثرة التوتر، بالطبع، أخبره أحد عن ارادتها بالقيام
بشن أكثر من قضية على ابنه اللعين لذلك هو من خلف كل ما يحدث لها من مصائب، بل
ويتلاعب بدناءة!! اللعنة على كل محامين الأرض!
- أنا
اخدت كل الإجراءات الـ
- هشش..
متقولش حاجة، اقفل، اقفل ومتكلمنيش تاني، أنا فعلًا اعتمدت على طفل مش راجل!
أنهت
المكالمة بعد أن قاطعته بطريقة فظة غير مُكترثة لما قد يظنه هذا المحامي، مجموعة
من اللعان!! كيف ستتصرف الآن؟ ما الذي عليها فعله؟ أن يقوم بتدمير عملها بهذه
الطريقة؟! وما فعله بها لمدة عام كامل؟! ألا يُكفيه صنيع ابنه فيأتي بهذه
التصرفات! تبًا لكلاهما!
اتجهت
لحقيبة يدها بعد أن سقط الهاتف من يدها من كثرة الارتجاف المتتالي عليها وتناولت
قرص من تلك الأقراص بل وازادت عليه بمهدئ يُقال إنه قوي المفعول لتحاول الجلوس فوق
مكتبها وهي تضع رأسها بين يديها لا تدري كيف ستتصرف بكل هذا! لماذا ليس هناك قانون
وحيد في هذه البلدة يسمح لها بأن تذهب، وتشكو زوجها على كل ما فعله بها؟!
حاولت
أن تتناول شربة مياه لتتساقط من الكوب بعض القطرات من شدة ارتعاش يدها بينما دخلت
"علا" بملامح مفزوعة ثم أخبرتها بالمزيد مما لا تود سماعه:
- فيه
عميلين تانين بعتو مندوبين من الشئون القانونية عندهم ومستنيين برا ومصممين يفسخو
العقود ومعاكي.. ومجهزين شيكات الشرط الجزائي
تصاعدت
أنفاسها بشكل فُجائي من شدة التوتر الذي تحول لحالة من الخوف الشديد لتتابع
الأخرى:
- بلاش،
حاولي تحليها ودي معاه.. لو العملا دول مشيوا الباقين هيعرفو وكل حاجة ممكن تضيع..
أرجوكي حاولي تحليها معاه بالراحة!
اشارت
لها بتسلط شديد أن تخرج وتغادرها بينما عادت من جديد في أقل من دقيقتين لتسألها
"روان" في لهفة:
- فيه
ايه المرادي؟
ابتلعت
قبل أن تجيبها بتردد:
- أستاذ
يزيد الجندي برا..
قبل
أن تسمح أم لا بدخوله كان في مكتبها بالفعل لتنهض من على هذا الكرسي في تأهب شديد
فشعرت "علا" بالإحراج فغادرت على الفور، لقد جربت يومًا ما التفاوض معه
على ذلك الفيديو الذي كان عليها أن تقدمه للسُلطات.. ربما لو تحدثت إلى
"عُدي" سيستطيع أن يفعل أي شيء.. أو على الأقل سيبلغ الوحيد الذي تسبب
بكل هذه المصائب لها! ليتها لم تنطق باسمه يومها عندما سألتها عن محامي.. بداخلها
لا تشعر سوى بالذنب تجاهها!
❈-❈-❈
جلس
بمنتهى الأريحية، وكأنها قامت للتو بدعوته للغداء، وكأنه بريء براءة الذئب من دم
ابن يعقوب، بمنتهى البرود الذي هو نسخة طبق الأصل من ذاك البرود الذي تشبع به ابنه
وغرق به أشعل سيجاره ولمزيد من الإهانة وليستفزها بأقل القليل فضلًا عن الكثير
الذي استطاع فعله خلال يومين ألقى بتبغ سيجاره المحترق أرضًا!!
- خير،
جاي تحتفل بنتايج المصيبة اللي عملتهالي؟
تحركت
عينيه بتفحص لها وهي ما زالت واقفة في تأهب وملامحها كانت أكثر ما يُسعد قلبه بهذا
الفزع البادي عليها وهي ترتعش من تلك الخدعة البسيطة التي قام بها وحدثها بهدوء:
- اقعدي
عشان عندنا كلام كتير نقوله! أنا عمري ما أقدر اعمل في مرات ابني حاجة تؤثر عليها
في شغلها..
- اللي
كانت مرات ابنك!!
صححت
له على الفور وهي لا تطيق أن تُنسب له من جديد وبكل هذا البرود المُستفز شعرت
بأنها ستنـفجر حتمًا إن لم يذهب هذا الرجل الحقير من أمام عينيها!
صفعها
صفعة قوية بكلماته الهادئة عندما قال وهو يلقي المزيد من تبغه المحترق أرضًا:
- لا
ما انتي هتبقي مرات ابني! تاني!
الأمر
بات بينه وبينها، ثأر شخصي بالكامل، هل تريد مجرد فتاة صغيرة أن تزعزع مكانته؟ أم
لم تُفكر بأن ما سيؤثر على صورة ابنه لن يمسه؟! لا يكره أكثر من أن تتحكم به
امرأة، ولن يحدث ولو بلغ من العمر آلف عام.. ربما تكون ذكية وطموحة بحبكها لهذه
الخطة التي لم يعلم عنها شيء منذ حوالي عام عندما تركت له ابنه غارقًا وسط دمائه..
ولكنه حذر الجميع لو فعلت أي شيء ومجرد حركة ضئيلة أو تصرف لا يُعجبه سيتدخل هو هذه
المرة!
- أنا
استحالة أوافق ارجعله، ولو حتى كان آخر راجل في الدنيا، ومن الواضح إن هو كمان
اللي لعب اللعبة دي معاك عشان تجبروني أرجعله تاني! لا بصراحة مشوفتش حد بالمستوى
ده أبدًا كل همه يؤذي اللي قدامه وخلاص..
كيف
تقتل من أمامك حيًا آلاف المرات؟ بالنسبة له أن يفرض عليه أحد شيئًا، وبالنسبة
لهذه الفتاة التي تظن أن الكون بأكمله يتبع أوامرها، لابد من تتضح الصورة لها،
"عمر يزيد الجندي" مثله مثل والده، ومن يتخطى حد واحد معه سيكون بمثابة
تعدي عليه هو نفسه بالكامل!
ليت
ابنه يلعب هذه اللعبة معه مثلما تقول، ولقنه لطالما كان لين القلب منذ أن كان
طفلًا ولا يريد أن يتوقف عن اللين الذي يُفسد الرجل! سيرها ما الذي يستطيع فعله..
بعد
نظرات قاتلة تبادلها معها بمنتهى البرود الذي أهلكها نهض ليطفأ ما تبقى من سيجاره
الغليظ أسفل حذاءه وقال بهدوء:
- عيب
لما تبقى بنت أصول وعاقلة تعمل عمايلك دي، أنا مش هؤذي مرات ابني، اللي هترجعله،
أنا بس بحاول اعاملك بالمثل، هتضريني أنا وابني في شغلنا هضرك في شغلك.. ولا فكرتي
إن اللي هيدور ورا عمر مش هيدور ورا يزيد وبعدها أنس وناس كتير أوي، لا انتي بتضري
عيلتنا كلها.. فاسمعيني كويس جدًا عشان تفهمي عواقب اللي بتعمليه!
تريث
لبرهة وهو يتفقد حالتها المريعة ونظرات الغضب المختلطة بالخوف تنهم من عينيها
تجاهه ليُتابع:
- أنتِ
كنتِ هتؤذي عيلة الجندي كلها، بس عشان صغيرة ومش فاهمة أنا وريتك ممكن يزيد الجندي
يعمل ايه.. يمكن تكوني ذكية وغيرتي في ابني حاجات كتير، وبرافو عليكي، مش هنسهالك،
وأنتِ اكتر ست مناسبة ليه في حياته، مش هانكر ده.. بس هتيجي عليا، وعليه، وعلى
عيلتنا كلها ده مش هاسمحلك بيه.. واديكي شوفتي العيلة ممكن توصلني إني اهد سبع
شركات بمكالمة تليفون!!
عقد
حاجباه وهو يتفقدها بينما وجد أنفاسها تتعالى بشكل غير طبيعي كمن يعدو وهي بالكاد
تستطيع الوقوف أمامه ولكنها تماسكت بقدر المستطاع ليُكمل:
- كل
العقود ممكن تكمل زي ما هي، وأي حد في شركتك جه عشان يفسخ العقود هيمشي من هنا في
عشر دقايق بالظبط، هتقعدي وتفكري كويس ازاي هتروحي لعمر وتحلو مشاكلكم بهدوء
وترجعوا لبعض زي أي اتنين عاقلين، قدامك لبليل، خدي بالك أنا لسه مش ناسي اللي كل
الناس شافوه في الخطوبة ده! ويا إما..
تريث
لعدة ثوان وهو يُغلق سترته وصفع قدرة تحملها بما لن تحتمل حدوثه:
- بسام
موجود، وماما برضو ربنا يبارك في صحتها.. ويونس، وأخته، وولادها، زي ما أنا عندي
عيلتي اللي بخاف عليها، أنتِ كمان عندك عيلتك.. احنا ناس فلاحين في الأول وفي
الآخر مش هنستعر من أصلنا، بعيد عن القانون، زي ما اخدتي كل اللي معاكي بطريقة غير
قانونية، أنا كمان ممكن اتصرف بطريقة غير قانونية.. طول عمرنا من سنين ماشين على
عُرفنا اللي مش هيغيره الزمن.. اتفقنا يا حبيبتي!!
لم
تعد قدماها تستطيع حملها لتسقط على الكرسي وصاحت به:
- أنا
لا يُمكـ
- أنا
مش عمر، أنا بحذر مرة واحدة، ومفيش اتنين وتلاتة، أنا بتصرف على طول!!
التفت
ليُغادرها فأوقفته قائلة:
- يكون
في علمك، لو جيت ناحية أهلي أنا هـ..
- الكلام
ده اتقالي من اللي قبلك وعرفت اتصرف معاها كويس لغاية ما ابني كرهها، وأنا وهو لما
بنكره حد بنخلي حياته جهنم! اللي يخليني ابعدها عنه زمان يخليني ارجعك ليه دلوقتي!
صُدمت
بعد أن قاطعها وتركها ليتوجه خارجًا ليتركها بعدها في حالة من الذهول، الغضب، وشلل
تفكيري لن تستطيع الصمود أمامه..
❈-❈-❈
لم
تمر سوى دقائق قليلة من محاولة تهدئة "علا" لها بعد أن غادر وهي لا
تستطيع التصرف، بل عقلها لا يواكب ما يحدث، هل هذا كابوس وسينتهي بأفعى أسفل
مكتبها وستستيقظ منه صارخة؟!
فجأة
وجدت كلًا من "عُدي" و "عمر" يدخلان مكتبها لتنظر لكلاهما ولم
يتحدث معها سوى أخيه ليسألها باهتمام:
- بابا
عمل ايه يا روان؟
هزت
كتفيها وهي لا تستطيع النطق بالأمر، هل تخبره بأن والدهما يريد قتل أخيها ووالدتها
أم أن يؤذيهما فضلًا عن تدمير عملها بالكامل؟! هي حتى لا تصدق امكانيته من فعل
الأمر!
فهم
ذلك الذي تمر به عندما تُصدم في أمرٍ ما، لم ينظر بعينيها مباشرة بل اكتفى بلمح
القليل من هيئتها من على مسافة، فاكتفى بالتكلم بهدوء:
- اطلعوا
برا وسيبوني معاها خمس دقايق
نهضت
وهي لا تستطيع التحكم في ارتجافها ورؤية ملامحه التي لا تستطيع التحكم في خوفها
التلقائي منها ثم صرخت بهم:
- هو
ايه اللي يمشو، هو أنت وهو مواركوش غير تدو أوامر وخلاص! اطلعي يا علا خمس دقايق
بالظبط والأمن كله يدخل هنا وخليك يا عدي متمشيش!
خرجت
فورًا مغادرة بعد ما سمعته بينما قال هو دون أن ينظر لها:
- اطلع
يا عدي
نظر
نحوها شاعرًا بالإحراج من الموقف برُمته وبمجرد تحرك قدمه صرخت به:
- خليك
يا عدي
زم
شفتاه وهو لا يعرف ما الذي عليه قوله ثم همس له بنبرة خافتة لكي لا تستمع له:
- حل
الموضوع وأخلص وهاعمل نفسي مسمعتش، روان مش قادرة تاخد نفسها واحنا مش ناقصين
مصايب!
نظر
نحوه بغضب اتضح من عينيه ولم يظهر بوضوح على ملامحه فتابع همسه:
- انجز
يا عمر قبل ما الناس تدخل وتتفضح اكتر ما انت مفضوح!
اتجه
بعينيه وهو يقترب منها وترك أخيه حيث هو في صمته المعتاد ثم سألها باهتمام:
- بابا
عمل ايه يا روان؟
نظرت
له وهي تقول بدون تصديق وغضبها ولهاثها لا يندثران على حد سواء:
- عايز
يدمرني في شغلي كله، والناس بتفسخ العقود معايا، مشي من شوية، وعايزني ارجعله تاني
يا إما المرادي بيقولي اهلك موجودين.. بيهددني بمامي وبسام!!
خلل
"عُدي" شعره وهو في غاية الاحراج أمامها بينما حاول تكوين جُملة واحدة
فلم يستطع وقاربت هي على البُكاء من شدة هذا القهر الذي انتابها بمجرد نطقها بهذه
الكلمات بصوت مسموع ليتدخل صوته من على مسافة وهو يتكلم بلهفة:
- بابا
هيعملها.. اوعي تفتكري انه بيقول كلمة ومش بينفذها، هخاف اقولك لو عايزة تجربي
جربي.. لازم نسمع كلامه يا إما هينفذ اللي قاله
رمقته
باندهاش وتعالى المزيد من غضبها إلى أن بات جـ ـسدها في حالة مريعة من شدة
الارتجاف و "عُدي" ينظر لها دون تصديق فحتى اليوم وبعد مرور كل هذا
الوقت لا يفهم ما الذي فعله بها وكلاهما لا يُريدان الإفصاح لتخبره بغلٍ شعرت على
أثره باعتصار قلبها الذي لا تتوقف نبضاته عن الارتطام ببعضها البعض في جنون:
- موتني
أحسن، لا يُمكن ارجعلك!
شعرت
أنها ستسقط أرضًا فاتجهت لحقيبتها ولم تكترث بما يريانه منها فتابعها بعينيه ليرها
تتناول بعض الأدوية وهي ترتعش لتدمع عينيه وبمجرد التفاتها ابعد عينيه سريعًا من
أن ينظر لها ليتدخل "عدي" قائلًا:
- معلش
اللي هقوله ده مش من عادتي إني اتفق مع عمر في حاجة، بس هو معاه حق!
تحولت
نظراتها لتلتمع بالمزيد من الغضب وهي تمنع نفسها بأعجوبة عن البكاء ثم وجهتها نحوه
باحتقار وهو تهز رأسها بالإنكار وقالت بغيظ:
- مش
بعد اللي عمله فيا!
تنهد
وهو لا يُريد أن يصعب هذا الموقف على كلاهما وخصوصًا بتواجد أخيه معهما ولكن هذا
سيهدئها فقال بانكسار:
- أنا
نفسي مش موافق ارجعلك عشان أنا مستاهلكيش.. وبعد اللي حصل مينفعش نرجع لبعض..
اعتبريه حل مؤقت لغاية ما اعرف اتصرف معاه.. ومستعد اديكي كل الضمانات اللي انتِ
عايزاها..
التوت
شفتيها بسخرية وقالت بتهكم ونبرة غالبها البُكاء:
- ايوة،
الكلام الكتير اللي بتقنع بيه اللي قدامك..
ابتلع
وهو لا يقوى على قول سوى القليل:
- مستعد
اعملك أي حاجة عشان تطمني إن ده حل مؤقت وأنا هعرف الاقي حل يخلصك ويخلصني ويخلصه
هو كمان من كل ده، وهطلقك تاني أول ما أعرف أحل اللي بيحصل، كل جوازنا هيكون عشان
احميكي منه، ومش هيبقى جواز بجد زي ما انتي فاكرة، فكري كويس وانا هاروح أحاول اتفاهم
معاه لغاية ما تردي عليا!
❈-❈-❈
خرج
من مكتبها متوجهًا للمغادرة وهو لا يتوقف عن الاتصال بوالده لأكثر من مرة إلى أن رد
على مكالمته موبخًا:
- برضو معندكش كرامة ورايحلها
لغاية عندها!
ارتبك
في قوله وتوسله قائلًا:
- بابا أنا عندي استعداد أعمل
أي حاجة، بس بلاش إننا نرجع لبعض، بالعكس ده مش حل!
لم
يأخذه ثوانٍ حتى يُلاقيه بكلمات فكر بها جيدًا:
- مش دي اللي حياتك واقفة عليها
ومش قادر تعيش من غيرها، دي اللي بتجري تروحلها وخلتك مجنون، وهي دي اللي كنت عايز
تموت نفسك عشانها.. اديها هترجعلك.. حجتك ايه بقا دلوقتي؟!
كاد
أن ينفجر من شدة غضبه ولكنه حاول التحمل ليحدثه بجدية:
- بابا أنا هفهمك، خلينا نتقابل
ونتكلم..
استمع
لزفرته الساخرة من الطرف الآخر للمكالمة ثم حدثه ليقول:
- بقالك سنتين بتتكلم، كفاية
اوي كده عليك، ويا ريت المرادي تعرف تربيها وتبقا راجل معاها.. وعلى فكرة، أخوها
هيبقا خطوتي الجاية لو مرجعتوش لبعض النهاردة!
توسعت
عينيه بذهول ليجده أنهى مكالمته معه بالفعل ليشعر أنه لأول مرة لا يستطيع التصرف،
فلو أجبرها على الأمر سيكون كل ما عمل عليه بالعام الماضي مجرد سراب، ووالده ليس
مشهور بمزاحه على الإطلاق!! وها هو دليل على مصداقية والده معه يقرأه بعينيه عندما
قام "باسم" بإرسال رسالة له تؤكد على تأجيل القضية!
❈-❈-❈
بمجرد
خروجه مغادرًا وجدت نفسها تبكي دون أن تملك أدنى سيطرة على الأمر وهي تحيط وجهها
بكفيها لينظر إليها "عُدي" وحاول أن يوقفها عما تفعله:
- ممكن
تهدي بس عشان نعرف نتكلم
كان صوته يُمثل ضوضاء في خلفية كل ما يجري
بداخل عقلها، هل كل ما فعلته كان فقط من أجل رد اعتبارها بعد كل هذا العذاب معه وهي
تحاول أن تستخدم القانون فيما حدث لها ثم فجأة تجد نفسها عند نقطة البداية معه،
زواج بالإجبار وإلا تهديد بأن تخسر كل شيء هذه المرة وليس العمل فقط أو الأموال،
بل والدتها وأخيها أيضًا؟
هل يمكن أن والده كان يهددها بالكلمات ليس
إلا؟! أم هو يستطيع فعلها حقًا؟! لقد فعلها بالفعل وهي تعايش هذه الكارثة بنفسها
وبعينيها، هو لا يمزح حقًا..
-
روان أرجوكِ حاولي بس تفهمي الموضوع واهدي
عشان نعرف نتكلم!
حاول من جديد أن يستدعي انتباهها ويوقفها عن
هذا البكاء الذي لن يُفيدها بينما وجد رسالة وصلته من أخيه مفادها أنه يريد العودة
من جديد للتحدث لها وأن والده لم يستجب لأي حلول ولكن طبع سريعًا رد سريع له:
-
حاول معاه تاني، روان منهارة ومش عايزة تتكلم!
نظرت له باندهاش ثم حدثته بين بكائها بحرقة:
-
نتكلم في ايه؟ في انه يغصبني لتاني مرة أعيش معاه نفس العذاب ده
تاني؟
راعى مشاعرها وكل ما يحدث لها وكذلك هذا الموقف الصعب الذي وضعت به
ولكن ليس هناك وقت لتضيعه بالبكاء فحاول أن يُطمئنها قدر المستطاع ليحدثها بلين:
-
أنا مش عارف فيه ايه في دماغ بابا، ولا عمري
عرفت، بس اللي أعرفه إن عمر لما دخل المصحة المرادي وأنا بنفسي بنقله من المستشفى كان
موافق وراضي ومتكلمش، تفتكري إن اللي يتصرف بالطريقة دي هو هو نفس الشخص اللي كنتي
متجوزاه من سنتين؟
توسعت عينيها بذهول لتصيح به وهي تتوقف عن
البكاء من سخافة ما سمعته:
-
هو يرضى ولا ميرضاش ده لنفسه مش ليا! أنا
استحالة ارجع للإنسان ده تاني! مهما عمل ومهما اتغير عمري ما أوافق ارجعله، مش بعد
كل اللي عمله فيا!
تنهد مقدرًا موقفها ولكن ما زال هناك تلك
التفاصيل المفقودة التي لا يفهمها ليسألها قاصدًا أن يحل الأمر من جديد:
-
طيب ممكن تفهميني ايه اللي مكونتيش موافقة
عليه معاه ونحاول نلاقي حل؟ أو على الأقل ايه اللي عمله عشان نضمن إنه ميتكررش
تاني؟
تفقدته بملامح مبهمة بغير مقدرة على النطق
صراحةً بتفاصيل تُعاني بالتحدث عنها لأكثر من معالج مختلف منذ قرابة العام لتحدثه في
النهاية بقهر:
-
اللي عمله اسمه جنون، وأنا مضمنش إنسان
مجنون ممكن يعمل فيا ايه، وأظن أنت بنفسك اللي وديته المستشفى معايا، وأنت برضو
بنفسك اللي كنت معاه طول الفترة اللي فاتت، اعتقد إنك تقدر تحكم كويس اوي إنك بعد
ما فضلت تدور علينا شهر وبعدين شوفت تصرفاته إنه يستحيل حد يعيش معاه!
زم شفتيه غير قادرًا على تبرير أفعاله وكل
ما تحدثت به لم يُفده بينما حاول للمرة الأخيرة وهو ما ذنبه بكل ما يحدث له، كلما
ابتعد عن كل ما يتعلق به يجد نفسه يعود من جديد لنفس الدائرة:
-
عمر بقا بيتعالج وفاهم حالته، أنا قولتلك
قبل كده إني قابلت الدكتورة بتاعته من غير ما يعرف عشان أحاول اساعده، هي بنفسها
اكدتلي أنه بيحاول وملتزم، لكن هو رافض إني أكون قريب منه فمش هاغصبه، بس مش منطقي
إن في نوبة هوس يسيب كل الناس ويجيلك من غير ما يعمل أي تصرفات مش منطقية، وانتي
الوحيدة اللي عرفتي تسيطري عليه في حالة زي دي.. لو كان شافني وقتها أنا مستبعدش
انه يتخانق معايا او الموضوع يوصل لأكبر من كده.. وبعد ما فهم انتِ عملتي كده ليه لما
ودتيه المستشفى وكلمتيني وعرفتيني متكلمش ولا قالي أي حاجة، وعلى فكرة احنا قبلها آخر
مرة في خطوبة عنود اتخانقنا أنا وهو وصمم برضو على نفس أسلوبه وقالي مالكش دعوة بيا،
فمهما عملتي يا روان وأيًا كان اللي انتِ عايزاه مظنش انه هيقدر يرفضهولك.. لو حصل
أي حاجة كلميني أو عرفيني.. عمر باللي وصله هنقدر نلاقي حل معاه، لكن بابا، أنا مش
هاعرف أقف قدامه في أي حاجة!
لم تقبل أي من تبريره، ولو بات أفضل رجال
الأرض بشهادة كل البشر لن تقبل أن تعيد نفس خطئها من جديد فهي بالكاد استطاعت أن
تتخلص من زواجها به بعد أن أوشكت على الموت!
أومأت بالإنكار ورفضت مرة ثانية بتصميم
شديد:
-
أنا عندي استعداد أتحمل نتيجة غلطي في
القضية اللي كنت عايزة ارفعها بأي طريقة تانية غير إني أرجعله! ومن غير ما أخسر
شغلي ومامي وبسام!
شعر بالضيق من عنادها وهو لا يعرف كيف
يُقنعها فحاول للمرة الأخيرة ووافق على مضض التدخل بالمزيد من الأمور بينهما:
-
بصي، بجد بابا محدش هيعرف يرجعه عن اللي في
دماغه، فأنا اهو معاكي، اقعدي فكري كويس كانت ايه الحاجات اللي مش قادرة تستحملي
عمر بسببها وحاولي تاخدي كل الضمانات عليها من الأول، سواء قانونيًا أو ماديًا أو
بأي طريقة تشوفيها مناسبة، وأنا مستعد على قد ما أقدر إني اساعد، وحتى لو لازم
اجيلكم كل يوم بعد جوازكم أنا هاعمل كده!
❈-❈-❈
في
مساء نفس اليوم..
انتظرت
تواجده من جديد بمكتبها بصحبة "عدي" الذي لم يتركها طوال تلك الساعات
الماضية بينما دخل هو بملامح غير مقروءة، كل ما يبدو عليه هو تغيره، وكأنه منوم
مغنطيسيًا أو هناك شيء ما به يمنعه من أن يكون شخص طبيعي..
- قولت
ايه بقا قبل ما تمشي؟
سخر
بداخله من هذه الإهانة التي تفرضها عليه من جديد ليقول بهدوء:
- قولت
إني مستعد اعمل أي حاجة عشان اثبتلك إن كل اللي عايزه هو احميكي منه.. قولتلك كتير
ولسه بقولها بابا مش زيي، وعمره ما هيكون.. انا ولا حاجة من اللي هو يقدر عليه..
انتِ شوفتي بنفسك عمل ايه في يومين بس!!
تفقدته
بانزعاج وهي لا تدري لماذا منذ أن التقت به وهو لا ينظر لها وبات هذا الأمر يصيبها
بالجنون فهمست بتحدي متعجبة:
-
بجد.. أي حاجة؟؟
هز
رأسه وعينيه مثبتتين على الجدار خلفها فنظرت حيث ينظر هو فلم تجد شيئًا لتسلط
عسليتين تذرف لهيب جارف من شدة غضـبها والتمعت تلك الفكرة بعقلها لتخبره بشماتة
متحفزة للغاية لسماع اجابته:
- تمام..
العِصمة تبقا في ايدي أنا، مش أنت!
توسعت
عيني "عُدي" بالانبهار ثم نظر نحو وجه أخيه ليجده يرد بهدوء:
- موافق..
ضيقت
عينيها نحوه وقالت بتشفي:
- أنا
في بيت وأنت في بيت والأمن مش هيسبني لحظة ويوم ما يبقا فيه أي تعامل ما بينا تكلم
علا الأول تشوفني فاضية ولا لأ!
عقد
حاجباه بينما ازدادت دهشة "عُدي" وانتظر اجابته بينما قال:
- مش
هاينفع كل واحد يكون في بيت، عشان بابا مش هايسكت، في بيت بنيته لعنود، هاقعد
معاها فيه وانتي اقعدي في البيت القديم بالأمن بتاعك زي ما تحبي!
هل
يعشق أخيه هذه المرأة حقًا؟ وافق هكذا؟ دون مفاوضات أو برود أو صمت طويل؟ لولا هذا
الموقف البائس لكان أخرج هاتفه ليقوم بتصوير هذا النقاش منذ البداية!
نظرت
له بتشفي وأخبرته قاصدة أن تهينه:
- خد
بالك إن أخوك معانا وسامع كلامنا، شغلي ولبسي وحياتي وخروجي وكل حاجة تخصني أنا
وبس، أنت مجرد صورة ملهاش أي لازمة لغاية ما تصلح اللي أنت عملته، فاهمني ولا تحب
اعيد كلامي تاني؟!
تحولت
يديه لقبضتين وهو يقف أمامها بثبات بينما بداخله أحترق على كل ما يحدث ليرمقها
أخيه بعدم تصديق، لو استمع لهذه الكلمات من امرأة يستحيل أن يتزوجها، فضلًا عن
عشقه لها، لماذا تفعل به كل ذلك؟ ما الذي كان يفعله بها حقًا حتى تصل لهذه
المرحلة؟!
أجلي
حلقه واكتفى بأن يهز رأسه بالموافقة فأخبرته بهدوء:
- تمام..
اعتقد تعرف عنوان بيتنا، تاخد أخوك معاك بما إنه الوحيد الكويس اللي فيكم وتروح
تطلبني من بسام، ولو وافق نتقابل بكرة الصبح عشان تجهز التنازل عن العصمة ويتوثق
في المحكمة، واعتقد أنت محامي وعندك فكرة عن باقي الإجراءات!
حاول التحامل على ما يمر به من مشاعر لتلك الكلمات التي تلقيها على
مسامعه ليذهب للجلوس مع أخيها الذي يُعتبر طفل بالنسبة له وتحدث بعد أن دفن أي نوع
من أنواع المشاعر بداخله لكي لا يُفسد ما وصل إليه معها:
-
أنا هعرف اقنع بسام بس لازم تفهميه إنك موافقة، لازم نتكلم معاه احنا
الاتنين!
ابتسامة صغيرة بالكاد ارتسمت على
وجهها لترد قائلة:
-
أنا مش فاضية بصراحة، ورايا المصايب اللي حصلتلي بسببك ولسه عندي شغل،
شوف بقا مين هيبقا وكيلي ولما تيجو تكتبو الكتاب ابقوا بلغوني! وأنا هعرف بسام إني
موافقة!
❈-❈-❈
انكمشت ملامحها وهي تستعد لتلك الثورة الشديدة التي ستسقط على مسامعها
من أخيها ووالدتها:
-
يعني ايه ترجعيله؟ انتِ لسه من يومين كنتي متضايقة إن مامي مكنتش موافقة
على طلاقك!
-
لا لازم تفهمينا بقا المرادي كويس اوي ايه اللي بيحصل، علشان قدام
متجيش تلومي علينا اننا وافقنا!
تحدث كلاهما تباعًا لتتنهد ثم حدثتهما وهي تتمنى أن يقتنع كلاهما، فهي
لا تريد أن تغامر مع والده بسلامة أي منهما وهو لتوه أثبت لها أنه يمكنه أن يفسد
عملها في لمح البصر وابنه بما وجدته عنه بالفعل تتأكد أنه ليس لديه مانع من أن
يزيف دليل هام في قضية قتل فقط من أجل كسب قضية لمتهم!!
تنهدت بعمق ثم أخبرتهما بهدوء حاولت أن تستلهمه وهي تحاول اخبارهم أي سبب
منطقي ما عدا الحقيقة:
-
عمر جالي هو وعدي وباباه، حاولو يحلو الدنيا ما بينا، وموافقين على كل
شروطي، هنحاول للمرة الأخيرة مع بعض، وعشان تطمنو العصمة هتبقا في ايدي، يعني لو حبيت
اتطلق تاني هقدر بمنتهى السهولة ننفصل باجراءات قانونية بسيطة ومش هيبقاله الحق في
الاعتراض على ده!
دام الصمت لعدة لحظات بينما أغمضت عينيها في ترقب لسماع اقتناعهم
بالأمر وهي تحبس أنفاسها، قد يقتلها والده ولكنها لن تخبر أي منهما بأنه آتى
وهددها بسلامة كلاهما التي لن تستطيع مسامحة نفسها لو حدث وقام بإيذائهما لتتحدث والدتها
متسائلة بوضوح وجدية:
-
روري يا حبيبتي، أنا عمري ما بقولك أنتِ أو أخوكي لأ على حاجة، بس
انتي واثقة إن ده قرارك معاه بعد ما كنتي مصممة إنك مترجعيلوش؟ عشان لو حصل حاجة
أنا مش عايزة أكون السبب في إنك تتجوزي أو ترجعيله!
تنهدت وتمنت لو كان هذا الحديث بينهما في وقت سابق قبل كل ما حدث لترد
مجيبة:
-
ايوة يا مامي ده قراري!
تعجب أخوها من ردة فعلها بعد كل تلك الأيام التي كان يجلس بجانبها فقط
من أجل أن تذهب في النوم وهو ما زال يتذكر صوت صراخها بعد أن عادت من اختفاء طويل
وهو إلى الآن ما زال لا يفهم ما الذي حدث لها معه وطال صمته لتسأله هي بنفسها:
-
بسام، أنت ساكت ليه؟!
شعر بالغضب الشديد تجاهها وتجاه قرارها الذي لا يعرف من أين آتى ثم
اجابها باقتضاب:
-
مفيش..
سألته بعد محاولة لإقناعه مرة ثانية عندما استشعرت تغير نبرته:
-
متقلقش، وبعدين أنا هكون مرتاحة كده، مش عايزني أكون مبسوطة في حياتي؟
مجددًا عقب باقتضاب:
-
براحتك ما دام ده قرارك..
تريث لبرهة ثم أضاف باستغراب:
-
شكله وصل برا، أنا هاطلع عشان اقابله، انتِ فعلًا عايزة تكتبي الكتاب
النهاردة؟
تنهد وتساقطت دموعها ولكنها حاولت ألا يستمع أحد منهما لتقول باقتضاب:
-
ايوة، أنا نص ساعة هخلص الشغل واجي، باي..
أنهت المكالمة سريعًا وبكت بحرقة شديدة وهي لا تُصدق أنها ستفعلها من
جديد ولكن تقسم أنه سيكون أسوأ ما سيتحمله في حياته، إن لم تحول حياته بأكملها
لجحيم ستقتل نفسها إن لم تنجح في الأمر!
❈-❈-❈
الواحدة صباحًا..
دخلت المنزل لتجد الجميع جالسون في صالة
الاستقبال، والدتها وبالقرب منها "بسام" ثم المأذون الذي يبدو أنه
سيحترق غيظًا لانتظاره طوال هذا الوقت، وبجانبه "عدي" و "عمر"
الذي ما زال لا يقوى على النظر إليها، و "يونس" الذي صممت هذه المرة
يكون واحد من الشاهدان على هذا الزواج!
-
مساء الخير!
اتجهت وكأنها لم تبق الجميع منتظرون أكثر من
ثلاث ساعات ولم تنتظر لسماع رد من أحد على اجابتها ولاحظت كم اختلفت ملامح وتعابير كل وجه يتفقدها ثم اتجهت لتجلس أمامهم وهي لا تصدق أن من سيعقد زواجها اليوم هو
أخوها الذي لتوه بلغ الثمانية عشر عام وهي موافقة على هذا تمامًا ثم بعد العديد من
كلمات لم تسمعها بدأ عقد القران!
وجدت تلك الكلمات التي يتبادلها أخوها
مُكررًا خلف هذا الرجل لتوقفهما وهي تقول:
-
أنا محتاجة أشوف الكلام المكتوب لو سمحت قبل
ما نبدأ!
لم تُعره أي اهتمام يُذكر ثم توجهت إلى أخيها
بالحديث:
-
ممكن تجبلي الورق يا بسام؟
استغرب ما يحدث ولكنه استجاب لطلبها ونهض على
مضض وهو لا يفهم أي شيء مما تفعله أخته لتحدق بتلك الأوراق لتجد أن صداقها ليس
بمنصوص عليه سوى بمبلغ رمزي فسألت:
-
أنا مش موافقة على المهر ده! ممكن نعدله قبل
ما نكمل؟
نظر "عدي" باستغراب نحو
"عمر" الذي أوشك على الانفجار ولكنه قال لينتهي من الأمر:
-
عدلي اللي انتِ عايزاه!
نظرت إلى المأذون ثم حدثته بمنتهى الهدوء:
-
أنا العصمة هتبقا في ايدي، محتاجة اشوفك
بنفسي وانت بتوثق الورق لو سمحت في المعاد اللي يناسبك، بس يا ريت يبقا بكرة الصبح
بحضوري، وعايزة المهر بتاعي يكون مكتوب بالتفصيل، كله مقدم، البيت الي في عنوان
**** والحصان بتاعه، والمكتبة بتاعته!!
رفع رأسه نحوها ولم يستطع عدم النظر لها هذه
المرة ليرمقها بلوم شديد، هما الوحيدان فهما جيدًا ما تفعله، فهي تعرف أن هذه
الأشياء من أكثر الأشياء المحببة لقلبه، في حين أنها اقسمت لنفسها أنها ستجعل
حياته جحيم، ستسلبه كل راحة باله رويدًا رويدًا كما فعل معها طوال وقت زواجهما،
فلقد بدأ هو أولًا في تحويلها من مجرد فتاة تكره الفشل ولا تهتم سوى بالعمل لكيان
مرضي بامتياز، ولن تتوانى عن فعل المثل به حتى تراه يبكي ويتوسل أن تكف عما تفعله!
تفقدته لجزء من الثانية وهي تنظر له بتشفي
وهي تتابع حديثها:
-
من غير تنازل قانوني يقدر يضمنلي حقي في
الحاجات دي ولو مش موافقين اكون موجودة والورق بيروح المحكمة والشهر العقاري للأسف مش هاعرف أقبل، وآه.. المؤخر هيكون عشرين مليون جنيه.. شوف يا
بسام وبلغني!
تركت الجميع وغادرت غير عابئة بم يظنه عنها
أحد وعن تصرفها بينما قالت في طريقها وهي تغادر:
- يا ريت تروحو تدورو على عقود في أي مكان بسرعة عشان الوقت اتأخر وعندي شغل الصبح، ده لو ناويين تكملو كتب الكتاب!
يُتبع..