رواية كما يحلو لها بتول طه - الفصل الخامس والعشرون النسخة العامية
رواية كما يحلو لها
الجزء الثالث من رواية كما يحلو لي بقلم بتول طه
رواية كما يحلو لها
الفصل الخامس والعشرون
النسخة العامية
فتحت عينيها لتجد وجهها قد دُفن بالوسادة لتنهض سريعًا
خشية من أن تكون نامت أكثر من اللازم وسرعان ما تفقدت الوقت فهي لديها الكثير من
المواعيد التي لابد لها من الانتهاء لتزفر في راحة عندما أدركت أنها التاسعة فقط..
زفرت براحة لم تدم سوى لجزء من الثانية ليستبدلها فورًا
آلام رأسها مما احتسته ليلة أمس ولكنها باتت معتادة على اثار الثمالة الشديدة الآن
بعد أن اختبرت الأمر لأكثر من مرة، ما بيديها حيلة على كل حال، الصداع والمسكن، أو
عدم النوم على الإطلاق، ليس لديها سوى هذه الاختيارات.
بدأت في التفكير بمنطقية وهي تحاول الصمود بين الاستفاقة
وبين صداع رأسها الذي اتجهت لتتناول له مسكن قوي وهي تصنع القهوة وبدأ عقلها في
التفتيش عن كل ما حدث ليلة أمس، وبعد معاقرة الكحول لمرات ومرات لم يعد الأمر
مُشوش مثل السابق، لقد تحدثت كثيرًا على ما يبدو البارحة!
تركته ثم توجهت لهذا البار بداخل الفندق، أخبرت النادل
أن اسمها "يمنى" وزوجها اسمه "يونس" واخبرته القصة بأكملها
دون الكثير من التفاصيل وحكت له عن معاناتها مع الأرق ثم كيف وصلت هُنا؟!
أنهت صُنع قهوتها وتناولت ثلاث أكواب من المياه الباردة لعلها
ستُفيد آثار ليلة أمس وتمحو بعض من تأثير الكحول من دماءها لكي تستعيد تركيزها
نوعًا ما وتوجهت لتصعد من جديد وعقلها لا يتوقف عن محاولة استرجاع تفاصيل ليلة
أمس!
لقد آتى، ولقد كانت بحال مُزرية دفعتها لتلطيخ ملابسه بالقيء،
جيد للغاية هو يستحق هذا، ولكن أن يخلع ملا بسه مرتان في ليلة واحدة ويراها شبه
عــا رية ولم تُسول له مُخيلته الجامحة بأن يلـ ـمـ سها، مجرد أن هذا بات أمر واقع
أمر يدعو للتفكير!
حاولت أن تُفكر بجدية فيما حدث، ولقد نامت لخمس ساعات
متواصلة ستبقيها بخير لمدة ثلاثة أيام على الأقل، يا له من أمر مُفرح، بعد الراحة
الشديدة مثل هذه كان لديها الكثير من الطاقة لتنهي العديد من الأشياء العالقة، وبعدها
تُقسم أنها ستُريه نجوم الليل في وضح نهار صيف قاس!
تجرعت هذه القهوة المُرة ثم اتجهت للأسفل لتقوم بفتح
الباب وسألت أول رجل أمن رأته:
-
المفتاح بتاع البيت معاكم ولا معاه؟
لم تُفكر حتى بإلقاء تحية الصباح لتتفاقم تلك الغطرسة
بداخلها مُكونة كُتلة من فظاظة لن تنتهي ولن تختلف ربما لأعوام، فتلك المرأة التي
هرولت حافية القدمين دون أن تملك نقود ولا ملا بس تسترها وهناك بقايا دماء طُبعت
على ما ترتديه وهي لا تملك مستند واحد يدل على من هي!
-
لا معانا حضرتك اتفضلي..
تناولته منه وأغلقت الباب على الفور لتبتسم بزهو على ما
يحدث الآن، هي في منزله، وتمنعه من الدخول منه، ولا يتجرأ حتى على العبث معها،
لترى إلى أين ستتجه معه في الجزء الثاني من هذا المسلسل السخيف المسمى بالزواج تحت
التهديد، ستجعله يلـ ـعن اليوم الذي جمعهما أسفل سقف هذا المنزل، وما تفعله به
الآن سيكون أفضل ما يُمكن لها أولًا وأسوأ ما يمكن أن تراه عينيه ثانيًا!
قررت أن عليها أولًا أن تنجز ما لديها من أعمال وتأجيل
ما يُمكن تأجيله وتوزيع المهام للإدارات المختلفة لأن من الواضح أن عليها أن تكون
متفرغة لهذا الوغد لتجعل حياته جحيم مستعر كما فعل بحياتها يومًا ما!
❈-❈-❈
جلس فوق مقعد مكتبه، هدوئه اليوم دون قول كلمة واحدة من
السخرية ودون اظهار غضبه أو إعطاء أوامر، فقد تواجد هنا منذ صباح اليوم قبل قدوم
الجميع ولا يُطالب بالكثير حتى استغرب مساعده "باسم" من أفعاله منذ أن
آتى ووجده هنا صدفة!
أخذ يُدلك جبينه وهو يغمض عينيه وعقله لا يستطيع التوقف
عن التفكير مما آلت إليه حياته مؤخرًا، لو كان عليه النجاة من كل هذا لذا عليه تصحيح
موقفه مع والده قليلًا فهذا سيُمكنه من استعادة صورة المحامي الناجح في عيني
والده، بعدها يُمكنه أن يُدلي صراحةً بأنه لم يعد يريد الاستمرار معها، واقناعه
بالأمر..
نظريًا الأمر يُصدق وقد ينجح ولكن واقعيًا، ليرى، قضية
واحدة لن تكون كافية، فهذه القضية بما توصل له من أدلة يُمكنه إنهائها خلال جلسة
واحدة، ستؤجل للاطلاع على المستندات ومن ثم سيُنطق بالحكم، أقل من شهرين، هذه ليست
بمُدة كافية لإظهار ملله وسأمه وعدم رغبته في الاستمرار معها وخصوصًا أنه قتل نفسه
من أجلها حرفيًا.. ماذا عن أربعة شهور؟!
يُمكنه المماطلة حتى هذا الحين، لأنه لو لم يماطل، حسنًا
هناك ذلك الإلحاح من والده الذي لن يتركه بخير على الاطلاق، سيطالبه بالعمل على
المزيد، والعودة لذلك المحامي الذي كان في غاية البراعة، وهذا لن يضمن سلامه
العقلي بأي حال من الأحوال.. قضية واحدة حتى يتم الطلاق، ثم قضية أخرى بعد أن
يتركها، ثم المفاجأة، ابن المحامي الشهير الذي لم يخسر قضية واحدة في حياته سوف
يترك المحاماة بأكملها، والسبب ليس "روان" ولكن هذه الخُطة لابد لها من
ستة شهور إلى ثمانية على الأقل وهو بالكاد يتحمل المكوث على هذا المكتب لعدة ثواني،
لو كان الاختيار بين أن يتحمل وبين أن تضرر هي فوق الضرر الذي أصابها بالفعل
فسيتحمل هو، عليه فقط أن يبدأ في تمثيليته أمام الجميع..
تناول هاتفه وهو يشعر بثقل هذه الإجراءات اللازمة لتمثيل
الأمر ثم قام بإجراء مكالمة إلى مالك شركة أمن قد كسب له قضية يومًا ما وبعد تلك
التفاصيل من الترحيب الذي لم يكترث به ولم يُرد إضاعة وقته فيه حدثه بما يريد
فورًا:
-
أنا عايز حوالي تلاتين، يبدلو شفتات، عايز ناس محترمة،
في حالها وأمينة، وكلهم هيمضو على عدم الإفصاح.. هبعتلك باسم بالورق والورق يجيلي،
عشان لو حاجة حصلت غير كده أنا معنديش هزار في الموضوع ده، ومش هارحم حد فيهم لو
عرفت إن فيه كلمة طلعت برا البيت..
-
طب والناس القديمة؟ يعني احنا لسه مدخلناش على اخر الشهر
ولـ
قاطع سؤاله السخيف لينهيه عن ذلك التفكير:
-
أنا بنفسي هديهم مرتب الشهر وشهر زيادة فوقه لغاية ما
يلاقو غيره.. انجز بس في الموضوع اللي قولتلك عليه، وهبقا اكلمك اخر اليوم اشوف
عملت ايه!
أنهى المكالمة مباشرة بينما أدرك أن هناك سبيل آخر قد
يعرف خلاله والده الكثير عنه وهو بكل الطرق المتاحة بين يديه لا يريد سوى أن يتخلص
من معرفته لكل الأمور سواء الصغيرة أم الكبيرة فهاتف سريعًا سائقه ليحدثه بطريقة
مباشرة ممليًا بأوامره:
-
محمود أنا عايزك تمشي كل الوائقين وتديهم مُرتب الشهر ده
وشهر زيادة، وأنت زي ما أنت معايا بس خدلك إجازة شوية ريح وأنا لما اعوز اروح أي
مكان هبقا ابلغك قبلها..
السائقون ورجال الأمن، يتبقى "باسم" وأعين
والده في هذه الشركة وبعدها قد يتمكن من قطع تلك الأيادي الخفية له فيما يتعلق
بحياته، ربما بالسابق لم يكن ليكترث ولكن أن يحدث لها شيء بسببه مرة أخرى لن يتحمل
هذا أبدًا!
-
خير، هو فيه حد مننا عمل حاجة؟
رد على تساؤله بثقة واجابة منطقية:
-
لا خالص، هو بس أنا الفترة دي مش بروح أماكن كتير فملوش
لازمة يبقا معايا سواقين مبيشتغلوش، محمود عايزك تركز معايا كويس..
تريث لبرهة حتى يستدعي انتباهه ليستمع لصوته:
-
اتفضل حضرتك أنا معاك..
تنهد وهو يستر تلك الأنفاس لكي لا يُفضح بتوتره أمام
سائق لديه وأكد على كل حرف ينطق به:
-
بابا لو سألك على حرف بيني أنا وروان هتقوله كويسين
ومفيش مشاكل وعارف إنه هيسألك..
سرعان ما هتف سائقه معقبًا:
-
والله آخر مرة كان غصب عني، حضرتك عارف والدك مكـ
-
أنا عارف، اسمع بس اللي بقولك عليه ولو سألك قوله
الحقيقة وقول إني اديتك إجازة، وهابقا اكلمك بعدين..
سرعان ما انتبه لتلك المكالمة على هاتفه حيث كانت قيد
الانتظار اثناء حديثه ليجيبها بتلهف فهناك العديد من الأشياء التي لا يدري كيف
عليه التعامل معها مؤخرًا فبمجرد اجابته حاول الاعتذار ولكن دون قول هذا صراحة:
-
كنت محتاج افهم منك كام حاجة مش واضحة بالنسبالي، وعارف
إنك مشغولة، بس هو يعني ايه anxiety
attack؟ وايه
العلاج لحاجة زي دي؟ وايه سببها اصلًا؟
لم يستطع منذ ليلة أمس نسيان الأمر وحاول القراءة عنه
ولكن المعلومات المنثورة على الشبكة العنكبوتية لا تليق به ولا يُصدقها على
الإطلاق، فلم يكن أمامه حل آخر سوى أن يلجأ إلى "مريم" من جديد وكل ما
يهديه إليه عقله هو السيطرة على ما يحدث لها حتى يضمن الهدوء من جانب واحد على
الأقل!
-
هو ده عبارة عن نوبات قلق، وبتحصل للإنسان لما بيخاف أو
يقلق من حاجة مُعينة أو حدث معين، فيه ناس مثلًا بتحصلها بسبب التفكير اللي بيخليها
تقلق أو حاجة معينة مش عايزة تواجهها أو عندها رهاب منها ولما بتتعرضلها بتقلق
وبيجيلها نوبة، ممكن كمان يكون سببها حاجات كتيرة اوي، بتختلف من شخص للتاني على
حسب اللي بيعاني منه، والعلاج بيكون طبعًا بالأدوية وعلاج نفسي، بس ممكن اسألك
اشمعنى يعني بتسأل؟ فيه حد حابب تساعده؟
حدث معين أو شيء معين، جيد، هو هذا "المعين"
تمامًا والمقصود في كل هذا الرعب الذي يتضح عليها كلما اقترب منها، حسنًا، كيف
يجيب سؤالها، هل عليه الكذب؟ أم تأجيل الأمر؟ الكذب خصوصًا في كل ما يتعلق بها لم
يعد اختيار بالنسبة له، أم التأجيل فهو لديه قائمة طويلة للغاية من الأمور المؤجلة
التي لم يخض في سردها أو البحث عن حل لها مع "مريم".. ولا يُريد لهذا
القلق منها أن يزداد خصوصًا بالفترة القادمة!
تنهد ثم اجابها مجبرًا نفسه على الإقرار بالأمر:
-
روان
لم يجد رد منها لبرهة قصيرة ليستمع في النهاية إلى ما
تقوله:
-
طيب أنت تعرف عندها القلق من إيه بالظبط؟ افتكر لما كانت
بتابع معايا مكنش عندها أي عرض للقلق خالص، هو مين أصلًا اللي أكدلها كده؟
تثاقل صـ ـدره بأنفاس احتبست رعبًا مما أوشك على قوله
ليشرد تمامًا وهو لا يرى أمامه سوى تفاصيل مبهمة لمكتبه بدأت في التلاشي شيئًا
فشيئًا حتى اختفت ولم ير سوى ملامحها الباكية وصوتها الصارخ بتوقفه عما يفعله
والاستغاثة لينطق في النهاية بأنفاس مكتومة وهو لا يدري كيف فعل بها كل ذلك وقتها:
-
أنا اللي عملت فيها كده، ده اللي بحاول محكيهوش من يوم
ما ابتديت معاكي!
أغمض عينيه بعد أن شعر بشتات وتثاقل لسانه وكأن هناك جبل
يحل فوقه ليمنعه عن مواصلة المزيد من التفاصيل وهوت عبراته ليتفاجأ مما يحدث له
وانتبه سريعًا ليزيحها عن وجهه وقبل أن تنطق هي بتساؤل آخر سيتركه صريعًا لما يريد
الهرب منه ولا يستطيع مواجهته بعد نطق وهو يحاول التحكم بنبرته الباكية وامتن أن
هذا الحديث بأكمله يحدث عبر الهاتف:
-
أنا بس عايزها تكون كويسة، قوليلي ممكن اساعدها ازاي!
❈-❈-❈
الثانية ظهرًا..
قامت بتغير
اعدادات بريدها الالكتروني بأنها خارج المكتب ولن يُمكنها الرد وقامت بتحويل كل
البريد الوارد بقاعدة أخرى إلى عنوان البريد الالكتروني لـ "علا" لتبتسم
بحماس ثم شعرت بطاقة شديدة تجعلها تريد أن تحرك جبال شامخة لتجذب هاتفها وقامت
بالاتصال به ثم ادعت الانزعاج بصوتها وهي تتخيل الكثير مما سيحدث لاحقًا باستمتاع
شديد:
-
أنت ازاي تسمح لنفسك تقرب مني وتغيرلي هدومي امبارح؟ وايه
اصلًا اللي جابك امبارح ورايا؟
تقطب جبينه ثم علا شفـ ــتيه ابتسامة مغتاظة ليقترب من
أن يجيبها بتلقائية ولكنه عاود ادراكه متذكرًا ما حدثته به "مريم" عن
الأمر فتحدث بهدوء بمجرد ما تذكر حديثها له ليلة أمس:
-
أنا جيت عشان الوقت كان اتأخر وكل اللي طلبته منك اننا
على الأقل ندخل ونخرج مع بعض في الأوقات المتأخرة، وغيرتلك هدومك عشان كانت مش
نضيفة، لو افتكرتِ اللي حصل هتعرفي إن مكنش ينفع تنامي بيها..
سيطر الوجوم على ملامحها وهي تشعر بالتقزز من نفسها لما
حدثته به ليلة أمس بينما تابع بصوت هادئ:
-
متقلقيش، أنا مكملتش خمس دقايق ومشيت..
اندهشت باستنكار من كلماته بينما سمعته يتنهد بمنتهى
الأريحية وأضاف:
-
غير إن اللي في دماغك مش هيحصل، أنا مبقتش زي زمان، لا
جسديًا ولا نفسيًا، فاطمني!
توسعت عينيها مما تستمع له وسألته بارتباك وتلقائية:
-
يعني ايه اللي في دماغي، تقصد ايه؟
سؤالها جعله يبتسم رغمًا بكل ما يمر به ولكنه لم يظهر
هذا اثناء مكالمتهما ولوهلة ذكرته بتلك الفتاة ببداية زو اجهما لينتقي كلماته
بعناية واجابها متسائلًا:
-
مش فاكرة لما كنا بنقــ ــلع هدومنا زمان كان ايه اللي
بيحصل؟
أدركت ما يُرمي إليه وصُدمت لجزء من الثانية ولكنها لن
تتركه يُشتتها كما استطاع دائمًا وعادت لهدفها الأساسي فأطلقت ضحكة رنانة باستهزاء
صريح على ما قاله وردت مُعقبة:
-
مش ده اللي في دماغي خالص، لأن لو تخيلت أصلًا إنك ممكن
تقرب مني تاني أو يعني لو عقلك ضحك عليك وقالك اننا ممكن نرجع زي زمان فساعتها
هيبقالي تصرف تاني خالص، جرب بس كده وشوف اللي ممكن يحصل..
اتسعت ابتسامته على كلماتها ثم أغمض عينيه براحة شديدة
ليسترخي بمقعده وهو يستمتع بصوتها الذي كان يكفيه أن يحلم به بالأيام الماضية ورد
بجدية:
-
لا متقلقيش، مبقاش فيا عقل يفكر في الحاجات دي..
ما هذه الألغاز؟ بالطبع "عمر الجندي" لن يتغير
بين يوم وليلة وهي في شدة الغباء لتتابعه في هذا الحديث، عليها أن تعود من جديد
لما صممت عليه منذ البداية:
-
اسمع، احنا كان فيه بينا اتفاق وعدي كان شاهد على
كلامنا، مش انت اللي تقولي ارجع امتى والساعة كام واروح فين، ولا تحب ندخل اخوك في
المكالمة ويقول إن الكلام ده حصل ولا لأ؟
مجرد ذكرها لهذا الأخ المستفز جعل أمامه غمامة سوداء ليجيبها
على مضض:
-
لا ملهاش لازمة، انا فاكر الكلام ده كويس ملحقتش انساه..
ادعت الاندهاش الزائف ثم ردت بتهكم:
-
اه صح، انت بتنسى يا عيني.. أنا بقا مبنساش!
حسنًا، هذه الكلمات ازعجته حقًا، عليها أن تنتبه لما
تفعله وتقوله ولكن غضبه لن يساعده معها على الاطلاق فحاول أن يُفسر لها من جديد:
-
طيب بما اني بنسى أنا بقيت بسجل كل مكالماتي عشان يمكن
في يوم انسى تفاصي واحب ارجعلها فالاقيها بسهولة، بابا امبارح اتصل بمجرد ما
خرجنا، وأكيد عرف من كل اللي موجودين اننا كنا بنتخانق، وأنا مقولتلكيش ارجعي أو
روحي أو متروحيش، بس الوقت كان اتأخر وانا كنت تعبت ولو كنتِ رجعتي لوحدك كان بابا
هيتدخل وهيضايقك ويضاقني!
ادعت الجدية لتتساءل:
-
ايه ده بجد أتكلم؟
ظن أن سؤالها حقيقي ليجيبها بتلقائية:
-
المكالمة موجودة لو عايزة تسمعيها!
همهمت بتهكم وهي تعقب ساخرة:
-
يا عيني، وطبعًا لازم تعمل اللي بابي يقوله يا إما
هيموتنا كلنا عشان عمر مبيعرفش يتصرف في حاجة!
انفجر غضبه ليفرغه على تلك المنفضة التي القاها أرضًا بلكمة
قوية لتستقر متناثرة لأشلاء أمامه وفي نفس الوقت استمع لخبطات على الباب ليظهر
"باسم" فورًا فأشار له بالصمت ثم تحركت سببته لتشير له بالخروج ففعل
فورًا ولم ير مجالًا سوى لاختصار هذا الحديث معها فكلمها مستفسرًا بجدية:
-
أنتِ عايزة إيه؟
همهمت وهي تتفقد مكتبها ثم اجابته سائلة:
-
من يومين كده كنت واقف في مكتبي، مستعد اعملك أي حاجة عشان تطمني إن ده حل مؤقت، فاكر كلامك ده
ولا اتنسى؟
همهم موافقًا بنفاذ صبر بعد أن حاكته بطريقة مستفزة وهي
تحاول أن تتصنع تقليدها لصوته فاتسعت عسليتيها وهي تبتسم بتشفي عندما استشعرت
الضيق والغضب يتضحان على نبرته لتتحدث بغطرسة مُدلية بأوامرها:
-
طيب كويس إنك فاكر، بص بقا، لما ابقا في مكان وكل اللي
أنت عايزه اننا نطلع وندخل بس مع بعض من البوابة فتبقا تستناني واروح وقت ما أحب،
وطبعًا مش لازم افكرك إنك تستنى بعيد عني، والنهاردة انا عايزة اعزم مامي وبسام
وولاد خالتي في البيت الجديد بتاعي، وبما إنك جوزي قدام الناس للأسف لازم تكون
موجود..
استغرب ما تخبره به ليجدها تتابع:
-
تعدي على بسام الأول تاخده من الجامعة هيخلص الساعة
تلاتة، وبعدين تعدو على مامي وتجيبهم وتعاملهم بأحسن طريقة ممكنة لأن اللي حصلهم بسببك
محتاج مجهود كبير اوي عشان ينسوه، بس طبعًا بعد ما تتصرف في الأكل لأن أنت معندكش chef أو حد
يساعدك في البيت فطبعًا دي مسئوليتك مش مسئوليتي إنك تسيب البيت اللي أنت كنت عايش
فيه من غير حد ينضفه أو ياخد باله منه، أنا أصلًا بلغت يارا وجوزها ويونس، بما إن
دول أهلي فهم محتاجين يشوفو إني كويسة على الأقل أول فترة، يا إما لا هما هيصدقو
ولا باباك هيصدق غير لما يشوفو بعينهم.. متنساش معاد الغدا الساعة أربعة ونص..
انفرج فمه متفاجئًا من كل ما تقوله دُفعة واحدة بينما
أضافت وهي تتفقد أظافرها:
-
كان نفسي اساعد بس أنت عارف أنا ورايا شُغلي، وكل
السواقين اللي عندي بعتهم مشاوير، إنما أنت ممكن تسيب شغلك سنتين عادي.. وسيبتلك
نسخة من المفتاح مع الأمن مش هيعرفوا يدوها لحد غيرك.. باي!
انطلقت زفرة براحة شديدة منها وهي تبتسم وتتفقد أظافرها
مليًا، تحتاج لإعادة ملئ هذه الأظافر الصناعية وتغير شكلهم قليلًا بلون جديد، موعد
الصالون سيكون بعد قليل وهو قريب من شركتها على كل حال، أما هذا المنزل البعيد فهو
يحتاج للكثير من العناية وخصوصًا بعد أن يراه!
تحولت ملامحها للتشفي بينما امسكت بهاتفها ثم أرسلت
رسالة إلى أخيه بدعوته ولو أراد احضار أي من أصدقائه أو "عنود" نفسها
ومن ثم أرسلت إلى "عمر" رسالة وطبعت بها:
-
عايزة آكل sea
food
❈-❈-❈
الرابعة عصرًا..
ابتسم باقتضاب إلى والدتها وأخيها الذي ما زال لا يعامله
مثل السابق وهو يدفع مقعدها نحو باب المنزل وبمجرد اقترابه لم يُرد اثارة الشكوك
فتصنع أنه نسى المفتاح بالسيارة:
-
معلش ثانية نسيت المفاتيح في العربية
نظر لهذا الرجل ثم أخبره:
-
تعالى معايا عشان تشيل الحاجة!
استغرب منه الرجل قليلًا بينما همس إليه في الطريق نحو
السيارة:
-
فين المفتاح اللي سبتهولي، تجيبه وتدهوني من غير ما حد
ياخد باله..
هز رأسه بالموافقة ثم ناوله إليه ليسأله قائلًا:
-
الأكل وصل؟
أومأ له بالإيجاب فتوجه للسيارة وتصنع تناول المفتاح من
داخلها ثم عاد من جديد نحو الباب ثم ادار المفتاح بموضعه المخصص ثم نظر لهم وهو
يقول بتلقائية:
-
اتفضـ..
لم يُكمل كلمته بمجرد لمحة سريعة للمنزل الذي لم يره
لمرة واحدة هكذا في حياته، ملابسه مبعثرة بالكثير من ارجاء المنزل، ملامح المطبخ
من على مسافة تبدو مُرعبة بحق بتلك الأطباق وهذه الأشياء المنثورة أرضًا.. التفت
يمينًا ليجد كل الوسائد واقعة ارضً وهناك بقايا طعام تُركت على طاولة أمام شاشة
التلفاز، هل هذا واحد من كتبه الذي ترك بهذا الاستهتار بجانب بقايا الطعام، تبًا،
سيقتلها!! وماذا تفعل احذيته بجانب الباب..
اتجهت سريعًا وهي تبدو كحورية بهذا الشعر المموج وتلك
الأناقة التي لطالما امتازت بها بثوبها الأبيض هذا لتبدو كعروس ليلة زفافها لتلومه
أمامهما:
-
مش معقول يا عمر، كام مرة اقولك متبهدلش البيت كده وحط
الحاجة مكانها، ولاد خالتي وعدي هيجو كمان شوية وبصراحة مش عارفة هنلحق ننضف
ازاي.. أنت عارف أنا مبعرفش انضف خالص وأنا افتكرتك كلمت حد من عند بباك من البيت
يجي يرتب شوية..
رفع عينيه لعينيها مباشرة بينما تركته واتجهت نحو
"بسام" لتعانقه بشدة فهي تتمنى لو تعود للمكوث بمنزل عائلتها والابتعاد
عن هذا السجن:
-
وحشتني اوي على فكرة..
سخر منها ولكنه بادلها العناق:
-
كل ده من يومين بس..
عبثت بشعره وهي تتجه نحو والدتها لتغمغم:
-
رخم!
عانقت والدتها ثم حدثتها بهمس لتقول:
-
انا عزمتكم عشان تطمني اني كويسة، متخافيش عليا..
قبـ ـلتها على وجنتها ثم عادت من جديد لتتفقد ثلاثتهم وقالت:
-
انا مش عارفة بصراحة عمر ليه مجابش الناس زي ما وعدني مع
إنه هو صاحب فكرة العزومة أساسا.. بس يالا هنعمل ايه..
تفقدت والدتها المنزل بعينيها ثم أخبرتها باهتمام:
-
حبيبتي ممكن ابقا ابعتلك هدى والبنات عشان يسـاعدوكي..
أومأت بالرفض ثم نهتها عن الأمر لتقول:
-
لا هدى ايه، مامي هدى بتاخد بالها منك، وكمان يعني انا
البنات دول مش بتعامل معاهم وعمر دايمًا هو اللي بياخد باله من بيته من زمان..
أطلقت ضحكة بخبث لم يفهمه أحد سواه وهو يتابعها بعينيه
بغيظ شديد لتتابع بمنتهى البراءة وكأنها لم تفعل شيء:
-
أنا عارفة هو مفركش شوية وهدى لما كانت معانا في البيت التاني كانت بتاخد بالها من الحاجة او بأول بس بصراحة متخيلتش يسيب البيت كده..
عمومًا يالا ندخل بقالنا كتير كمان متجمعناش مع يونس ويارا وراشد ..
تفقد "بسام" المكان حولهم ثم قال:
-
أنا ممكن اساعدك قبل ما يجو..
نظرت له بصدمة ثم ردت بجدية شديدة:
-
وأنا من امتى بنضف أو بعمل حاجة في البيت، أنا حتى اوضتي
عمري ما عملتها.. مش عارفة بقا هنعمل ايه..
اتجهت سريعًا نحو مقعد والدتها لتخبرها بحيوية:
-
تعالي افرجك على البيت عشان عمرك ما جيتي هنا..
دفعت الكرسي أمامها بينما تابعها بمقلتين مغتاظتين إلى
أن غابت كلتاهما عنه بينما نبهه "بسام" ليحدثه بحسن نية:
-
مع إني لسه بصراحة زعلان منك بس ممكن نلحق نعمل أي حاجة
قبل ما يوصلو.. روري عمرها ما ساعدت أبدًا في البيت.. اخرها بتعمل أكل بس وحد كمان
بيشيل الحاجة وراها.. أنا دايمًا كنت ببهدل الاوضة بتاعتي وفي الخر كنت بعملها اخر
الأسبوع.. فممكن اساعدك شوية
أومأ له ثم ابتسم له باقتضاب وأجبر نفسه على التعامل
بطريقة ودودة قليلًا:
-
متزعلش مني.. شكرًا يا بسام..
بادله الابتسامة بينما تحولت ملامحه فجأة ليتساءل
باستغراب ليقول:
-
ايه ده؟ أنا زي ما أكون شامم ريحة سمك و sea food، هو ده
الأكل؟
أومأ له "عمر" بالموافقة ليبتسم الآخر بإحراج
ثم أخبره متابعًا:
-
أنا ومامي ويارا وجوزها ويونس كمان مبناكلش سمك!
اتسعت ابتسامته وفهم ما فعلته بينما أمسك بهاتفه سريعًا
ليحاول التصرف في طعام غير الذي احضره بالفعل وبداخله شعر بأنه لو لمحها أمامه سيدمر
كل ما كان يحاول أن يتخلص منه لشهور قاربت على عام بأكمله..
يُتبع..