-->

قراءة رواية جديدة كما يحلو لها بتول طه - الفصل 27 عامية

      رواية كما يحلو لها

الجزء الثالث من رواية كما يحلو لي بقلم بتول طه

رواية كما يحلو لها

من قصص وروايات

الكاتبة بتول طه

الفصل السابع والعشرون

النسخة العامية


ارتشفت وهي تلاحقه بعسليتيها في تشفي شديد واستطاعت رؤية اكفهرار وجهه على ما سمعه، "عمر الجندي" المحامي الذي لم يخسر قضية واحدة الذي كان لا يتوقف عن الكلام لسانه انعقد، لا يدري ما المناسب لقوله، نظرة الصدمة على وجهه من أفعالها رائعة، لقد صُدمت يومًا ما ولم تكن تفهم ما الذي يعنيه الأمر، أمّا رجل مخضرم مثله خاض بهذا الوحل لسنوات مع نساء كثيرات يفهم مليًا ما تعنيه!

 

-       ايه، مالك، مصدوم ولا مكسوف ولا يمكن خايف؟!

 

سألته وهي تستمتع بتلك النظرات على وجهه وأخذت تعبث بواحدة من نهايات خصلاتها ثم أطلقت ضحكة مكتومة تصحيها زفرة متهكمة على حالها في المقام الأول ومتهكمة عليه وهو يجلس مصدوم أمامها الآن:

-       أنا عندي خبرة حلوة أوي في إنك ازاي تعدي خوفك وكسوفك وصدمتك.. ممكن اساعدك!

 

حدقت بأظافرها وكأنها لا تُعطه اهتمامًا بينما بداخلها تموت رعبًا وآلمًا من تلك المرات التي عاملها بها وكأنها مجرد حيوان أليف يملكه ثم أردفت:

-       بس أنت طبعًا مش هتحتاج مساعدة لأن أنا كنت غيرك، كنت غبية مش فاهمة أي حاجة، وقولت معلش أصل جوزي وعايزة أعيش مبسوطة ومفشلش قدام الناس فمفيش مُشكله اعمله اللي عايزه، فاكر؟

 

رفعت عسليتيها إليه ليستطيع قراءة ذلك العتاب المختلط بنيران الألم يلتمع بشرار فاضت مقلتيها به وأكملت ساخرة:

-       عمومًا أنا مش هضيع باقي الليلة معاك، عندي مليون حاجة أهم منك اعملها، يا إمّا تقـ ـلع وتعمل اللي قولت عليه يا إما تطلع برا بيتي!

 

تجرعت ما تبقى بكوبها ثم ألقته من بين يديها ليسقط متهشمًا أرضًا وهي تأرجح ساقها التي علت الأخرى وأخذت تطرق بسبابتها على مسند المقعد وتفقدته بجرأة وثقة كافحت بضراوة هائلة لتصنعهما على الرغم من ذلك الرعب الذي كاد أن يوقف قلبها من شدة ضرباته، لقد تعلمت منه هو نفسه كيف يمكنك أن تدعي بعكس ما تبطنه بداخلك!

 

نهض وحاول التحامل على غضبه، لديه آلاف من الكلمات لتُقال، ولديه العديد من الجُمل المناسبة ليرد بها عليها، ولكنه لو فعل ستنتهي هذه الليلة بكارثة لكلاهما، وهو لا يريد تدمير ما يحاول فعله، ربما لو غادر وتركها ستبدأ في فهم أنه لا يريد هذا الزواج بأكمله، ربما هي تظن أنه يريد ذلك مثل والده، هو لا يعرف ما الذي تُفكر به حقًا، ولكنه يعرف أن الاستسلام قد يجعلها تسأم في النهاية وتشعر بالملل من تصرفاتها الطفولية تلك.

 

هز رأسه مستنكرًا ونهض فجأة ليجدها تنكمش لحركته المفاجئة ولم يستطع أن يمنع ابتسامة التشفي التي ارتسمت على فمه وقال بهدوء:

-       شكلك تعبانة واليوم كان طويل، تصبحي على خير!

 

اتجه ليخرج من الباب الذي لم يبتعد سوى خطوات عن مقعده فأوقفته بنبرة مرتجفة وغاضبة في نفس الوقت وهي لديها الآلاف من الحيل لتحرم عينيه اليوم طوال الليلة:

-       لا تكون فعلًا اقتنعت بإنك إنسان مريض وعايز تتعالج وبطلت بقا أنا سادي وأنا بحب كده.. لا بجد! دي مفاجأة بالنسبالي!

 

هل تمزح معه؟ هل تفعل حقًا؟ هل تريد التحدث عن الأمر، أم هي لا تصدق أنه اقتنع بالأمر بأكمله؟

-       على الأقل أنا اقتنعت وبحاول، غير ناس تانية!

 

وقف والتفت لها من جديد وهو لم يستطع منع نفسه عن قول تلك الكلمات التي قد تُذكرها فيما حاولت فعله لعام كامل عانت به على يديه آلاف المرات ولكن ضحكتها التي دوت حولهما ودامت لمدة من اللحظات جعلته يحترق بداخله من سخريتها التي لا تتوقف لتتحدث بصعوبة من بين ضحكتها:

-       لا مش ممكن بجد، أنا مش مصدقة، أنت..

 

حاولت التخلص من بقايا ضحكتها وهي تُفكر بكلماته، هو لا يعرف كم حاولت التخلص من كل ما باتت عليه، حاولت ليلًا ونهارًا لمدة شهور ثم يأتي هو بمنامها ليصيبها بالفزع التام!

-       أنت اللي بتقول كده.. رجعنا زمن المعجزات ولا إيه!

 

تحاملت على تلك الذكريات نظرت له بابتسامة بقيت من اثار ضحكتها وأردفت:

-       أنا فيه حد علمني إن العلاج النفسي ده حاجة ملهاش أي لازمة، وإن الفرق بين واحد كويس وواحد لأ هو نسيان الماضي، فيه ناس بتنسى في شهرين وناس في سنة، وفيه اللي زي مامي اللي اتشلت لما بابي مات.. مش ده كان كلامك في يوم من الأيام؟!

 

تذكر تلك المرة التي حدثها بها عن رأيه في العلاج النفسي والتقت أعينهما بلومٍ، فهي تلومه على عام كامل من عذاب لاقته لأن كل ما ارادته هو رؤيته بخير، وهو يلومها على تلك المرأة التي أصبحت عليها، وسرعان ما تحول اللوم إلى الخزي الشديد الذي شعر به مما فعله بها ليجدها تتابع حديثها:

-       وفيه اللي زيي، تقدر تقول اتطبعت بطباع معينة، واوعى تتخيل في يوم من الأيام إني هاخلص منها بين يوم وليلة، اعتبر إني اتجننت، مش ده اللي كنت بتحاول تعمله؟ اتبسط بقا عشان نجحت فيه!

 

جملتها جعلتها هي نفسها تشعر بالألم لتذكرها تلك الأيام التي قاربت خلالها على فقدان حياتها بالإضافة لعقلها وكُتمت تلك الدموع بعينيها ثم هتفت به بحرقة وهي تلهث بعد أن ارتفعت سرعة ضربات قلبها:

-       امشي اطلع برا..

 

لاح الحُزن على ملامحه وهو يرى تلك الدموع المكتومة بعينيها وتمنى لو تنشق الأرض وتدفنه بطياتها لتصرخ به من جديد:

-       برا!

--

 أخذ خطوات سريعة وهو لا يرى أمامه سوى تلك النظرة الأخيرة بعينيها وكل ما يُصاب به هو أمواج متلاطمة من الغضب، غضبن منها، وغضب من كل ما يحدث بينهما، وغضب من أجلها، وغضب من نفسه هو في المقام الأول، لا يدري هل عليه لومها أم لوم نفسه.. ولقد فعل، لقد لام نفسه آلاف المرات على ما حدث لها، يقسم أنه فعل، ماذا يتبقى لفعله حتى تتفهم أنه لم يعد هناك شيء مثل السابق!

 

حاول أن يبطأ من وتيرة أنفاسه المتلاحقة كألسنة الجحيم ولكنه لم يقو على فعلها، لا يدري ماذا عليه الفعل، بالطبع سيكون فاشل معها كما كان فاشل في كل شيء بحياته!

 

تريده أن يركع عا ريًا، هي تمزح أو فقدت عقلها، وبالطبع هو من ساهم في هذا، تبًا له، ليته نجح في أي لعنة معها، لم ينجح في عشقها كما ينبغي كما لم ينجح في قتل نفسه أمام عينيها، ربما لو كان نجح بالأمر لكانت هدأت قليلًا ولما تحولت لتلك المرأة الغريبة التي أصبحت عليها!

 

نظر حوله بتلك الغرفة التي لم تكن محتوياتها كثيرة على كل حال ثم أخذ يهشم كل ما توصلت إليه يديه ووقعت عليه عينيه حتى تلك الدفاتر نالت نصيبها من غضبه وسقطت أرضًا ولا شيء يتغير، لا شيء يفلح، لم يعد هناك أمر وحيد يستطيع النجاح به!

 

إن لم يجد نهاية لكل هذا الغضب يشعر وكأنه سيحترق، كل ما أمام عينيه بات حالك، مبهم، لا يرى أي بصيص ضوء خلاله، لا يدري ما الذي عليه فِعله أكثر مما فَعله، لم يُحدثها لشهور، لم يذهب إليها، لولا نوبة الهوس تلك لما كان حدثها على الاطلاق، ربما كان مخطئ ولكنه لا يدري كيف فعل هذه التصرفات، هي تعلم أن أي مرة اقترب لها من بعد طلاقهما كان الأمر خارج عن يده بالكامل، لم يكن ليستطيع التحكم به!

 

-       عايز ايه يا عدي؟

 

أجاب هاتفه الذي لم يتوقف عن الاهتزاز بجيبه مرغمًا أن ينتهي من واحد من تلك الأمور العالقة، ليس هناك ما ينتهي وكأنهم اتفقوا جميعًا أن يجعلوا حياته أسوأ!

 

-       مال صوتك، أنت بتجري ولا إيه؟

 

سأله بعد أن لاحظ كيف تبدو نبرته ليغمض الآخر عينيه وهو يمسح على وجهه بنفاذ صبر وقلة حيلة ليجيبه بسخرية:

-       أجري اه، كنت بجري فعلًا!

 

لم يفهم ما قصده وما الداعي لسخريته تلك ليصعب عليه فهمه للمرة الآلف بعد المليون، فهكذا هو منذ أن أدرك أن لديه أخ يكبره مسمى بـ "عمر" وهو لا يستطيع فهمه بينما كل ما يُفكر به الآخر أنه فرضًا لو ود أن يذهب للعدو لن يمكنه لأنه ببساطة لم يعد يمتلك القدرة ولا حتى الملابس المُلائمة لفعلها، وليُخمن، هو حتى لم يعد يملك الوقت!

 

-       عمر أنت قولت إننا هنتكلم وهتفهمني فيه ايه، ممكن تقولي ايه اللي حصل؟

 

زفرة متثاقلة بأعباء ليس لديه فكرة كيف سيتحملها خرجت متقطعة بخضم أنفاسه المتلاحقة بغضب ليصيح به:

-       اللي حصل إنها بكل اللي بتعمله ده عايزة تعاقبني أو تاخد حقها مني، بتنتقم، اتجننت، اتجننت رسمي خلاص، ومبقاش قدامي حل غير إني اسكت لغاية ما نتطلق أو ممكن تعمل اللي اكتر من كده.

 

ومن جديد لم يفهم "عُدي" حرف، كيف تريد معاقبته وكيف فقدت عقلها، لقد بدت جيدة للغاية اليوم، على الأقل ليس مثل تلك الأيام الماضية، وبالطبع لم تكن مثل ما رآها بمنزلها عندما كان "عمر" بالمشفى لا يحرك ساكنًا:

-       ثانية بس، هي روان عملت إيه أنا مش فاهم!

 

ابعد أحد الدفاتر بحذائه وهو يتوجه للخارج بينما عقب على كلماته بأمر واضح:

-       مش مهم تفهم، مش مهم حتى تسأل، أنا هتصرف، أنا هحل كل حاجة، بطل تعمل نفسك مهتم بقا، معتقدتش أنت ملاحظتش كلامها عنك النهاردة كان عامل ازاي قدام الناس.. متعملش فيها نفسك غبي أكتر ما أنت غبي.. عدي متكلمنيش تاني!

 

أنهى المكالمة وهو يدخل بسيارته وانطلق للخارج لا يدري إلى أين يذهب وكل ما صوره له عقله أن يرى مؤشر السرعة بهذه السيارة قد وصل لنهاية هذه الأرقام اللعينة إلى أن يلقى حتفه!

--

-       ايه ده، هي روان مالها بيكي أصلًا، أنا مستغرب بصراحة ليه تكلمك كده، تحبي أكلمها في الموضوع؟

 

تعجب "يونس" بعد أن أخبرته "عنود" كل ما جرى بينها وبين "روان" وما جعلها تشعر بعدم الراحة طوال اليوم لتهتف به:

-       لا يونس أرجوك أنا مش عايزة مشاكل، أنا مبحبش اتدخل في حاجة تخص عمر، وهي في الأول في الآخر مراته، فخلاص اهو موقف وعدا، وبعدين أنا مش بحكيلك عشان الموضوع يكبر، أنا بحكيلك عشان افضفض معاك وعشان وعدتك إني هقولك!

 

تريث لبُرهة وهو يُفكر بكلماتها ليتعجب مرة ثانية:

-       بس برضو مش فاهم، أنا عارف روان من زمان وهي مش بيفرق معاها غير نفسها، بس اللي عملته ده اسمه قِلة ذوق، وهي عمرها ما كانت كده!

 

أطلقت زفرة ساخرة لتنطق مخبرة ايه سؤال مُستنكر:

-       مستغرب كده ليه، نسيت إنها طردتنا من بيتها اول السنادي؟!

 

رد بتلقائية وهو لا يقصد أن يدافع عنها اطلاقًا:

-       ما يمكن اعصابها كانت تعبانة عشان موضوع طلاقها ده، هي دي روان، من وهي صغيرة كانت دايمًا بتبان إنها perfect في كل حاجة واكيد مكنتش عايزة تتجوز عشان تطلق بعد سنة.. فطبيعي إنها كانت تبقى مضايقة، وأنا بصراحة قولت أكيد شوية وهتكون أحسن، هي النهاردة مثلًا كان شكلها طبيعي واحسن بكتير من قبل كده!

 

انزعجت من كلماته لتهتف به غاضبة:

-       أنت مالك بتدافع عنها أوي كده ليه، ولا كنت مبسوط اوي من الطريقة اللي بتعاملك بيها وفرحان إنها عمالة تهزر معاك بإيديها ولا كأنك جوزها!

 

انعقد لسانه من قولها وهو لا يصدق أنها تدخل بغيرتها العمياء تلك من جديد ليهمس بخفوت:

-       لا بجد أنتِ اكيد هبلة!

 

تريث لجزء من الثانية ثم حاول أن يُنهيها عن التفكير بمثل هذه الطريقة:

-       يا بنتي روان دي بنت خالتي، وزي أختي كمان، قولتلك الكلام ده مليون مرة، بطلي هبل بقا يا عنود..

 

اندفعت بالتحدث غاضبة مما سمعته:

-       أنا اللي اعرفه إن اختك اسمها يارا مش روان، وأنا بصراحة مش هاقبل الأسلوب اللي أنت بتتعامل بيه ده مع أي واحدة، وعلى فكرة أنا كنت واضحة معاك من الأول، وهبل بهبل بقا أنا غلطانة إني حكيتلك كل حاجة! يالا سلام!

 

أنهت المكالمة وأغلقت بعدها هاتفها لتتركه مندهش من كل ما يحدث، كيف حولت الأمر بهذه البراعة من مجرد اهتمام منه وسؤال عما تمر به إلى هُنا حيث بدأ وكأنه يقوم بخيانتها.. غيرتها تلك غير محتملة على الإطلاق! ليته لم يسألها عن الأمر منذ البداية!

--

انهمرت دموعها في صمت وهي حتى لا تقدر على إطلاق صوت ولا زفرة، بل تشعر وكأنها لن تستطيع التحرك عن هذا المقعد حتى تموت، لماذا ذهب؟ لماذا لم يفعل الأمر؟ ألم تفعل نفس الشيء من أجله بالسابق؟

 

بالطبع، هي لابد أن توافق على كل ما يحلو له، تتزوجه مرة بالإجبار، ومرة أخرى بالإجبار كذلك، يفعل هو كل ما يُريده، ولا تفعل هي، يُمكنه أن يفقد عقله في الوقت الذي يحلو له، أمّا هي فيستحيل أن تفعلها، هو يخطأ بينما عليها أن تبقى مثالية للنهاية، وإلا ستخسر عمل أُسرتها، أو أُسرتها نفسها، ولا يهم أنها خسرت نفسها في وسط كل ذلك..

 

رفعت تلك الزجاجة التي انتهت بالكامل لتجد أنه لم يعد قطرة واحدة بها، المنزل بأكمله يدور أمام عينيها، ولكن عقلها لا يدور سوى بتلك الذكريات التي جمعتهما، ربما لو ذهبت للنوم الأمر سيكون أفضل، هل ستنام؟ لا تظن هذا!!

 

نهضت بخطوات مترنحة لتذهب لتحضر المزيد، جذبت واحدة من الزجاجتين المتبقيتين، ووجدت نفسها قد أصبحت بغرفة مكتبه، تلك الكتب الكثيرة، من أين له الوقت ليُنهيها؟ هي تكره القراءة، تكره الكُتب والأساطير والروايات تلك وكل هذا، لم تكن تلك الفتاة التي تغرق بقصص قد تكون بأكملها غير حقيقية، تتذكر، المسائل الرياضية بمجرد الوصول لحلها الصحيح كان أفضل من آلف قصة عشق بالنسبة لها!

 

بدأت يدها تنتشل الكتب تباعًا لتتفقد بأعين غارقة في الثمالة عناوين هذه الكُتب ثم تُلقيها أرضًا، كتاب يتبعه آخر، وبمجرد رؤيتها لاسم أوفيد كانت تقطع تلك الأوراق بهمجية قبل أن يستقر بجانب ما سبقه من كتب أرضًا..

 

تحتسي الخمر، غارقة في كل ما جمعها به، ولأول مرة منذ أن كانت بالسابعة عشر، هي لا تريد العمل، ولا تريد رؤية والدتها ولا أخيها، لا تريد سوى الموت أو نهاية لكل ذلك، تريد أن تذهب مرة للنوم ولا تستيقظ، وإذا استيقظت لا تتمنى سوى أن تجد كل شيء قد تغير بالفعل، هل يمكنها العودة لتلك اللحظة عندما وجدت تلك الأوراق، يُمكنها الذهاب إلى عمها الذي لا تطيقه وتتوسله ألا يفعل بها ذلك، الألم الذي تشعر به قد يجعلها تقبل الأقدام فقط لتتجنب كل هذا، لو يُمكنها أي أحد أن تعود بالزمن ستفعلها دون أن تفكر لوهلة عن الأمر!

--

بعد مرور عشرة أيام..

فتحت عينيها وهي تتأوه بفعل ألم رأسها وتفقدت الوقت بهاتفها لتجد الساعة قد عبرت الرابعة عصرًا، إلى متى ستجلس بهذا المنزل الكئيب وسط تلك الذكريات وهي تثمل ولا تفعل شيء، هي لا تذهب لعملها، لا تتحدث إلى والدتها وأخيها سوى ببعض الرسائل المكتوبة، واليوم يمر بأكمله بين التخلص من الصداع ثم احتساء الكحول الذي لا يُسفر عنه سوى الثمالة حتى النوم وتذكر العديد مما مر عليها هُنا!

 

تحسست موضع مسكن لصداع الرأس على المنضدة الجانبية للفراش ثم نهضت بصعوبة والألم يفتك برأسها وبسائر جـ ـسدها، هي لن تجلس هكذا، لابد لها من فعل أي شيء قبل أن تفقد عقلها!

 

ارتطمت قدمها بتلك الزجاجة الفارغة المُلقاة أرضًا فلم تكترث وتوجهت لتتناول أكبر قدر من المياه استطاعت معدتها أن تتحمله ومنها إلى الحمام لتقف أسفل تلك المياه الدافئة وهي تحاول تحمل تلك الدقائق حتى يستطيع هذا المُسكن أن يُصلح مما أفسدته بالليلة الماضية.. تبًا هي لم تبدل ملابسها منذ تلك الليلة.. لم تستحم سوى مرة واحدة منذ أيام، كيف تركت نفسها لتصل إلى هُنا؟! الأمر أصعب منذ عام، لقد كانت أفضل بالسابق على ما تظن!

 

اتجهت لترتدي ملابسها التي لم تكن سوى بنطال أسود ضيق وسترة جلدية سوداء واسفله قميص أبيض عا ر الأكتاف ولم تكترث بابتلال شعرها على الإطلاق فجمعته للخلف ثم ارتدت حذاء عالي الرقبة قليلًا أسود اللون واتجهت لتُمسك بهاتفها وواحدة من الزجاجات الفارغة وتوجهت للخارج!

 

-       امسك، هات خمسة أو ستة زيها!

 

ناولت واحد من الرجال تلك الزجاجة واعطته بطاقة ائتمانية ثم اتجهت للسيارة وهي تقول:

-       كلمولي السواق عشان ماشية..

 

بالكاد تحملت بقايا الضوء القليل الذي تبقى في السماء قبل عتمة الليل الحالك وتفقدت المكان حولها فلم تجد سوى سيارتها ولم تجد أثر لأي من سياراته وبمجرد دخول السائق سألها:

-       تحبي اتحرك على فين يا مدام؟

 

 اجابته باقتضاب وهي ما زالت تعاني من بعض الصداع الذي لم ينتهِ بعد:

-       هنروح البيوتي سنتر وبعدين هروح اتغدا في اوتيل ***

 

رد هو الآخر معقبًا باقتضاب ليتوجه حيث أخبرته:

-       حاضر يا مدام..

 

فجأة سألته وكل شُغلها الشاغل العودة لتفسد المزيد من حياته:

-       هو عمر فين؟ لسه مرجعش من شغله؟

 

لمحها الرجل لمحة سريعة عبر المرآة الداخلية للسيارة بالرغم من تلك الصورة التي كونها كل هؤلاء الرجال عنها ولكنه كان مضطر أن يجيبها بما يعرفه:

-       من يوم العزومة حضرتك وهو مش موجود!

 

استغربت من الأمر ولكنها ستترك هذا جانبًا الآن حتى تُنهي ما تريد فعله أولًا فهي محال عليها أن تبدو بهذا المظهر عندما تعود لتواجهه من جديد، رجل المنزل ابن "يزيد الجندي" ترك المنزل وغادر زوجته، يا له من رجل بحق، تقسم أن هذا العام لن ينتهي سوى بجعله يتوسل لها أن تتوقف عما تفعله به!

--

بعد مرور أربع ساعات..

تفقدت مظهرها وهي تبدو أفضل بكثير عما آتت هنا، مساحيق تجميل تخفي تلك الحُلكة حو عينيها، خصلاتها تبدو أفضل بكثير عن تلك الخصلات المبتلة منذ عدة ساعات، وجلسة التدليك تلك كانت رائعة بعد جلسة عناية مكثفة لقدميها ويديها وهي تتناول ثلاثة فناجين من القهوة التي ساعدتها على الاستيقاظ!

 

تناولت بطاقتها الائتمانية من مسئول الحسابات بصالون التجميل ثم توجهت للأسفل لكي تذهب لتناول الطعام فهي تضور جوعًا وستحتاج لبعض الطعام حتى تُصبح بخير، وربما كأسين أو ثلاثة من النبيذ الأبيض سيكون مناسب لتناول العشاء..

 

انطلقت بسيارتها بصحبة السائق وعقلها يُفتش عن الكثير من الطرق التي لابد عليها من اتباعها حتى تجعله يتوسل لها أن تتوقف، لقد كانت تفعل هي هذا وهي تتوسل له، مرة بأن يتحدث لها ومرات أن يتوقف عن عنفه، ومرات ومرات أكثر وهي تقبل قدمه حرفيًا بأن يكف عن عذابها ولكنه لم يستجب!

 

مضغت آخر ما تبقى من طعامها وهي ترتشف من هذا النبيذ الأبيض ثم اشارت لنادل يمر بجانبها وحدثته وهي تشير بسبابتها بعجرفة:

-       شيل ده وعايزة الـ dessert، بس متتأخرش لأن ورايا حاجات كتيرة!

 

أومأ لها بابتسامة رسمية وشرع في فعل ما طلبته بينما شردت بالفراغ وهي تتخيل ملامحه وهو يكاد يُجن مما ستفعله، ستجعله يحترق غضبًا، أو حُزنًا، وقد يقهر كذلك، أيًا كان ما سيشعر به من تلك المشاعر فسيرضيها الأمر تمامًا وستشعر بالراحة!

 

من السيء للغاية أن تقوم بإيذاء من تعشقه، ولكنه هو من بدأ بهذا، وحتى ولو كان مريض في غير وعيه، هي لا تكترث أبدًا، لأنه وببساطة كان في غير وعيه لمرات ومرات، ما تكترث إليه هو أنه صدق بأنها خائنة ومستغلة كنسخة من تلك الحقيرة التي كان يعرفها، حسنًا، لتُريه كيف تكون نسخة حقيقة منها وستُنفذ كل ما يحكم عليه بأنه حقارة بحذافيره حتى يُصدق الأمر جيدًا!

 

ابتلعت ما تبقى بفمها بتلك الشوكولا رائعة المذاق وأشارت للنادل حتى تقوم بدفع ثمن الطعام وتفقدت ساعتها لتجدها قد قاربت التاسعة والنصف فنهضت لتتوجه للخارج بعد رسالة أرسلتها للسائق الذي توقف أمام بوابة الفندق وانطلقت بصحبته وتفقدت الطريق حولها لتتحدث فجأة:

-       استنى اركن هنا على جنب!

 

فعل الرجل بينما هي ابتسمت على ما تريد فعله وقامت بالدخول لواحد من متاجر الزهور لتعجبها باقة وجدتها رائعة ثم حدثت الرجل لتقول:

-       ممكن ابعت البوكيه ده أو واحد زيه على عنوان معين بكرة الصبح؟

 

أومأ الرجل لها بابتسامة ثم حدثها قائلًا:

-       ذوق حضرتك حلو اوي، وطبعًا ينفع احنا عندنا ديلفيري وبنعمل كمان special orders في الوقت اللي حضرتك تحبيه، احنا موجودين 24 ساعة.

 

ابتسمت له ثم قالت:

-       ميرسي، فيه كارد للمحل؟

-       ايوة طبعًا اتفضلي.

 

ناولها البطاقة بينما أخرجت هي بطاقتها الائتمانية وبعض البقشيش ثم ناولته كلاهما لتبتسم ولكن بتشفي لم يفهمه الرجل لتحدثه قائلة:

-       فيه بيتين في العنوان ده، وفيه مبني كده جديد فيهم باللون الأبيض، عايزاه يوصل هناك، بكرة الساعة تسعة الصبح، وممكن لو تكتبلي كلمتين عليهم أصل معلش خطي مش حلو..

 

ابتسم ببعض الاحراج ثم قال متسائلًا برسمية:

-       طبعًا حضرتك، عايزة تكتبي إيه؟

 

أخبرته ما تود كتابته ثم اتجهت للخارج وهي تُمسك بحقيبتها وهاتفها وتعيد البطاقة الائتمانية للداخل واتجهت نحو السيارة غير عابئة بما يحدث ثم أخبرت السائق وهي تتجه نحو مقعده:

-       أنا اللي هسوق، اركب أنت في العربية التانية!

 

نفذ السائق ما اخبرته به واتجه للسيارة الأخرى التي يتواجد بها أربع رجال آخرون ولكن لم يكتمل هذا المزاج الرائق عندما عبر من خلفها رجل قام بجذب هاتفها في لمح البصر كان يقود دراجة بخارية ليتركها في صدمة شديدة!

 

سرعان ما تحدثت وهي تنادي على السائق والرجال الذين ارتبكوا لما حدث:

-       تعالى بسرعة واطلع وراه!

 

عاود الرجل أدراجه ودخلت هي بالسيارة وهي تشعر بالغضب الشديد بينما انطلقت السيارة الأخرى التي تصحب رجال الأمن خلف هذا الرجل الذي سرعان ما اختفى بالشوارع في لمح البصر خصوصًا أنه بواحد من الشوارع عبر للطريق الآخر عبر الرصيف الذي ينتصف الطريق ولم تستطع السيارات ملاحقته!

 

-       حضرتك كده مش هنلحقه، دخل في شوارع جانبية وعلى بس ما نوصل للشارع اللي دخله مش هنلاقيه!

 

شعرت بالغضب الشديد من هذا الموقف الذي حدث وسكتت لعدة لحظات متوالية بينما سألها السائق:

-       حضرتك تحبي نعمل ايه دلوقتي؟

 

بعد تفكير منها لعدة لحظات متتابعة وعلى الأقل هي لن تذهب اليوم لتأخذ اجراء ضده أو ضد والده لتجيبه قائلًا:

-       اطلع على أقرب قسم!

--

بعد مرور ساعة..

-       أنت قولت عايز العلبة بتاعت الموبايل جبته ومعاك كمان الـ serial number كل الشارع دي مفيهاش كاميرا واحدة تقدر تجيب الحرامي اللي سرقني.. يعني هو المحضر هيتقفل كده وخلاص من غير ما حقي يرجعلي؟!

 

صاحت بهذا الرجل الذي لم يفعل أي شيء سوى تدوين عدة كلمات وحدثها ليقول:

-       ما توطي صوتك جرا ايه، قولتلك بكرة هيجي المهندس وهنشوف الكاميرات، دلوقتي الساعة داخلة على حداشر والمهندس هيجي بكرا من واحدة الضهر لاتنين!

 

غضبت أكثر وهي تندهش من طريقة تحدث هذا الغبي إليها بينما همس إليها السائق:

-       خلاص يا مدام هم عملو المحضر ولازم بس نتابع معاهم بكرة!

 

التفتت له وهي تتحدث بعجرفة:

-       يعني ايه نستنى لبكرة، أنا ممكن اشوف الكاميرات دي، امال اتسرق واسكت وحقي ميجيليش..

 

عقب الشرطي بصوت عال ونبرة تفتقر للاحترام:

-       بقولك ايه يا ست انتي، انتي لو مسكتيش ومشيتي واستنيتي لبكرة أنا هبيتك في الحجز!

 

انفرج فمها في حالة من الذهول بينما صاحت به:

-       يعني جايلكم عشان مسروقة وقسم طويل عريض بكل اللي فيه مش عارف يجبلي حقي وكمان هتبيتني في الحجز، أنت فين مديرك اللي هنا ولا الرتبة اللي اعلى منك، أنا مش هاخد خطوة من هنا غير لما حقي يرجعلي وتجيبولي الموبايل!

 

بالطبع لم تفهم ما تتحدث عنه بينما حاول سائقها كتم ضحكته على ما قالته لتتحول ملامح الرجل الآخر أمامها ليقلب عينيه بنفاذ صبر وحدثها محذرًا بضيق للمرة الأخيرة وهو يتفقدها من أعلى رأسها لأخمص قدمها:

-       لآخر مرة بقولك تاخدي نفسك وبطاقتك دي وتمشي بدل ما الحجز موجود وهبيتك فيه!  

 

اندهشت وقبل أن تتحدث بالمزيد من صياحها وجدت تلك اليد التي تجذبها فالتفتت بغضب لترى من الذي يفعل هذا فوجدته لتندهش مما يبدو عليه ثم حدثها قائلًا:

-       انا هجيبلك الموبايل، تعالي نروح..

 

نظر للرجل بينما حدثه بهدوء ليقول:

-       عمر يزيد الجندي المحامي..

 

أومأ له باقتضاب ورأى ما فعله اسمه وحده ليحدق ببطاقتها ليتفقد اسمها بينما وجد اسمه مطبوع على ظهر بطاقتها ليرى تغير ملامح وجه هذا الرجل بينما سلط نظرته عليها وهو بالكاد يستطيع التحدث مما جعل لسانها ينعقد على ما لا تفهم حدوثه بينما نظرت لسائقها بغيظ فبالطبع هو من أخبره ولن يفلت منها على ما فعله دون حساب!

-       لأ، مش هاخد خطوة واحدة من هنا غير لما موبايلي يجيلي!

 

عقدت ذراعيها في تحفز وهي تنتشل ذراعها من قبضته غير عابئة بتواجده وصممت على الانتظار بينما حاول التصرف بعقلانية أمام المتواجدين وحدثهما قائلًا:

-       ممكن دقيقتين لوحدنا..

 

ابتلع الرجل الذي نفذ صبره بالفعل من كثرة الجدال مع هذه المرأة الغريبة واتجه السائق للخارج فورًا وهو يشعر بالراحة لمجرد تواجده هنا والتخلص من مسئولية الأمر، فهو محامي وفوق ذلك هو زوجها وسيستطيع أن يحل الأمر أفضل منه بمئات المرات ليتجه الرجل تاركًا مكتبه وهو يقول مرغمًا على تحمل الأرض فهو يعلم من هو جيدًا:

-       اتفضل، وادي بطاقة المدام!

 

ناوله البطاقة ثم اتجه للخارج وأغلق الباب خلفه لينظر لها بأعين مرهقة ثم قال:

-       انتي عايزة ايه؟ واقفة بتتخانقي في الأقسام على موبايل؟ مش هتعرفي تجيبي غيره؟!

 

نظرت له وحدثته بهدوء لتستفزه:

-       بما إني مش قادرة على عيلة الجندي فمن حقي الجأ المرادي لطريقة قانونية عشان اجيب حقي، ولا اللي سرقني كمان من عيلتكم وأنا معرفش؟ وبعدين أنت ايه اللي جابك، امشي من هنا وسيبني أنا هتصرف

 يتبع..


إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة بتول طه من رواية كما يحلو لها، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية


رواياتنا الحصرية كاملة