قراءة رواية جديدة كما يحلو لها بتول طه - الفصل 28 عامية
رواية كما يحلو لها
الجزء الثالث من رواية كما يحلو لي بقلم بتول طه
رواية كما يحلو لها
من قصص وروايات
الكاتبة بتول طه
الفصل الثامن والعشرون
النسخة العامية
تفقدته من أعلى رأسه لأخمص قدمه وهي لا تدري
ما السبب لمظهره هذا المُتعب وذراعه اليُمنى يحاوطها الجص وملامحه تبدو وكأنه خرج
من معركة لتوه ولكن لو كان سيصيبه أي ضرر هذا سيسعدها بل سيجعلها تُحلق بالسماء،
مجرد رؤيته ليس بخير كما كانت هي هذا يُذكرها أن هناك طريقة وحيدة متبقية وسط كل
ما تخوضه يجعلها تشعر بالراحة!
زفر بنفاذ صبر وهو يحاول ألا يفقد أعصابه
بفعل كل ما يحدث وكلماتها التي لا تتوانى عن استفزازه بها ثم حدثها بمنطقية لعلها
تعاود ادراجها عن كل ما يحدث:
-
لازم هياخدو وقت على ما يشوفو مين اللي سرقه،
ولو على الموبايل أنا هاجيبلك غيره، ممكن نمشي دلوقتي!
همهمت وهي تتفقده بينما ما يزال في جعبتها
الكثير له لتتشفى به بكلماتٍ كلاهما يعلمان ما المقصد منها:
-
أنا ورايا شغل كتير ومبستغناش عن الموبايل ولا
فاكرني فاضية أو فاشلة، أنا ورايا شغل، مقدرش أعيش من غير موبايلي وشغلي!
أطبق أسنانه بغيظٍ بعد أن استقبل رسالتها
بالكامل فبالطبع هي تقصده هو ليعقب على كلماتها من بين أسنانه الملتحمة:
-
ولو مشينا دلوقتي وروحتي هتقدري تشتغلي على
اللابتوب مؤقتًا لغاية ما الصبح تجيبي موبايل تاني! ولا انتِ عجباكي قعدة الأقسام!
اندهشت لتسخر منه وقالت بهدوء جعله يحترق
بداخله:
-
لا لا، الأقسام دي مش ليا خالص، أنا جاية هنا
عشان اخد حقي مش عشان اجي افتري واطلع مجرم براءة!
عقد قبضته اليُسرى وهو يُدرك أنه لم يعد
يُفصله عن الانفجار شيئًا ولا حتى مثقال ذرة وحاول أن يستلهم بعض الهدوء والتحمل
والسيطرة على اعصابه بينما لم يُفلح عندما قالت:
-
ولما اكلمك تبُصلي، ولا هتفضل عامل فيها مكسوف
كتير؟
لأول مرة يستطيع فعلها بعد ما يُقارب عام
كامل وهو بكامل قواه العقلية ومُدرك تمامًا لما يُقدم عليه ليد فعها بيـ ـده
اليُسرى للحائط محيطًا فـ ـمها ثم شل حركتها بجـ ـسده الذي أطبق عليها لكي لا تفل
منه ثم نظر لها بعينيها وكلمها بغضب ونبرة بالكاد استمعت لها:
-
أنتِ عايزة إيه من اللي بتعمليه؟ مش هتبطلي
شغل أطفال؟ عايزة موبايل قولتلك هاجيبلك واحد، عايزة البيت وحياتي كلها سبتهالك،
عايزة تسمعيني من الكلام ده ليل ونهار أنا موافق، إنما تعملي اللي بتعمليه ده قدام
الناس زي الطفلة الصغيرة اللي مش فاهمة حاجة فده اسمه هبل، هتمشي قدامي وهتروحي
البيت وتبطلي كده هبل لغاية ما نخلص احنا الاتنين من اللي احنا فيه ده، سامعة ولا
اكرر كلامي بطريقة تانية؟
رأى عينيها يتضح بهما الخشية الشديدة ولاحظ
ذلك اللهاث الصادر منها وهو ينعكـ ــس على يـ ــده ليلوم نفسه على ما فعله بها
ولكن تصرفاتها أصبحت لا تُطاق فتراجع نوعًا ما عن غضبه وكلماته المؤذية فهو حتى لا
يدري كيف فعل هذا بها في لحظة نجحت خلالها أن تصيبه بغضب شديد لم يجعله يرى أمامه
ليُخفف من قوة يـ ـده ثم أردف بتحذير مُغلف بالهدوء:
-
هنمشي من غير مشاكل زي الناس العاقلة،
اتفقنا؟
أومأت
بهزة من رأسها بالموافقة فقط لتتخلص منه ليبتعد عنها بسرعة ثم أشار لها بأن تخرج
من الباب بإشارة من رأسه بينما هي ما زالت في حالة من الاضطراب بفعلته السابقة لتشعر
بمزيج من القهر لاختلاف حالتها في ثواني بفعل اقترابه منها وفي نفس الوقت صممت
بداخلها أنها لن تجعله ليُفلت بما فعله، هي لم تعد نفس تلك الفتاة الساذجة التي
كانت لا تقول سوى نعم وبلى لكل ما يحلو له!
شعر بالخجل مما حدث ليبتعد بنظره من جديد
عنها وارتقب الثانية التي ستتحرك بها بينما وجدها تتحدث بنبرة متوترة:
-
طيب أنا كنت عايزة أقول لعلا حاجة مهمة، هات
موبايلك!
حاولت السيطرة على تلك الحالة التي اصابتها وهي
تعدل من خصلاتها ليخرج هاتفه من جيبه ثم ناوله لها لتجده بدون أي نوع من أنواع
الحماية على الاطلاق ووجدت اسم "علا" متواجد بجهات الاتصال وقبل أن تتصل
بها أخبرها قائلًا:
-
كلميها لما تبقي في العربية!
توقف ابهامها وهي تُفكر سريعًا لترفع عينيها
له ثم قالت بتشفي لم يلحظه بما تصورته عما سيحدث بعد قليل:
-
تمام، وكنت عايزة أتكلم معاك في حاجة!
أومأ باقتضاب ليقول بهدوء مُعقبًا:
-
نخرج بس من هنا وابقي قولي اللي أنتِ عايزاه!
❈-❈-❈
تأكدت
أنه يتبعها بسيارة أخرى بينما هاتفه ظل معها لتتحدث إلى "عُلا" على
الفور ولم تكترث لصوتها النعس الذي اجابت به:
-
علا، أنا عايزة حالًا عربية وتلاتة أو أربعة
ينقلو حصان عندي من البيت ويودوه أي أرض فاضية، حطوه في أي أرض من الأصول اللي
عندنا..
دام الصمت لبرهة لتعقب "علا"
باندهاش:
-
تمام، بس زمان الناس نايمة ومش هاعرف الاقي
حد دلوقتي، ممكن تديني لغاية الصبح بس؟
انزعجت مما استمعت له لتعقب بنبرة حادة:
-
مفيش حاجة اسمها الصبح، اتصرفي، رتبي مع
الأمن اللي عندي والأراضي موجودة، المشكلة في عربية بسواق اتصرفي فيها وقدامك نص
ساعة وتردي عليا!
أنهت المكالمة بقليل من الغيظ لردها بينما حدقت
بالهاتف مما جعل فضولها يشتعل لتعرف المزيد عنه ولم تقصد سوى الضرر التام له فبدأت
تتقصى عبر المذكرات أولًا فهي تعلم كيف تعمل رأسه وكيف يُفكر هذا الكاتب البارع
بداخله لتجد الكثير من العناوين التي لم يتواجد عليها سوى تواريخ مكتوبة بنفس
النمط لمدة عبرت ثمانية شهور وكلما تفقدت مذكرة وجدت بها حرف، ثم علامة صح وخطأ، وأسفله
المزيد من الحروف التي لم تفهم معناها، وكل هذه المذكرات بنفس النمط، ما لعنته؟
كيف يحافظ على هذا الترتيب الشديد بنفس الأنماط!
زفرت بضيق لأنها لم تفهم كل هذه المذكرات
التي لابد من أنها تدل على شيء ما لتلعن حظها معه واتجهت لواحد من تطبيقات التواصل
لتتفقدها فوجدت أن آخر من تحدث له هو سائقه ثم مساعده الشخصي، ووالده آخر رسالة
بينهما منذ ثلاثة أيام، فقامت بتفقد ما بينهما لتجد أنهما يعملان على تلك القضية
لتبتسم بسخرية، هو يعمل الآن، يا له من رجل ناجح!
لم تجد في محادثتهما ما يُفيد وليس هناك أي
شيء بشأنها فعادت لقائمة المحادثات لتجد أن "مريم" واحدة من جهات
الاتصال لديه فسرعان ما تملكها الفضول فتفقدت ما بينهما لتجد أن حتى مع معالجته
النفسية كلماته قليلة ومقتضبة، وليس بينهما سوى اتفاق على بعض المواعيد ومطالبته
بالتحدث إليها ولكن آخر محادثة بينهما كانت غريبة فقرأتها بعناية:
-
أنا عارف إنه مش معاد الجلسة، بس أنا عملت
حاجة معرفش طلعت مني ازاي
-
ايه اللي حصل؟
-
كنت متعصب شوية وفجأة لقيت نفسي في العربية وكل
حاجة سودا قدامي، قصدت إني اسوق بسرعة، لغاية ما عملت حادثة
-
وايه اللي حصل قبل ما تسوق؟
وجدت أن رده آتى بعد عشر دقائق كاملة من سؤالها:
-
مفيش حاجة حصلت غير إني كنت بتكلم مع روان مع
إني عملت كل اللي قولتي عليه بس هي ضايقتني
-
طيب استنى هاتصل بيك كمان نص ساعة وهنتكلم في
كل حاجة
أغلقت الهاتف لتقع في لحظة من الصمت، إذن ما
يبدو عليه بسبب محاولة انتحـ ـار جديدة، ربما كان "عُدي" مُحق بكل ما
أخبرها به، ولو كان محق، هل هذا سيجعلها تتراجع عما تفعله؟ لا، هذا لن يُغير من
الأمر شيئًا، وجيد للغاية أنها تنجح في تسبيب هذا الضرر له مثلما فعل معها يومًا
ما!
لوهلة لن تنكر أنها ترددت، أن تملك منها جزء
من الشفقة، ولكنها لم تر القليل معه، ما وصلت له بأكمله كان بفعل يـ ـده، فليتحمل
إذن لو كان يستطيع أن يفعلها!
ترددت من جديد وهي تُمسك بهاتفه بينما أدركت
أنها لن تستطيع تفقد كل هذا لتخبر السائق باقتضاب لكي تكسب بعض الوقت:
-
عرفهم إني هشتري حاجة الأول في الطريق، لو
عايزين يستنو ماشي لو عايزين يسبقونا على البيت يسبقو!
-
حاضر يا مدام!
رد السائق الذي أخرج هاتفه وانشغل بالتحدث
لسائقه بينما هي كانت منهمكة بنقل نسخة من كل محادثاته وتلك المذكرات لبريد
الكتروني شخصي لتتفقدها لاحقًا فهي لن يُمكنها أن تنتهي من كل هذا الآن في تلك
الدقائق المتبقية وأخذت تتابع تقدم نقل كل هذا بتوتر حتى ينتهي فهي تعلم بمجرد
وصولهما للمنزل ستعيد له الهاتف مرة أخرى.
نزلت من السيارة عند توقفها ثم أخبرت السائق
الذي ترك السيارة لعامل المرأب الخاص بالفندق:
-
تعالى معايا.
ناولته بطاقتها الائتمانية وهي في تفس الوقت
تتصل بـ "علا" من جديد ثم أخبرته:
- اشتريلي خمس ازايز، هجيلك هنا تاني بعد ما
اخلص.
اتجه السائق ليفعل ما أخبرته به بينما بمجرد
إجابة "علا" على مكالمتها سألتها بارتباك:
-
ها، اتصرفتي في العربية والسواق؟
-
آه اتصرفت، هو في الطريق وقدامه نص ساعة
بالكتير ويوصل.
اجابتها مهمهمة بتفكير ثم حدثتها قائلة:
-
بكرة الصبح عايزاكي تبعتيلي موبايل عشان
موبايلي ضاع، زي اللي كان معايا.. وأجلي كل حاجة عندي خمس أيام كمان.. ومتنسيش لما
العربية والسواق يبقا قدامهم خمس دقايق تعرفيني، كلميني على الموبايل ده!
-
حاضر.
أنهت المكالمة ثم تفقدت نقل تلك النسخة لتجد
أنه مازال هناك وقتًا يحتاجه الهاتف فدلفت للداخل وهي تسير بين ممرات هذا الفندق لتتصنع
انشغالها بشراء أي شيء من تلك المتاجر بداخله فلقد رأته يتبعها بسيارته وسائقه هو
الآخر وأخذت تترقب انتهاء الدقائق بفارغ الصبر إلى أن انتهى نقل نسخة كاملة من كل
بياناته ومحادثاته واستقبلت مكالمة من "علا" تخبرها أنه يتبقى على وصول السيارة
خمس دقائق.
عادت من جديد لنفس البوابة لتجد سائقها
بالانتظار ثم حدثته بلهجة آمرة:
-
قول للـ valet (من موظفين الفندق الذين يقومون بصف
السيارة) وحاسب ويالا عشان هنمشي.
❈-❈-❈
بمجرد نزولها من السيارة وهي تقصد أن تتأخر
حتى يترجل هو من السيارة أولًا وبمجرد لمحه من مرآة السيارة فعلت المثل ثم توجهت
نحوه لتناوله هاتفه لتجده ما زال لا ينظر لها بينما أدركت أن بمجرد قولها لكلمات
قليلة ستجعله في حالة من الصدمة الشديدة وعلى كل حال فهي يحيطها الكثير من رجال
الأمن الآن وأي عنف من قِبله سيدافعون عنها.
-
خير عايزة نتكلم في ايه؟
سألها ولكنها اشارت له بالانتظار دون أن ترد
عليه والتفتت بمكرٍ نحو سائقها وقصدت أن تتكلم بنبرة عالية نوعًا ما لكي تصل لكلاهما:
-
روح تابع اللي بيحصل في الاسطبل ولما يخلصو وينقلوا
الحصان عرفني.
التفتت من جديد نحوه بأعين خبيثة وهي تعقد
ذراعيها بمنتهى الاستمتاع بينما رفع نظراته نحوها بتلقائية وهو يتساءل:
-
حصان إيه اللي ينقلوه؟
ادعت عدم فهم سؤاله ثم اجابته بهدوء:
-
حصاني!
استطاعت رؤية وجهه وهو يشتعل غضبًا لتشعر
بالفرحة الشديدة بداخلها لتجده يتحدث بلهفة:
-
برق ما ينفعش يتنقل من هنا، أنتِ هتوديه فين؟
أصلًا بقاله سنين هنا لو راح أي مكان مش متعود عليه هيتبهدل.. مينفعش تحركيه من
هنا..
رفعت حاجبيها باستنكار وقالت بمنتهى البرود:
-
أنا حرة اوديه مكان ما اوديه
نظر لها بصدمة وهو لم يُخيل له قط أنها قد
تصل بها الدرجة أن تفعل به ذلك ولوهلة شعر بالتردد والشتات وهو يحاول انتقاء
كلماته بعناية بينما هي تشاهده متلذذة بكل ما يتضح على ملامحه من ألم وحُزن وندمت
بشدة أنها لم تفعل هذا منذ اليوم الأول لها هنا بعد عودتها ليحاول أن يستحث بها
بعض المنطقية وهو يفهم جيدًا لماذا تفعل كل هذا ليُكلمها بأنفاس مُرتبكة وهو ينظر
لها محاولًا قراءة ما إن كانت مُحقة بفعلتها أم لا من عينيها:
-
أنا عارف أنتِ بتعملي كل ده ليه، فاهم كويس
اوي، مُشكلتك معايا مش معاه هو، الموضوع مفيهوش هزار، برق لو خرج من هنا مش هايبقا
كويس.. هو معملكيش حاجة لكل ده، الذنب ذنبي مش ذنبه هو.. اعملي أي حاجة تانية بس
بلاش تمشيه من هنا!
يا لها من نبرة متوسلة لم تسمعها قط منه،
يترجى ويتذلل بكل حرفٍ نطقه، وكل هذا من أجل "برق" الذي تذكر كيف كانت
مرتها الأولى معه عندما سقطت أرضًا أمام عيني كلاهما، عندما كانت هي زوجته تحمل
بمنتهى الرضاء أن يجعلها تسقط من فوق ظهـ ـره وتُعذب مرات ومرات وتُهان ومرة يلدغها
عقرب وثعبان مرة أخرى ثم تفقد الوعي وتجلس بغرفة مُظلمة وثانية غيرها بدرجة حرارة
باردة وكأنها على سفح جبل جليدي أمّا حصانه فيكترث له للغاية ويقلق عليه، يا له من
رجل ذو مشاعر مُرهفة!
-
أنا مش هجـ ـلده، ولا هحبسه من غير أكل واعذ
به، أنا بس هنقله، وبعدين أنت الموضوع فارق معاك كده ليه؟ أنت مالك أصلًا؟!
أطلق زفرة مطولة وهي يشعر بالاضطراب بداخله
ثم تفقدها بمُقلتين مُرتبكتين فما باتت تفعله بالآونة الأخيرة برهان قاطع على أنها
قد تقوم بنقله دون أي مزاح بالأمر ليُقرر أن يتوسل لعلها تعود عما في رأسها:
-
أرجوكِ بلاش الأسلوب ده، برق عنيد ومن غير كل
اللي متعود عليه هيتعب وممكن يموت.. أنتِ مُشكلتك معايا مش مع حصاني، هو مـ
-
حصانك!! هو ده مش كان جُزء من المهر بتاعي
ولا نسيت إنك وافقت؟
قاطعته بابتسامة مُتشفية ليُحدثها منزعجًا
بتلقائية:
-
ماشي خديه بس متبوظيش حياته، أنتِ قولتي
هيبقا ليكي معنديش مُشكلة بس مقولتيش هتنقليه!
ضحكت بخفوت ساخرة وهي تنظر له بملامح سعيدة
بينما حزنت ملامحه أكثر لتعقب قائلة:
-
ايوة، اللف والدوران في الكلام، قولت هيبقا
الحصان ليا بس مقولتش إني هنقله، زي ما قولتلي في يوم هتجـ ـوزِك وفجأة لقيت نفسي
مسجونة وبتعامل مع مجنون مش مجرد جوزي اللي يحترمني ويقدرني.. تعليمك، زي اللي أنت
عملته بالظبط! مبسوط؟ بقيت شاطرة مش كده؟ ايه رأيك فيا؟!
ابتلع بصدمة من ردها وانتظر لبُرهة مُفكرًا
فيما سيقوله وهو يشعر بالشتات الحقيقي بينما قرر لأول مرة أن يتلاعب على مشاعرها
فهو يستحيل أن يقبل ما ستفعله به ليحدثها بما اقترب من الحقيقة لأنه لم يقبل في
نفس الوقت أن يتلاعب بها لهذه الدرجة الحقيرة التي تعود عليها يومًا ما:
-
أنتِ مكونتيش كده، ولا عمرك كنتي زيي
-
بس بقيت زيك! قدرت زي ما منعتني من شغلي
وأهلي ومن الأمان اللي كنت بحس بيه إني امنعك من حاجة متعود عليها وبتحبها.. مستغرب
ليه؟
-
أنا مش مستغرب، أنا مش مصدق إنك توصلي
للمرحلة دي..
-
على أساس إن اللي عملته فيا ميوصلنيش لكده؟
طريقتها المتهكمة وذلك الجبروت بعينيها اظهر
تلك الر غبة الدفينة بداخلها بالانتقام منه ليحاول أن يستحث ولو ذرة من الشفقة
بداخلها:
-
اللي عملته فيكي، مش اللي عمله البيت ولا
الحصان ولا اخواتي.. عايزة تبقي نسخة تانية مني أنا معنديش مُشكلة بس أنا عمري ما
اذيت أي حاجة أو أي حد ليه علاقة بيكي!
اندهشت من كلماته ثم تمتمت وهي تتصنع
المفاجأة:
-
عندك حق.. ده أنت كنت طيب اوي!
أومأت باستهزاء وكأنها تلوم نفسها على ما
يبدر منها تجاهه ثم تابعت وهي تتفقده بنظرات تحولت خلالها عسليتيها من السكون إلى
الاحتراق وهي تطنب قائلة:
-
أهلي متأذوش لما شافوني بعد ما غبت عنهم أكتر
من شهر، وشغلي مجراش فعلًا فيه حاجة لما روحت بدالي واخدت قرارات ولما كنت بتأخر
عنه وعن اجتماعاتي، حياتي كلها متقلبتش من ساعة ما بقيت أنت فيها.. ازاي أنا بفتري
عليك وبظلمك الظُلم ده كله! أنا مش عارفة أنت أصلًا واقف قدامي وبتلومني على اللي
بعمله ازاي، أنت للدرجة دي تعبان ونسيت كل اللي كنت بتعمله؟ نسيت كل اللي حصل ما
بينا؟ ولا أنت خلاص اتعودت إن روان عادي تبهدلها مرة واتنين وتلاتة وبكلمتين حلوين
ووعدين إن كل حاجة هتتغير خلاص بتسمع كلامك وبتثق فيك زي الغبية الهبلة؟ لا، المرة
دي غير أي مرة تانية!
-
عارف إنها غير أي مرة!
صرخ به غاضبًا بمنتهى التلقائية بعد أن رأى
عسليتيها على وشك أن تفيض بعبرات تكومت قهرًا عندما انفجرت بتلك الكلمات التي على
ما يبدو تجعلها تحمل عبئًا ثقيلًا مثله هو نفسه ليقترب منها بحركة عفوية فابتعدت
هي متخذة خطوة للخلف ليشعر بالضيق من نفسه ومن أفعاله التي لا يملك عليها سلطان
أمامها كلما تحدثا لأكثر من خمس دقائق ليُكلمها بمصداقية متوسلًا:
-
أنا عارف إن كل اللي عملته فيكي مفيش حد
يستحمله، بس نص اللي عملته ده أنا مكونتش واعي وبالذات في الفترة اللي صحيت ناسي
فيها حاجات كتير، غصب عني، مش بقدر اتحكم في كل حاجة بعملها وبلاقي تصرفات بتخرج
مني أنا مش عارف بعملها ازاي
-
وأنا، أنا مكونتش جنبك وبساعدك في كل ده؟ كام
مرة قولتلك تروح لدكتور؟ كام مرة اتحايلت عليك؟ مكنش عندك استعداد تثق فيا لو لمرة
واحدة بس وتصدق كلامي..
قاطعته والكلمات تتهافت للهبوط على مسامعه
كما ارتسمت تلك العبرات على وجنتيها ليخبرها بتلقائية متابعًا حوارهما:
-
مكونتش أبدًا أتصور إن ممكن توصل بيا للدرجة
دي، أنا عمري ما حسيت إن فيا حاجة غلط، أنا كنت مصدوم لما فهمت كل اللي بيحصلي..
أنا آسف، أنا مكونتش متخيل إني من مجرد علاقة فاشلة في حياتي وشوية ضغط من شُغلي
هابقا مريض..
تلعثم بكلماته الأخيرة لتمتلئ عينيه بالعبرات
هو الآخر ولكنه سيطر على نفسه بأعجوبة لكي لا تفر أمامها بعد أن شعر بالاحتقار
تجاه نفسه على دفعها للبكاء بمثل هذه الطريقة ليتألم على ما يراه منها بينما كانت
كلماتها التي اصابته في مقتل ليست بهينة:
-
لا ما أنا كنت عارفة إنه غصب عنك، بس خلاص، انسى
بقا روان القديمة دي خالص اللي كانت بتستحمل عشانك وبتقدر اللي أنت كنت فيه وتقول
معلش اصله مش حاسس باللي بيعمله، لما تقف قدامي وتتحايل عليا زي ما كنت بتعمل فيا
زمان بكلمتين منك مفيش حاجة هتتغير، لو عملت المستحيل أنا عمري ما هاكون معاك
إنسانة كويسة زي زمان!
التفتت لكي تغادره ووجدت نفسها تبكي رغمًا عن
كل تلك الحدود التي قامت بإجبار نفسها عليها ليستمع كلاهما لصهيل "برق"
الذي أخافها من تلك المسافة وتبعه بعض أصوات الرجال التي تدل على وجود مُشكلة ما
بفعل ما يحدث ليوقفها "عمر" في النهاية بنبرة مُرتفعة حتى تستطيع سماعه
جيدًا وهو يحاول للمرة الأخيرة أن يستحث بها أي نوع من أنواع الشفقة بلهفة عفوية
منه عندما سمع صهيله:
-
أنا هاعمل كل اللي أنتِ عايزاه، بس بلاش برق
يمشي من هنا! أرجوكِ محدش هيعرف يتعامل معاه.. أنا مستعد لأي حاجة بس بلاش اللي
بتعمليه فيه ده.. هو ملوش ذنب في أي حاجة.. أنتِ كده بتوجعيه هو..
التفتت له من جديد لتحدثه بين بُكائها الذي
لم تنجح في السيطرة عليه:
-
لو عملت معجزة يا عمر عمرها ما هتنسيني كل
اللي حصلي على أيــ ــدك، ويا أنا يا برق الليلادي!
اتجهت لتغادره بينما تبعها ليحاول للمرة
الأخيرة معها لتجد واحد من رجال الأمن مقبل نحوها وهو يُحدثها برسمية قائلًا:
-
يا مدام احنا مش عارفين نعمل ايه مع الحصان
ده ضرب اتنين برجليه ومحدش عارف يتعامل معاه.. لازم الراجل اللي بيجيله ده هو اللي
يجي ويتصرف معاه..
شعرت بالغيظ الشديد مما تسمعه وهي تجفف
دموعها كما احـ ـست وكأنها بدوامة من القهر لن تنتهي أبدًا وهناك شخص غريب عنها
يراها بمثل هذا الضعف:
-
يعني أكتر من عشرين واحد انتو والسواق مش
عارفين تتصرفو معاه؟
اقترب منهما "عمر" ثم تحدث بهدوء
ولآخر مرة حاول أن يُراعي أن كلاهما يتحدثان أمام رجل غريب لا يعرفها ولا يعرفه:
-
خلاص أنا هتصرف معاه، ولو عايزة تمشيه من
البيت أنا همشيه وهوديه حتة تانية اطمن إنه هيكون كويس فيها..
حدجته بعسليتين ناريتين فهي لم ترد هذا من
البداية، كيف يتظاهر بأنه هو الوحيد الذي يستطيع حل كل شيء وتحريك الجبال بينما كل
هذا يخصها ولها مطلق الحرية في فعل كل ما تشاء به كما أنه يتظاهر بتلك النظرات
المتوسلة وكأنه هو المظلوم بكل ما يحدث لتُقرر أن تترك كلاهما بغيظٍ هائل وهي
تتحدث للرجل ولم تعد تنظر لأي منهما:
-
خلي الموضوع للصبح ومحدش يجي جنب الحصان
ورجعو كل حاجة زي ما كانت.. أنا هجيبله حد يتصرف معاه!
مشت قاصدة بوابة المنزل التي قامت بفتحها ثم صفعت
الباب بقوة خلفها وهي تشعر بالضعف الشديد فهي لا تكره أكثر من الشعور بالفشل وخصوصًا
فشلها أمامه اليوم وبمجرد النظر حولها بصحبة ما استمعت له منه وذلك الحديث معه منذ
قليل لم يترك لها سوى حقيقة واحدة، هي لن تنجح أبدًا في أي شيء يتعلق به.. يبدو أن
كل ما يتعرض له يلعنه، بداية بهذا الحصان ونهايةً بها نفسها.. وهي لن تسمح لنفسها
أن تعيش من جديد بداخل نفس هذه الدوامة من التفكير والتشتت والمحاولات، لقد سأمت وأرهقت من تحملها لكل ما حدث وكل ما قد يحدث.. لم يعد لديها سوى حل وحيد ليُخلصها من كل ذلك العذاب،
فقط عليها فعلها بطريقة صحيحة لكي تنجح بتنفيذ هذا الحل!
يتبع..
إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة بتول طه من رواية كما يحلو لها، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية