-->

رواية نعيمي وجحيمها أمل نصر - اقتباس

 

رواية نعيمي وجحيمها 

بقلم الكاتبة أمل نصر 





اقتباس 

الفصل الثالث والستون 

رواية

نعيمي وجحيمها 


بشرفة الغرفة، كان واقفًا بفنجان القهوة يرتشف منه، وهو يتطلع أمامه نحو الأشجار الخضراء والزهور المتنوعة بحديقة منزل العائلة، التي اصبحت مسكنهم منذ حملها بالطفل، لا يشعر بطعم القهوة ولا حتى يرى جمال الزهور كعادته فعقله كان يسبح بعيدًا في أفكاره،

يقلقه هذه الهيئة الغريبة منها، يصدمه فعلها والتخطيط الذي قامت به مع صديقتها دون إخباره، هذه النزعة الإنتقامية لم تكن ابدًا من سمات زهرته، هذا التحدي والتصميم على المضي في ماتفعله، يجعله متفاجئًا بشدة من هذا التغير، بالأمس أشفق ولم يطاوعه قلبه للضغط عليها ولكن اليوم فقد قرر ولن يتركها الا بمعرفة كل شئ منها، لن يتنازل عن غير ذلك، ف لينتظر الان حتى رجوعها من عند الطفل الذي سرق اهتمامها منذ الأمس، وجعلها تنشغل عنه، ولكن ف ليتريث قليلًا: -اصبر يا جاسر اصبر .

كان يغمغم بالكلمات حتى التف برأسهِ للخلف فوجدها في وسط الغرفة متسمرة محلها تنظر إليه، استدار بجسده ليخطوا نحوها مضيقًا عيناه بريبة مما يبدوا على ملامح وجهها من أشياء لم تريحه على الإطلاق.

اقترب منها يسألها بتوجس:

-إيه في إيه؟ شكلك ميطمنش، في حاجة حصلت؟

نفت بتحريك رأسها دون صوت، ازدادت حيرته ليهتف بنفاذ صبر:

-أمال في إيه بس؟ ما تنطقي يا زهرة.

بكلمته الاخيرة كان وصل ليقف أمامها تمامًا، فتلقفته هي وكأنها كانت بانتظاره، لترتمي فوق صدره وتتشبث بقميصه منطلقة بموجة من البكاء الحارق، شعر بوخزة بقلبه لفعلتها فلم يتمالك نفسه سوى بضمها بذراعيه بقوة، ليهتف هامسًا بصوت مهتز من فرط ارتياعه عليها:

- مالك؟ فيه إيه؟ إيه اللي وصلك لكدة؟

لم تجيبه بل زادت بنحيبها وشهقاتها العالية، لتجعله يتخلى عن فضوله في السؤال الاَن، وزاد من ضمها ليجلس بها على التخت من خلفهما، مستمرًا في التربيت على ظهرها، والمسح بكفه على شعرها، حتى هدأت قليلًا ليسألها بعد ذلك وهو يقبل أعلى رأسها:

- اظن دلوقتي تقدري تتكلمي، حتى عشان تريحي قلبي شوية بقى.

تنهدت تلتقط انفاسها جيدًا قبل ان تجيبه:

- والدتها طلعت مريضة يا جاسر.

- نعم!

هتف بها بعدم فهم ليُكمل بسؤاله:

-والدة مين يا زهرة؟ ما توضحي أكتر، انا مش فاهم حاجة.

خرجت من حضنه لتلتقي عينيها بخاصتيه، وتجيبه بأعين تترقرق فيها الدموع مرة أخرى:

-انا قصدي على كاميليا يا جاسر، طول عمرها بتمثل القوة قدامنا، وإن حياتها فل ومفيش اي حاجة تهمها، وعمرها ما اتكلمت ولا جابت سيرة والدتها اللي سابتهم وأطلقت من جوزها بقالها سنين، واحنا كنا محترمين رغبتها في عدم الكلام عن حاجة زي دي، بس النهاردة اول مرة اعرف الحقيقة اللي دارتها عن الناس كلها، حتى اقرب ما ليها...

توقفت فتولى هو البقية حسب ما توصل إليه بفطنته:

-يعني هي كانت بتراعي والدتها المريضة من غير ما تقول قدامكم انتو بس؟ ولا أهلها كمان معاكم؟

رددت بهز رأسها:

-مش عارفة، مش عارفة مين اللي عارف منهم ومين اللي ميعرفش، ميدو هو اللي حكالي عشان هي خدته عندها قريب، ودي أول مرة تحصل، هو اساسًا مكنش يعرفها، لأنها سابته على عمر سنة واللي قامت بتربيته هي كاميليا وباباها، الولد حكالي عنها يا جاسر، بعقله الصغير عرف انها بتاخد كيماوي...

قطعت لتعود لنوبة بكاءها مرة أخرى وهتف جاسر عليها بحزم ينبع من خوفه عليها:

- كفاية بقى يا زهرة حتى عشان البيبي، وربنا ما سكتي لاندهلك ماما تسكتك. 

على مزحته الاخيرة استجابت بابتسامة عفوية رغم بكاءها، ف اكمل:

- كملي عياط وانتي حرة بقى، لميا هانم هتاخدك من إيدك كدة ع الدكتورة عشان تطمن ، يالا بقى كملي لو عايزة تعب.

رفعت رأسها عن صدره تجفف دماعاتها، وقد تمكن من تشتيتها عن البكاء، لتقول بخوف مصطنع:

-لا خلاص، انا مش قد لميا هانم ولا قد تحكماتها، ربنا يجعل كلامنا خفيف عليها.

- ايوة كدة ناس تخاف ماتختشيش.

قالها متابعًا لمزاحه قبل أن يُغير فجأة بسؤاله:

- طيب ولما هي كدة والدنيا معقدة معاها أساسًا، بتعقدها ليه بزيادة؟ لا وكمان بتزيد عليها بعملة امبارح دي؟ لما دخلت نفسها في سكة انتقام.

ردت زهرة:

- مين قالك إن كاميليا كان غرضها الإنتقام؟ 

أردف لها جاسر بتصميم:

- فعلها يا حبيبتي، دي حاجة مش محتاجة زكاء عشان تتفهم، للأسف انتو الاتنين لعبتوا بالنار مع حد مش سهل أبدًا، كارم دا انا طول عمري عارف عنه الذكاء الحاد وسرعته الغير عادية في أنجاز المهام، لكن بعد ما شوفته امبارح؛ دا واحد تاني معرفوش ابدًا، وهي السبب.

-لأ مش هي السبب .

رددتها خلفه بإصرار لتتابع:

-هي كان كل غرضها انها تهرب منه، بعد ما عرفت حقيقته وقفل في وشها كل الأبواب، عشان ميديهاش فرصة تفكر حتى، وكاميليا عمرها ما كانت هتقبل بالهوان او انها تعيش مع واحد غصب عنها، دي أنسانة حرة.

تنهد بسأم ليهدر بها يائسًا:

-تاني برضوا مصممة ع اللي في دماغك وبتدافعي عن صاحبتك، طب سيبنا بقى من اللي راح، وخلينا في اللي جاي، دلوقتي بعد ما هربت هتعمل إيه؟ وهي أساسًا على زمته، ولا انتي ناسية؟

ردت ببساطة:

-هتنفصل؟

-نعم!

هتف بها باستغراب زادته هي بقولها:

- ما هو دا الطبيعي يا جاسر، هي أساسها عاملة المشوار دا كله عشان تنفصل عنه، ولا انت فاكرها يعني غاوية جو أكشن والحاجات دي .

عقب ساخرًا بدهشة:

-يا سلام! وكارم بقى هيقبل ويخلص الموضوع كدة بكل سهولة! دا على أساس إنه عبيط يعني؟ ولا هيسبها اساسًا لو عرف مكانها؟

رفعت كتفيها وانزلتهما لتجيب بعدم اكتراث:

-يعمل اللي عايز يعمله بقى، هي خلاص أمنت نفسها. 

ختمت قولها لتفاجأ بنظرة حادة منه جعلتها تخاطبه سائلة بارتياع:

-في إيه يا جاسر بتبصلي كدة ليه؟

هدر بوجهها حازمًا يذكرها بلهجته المسيطرة:

-في انك هتقوليلي دلوقت على مكانها، لا وكمان هتحكي عن كل شئ بالتفصيل.

- بس انا معرفش كل حاجة. 

قالتها بخوف قابله بصيحة قاطعة:

-هتقولي عن كل اللي تعرفيه يا زهرة، من طق طق لسلام عليكم، فاهمة ولا لأ ؟

حينما لم ترد ردد بصيحة اقوى:

- ردي عليا فاهمة ولا لأ؟

-خلاص فاهمة فاهمة .

قالتها مستسلمة لتغمغم بصوت خفيض:

-اعوذ بالله، عليه قلبة حواجب .

-إخلصي يا زهرة.

هتف بها بنزق، لتجيبه على الفور:

- حاضر اهو هتكلم


يتبع