-->

رواية ذنبي عشقك - ميرا كريم - الفصل الرابع عشر

 رواية ذنبي عشقك  
بقلم الكاتبة ميرا كريم



رواية ذنبي عشقك  

الفصل الرابع عشر 

" محمود درويش" يسأل : 

لماذا تهربين...؟

كانَ لا يتعبني في الليل إلا صمتها

حين يمتد أمام الباب،

كالشارع [ كالحيِّ القديم ]

                           

 "مي زيادة " تُجيب: 

_لأنني قضيتُ عمري كله، وأنا أشعر دائماً بأن علي أن أغادر .

                             

❈-❈-❈

كان الصمت يسود الأجواء أثناء عودتهم لحين استجمعت شجاعتها قائلة بنبرة تعكس ضيقها:

-ممكن اسألك سؤال؟


تأهب بنظراته أثناء قيادته وقال بنبرة ثابتة:

-ممكن...

رفعت غطاء وجهها وسحبت نفسٍ عميق تحفز به ذاتها متسائلة:

-ليه خبيت عليا اللي حصل انت قولتلي لما تعرفي اسبابي هتعذريني وانا دلوقتي محتاجة اعرفها.


كان يتوقع سؤالها ورغم ذلك غاب رده كثيرًا كأنه يخوض حـ رب حامـ ية بداخله،

ليمتعض وجهها مـ ستاءة من صمته المُريـ ب الذي تمـ قته وتكرر:

-ممكن تتكلم انا مش بحب طريقتك دي


اعتـ صر عينه بقوة يلملم شتاته  

ثم اخترع حجة واهية:

-مكنتش عايز اضايقك


لم تقتنع بجوابه فمنذ متى وهو بذلك اللين كي يحسب حساب ضيقها، لذلك هدرت 

مُـ شككة:

-سببك مش مقنع ومتأكدة أن في سبب اقوى خلاك تعمل كده 


هل يبدو مكشوف لهذا الحد أمامها لمَ تشكك في أسبابه ترى هل استنبطت كونه يغشى فراقها… 

نفض افكاره بعيدًا وقرر أن يغير دفة الحديث ويُصر على إنـ كاره قائلًا: 

-مفيش اسباب تانية وصدقيني مكنش هيفرق كتير لو عرفتي


اغتاظت من طريقته في تهميش الأمر وعارضته بنظرات شـ رسة مُتـ صدية: 

-لأ كانت هتفرق معايا على الأقل كنت هقف مع "حكمت" في مصـ يبتها... 


-وكنتِ هترجعي بيتك بعد حبس اخوكِ مش كده! 


قاطعها بنفاذ صبر وكأن افكاره التي تعذبه تخلت عنه وزلقت من لسانه، لتنكمش معالم وجهها وتتسائل بترقب شديد:

-ده السبب اللي منعك تقولي


جز على نواجذه بقوة وجمدت معالمه بعد سؤالها ثم توقف بسيارته يعلن عن وصولهم دون أن يجيب، لتكرر هي:

- جاوبني لو سمحت قولتلك مش بحب طريقتك دي هو ده السبب اللي فعلاً منعك


طال صمته المُـ ريب حتى يأسـ ت أن تحصل على جواب منه وإن كادت تفتح باب السيارة لتنزل منها أتاها صوته العميق:    

-مكنتش عايزك تسيبي "ليلى" بعد ما اتعودت عليكِ ومكنش عندي أي استعداد ادور على بديلة ليكِ 


تأهبت بحواسها مع كل كلمة نطق بها تستغرب عنـ جهيته الغاشـ مة حتى في تبرير أفعاله، لتجد لسانها ينطق دون

 مـ هَابة: 

-يعني مهمكش غير مصلحتك وبس...أنا اه وقعت في عرضك وطلبت حمايتك بس ده مش معناه أنك تلغيني وتقرر بالنيابة عني


شدد على نواجذه و احتدت نظراته من تطاولها عليه ثم هدر من بين أسنانه محذرًا: 

-حاسبي على كلامك معايا... 

انا مقصدتش لا ألغيكِ ولا اتصرف بأنانية ومتنكريش أن اللي عملته كان في صالحك أنتِ كمان


اتسعت عيناها ولمع وميضها هادرة:

-مش أنت اللي تقرر إذا كان في صالحي ولا لأ وكان من حقي اعرف 


ضرب المقود أمامه بقبضة يده بقوة نفضتها ثم زمجرغاضبًا من عنادها:

-طيب تقدري تقوليلي كنتِ هتعملي ايه لو قولتلك...كنت هترجعي ويومين واخوكِ كان هيخرج علشان يقتـ لك بجد المرة دي


رمشت عدة مرات تستوعب منطقية حديثه ثم عقبت بسلامٍ نفسي مكلل بإيمان قوي:

-ربنا هو الحافظ ومحدش بيمـ وت ناقص عمر 


استوحشت عيناه أكثر وتصلبت معالمه متسائلًا بريبة: 

-يعني ايه؟


نظرت داخل عتمته بعيون أبية واجابته بإصرار افحمه:  

-انا هرجع ل "صالح" 


قالتها وهي بالفعل تفتح بابها وتنزل من السيارة ليستشيط غيظًا منها ويلحق بها يعترض طريقها:

-أنتِ اكيد اتجننتي صح


نفت برأسها وردت وعيناها تلتمع بدموع قهرها: 

-لأ متجننتش انا يأسـ ت واتأكدت ان مفيش أمل وده مصيري ولازم اواجهه مهما كانت العواقب مكنش ينفع اهرب منه واسيب ناس ملهمش أي ذنب تتأذى بسببي


ثارت دمائه وتفاقمت برأسه وعارضها حازمًا:

-مستحيل اسيبك تعملي كده


أصرت مبررة:

-انا هرجع علشان مش عايزة اورطك معايا في مشاكلي أكتر من كده كفاية اوي انك انت وماما "ليلى" وقفتوا جنبي الفترة اللي عدت 


عقله لم يستوعب تلك الفكرة بتاتًا لذلك قال وكل ذرة به تنتفض بالغضب:

-هتفضلي في حمايتي يا "شمس" وإذا كان على أخوكِ ده صرصار هدهسه تحت جزمتي ولا يعرف يعمل معايا حاجة 


فرت دموعها من سجن عيناها وقالت و

الـ يأس يسيطر على حديثها:

-أنت مش فاهم حاجة…


مرر يده على وجهه في محاولة بائسة منه كي يهدء ولا يفسد الأمر بعصبيته ثم تسائل بهدوء بالكاد استطاع تدبره:

-فهميني...اتكلمي معايا قوليلي إزاي نفسك هتهون عليكِ ترجعي للأهانة تاني

واوعي تقوليلي علشان خايفة عليا ولا على" ليلى" انتِ عارفة إن أخوكِ اجبن من انه يفكر يقربلي


نعم أعلم ذلك واثق بك ثقة عمياء ولكن لأول مرة أغشى العواقب واعجز عن المجازفة…

ذلك ما كانت تردده بداخلها قبل أن ترفع عيناها التي ينسكب الدمع منها وتُصرح بصدق:

_مش عايزة اخـ سركم زي ما خسرت كل اللي بحبهم بسببهم


ضاقت عينه عليها يستشعر صدق حديثها وقد تشابكت نظراته المشتتة معها قبل أن تسترسل هي بهستيرية ودموعها تزف حديثها: 

_ أنا من يومي وانا بحارب علشان اعيش في سلام بعيد عن شرهم بس منفعش حتى لما قولت هربت وبعدت وابتدت الدنيا تضحكلي رجعوني تاني وكانوا السبب في موته

رق قلبه أمام انهيارها فياليته يستطيع إزاحت دموعها وضمها ليشاطرها الحُزن الذي يشطر قلبها فيبدو أنها خاضت الكثير وخسارتها كانت فادحة لذلك دفعه فضوله ليتسائل: 

-موت مين؟ و مين دول اللي هربتي منهم فهميني

قالت بإندفاع وبدموع هستيرية لم تستطيع كبحها وهي تُصرح بما يثقل صـ درها ويـ حرق قلبها: 

-موت اخويا "عزيز "انا اللي ربيته بعد موت امي وكان هو الحاجة الحلوة الوحيدة اللي في حياتي 

كنت بحلم انا وهو بحاجات كتير اوي واولها اننا نعيش في سلام بعيد عنهم...بس هو راح وسابني لوحدي ومعنديش استعداد اخـ سر حد تاني

 

تقلصت معالم وجهه تضامنًا مع حُزنها وقال يحاول تحفيزها كي تستعيد عزيمتها: 

- انتِ مش هتخسري حد غير نفسك وخسارتك ليه مفروض تبقى دافع ليكِ علشان متستسلميش وتـ يأسي


-بس انا تعبت… ونفسي ارتاح

وارجوك احترم رغبتي

قالتها وهي تفر من أمامه لداخل البيت تاركته يلعن عنادها ويقسم أنه لن يتخلى عنها وخاصًة بعد أن علم أسبابها. 

❈-❈-❈

أما هي دلفت للمنزل راكضة لغرفتها تغلق بابها وأول شيء فعلته أنها استندت بظهرها عليه تنزلق ببطء لحين خارت قواها جاثية على ركبتيها

تنعي حياتها وتنعي" عزيز" قلبها بدمعاتها غارقة في دوامة عاصفة من الذكريات التي كلما تذكرتها تـ حرق قلبها وتكاد

 تميـ تها بقـ هرها 

flash back 

فكانت حالتها ترثى بعد محاولة 

تعرض "سلطان" لها واثناء نوبة بكائها دخل اخيها الأصغر من باب الشقة حاملًا بيده كتبه وما ان رأها انحنى عليها متسائلًا:

-مالك يا "شمس" بتعيطي ليه و"سلطان" كان بيعمل ايه هنا؟


رفعت نظراتها وارتمت بين يده تضم جسدها الضئيل بخوف دون أن تقول شيء تفهم وصرخ بحمئة وهو يشعر بالدمـ اء تفور برأسه:

-نهار ابوه اسـ ود ده انا مش هسيبه ورحمة أبويا لقتـ له


قالها بتـ هور وهو يهب ينوي الخروج

 ليتـ صدى له لكن هي منعته صارخة

 بحُـ رقة:

-لأ يا "عزيز" علشان خاطري متورطتش نفسك معاهم 


زمجر "عزيز "غاضبًا يحاول ازاحتها عن طريقه:

-سيبيني يا "شمس"


تمسكت بثيابه صارخة: 

-مش هسيبك انا مش مستغنية عنك 

قالتها وهي تمنعه بكل قوتها وترجوه 

بنـ حيب يقطع نياط القلب، ليتراجع عن الأمر تضامناً مع انهـ يارها ويتمسك بذراعيها قائلًا:

-ولا انا مستغني عنك وعلشان كده قولتلك وافقي على عرض الشغل اللي عرضته عليكِ صاحبة المركز وسافري


نفت برأسها ترفض الأمر:

-مش هسيبك لوحدك


حاول إقناعها:

-هحصلك يا "شمس" هخلص امتحانات علشان السنة متروحش عليا وهسافرلك اعيش معاكِ هناك 

  

تهدلت الدموع أكثر من عيناها وعقلها مازال يرفض الأمر:

-مش هتعرف تعيش مع "صالح" لوحدك 


اجابها والدموع تشق طريقها على وجهه حزنًا على حاله:

-عارف انه عمره ما حبني ولا أتقبلني وسطيكم علشان كان بيـ كره ابويا بسبب جوازه من امك بس متخافيش عليا 

وفكري في نفسك شوية انا مبقتش صغير و أنتِ اتحمليتي كتير علشاني ومن يوم ما امي ماتـ ت وانتِ شايلة همي وبتشتغلي و بتصرفي عليا ومش بعد كل ده هقف اتفرج عليكِ و"صالح" بيبيعك ليه


نفت برأسها ثم جففت دمعاتها تستعيد ثباتها في محاولة منها كي تطمئنه:

-ميقدرش يغصـ بني وبعدين هانت بكرة هتاخد شهادتك وهاخدك ونسيب البلد كلها ليهم 


-"سلطان" مش هيصبر ومش هيسيبك في حالك اسمعي الكلام وسافري وانا و"عماد "هنساعدك تخرجي من هنا


تسائلت والقلق والخوف مازال ينهش قلبها:

-وأنت هتعمل ايه في غيابي هتعيش ازاي


-متقلقيش انا هروح اعيش مع قرايب ابويا الفترة دي أنتِ عارفة انهم بيتحايلوا عليا من ساعة ما مـ ات واوعدك هذاكر وهنجح وربنا هيجمعنا من تاني وهنعيش في سلام و وقتها هشتغل وهيبقى معايا فلوس كتير هعوضك بيها عن سنين الشقى اللي شوفتيها   


جذبته لحضنها تربت على ظهره وكأنها تطمئن ذاتها قبله...فنعم هو ليس شقيقها ولكن اقرب لها من حبل الوريد الذي تسري به دمائها فلم تشكك للحظة واحدة أنه لن يفي بوعده فيشهد الله انها لم تقصر معه منذ أن أوصتها أمها عليه قبل موتها واصبح هو محور حياتها ونقطة ضعفها تجاهد من أجله وتعلم أنه سيفعل أي شيء من اجلها ولكن ما لا كانت تعلمه ولم تحسب حسابه قط أن في سبيل ذلك الوعد تخلى عن صدقه وفارقها للأبد...

back 

عادت من ذكرياتها غارقة في جلد ذاتها فياليتها لم تتركه حينها

وياليت كانت هي التي قضى نحبها ليس هو فحين رحل ترك حياتها خاوية من كل شيء ماعدا القهر الذي مازال ينـ خر قلبها.

❈-❈-❈

أخذ يدور حول نفسه أمام نظرات" ليلى" التي قص لها ماحدث كي يأخذ رأيها ويحاول يجد طريقة معها يردع "شمس" بها…

-طب ايه العمل يا ابني 


انتشله سؤال والدته ليجلس جوارها ويجيبها:

-مش عارف هي مصممة ومش عايزة تقتنع


-يعلم ربنا انا حبيتها أد إيه ويعز عليا فراقها بس طالما دي رغبتها محدش يقدر يعارضها


عقب بعصبية والغضب يكتسح تقاسيمه:

-لأ هعارضها دي غبية ولا يمكن اخليها تنفذ اللي في دماغها 


-هتمنعها بصفتك إيه يا ابني 


باغتته والدته بسؤالها ليبتلع رمقه ويبرر قائلًا:

-مش لازم صفة كفاية انها طلبت مساعدتي 


-بس هي دلوقتي مطلبتش وعايزة تمشي بكامل ارادتها

 

اعتصر عينه بقوة يلعن بداخله كل الثوابت التي تلجمه وظل على صمته دون أن يعقب  

لتتنهد "ليلى" بضيق وتقول مُشكـ كة:

-اول مرة اشوفك بالشكل ده يا ابني معقول خايف عليها للدرجادي. 


ابتلع ريقه واستنكر بعيون زائغة:  

-لأ كل الحكاية مش عايزها تسيبك بعد ما بدأت اثق فيها إحنا مش تحت أمرها 


لا تعلم لمَ شعرت بالاسترابة من موقف ابنها وتباعًا له شعرت بشيء قبض قلبها ولكنها ظلت تتسائل ترى ظنها بمحله أم فقط يهيأ لها.

في تلك الاثناء كانت "شمس"جمعت اشيائها داخل حقيبة صغيرة تحملها وباليد الآخرى ذلك الكتاب التي نَوت إعادته لصاحبه والاعتذار منه...فنظرت للغرفة نظرة أخيرة قبل أن تغادرها وتسير لعندهم بخطوات وئيدة متعثرة ...لتتركز نظراته الضيقة التي يتطاير منها الغضب عليها لثوانِ قبل أن تعاتبها "ليلى":

-كده برضو عايزة تسيبيني يا بنتي بعد ما اتعلقت بيكِ 


رفعت عيناها الدامـ ية من شدة بكائها لها ثم قالت بنبرة مخـ تنقة:

-سامحيني يا ماما "ليلى"لازم امشي انا

 لعـ نة لكل اللي بيقرب مني


- لا حول ولا قوة إلا بالله استهدي بالله يا بنتي وبلاش تمشي 


عقبت بإصرار عجيب جعله يعتصر قبضته من شدة غيظه منها: 

-مش هينفع انا خلاص خدت قراري


-ومحدش عارضك فيه بس على الاقل اديني وقت اجيب حد يراعي" ليلى" في غيابك

قالها بصوت نافذ وبملامح جليدية لا يستنبط منها شيء سوى الغضب بعدما أسعفه عقله بحجة مناسبة...لتحاول هي الاعتراض:

-بس انا… 


قاطعها بنفاذ صبر آمرًا بصوت قاطع غير قابل للتفاوض:

-من غير بس مش هتمشي من هنا لغاية ما ألاقي بديل ليكِ  

 

كادت تتفوه بشيء ولكنه لم يمنحها الفرصة لذلك وتابع قاطعًا:

-اظن كلامي واضح اتفضلي رجعي شنطتك 

ترجته بنبرة بائسة: 

-سيبني امشي لو سمحت 


ثارت ثائرته من إصرارها فقد اخشوشنت نبرته ونظراته أصبحت أكثر قتامة وهو يحذرها: 

-مش هتمشي ولو فكرتي تخطي خطوة واحدة برة البيت ده من غير علمي هتصرف معاكِ تصرف مش هيعجبك


-يعني ايه انت بتهددني؟ 


-افهميها زي ما تحبي ولازم تفهي انه مش بمزاجك… ولو هتمشي يبقى وقت ما أنا استغنى عن خدماتك


-بس ده مكنش اتفاقي معاك من الأول


-انا عمري ما خالفت كلمة قولتها أنتِ طلبتي حمايتي وانا مقصرتش معاكِ انتِ اللي استخفيتِ بكلامك ومصدقتيش فيه 


قال ما قاله بعصبية مُفرطة قبل أن يتركهم ويدخل غرفة مكتبه تاركها مشدوهة مما تفوه به تدرك كونه محق هي من اخلت بوعدها ولذلك وجب عليها الانصياع له مُجبرة دون اعتراض بينما "ليلى" طمئنتها و واستها بهدوء يخالف تمامًا ثورة تلك الشكوك التي تعصف برأسها.

❈-❈-❈

مرت عدة أيام كانت هي حريصة في تأدية مهامها دون أن تحتك به فكانت فور شعورها بعودته تركض لغرفتها تستغل الوقت كي تقوم بترجمة ذلك الكتاب بينما هو كاد يفقد عقله فمازال يجهل ما ينوي فعله حين تكرر أمر مغادرتها لا ينكر أنه أطمئن على "صباح" واخبرته أنها أصبحت أفضل ولكن يلزمها بعض الوقت لتستعيد عافيتها ورغم انه يدعي الصمود ومازال يستنكر إلا ان تجاهلها له جعل لقلبه رأي آخر فها هو يطرق بابها بعد حيره أمرها متحججًا ما ان فتحت له:

ـ مش لاقي مُسكن وعندي صُداع ممكن تشوفيلي عندك


قالها وعينه تعصاه دون قصد وتمر على تقاسيمها الجميلة تعلن اشتياقه لها، توترت هي تحت وطأة نظراته حتى انها 

ضمت شالها تخفي منامتها وتزيح غرتها خلف أُذنها قبل أن تومأ له دون حديث لتتحرك من أمامه تعبث بأحد الأدراج ليتنهد هو بتثاقل قبل أن يلقي نظرة عابرة داخل الغرفة وتلتقط عيناه ذلك الورق الذي يتناثر على الفراش...مدت هي يدها بالدواء قائلة:

-اتفضل


تناوله من يدها دون ان ينظر لها ثم قال بعدما فشل في كبح سؤاله:

-ملاحظ أن بقالك كام يوم بتسهري ونور الأوضة بيفضل منور لغاية الفجر ياترى ده بسبب الورق اللي على السرير؟

 

في بادئة الأمر استغربت اهتمامه وملاحظته لها ولكن في الأخير أجابته متنهدة دون أن تنظر له:

-ده كتاب بترجمه عطهولي صاحب المكتبة 


ضاقت عينه وتسائل مترقبًا: 

_ امتى؟ 


زفرت أنفاسها واجابته بإقتضاب:

-يوم ما الدكتورة كانت هنا وخرجت


-وده اللي اخرك وقتها؟ 


هزت رأسها دون حديث، لترتكز عينه عليه لثوانِ بتلك النظرة الثاقبة التي تخترق روحها وهو ملتزم بصمته 

الـ مُريب الذي جعلها ترفع عيناها له قائلة بـ شراسة متهكمة:

-ايه! كان مفروض اخد رأيك قبلها مش كده...ما أنا في سجن وكل حاجة محسوبة عليا  


نفى برأسه وعقب على تهكمها بهدوء استغربته:

-انا مقولتش كده...وانتِ مش في سجن يا "شمس" و وجودك من الأول كان مشروط وانتِ بنفسك اللي قررتِ ده ومش ذنبي أنك رجعتي في كلامك


-انا عمري ما خالفت كلمتي بس الظروف هي اللي جَدت  


برر بنبرة مغايرة وهو يحثها بعينه على البقاء: 

_ لو فكرتي بعقلك هتلاقي وجودك هنا هو الأمان الوحيد ليكِ

 

ابتلعت رمقها تتغاضى عن ذلك الصوت بداخلها الذي يؤيده ثم رفعت عشب عيناها الذابل له بنظرة تحمل شيء لم يفهمه هو وزاد من حيرته لحين همست:

-صدقني قراري ده لصالح الكل وارجوك حاول تلاقي حد في أقرب وقت 


 لمَ لا تريد تحكيم عقلها! 

ألا تثق كونه يستطيع حمايتها!

فلماذا تُصر لذلك الحد ترى بسبب خوفها كما أخبرته أم أصبحت تمقته و لا تطيق البقاء؟ 


انتشله من شتات افكاره صوتها وهي تتمسك بحافة بابها:

-طيب عن اذنك عايزة أكمل 


جز على نواجذه من معاملتها الجافة له ولكنه ليس لديه أي حق لمعاتبتها لذلك لم يجب وقبل أن تغلق بابها كان يخطو بعيدًا عن غرفتها بخطوات غاضبة تنم عن استيائه منها. 

❈-❈-❈

اوصلته لباب المنزل حاملة حقيبته الطبية تدفعه دفع للذهاب قائلة:

-"نضال "هتتأخر على العيادة بطل دلع بقى 


اعترض وهو يحاوط خصرها: 

-مش عايز أروح عايز أفضل جنبك 


حاولت إقناعه هي: 

-حـ رام المرضى بتوعك ذنبـ هم ايه! 


برر بكل اريحية وكان ما ينطق به هو المنطق بذاته: 

-ذنبهم إني لسه عريس ومن حقي اشبع حنان


قالها وهو يدفن وجهه بين ثنايا عنقها ينثر قبلاته المتفرقة عليه، لتدفعه من صدره وتقول بعتاب رقيق يليق بها: 

-كل ده ومشبعتش إحنا بقالنا اسبوع من بنخرج من البيت


صرح هو بتنـ هيدة مُسـ هدة وعينه يفيض العشق منها: 

-لو قعدت العمر كله جنبك مش هشبع منك يا" رهف" 


تركت الحقيبة جانبًا وتعلقت بعنقه هامسة: 

-طيب خلاص وعد روح العيادة وانا هجيب الولاد ونجيلك بعد النادي نتغدى في أي مكان يعجبك


اقترح بملامح عابثة: 

-حلو أوي طب ما اروح معاكم النادي وبلاها عيادة النهاردة 


هزت رأسها بلافائدة ونطقت اسمه بطريقتها المميزة معاتبة: 

-"نضال" وبعدين معاك


ابتلع رمقه بحلق جاف ثم همس بتوق وهو يسبل أهدابه يستعطفها: 

- بذمتك في احلى من قعدتنا في حـ ضن بعض قدام التلفزيون والولاد حوالينا


أيدته برضا و ببسمة حالمة: 

-مفيش احلى من كده بس برضو لازم تشوف التزاماتك وشغلك الأول لتضع يدها بخصرها وتتسائل متهكمة:

ـ وبعدين فين كلامك أن الطب رسالة سامية ولازم تفيد الناس والمجتمع بيها


برر بخفته المعهودة وهو يرفع يده مسلمًا: 

-لأ ما اقتنعت أن سامية دي تبقى خالتي على رأي "سليم "وبعدين انا فرد من المجتمع ولازم اتبسط برضو علشان أخرج أحسن ما فيا لخدمة غيري


ابتسمت بلا فائدة فذلك ال" نضال" يفقدها عقلها شيء فشيء بخِصاله وطباعه التي تأسر قلبها: 

-" نضال" هتجنني 


 تنهد تنهيدة مُـ سهدة وهتف مضطر إرضائها: 

-يخربيت نضال وسنين نضال خلاص همشي وأمري لله ومش مسامحك 


مطت فمها بدلال يعشقه منها ليضيف بشقاوة غامزًا بعينه:

-طب خلاص هسامحك بس صالحيني قبل ما انزل


ابتسمت تلك البسمة التي تأتي بربيعها على قلبه المُـ ولع بها قبل أن تميل على وجـ نته تضع قـ بلة مطولة متبوعة بتنهيدة حالمة تنم عن راحة قلبها ليـ شدد أكثر على جـ سدها هامسًا بخـ طورة تشتـ ت كافة حواسـ ها:

-أنا فطرت من غير ما أحلي… يرضيكِ

 

نفت برأسها ليميل يلتقط شفاهها في قبـ لة هادئة، حالمة جعلتها تتجاوب معه بكل حواسها قبل أن يفصلها و يغادر مضطر كي يذهب لعمله كما وعدها فإن ظل أكثر كان سيفقد سيطرته على ذاته كاملًا. 

❈-❈-❈

جلس على طاولة الطعام مع والدته بعد أن أَصرت عليه فما كان منه غير أن يوافق كي لا يُحزنها فكان يتناول طعامه بصمت مُـ ريب لحين تسائلت "ليلى ":

-مفيش أخبار عن "صباح"؟


ترك الشوكة من يده ترتـ طم بسطح الطبق محدثة صوت قوي ورد يسيء الظن:

-هي اللي قالتلك تسأليني مش كده ايه مش قادرة تصبر كام يوم كمان!


ردت "ليلى" تستغرب حدته المبالغة: 

-هي مالها بس يا ابني انا اللي بسألك 


نفى برأسه وقال بعصبية غير مبررة: 

-لا يا "ليلى" مش دي الحقيقة هي واضح أنها مش قادرة تستحمل عيشتها معانا وعاصرة على نفسها لمونة دي حتى علطول في وجودي قاعدة في أوضتها  

وكأنها بتعاقبني علشان مسبتهاش تمشي


تنهدت "ليلى" حين أدركت أن ذلك ما يؤرقه ويجعله يفقد السيطرة على أعصابه، لذلك حاولت ان تزيدها عليه لتتأكد من شكوكها:

_ يا بني هي ليها اسبابها وطالما ده قرارها مكنتش فرضت عليها تقعد واحترمت رغبتها

  

استـ شاط غضبًا من حديث والدته فقد قال من بين اسنانه وبعـ صبية غاشـ مة لم يعي لها: 

-رغبتها غبية زيها وأسبابها كلها مش مقنعة بالنسبالي وعلشان كده مش مجبر احترمها.


نظرت" ليلى" له نظرة مُعاتبة… لتتهدل معالم وجهه ويسكن الندم عيناه و يعتذر قائلًا: 

_ مكنش قصدي اتعصب يا "ليلى" معلش 

أصل موقفها استفزني مش اكتر 


وهنا تأكدت من شكوكها لذلك تفوهت بما يختلج في صدرها من شك:

-حبتها يا" سليم" مش كده؟


نظر لها نظرة مُطولة كانت كافية لها لتستنبط منها الجواب قبل أن يبتلع رمقه بتوتر ويشيح بنظراته عنها مستنكرًا:

-حب ايه بس يا "ليلى" لأ طبعًا كل الحكاية أني مش عايزها تمشي وتسيبك 


نفت "ليلى" برأسها وقالت بثقة أم تعرف ما يدفن في أعماق أبنائها:

-لأ يا ابني انا حاسة بيك وبالـ نار اللي جواك و لو عرفت تقنع نفسك وكل اللي حواليك بعكس كده مش هتعرف تضحك عليا... بلاش تعاند وتكابر زي عوايدك


زفر انفاسه ومرر يده على وجهه لعله يهدأ من روعه ولا ينفضح امره أكثر من ذلك أمامها، لتتابع هي:

-مش عيب يا حبيبي أنت مأجرمتـ ش ومش علشان اخترت مرة غلط يبقى كل اختياراتك غلط "شمس"مختلفة ودخلت قلبي من أول ما شوفتها هو أي ينعم اتاخدت شوية لما حسيت بمشاعرك ليها رغم ظروفها لكن هي ملهاش ذنب ومش هنبقى إحنا والزمن عليها


أصر على إنكاره:

-إيه اللي أنتِ بتقوليه ده يا" ليلى" مفيش حاجة من دي أنتِ بيتهيئلك مش اكتر


-لأ انا مش بيتهيألي وعارفة ومتأكدة أنها محستش بمشاعرك ولا بتبادلك ويمكن ده اللي مخوفك ومخليك مش عايز تهز صورتك قدامها وتبان أن مشاعرك غَلبتك


تناول نفسٍ عميق نابع من أعماقه وصرح بواحدة من تلك القواعد التي مازالت تكتسح دواخله:

-الحب ضعف يا "ليلى" وانا مش عايز استسلم للضعف تاني


ربتت "ليلى" على ساقه ونصحته بحنو شديد:

-الحب بيقوي وبيعمل المعجزات يا حبيبي واسمعها نصيحة مني طالما بتحبها متضيعهاش من ايدك وقولها


غاب رده وظلت نظراته شاخصة في الفراغ كأنه يخوض حـ رب دامـ ية بين عقله وقلبه ليتخذ القرار لتُصرح هي بأمنياتها العزيزة التي لاتعير غيرها اهمية:

-انا مش معارضة يا ابني وكل اللي بطلبه من ربنا اشوفك متهني ومبسوط واشوف عيالك قبل ما امـ وت


استنكر قولها ومال على يدها يقبل ظهرها:

-بعد الشر عليكِ يا "ليلى"


مسحت "ليلى" على خصلات شعره وسألته آملة: 

-هتكلمها! 

رفع رأسه وهزها بحركة بسيطة وبداخله ألف صوت يدفعه دفع لتنفيذ رغبتها ولكن عقله تدخل وطرح السؤال ماذا لو رفضت الأمر وسخرت من مشاعره.

❈-❈-❈

كانت في طريقها لعملها حين وجدته امامها لتقلب عيناها بضجر وتكمل سيرها ليستوقفها هو: 

_ جرى إيه يا بت مش شيفاني


لوت فمها متسائلة: 

_ عايز إيه يا "صالح " خير


_ متهدي يا بت مالك هو انا دوستلك على طرف


_ لأ مدوستش ومتقدرش تدوس علشان واللي خلق الخلق وقتها ما هسكتلك وهوديك في حديد


استغرب ثقتها الزائدة في تـ هديده ولكنه استخف بها قائلًا: 

_ تودي ابو ابنك في حديد يا "بدور" بقى كده ده انا لسه خارج من الحبس وبقول يا هادي 

 

برقت عيناها وتسائلت متوجسة: 

_ حبس ايه عملت إيه


لاحت منه بسمة سمجة وتسائل متهكمًا: 

_ ايه! خوفتي عليا يا بت؟ 


لوحت بيدها تدعي اللامبالاة قائلة:

_ أخاف على مين انا بس زعلت علشان معملتش معاك الواجب وزورتك بعيش وحلاوة 


_ عيش وحلاوة لا كتر خيرك 


_ اخلص يا "صالح "وقول عايز إيه علشان ألحق الشغل


_ مفيش أخبار عن" شمس" 


صدر من فمها صوت متهكم وتشدقت ساخرة: 

_ مفيش… وبعدين مش انت خدت المحمول هتوصلي ازاي على البوتجاز


_ بطلي نقورة واسمعيني "سلطان" لو خرج وملقهاش هيخرب الدنيا ومش بعيد يخـ لص عليا واظن انتِ ميرضكيش ابو ابنك يعـ دم ابوه 


انقبـ ض قلبها بشدة من حديثه ولكنها لم تبين له وتهكمت قائلة: 

_ ابوه! افتكرت دلوقتي أنك ابوه يا "صالح"… الأب بالحنية والمراعية وانت جـ احد وملكش خير في حد ومتستناش حد يزعل عليك…وإذا كان على" شمس" خلاص بقت نجوم السما اقربلك منها 


قبض على ذراعها وتسائل بعيون تقدح بالـ شر: 

_ يعني تعرفي طريقها؟ 


نفضت يده وتراجعت عدة خطوات قائلة بتشـ في ناتج من سنوات الـ عذاب التي أذاقها إياها: 

_ معرفش وصدقني حتى لو اعرف مش هقولك وهقف اتفرج على "سلطان" وهو بيقطع من لحمك وبيبيع الكيلو منك بقرشين

قالت ما قالته قبل تمضي في طريقها تاركته غاضب بارق العينين يتجسد أمامه ما تفوهت به من عقاب ليشعر بالرهبة ويقسم أنه سيجد "شمس" مهما كلفه الأمر فهي سبيل نجاته الوحيد من براثن "سلطان". 

❈-❈-❈

انتهت من ترجمة الكتاب بوقت قياسي وكانت تود ان تذهب ل" معتز" كي تعطيه إياه لذلك بعد تأدية مهامها مع "ليلى" اخبرتها وكان ردها:

-لأ يا بنتي الله يخليكِ قوليله قبل ما تنزلي انا مش عيزاه يتعصب زي عوايده لما يعرف


-ماما" ليلى" انا مش فاهمة هو ليه بيعمل كده


بررت "ليلى" بحنان وهي تربت على كتفها:

-خايف عليكِ قولتلك أنتِ بقيتي واحدة مننا...لتتابع كي تستنبط منها:

-انا عارفة أن "سليم" طبعه صعب وعصبي وانك مش مجبرة تتحمليه بس صدقيني هو جواه كويس وحنية الدنيا فيه ولو مكنش فارق وجودك معانا مكنش عارضك وحاول يقنعك مترجعيش لأخوكِ لو واحد غيره كان سابك وقال انا مالي وبناقص مشاكل و وجع دماغ


نظرت لها نظرة مُطولة مليئة بالعرفان ثم صرحت وهي تفرك بيدها بشيء من الارتباك:

-انا مقولتش انه وِحش...انا عارفة ان جواه حد كويس و اللي عمله علشاني هيفضل جميله في رقبتي لأخر العمر انا همشي علشان خايفة عليكم ارجوكِ افهميني

 

تنهدت "ليلى" برضا من ردها ثم قالت متفهمة:

-فهماكِ يا بنتي بس معلش علشان خاطري انا اصبري يمكن ربنا يدبرها من عنده 

تنهدت بعمق قبل أن تهز رأسها فهي تثق أن الله سيلطف بها. 

❈-❈-❈

أما هو كان يجلس داخل مكتبه ساهم أمام شاشة هاتفه يتابع كل خلجة بها بواسطة تلك الكاميرات الخفية التي يحتاط بها ليطمئن على والدته في غيابه 

فحين أتت" شمس" للعيش معهم في بادئة الأمر كان يتابع خطواتها لكي يثق بها ولكن الآن اختلف الأمر فالآن يتابع مشاهدة خلجاتها و يستمتع بردود افعالها وهي مع والدته التي أكدت له اليوم انه 

 بالفعل وقع في عشقها ولن يتحمل فراقها… نعم هي تفهمه أكثر من ذاته و لن ينكر الأمر أكثر فقد أخذ قراره انه سيتشجع ويخبرها فلن ينتظر حتى يفقدها فذلك الشعور الذي كان يسخر منه سابقًا أصبح يسيطر على ذرة به...فكيف النجاة وكل شيء يتأمر عليه من أجلها حتى ذلك المتجمد بيساره ذاب ثليجه وانصهر من أجلها.

قاطع متابعته لها رنين هاتفه برقم غير مُسجل

ليزفر أنفاسه دفعة واحدة و يضغط على شاشته كي يجيب وحين استمع للطرف الأخر هب من مقعده و صاح مزمجرًا:

-بتقول ايه ياروح امك انت فكرك مش هعرف اجيبك أنت واللي مشغلك مش انا اللي تعرض عليا عرض زي ده 


توحشت نظراته واعتصر الهاتف بيده حين وصله جواب الطرف الأخر ثم رد غاضبًا:

-محدش يقدر يزعلني واعلى ما في خيلكم اركبوه و وحياة امي لهجيبكم واحد ورا التاني ومش هرحم حد فيكم 

ذلك أخر ما قاله قبل ان ينغلق الخط من الطرف الأخر ليلعن تحت انفاسه الغاضبة يطالع الرقم الذي ظهر على شاشته ثم تناول سماعة الهاتف الخاص بالعمل طالبًا من أحد زملائه:

-تجيلي دلوقتي…

❈-❈-❈

لعدة أيام ظل يبحث عنه يقوم باتصالات عدة لمعارفه في مناطق متفرقة كي يستدل على مكانه وبالفعل تمكن من ذلك وها هو يطرق باب المنزل دون تروي يُعَجل بالـ شر...ثوانِ عدة وفتح "صالح" باب شقته لتجحظ عينه مستغربًا:

-أنت عرفت طريقي منين يا راجل أنت؟ 


تحسس "صابر" شاربه الكث بأطراف أنامله وقال والخبث يقطر من حديثه:

-مش مهم عرفت طريقك منين المهم إني جاي ابلغك بطريق اختك واقولك مين اللي آنيها في بيته وملبسك العمة. 

❈-❈-❈

في المساء كانت تجلس على أحد المقاعد التابعة لساحة النادي الشاسعة تنتظر انتهاء "شريف" من تمرينه حين باغتها صوته:

-ازيك يا"رهف"


همست باسمه مستغربة:

_ اهلًا يا بشمهندس بتعمل إيه هنا؟ 


_ ممكن اقعد

ترددت في منحه الإذن ليجلس ليتهكم هو:

-هتكلم عن الولاد واظن دي حاجة مضايقش حضرة الدكتور 



التقطت تهكمه المعتاد لتزفر أنفاسها وترد بثبات:

-اقعد يا بشمهندس واتكلم


تنهد وجلس ينظر لها نظرات مُطولة جعلتها تزفر أنفاسها للمرة الثانية بنفاذ صبر قائلة:

-اتكلم… انا سمعاك


-انا عايز اعرف مواعيد التمرين بتاعة الولاد علشان هاجي ليهم واشجعهم 


هزت رأسها وقالت بإقتضاب: 

-تمام حاجة تانية 


برر والندم ظهر جلياً على تقاسيمه: 

-عارف إني مكنتش بهتم قبل كده وبشوف ان الرياضة تضيع وقت بس لما "شريف" شارك في البطولة بتاعة كرة القدم حسيت إني فخور بيه اوي والفضل يرجع ليكِ


ابتسمت بتحفظ ليتابع هو:

-شكرًا كمان علشان بتخليهم يتصلوا بيا علطول 


_ أنت ابوهم وده حقك


ابتسم ببهوت وظل صامت منكس الرأس، لتنظر له نظرة عابرة فمن يجلس أمامها هو ذاته من اختزل سنوات عمرها وقهرها ، شبح بسمة ساخرة كادت تعتلي ثغرها من نفسها القديمة وما كانت عليه معه فكم كانت مثيرة للشفقة وقتها حين ظنته محور حياتها واعتقدت أن الحياة ستتوقف عنده وستبقى وحيدة، تعيسة للأبد ولكن كم كان جميل لطف الله بها حين عوضها ب" نضال" الذي حول رماد قلبها إلى ربيع مثمر يأتي بثمار حبه للكل واولهم ذاتها… 

وعلى ذكر "نضال" وجدت ذاتها تتنهد مبتسمة بسمة صافية ملفحة بتلك المشاعر التي اصبحت تكتسح كيانها… 

_" رهف" أنتِ معايا… بتضحكي على إيه؟ 

انتشلها صوته لتدثر بسمتها سريعًا وترد بثبات: 

_ ابدًا افتكرت حاجة كده…متشغلش بالك قولي ايه اخبار الشغل 


-تمام الحمد لله الشركة وقفت على رجليها من تاني بفضل ربنا وفضلك

 

-انا معملتش حاجة أنا رجعتلك حقك أنت اللي كبرت الفلوس 


-انا كنت ندل معاكِ يا "رهف "سامحيني انا هفضل عمري كله ندمان إني ضيعتك


قالت بتحفظ وبنبرة جادة للغاية: 

-بلاش نتكلم في اللي فات يا بشمهندس وياريت يكون كلامك معايا في حدود مصلحة الولاد وبس 


-عندك حق …. انا اسف

 

-ابنك عامل ايه الولاد حبوه اوي لما شافوه ياريت تسعى علشان يكون في ود بينهم هما في الأخر اخوات


-إن شاء هعمل كده…هو الحمد لله كويس بس شقي أوي ونسخة طبق الأصل مني ودي حاجة بحمد ربنا عليها انه مطلعش شبه" سميرة" 


ابتسمت دون قصد ونفت برأسها بمعنى ان لا فائدة فمازال ساخط لا يعرف أين يكمن الرضا، ليعقب هو بصدق مغلف بالندم:

-بحاول اقرب منه ومغلطتش نفس الغلطة اللي غلطتها مع الولاد انا نفسي ابقى أب كويس يا "رهف" لإني اكتشفت إن دول حصاد عمري ولازم أحسن تربيتهم 


-مبسوطة انك بتحاول وصدقني ولادك هيفضلوا يحبوك مهما حصل


-يعني هتساعديني أقرب منهم واعوضهم عن كل اللي فات 


-اكيد ومش معنى أننا انفصلنا أن الولاد تاخد موقف منك بالعكس لازم تقرب منهم اكتر واظن انا كتير نبهتك ان نفسية الولاد اهم شيء عندي


طالعها ببنيتاه القاتمة لثوانِ دون حديث بينما هي كانت ملامحها متجمدة تطالعه بكل برود وكأنها لم تراه من الأساس...وأثناء نظره لها وجد عيناها تتعلق بشيء خلفه وتبتسم بسمة واسعة رائقة للغاية وتلتمع عيناها بلمعة لطالما كانت تخصه بها وحده في سابق عهدها...وقبل أن يستوعب سبب حالتها سمعها تهمس بأسم الأخر وتنهض متلهفة:

-"نضال" برضو جيت وسيبت العيادة


ابتسم هو بكل اريحية ثم وضع قبلة على وجنتها قائلًا بشقاوته المعتادة:

-وحشتيني ومقدرتش أصبر وأجلت كام كشف لبكرة


نفت برأسها وبسمتها الرائقة تزين وجهها ليحاوط هو خصرها ويتقدم من "حسن" يصافحه بثبات انفعالي يُحسد عليه:

-ازيك يا بشمهندس

 

صافحه "حسن "بملامح واجمة وعيناه لا تفارق موضع يده على خصرها، ليقربها" نضال" أكثر وكأنه يعلن ملكيته لها بطريقة محسوسة، ليبتلع "حسن "غصته وقبل أن ينطق سبقه" نضال" بأريحية جعلت الدماء تغلي برأسها:

-اكيد جاي علشان تشوف الولاد وتطمن عليهم مش كده… ليمط فمه بأسف مصطنع ويقول بنبرة مُبطنة تخفي خلفها تنبيه خفي:

_ ياريتك كلمتني قبلها كنت جبتهملك لغاية عندك 


تفهم إلا ماذا يرمي بحديثه ليبتلع غصته ويجيب بإقتضاب: 

-مكنتش اعرف ظروفي ايه؟ 


-تتعوض… ربنا يخليك ليهم يا بشمهندس 


أمن على دعوته قبل أن ينسحب قائلًا:

-طيب انا هروح الملعب ل" شريف" عن اذنكم


ابتسم "نضال" بسمة مجاملة بينما هي كانت مشدوهة بردة فعله ففور أن جلسوا سويًا قالت مُبررة:

-"نضال "انا مكنتش اعرف انه جاي واتفأجات بيه بس هو قالي انه عايز يتكلم بخصوص الولاد


قال بثقة وبتفهم يأسر قلبها: 

-عارف مش محتاجة تبرري يا" رهف" انا واثق فيكِ فوق ما تتخيلي


-يعني أنت مش مضايق



-لأ بس ياريت بعد كده تنبهيه لو حابب يتكلم معاكِ بخصوص الولاد يبقى في وجودي 

 

تنهدت براحة ثم اجابته بطاعة: 

-حاضر


ليهز رأسه ويصمت لبرهة قبل أن يستعيد مَرحه مشاكسًا: 

-طب ايه يادوب نشوف الولاد ونروح ناكل علشان نلحق نروح ونحلي


اشرأبت برأسها متهكمة: 

-نحلي هااا كتر الحلو مضر يا دكتور

 

مال يقلدها ويعقب بغمزة من عينه ذات مغزى: 

-انا بمـ وت في الضرر اللي بالشكل ده ملكيش دعوة 


أخفت عيناها بخجل من تلميحاته التي تصيبها بالقشعريرة وكأنها حديثة عهدها ثم تنهدت تنهيدة مُسهدة تنم عن راحة قلبها ورضاها الكامل عن عوضها.

يتبع...