رواية جديدة كما يحلو لها بتول طه - الفصل 29 عامية
رواية كما يحلو لها
الجزء الثالث من رواية كما يحلو لي بقلم بتول طه
رواية جديدة كما يحلو لها
تنشر حصريًا على المدونة قبل أي منصة أخرى
من قصص وروايات
الكاتبة بتول طه
الفصل التاسع والعشرون
النسخة العامية
أظلمت الرؤية أمامها وهي لا ترى نهاية لكل ما
يحدث سوى الألم المميت، لا تجد نهاية لأي مما يحدث، هي تراه أمامها الآن، وكانت
تراه بأحلامها، تراه بجميع الأوجه، لا تستطيع إنكار أنه كان في كل ناحية من نواحي
حياتها، العمل والأسرة فضلًا عن تجربة الزو اج المريرة معه وذلك العشق الملعون.
نفس الدوامة، كل شيء يتكرر، وبداخلها تعلم
أنها لو فعلت كل ما فعله معها لن يكون هذا حل نهائي، نعم هناك مُتعة لحظية برؤيته
يتألم مثل ما تألمت هي ولكن تنتهي كل الأحداث بأنها صريعة آثار ما بعد الثمالة، أو
صريعة لذكريات ظنت بمنتهى الغباء أن بعضها سيكون مجرد ماضي سيء وسيتعداه كلاهما،
وبعض تفاقم الأمور معه ظنت أنه سيكون في يوم من الأيام ماضي وسينتهي بانفصال
منطقي.. لكن بالطبع كل ما يتعلق بغريب الأطوار الذي اقتحم حياتها لا شيء يقارب
المنطق معه!
وجدت تلك الزجاجات بجانب الباب عندما أحضرها
السائق، ليس هناك ما يتبقى لليلتها سوى الثمالة والغرق في نفس الدوامة مرة ثانية،
ولكن هذه المرة لن تستيقظ منها أبدًا.
عاودت أدراجها من جديد ثم قامت بفتح الباب
واقتربت من مدير هؤلاء الرجال ثم حدثته متسائلة بلهاث وضربات قلبها لا تتوقف عن
التسارع:
-
عملتو ايه في الحصان؟
-
رجع مكانه تاني وقفلنا عليه والعربية والسواق
مشيو.
أجابها لتهز رأسها بغير اكتراث ثم سألته مرة
ثانية:
-
وعمر؟
-
دخل البيت التاني ومن ساعتها مطلعش!
ارتبكت بقرارها الغبي ولكن قد تكون هذه
النهاية لكل معاناتها التي لا تنتهي لتكلمه بلهجة آمرة:
-
أنا عايزة الكل يسيب البيت ويمشي، كل الأمن
مش عايزاه هنا، بس بهدوء ومن غير دوشة، قدامكم عشر دقايق مش عايزة اشوف حد منكم
هنا.
تعجب الرجل مما تخبره به فتسائل بعفوية:
-
خير يا مدام فيه حد عمل حاجة أو
-
من غير أسئلة ورغي كتير ولا مفيش حد عمل
حاجة، اسمع الكلام وانا هبقا اكلمكم بكرة!
قاطعته والتفتت لتغادره بينما تابعها الرجل
بنظرات مستفسرة وهو لا يفهم ما الذي حدث وراء قرارها هذا أمّا عنها فهي حتى لا
تفهم من أين آتت لها هذه الفكرة، على كل حال هي لم تعد تريد سوى الخلاص!
دخلت وهي تتأكد من إغلاق كل النوافذ والأبواب
واسدال ستائر المنزل بأكمله كالممسوسة وبعد أن فرغت من الطابق الأرضي جذبت زجاجة
لتتجرع منها بطريقها وهي تصعد لغرفة النوم بالطابق الأعلى وتابعت ما يحدث حيث
الرجال تغادر إلى الخارج نحو البوابة الرئيسية للمنزل وتذكرت أنه لم يعد هناك
الكثير من تلك الحراس على كل حال، فقط سائقه وحارسان بالبوابة الأمامية وهو بحالته
تلك لن يستطيع أن يكسر باب من أبواب هذا السجن!
اتجهت عسليتيها المحترقتين بلهيب أوشك على إصابة
كل ما حولها وهي تملئ معدتها بالمزيد نحو نافذة لهذا المنزل الجديد بينما لم تجد
أي أضواء تدل على وجوده بالداخل، بالطبع ولماذا ستجد أي شيء يخصه له علاقة
بالحياة؟ كان لابد لها من أن تفهم أن كل غرائبه تلك كانت ستؤدي بها للموت بشكل أو
بآخر.
توجهت مهرولة حيث غرفة مكتبه اللعينة التي
يحتفظ بداخلها بتلك الكُتب ويظن نفسه أنه يعلم كل شيء في الحياة، ألا ينص أي كتاب
من تلك الكُتب السخيفة أنه من حق المرأة أن تعامل كانسان؟ أم أنه قرأ فقط ترهات لا
تذكر سوى أن افساده لحياة الآخرين هو الصواب دائمًا؟
أخذت تُلقي بتلك الكُتب بهمجية شديدة وكأنها
فقدت عقلها، ولم لا تفعل، أي عقل تركه لها ليجعلها تستند على ذرة منه؟ ولو كان
تصرفها مجنون على كل حال سيكون الأفضل، دون تهديد ودون أذى لها ولوالدتها ولأخيها،
فقط ستنتهي من الحياة وكأنها لم تكن، وذلك الكحول الذي بات في نظامها قد تجده
التحقيقات كبقايا من جثتها المحترقة!!
سكبت تلك الزجاجة وهي تبعثرها بغرفة مكتبه وعلى
كُتبه وعلى كل رُكن يُذكرها به، أليست هذه الأريكة هي صاحبتها في كارثة ذلك العقد
الذي خيل له عقله المضطرب أنها ستوقعه؟ ستحرقها هي الأخرى!!
انتهت الزجاجة فألقت بها أرضًا ثم تفقدت
المكان حولها لتتجه نحو المطبخ نحو مصدر الغاز مباشرة ثم تخلصت من كل ما قد يمنعه
من الاشتعال لتبدأ وأخرجت قداحة من واحد من الأدراج ثم اتجهت لتشعل المنزل بأكمله
في حالة من الخوف مما ستفعله وحاولت أن تبعد تلك الدموع التي تهبط على وجنتيها وهي
تسكب المزيد من الكحول بجميع أرجاء المنزل..
هذا أفضل، هي لن تتحمل هذا الألم كلما نظرت
إلى وجهه مرة أخرى وأدركت أنه هو نفسه الذي قام بتهديـ ـدها مرات ومرات وعشقته رغم
كل أفعاله، إن لم تمت حرقًا ستموت اختناقًا ولن يملك الآن والده أمر وحيد يستطيع
أن يُهددها به، لم يتبقى سوى القليل على بلوغ "بسام" السن القانونية وستساعده
"علا" مثلما فعلت معها، ربما ستكون هذه هي النهاية لذلك المزيج من القهر
والألم كلما تذكرت كل ما جمعها به من عشق وعذاب على حد سواء.
❈-❈-❈
هل من الأفضل أن يخبرها عن كل ما يحدث له لكي
تهدأ قليلًا وتعرف أنه يُعاني معاناة أكبر بكثير من معاناته بنقل حصانه لمكان لا
يعلمه؟ أم من الأفضل أن يخبرها أحد ما كم من مرة حاول قتل نفسه وفشل فشل ذريع
بالأمر؟ أم عليه أن ينهض بجـ ـسده الآبي للاستجابة لأي من تلك العقاقير بأن ينسى
ويُسامح نفسه على فعلته ويذهب لبابها لكي تراه يبكي قهرًا من كل ما يحدث لها؟
هو مشتت، بل فاشل ومشتت، ولو فعل هذا وذهب
لها متوسلًا أن تملك بعض العقلانية في أي من تصرفاتها سيكون استعطاف حرفي صريح، ما
الذي عليه فعله؟ ولماذا يباغته القدر برفضه القاطع لكل محاولاته بالموت؟ ما الذي
يتبقى ليحدث له؟
ظلمة القادم تبدو أحلك من ظلام هذه الغرفة
الجالس بها، ولم ستحتوي حياته القادمة على بصيص من الضوء، فلقد فشل كطفل لا يستطيع
الدفاع عن نفسه، وفشل دراسيًا، وفشل بعلاقتين ليس لهما ثالث، فشل بعمله الذي لا
يعرف عنه شيء منذ أكثر من عامين، فشل كابن ليفتخر به والديه، فشل كأخ، وفشل كإنسان
يستطيع فهم نفسه، لو كان يفهم نفسه ويُلاحظ أفعاله لما وصل لهذه الهوة البائسة من
اليأس اللانهائي!
حاول تجفيف تلك الدموع التي هبطت منه وهو
يحاول أن يجد حل منطقي، لابد من أن يواجه والده، لا يُمكنه رؤيتها تتعذب إلى هذه
الدرجة، عليه أن يُسرع بالأمر وإلا ستصبح أسوأ مما هي عليه.
أخرج هاتفه ليجد أن الوقت تأخر فحاول التقاط
أنفاسه بين تلك الغصة التي تعوق بينه وبين الهواء حتى شعر بالاختناق الهائل ليلعن
حظه، حتى بعض الهواء لا يُمكنه الحصول عليه، ما الذي تبقى في حياته ولم يفشل به؟!
استمع لصوت الجرس الذي تتابع بطريقة غريبة فحاول
أن يبدو متماسك قبل أن يتجه نحو الباب فلابد من أنها هي التي تأتي بهذه الزوبعة
وتريد أن تفتعل أمر ما من جديد حتى تُذكره بكل أفعاله البشعة التي ارتكبها يومًا
ما..
فتح الباب وملامحه المُرهقة تحولت في غضون
ثواني عندما رأى تلك الحالة المتأهبة على وجه رجل من الحراس الذي حدثه لاهثًا:
-
أنا جيت جري عشان ابلغ حضرتك، البيت بيولع..
احنا كلمنا المطافي وزمانهم جايين.
اتسعت عينيه فزعًا من مجرد الفكرة وهو يتمنى
أنها لا تفعل ذلك سوى لتؤلمه وتُسلبه هذا المنزل الذي يُحبه كثيرًا ليس إلا!
خرج بلهفة وهو ينظر نحو المنزل الذي رأى
تصاعد تلك الأدخنة منه وهناك نيران تتقاذف ألسنتها تباعًا من بعض النوافذ ثم شعر
بتثاقل لسانه رعبًا من ذلك السؤال الذي أوشك على النطق به:
-
هي جوا ولا مشيت؟
اجابه الرجل وهو ينطلق نحو الباب:
-
المدام ممشيتش.. بس كل الأمن بتاعها مشي،
احنا اتصلنا بكذا حد منهم كلهم قالو إن آخر حاجة دخلت البيت بعد ما قالتلهم يمشوا!
انقبض قلبه واحتبست أنفاسه لمجرد تخيل ما كان
يُرعبه، لقد فعلتها إذن، هي تريد أن تقتل نفسها بسبب كل ما فعله بها، هذا هو عقابه
الأقسى الذي قررته!
رأى هؤلاء الرجال يحاولن كسر الباب الأمامي
ليصيح بهم:
-
مش هتعرفو تفتحوه، مش هيتكسر..
صياحه لم يكن إلا همس، أو غمغمة، لا يفهم
لماذا صوته يأبى مغادرة حنجرته، ولكن هؤلاء الرجال يضيعون وقتهم!
ذهب سريعًا لغرفة مكتبه، هي الأسهل للوصول
إلى الداخل ولكن تلك النيران يستحيل أن يعبر خلالها على الاطلاق، المنظر يبدو
مروعًا، ولو كانت هي بالداخل لابد من أنها الآن قد احترقت بالكامل! لن يُصدق هذا،
هذه الفكرة مُستحيلة!
اتجه سريعًا نحو الباب الخلفي للمطبخ ولكن
وضع النيران كان أسوأ وكأن هناك مصدر لها غريب يبقيها مشتعلة.. لابد من أن يجد حل
في وسط كل هذا!
عاود أدرجه من جديد نحو البوابة الأمامية ثم
نادى بهم:
-
انتو اغبيا، الباب ده مصفح محدش هيعرف يكسره،
لفو من ناحية باب المكتب!
اتجه معهم لينجحوا في كسر الباب ولكن منظر
تلك النيران كانت مهيبة لدرجة جعلت كل واحد منهم يفكر آلف مرة قبل عرض المساعدة،
أمّا هو فلقد كان الوحيد الذي لم يكترث بإلقاء نفسه بداخل النار لأجلها.. كان على
يقين أنه إن لم يُفلح بإيجادها بالداخل حية، لن يسمح لقدمه بأخذ خطوة واحدة للخارج!
❈-❈-❈
تجمدت الدماء بعروقه وهو يحاول التنفس بملتقى ذراعه
بمنكبه عندما رآها أخيرًا ساقطة بأرض الحمام الملحق بالغرفة ليتوجه نحوها في حالة
من الهلع وهو يحاول أن يتبين ما إن كان هناك نبض وهو يتحـ ــسس عُـ ــنقها بمقدمة أصابعه
ليهدأ قليلًا عندما استشعر نبضًا ضعيفًا يدل على استمرار حياتها ولكنه لو بقيت في
هذه الأدخنة لدقائق قد تختنق بالكامل..
حاول أن يُفكر سريعًا ما الذي عليه فعله فهو لن يستطيع
العودة بين تلك النيران بالأسفل وهو يحملها بذراع واحدة فاتجه سريعًا ليقوم بفتح
النافذة بالحمام ثم تحامل على تلك النيران وهو يحبس آخر ما تبقى من ذرات الهواء
بداخله ليذهب للفراش متمنيًا أن تلك الأغطية لم تحترق بالكامل بعد ثم اتجه عائدًا
للحمام سريعًا وليلقي ما تبقى من الغطاء بأسفل المياه وتمنى أن تصمد قليلًا وألا
تكون فسدت بالكامل فلا يبدو أنها تضررت على الاطلاق ولم تصلها النيران ولكن هذه
الأدخنة الخانقة ستقتلها إن لم يبعدها سريعًا عن هنا..
قام برفعها بصعوبة شديدة فوق كتفه المُصاب بالرغم من آلم
ذراعه التي يُحيطها الجص وتوجه نحو ذلك الغطاء ليجذبه من أسفل المياه ووضعه فوقهما
قدر استطاعته ليحاول العبور من تلك النيران نحو الشرفة ليستعين بابتلال الغطاء إلى
أن نجح في الأمر..
اخفضها أرضًا وحاول افاقتها بلطف بينما لم تستجب له فقام
بالضغط على صـ ـدرها ليشعر بالرعب إن لم ينجح في فعلها بيـ ـد واحدة ليلعن نفسه
وهو يشعر وكأنه مشلول لن يستطيع النجاح على الاطلاق في أي شيء.
جرب محاولة الإنعاش عن طريق التنفس فهذا آخر ما تبقى
ليفعله ولم ير ملامحه التي بدت كملامح رجل يلفظ أنفاسه الأخيرة في الحياة ولكن
بمجرد نوبة السعال التي اصابتها دفعها لتستقر على جانبها الأيسر وسقط جالسًا أرضًا
بمزيج من الراحة والرعب على حد سواء، وحاول التقاط أنفاسه المضطربة وهو ينظر نحو
الأسفل ليرى سيارة المطافئ قد وصلت بالفعل ليشعر بقليل من الاطمئنان.
عاد بمُقلتيه لينظر نحوها ثم همس بها ما لم تسمعه حيث
كانت في حالة في الهلع ولا تستطيع تصديق أنها ما زالت حية إلى الآن:
-
ليه عملتي كده، ليه..
ابتلع وهو يتابعها تنظر نحوه بوجل بينما حاولت التقاط
أنفاسها بينما واجهت صعوبة شديدة في التنفس بشكل طبيعي لينهض بصعوبة وهو يشعر
بإنهاك شديد ثم نادى على سائقه ليعلم الجميع أنهما بالشرفة!
❈-❈-❈
بعد مرور
ثلاث ساعات..
جلس شاردًا ولم يقو على النهوض، لا يريد سوى الغرق في
أعماق ماضي تمنى لو دام معها للأبد، يريد أن يغمض عينيه ليجد نفسه عائدًا لتلك
الأيام التي تقاسمها معها بكل ما فيها، لو يستطيع فعلها يُقسم أنه لن يرفض لها أي
شيء، لو حتى أخبرته أنه رجل مجنون هو يوافق ويرضى، مجرد بشاعة ما آل إليه الحال
أصبح عقله غير قادرًا على تصديقه!
استمع لتلك الطرقات على الباب ليرفع عينه بخمول نحو
الطارق ليجد أنها ممرضة قد آتت من أجل اخباره بما ود الاستماع له أكثر من أي شيء:
-
المدام بقت أحسن، هنستنى بس نتيجة التحاليل، ممكن حضرتك
تتفضل تطمن عليها، هي رجعت الأوضة من شوية.
هز رأسه بعدم اكتراث ثم نهض وهو يتحامل على تلك الآلام
التي تعصف به، لا يدري هل رياحها تهب من داخله أم قدره وضعه في مهبها وعليه أن يقف
متحملًا للنهاية.
طرق الباب وكأنها ستسمح له بالدخول لو عرفت أنه القادم،
يبدو أن ما فعلته كانت رسالة واضحة جلية تُفسر كم أنها على أتم الاستعداد للموت لو
كان هذا هو الاختيار الوحيد المتروك لها لتتخلص من رؤيته.
تفقدها وهي على ذلك الفراش وما زال بجانبها ذلك القناع
من الأكسجين وشُل لسانه غير قادرًا على تكوين كلمة واحدة عندما رآها بتلك الهيئة
أمامه والتي لم يلحظ أن كل ما تبدو عليه هو أفضل بكثير من اصابته بحروق طفيفة
متعددة لم تصب هي بأي منها.
شعرت بوجوده لتُيح بنظرها عنه وهي لا تريد أن يراها بمثل
هذا الضعف الذي دفعها لفعل كل ما فعلته لتحدثه بصوتٍ مبحوح:
-
أخرج، أنا مش عايزة اشوفك ولا أكون معاك في مكان واحد.
تردد لوهلة قبل أن يزيد من سوء أوضاعهما ولكنه لم يعد
يستطيع السيطرة على نفسه أمامه ليعقب بنبرة لم تختلف كثيرًا عن نبرتها:
-
ولا أنا.
التفتت له بأعين مندهشة انعكـ ـس بها رماد هذا الحريق الذي لم يمر عليه الكثير بعد وتابعها بإنهاك اشتد عليه حتى
شعر أنه قارب على فقد اتزانه ولكنه ثبت قدر استطاعته لعلها تُساعده على إيقاف تلك
الدوامة التي تفتعلها كلما التقيا معًا بحديث ولو عابر ونظراتها المستفسرة
باستنكار كانت كافية للغاية أن يفهم ما تريد الوصول إليه من تحديقها المستمر به:
-
مين قالك إني عايز أكون معاكي، طول السنة اللي فاتت إيه
اللي عملته يثبتلك إني قاصد كل اللي حصلنا ده، أنتِ عارفة كويس لو عايز أكون معاكي
في مكان واحد مكونتش استنيت كل ده من غيرك.
اغمضت عينيها بإرهاق وكأن ما يؤلمها به سيدوم للأبد، هل
هذا قدرها بأن تتحمله، تنظر له بهيئته تلك ومن المفترض عليها أن تشفق عليه من
جديد، أم تكافئه بأنه أنقذها بما لم ترد أن تُنقذ منه، ما الذي يتبقى حدوثه حتى
يُدرك أن تنفسه نفس الهواء الذي تتنفسه هي يجعلها تُصاب بالقهر لمجرد فكرة
تشاركهما أي شيء ولو كان بعض من ذرات لا تُرى لازمة للبقاء على قيد الحياة!
-
وجودك جنبي وقدامي بيؤذيني مش بيخليني أحسن، زي ما كل ما
بتشوفيني بتفتكري كل حاجة.. احنا الاتنين وجودنا مع بعض بقا لعنة لينا!
فتحت عينيها ترمقه بنظرة مطولة مليئة بالكثير من الكلمات
التي لن يُمكنها صوغها في حديث طويل لأيام ليشعر باليأس الهائل تجاهها فهز كتفيه
بهوانٍ وتكلم بصوتٍ تحشرج بخزيه:
-
أنا معملتلكيش حاجة، من يوم ما طلقتك وأنا بحاول على قد
ما أقدر ماجيش جنبك..
ملامحها الساخرة جعلته يُسارع بحديثه بالرغم من هذا الإرهاق
الذي يضرب بسائر جسـ ـده وعدم قُدرته على الحديث:
-
أي حاجة حصلت من ساعة ما شوفتك يوم الخطوبة صدقيني مكنتش عارف اسيطر على
نفسي ولولا إنك أنتِ اللي ودتيني المستشفى يمكن كنت عملت اكتر من كده، أنتِ فاهمة
ده أكتر من أي حد تاني.
كلماته دفعت فمها للالتواء بسخرية وهي تتذكر ما يتحدث عنه بصحبة نوبة هوسه بالسابق،
بالطبع هي تعرف أكثر من أي شخص كيف يبدو وكيف يتصرف، بل وكيف تتعامل معه، وبعد كل
هذا يكون تقديرًا لمساعدتها له عذاب دام لأيام فُجعت عندما أدركت مقدارها لاحقًا!
-
لغاية امتى هتكملي في اللي أنتِ بتعمليه ده.. عايزة ايه وانا هاعمله.. أنا
مقولتلكيش لأ على حاجة من يوم ما اضطريت أنا وأنتِ نتجوز تاني.. وصدقيني هطلقك،
ولو محصلش أنتِ بنفسك تقدري تخلص من جوازنا ده.. في إيه ممكن يخليكي مطمنة وأنا اعمله؟
-
اطمن!!
كررت كلمته باستهزاء ونظرت له وهي لا تدري ما الإجابة على سؤاله فهي قد نست
ما معنى الطمأنينة ولم تعد تذكر كيف هذا الشعور ولا ما الذي يفعله بالبشر، لأول
مرة تدفعها كلماته للندم الشديد على أمر ظنت أنه روتين يومي واقعي، واليوم يبدو
هذا كحلم بعيد المنال!
-
أنا عارف أنا عملت معاكي إيه، وصدقيني استاهل كل ده وأكتر كمان، بس أنا
مبقتش قادر على عمايلك دي، كل ما بحاول إني الاقي طريقة نخرج من اللي احنا فيه
بقيتي بتأخريني.. أرجوكِ استحملي بس كام شهر وأنا هاخلصك من كل ده!
لا تدري هل عليها أن تضحك أم تبكي صارخة بسبب كلماته، أيطالبها بالصبر على
أخطائه؟ أم يُطالبها بتحمل المزيد من المعاناة التي تندفع بها تلقائيًا عندما
تراه؟!
-
مش قادر تستحمل كام يوم، أنا استحملت سنة بحالها، غير إني لسه متجننتش من
اللي عملته فيا.. اجمد كده شوية ولا تحب اعلمك!
حدثته باستهزاء ليزفر بحرقة وهو لم يعد قادرًا على مواكبتها فيما تفعله ليتحـ
ـسس طريقه حتى المقعد قبل أن يسقط فاقد لوعيه ثم نظر لها مطنبًا بمشقة لعله يعقد
اتفاق بالهدنة معها لو استطاع اقناعها:
-
أنتِ أحسن مني في كل حاجة، أنتِ العاقلة وأنا المجنون وأنتِ المظلومة وأنا
الظالم.. بس كل اللي بتعمليه ده هيوصلك في الآخر إنك تموتي نفسك.. صدقيني أنا
مستاهلش إنك تموتي عشاني.. أنتِ لسه قدامك حياة طويلة مستنياكي في شغلك وأهلك اللي
بيحبوكي وبكرة تعرفي انسان غيري وتتجوزيه وأكيد أي حد في الدنيا هيكون أحسن مني.. اللي
بتعمليه دي زي ما بيؤذيني أنتِ كمان بتوجعي نفسك بيه.. أنتِ ازاي فكرتي تدمري نفسك
وتوصلي للي أنتِ وصلتيله ده.. سُكر وأدوية وفي الآخر انتحار.. ليه كل ده؟ مفيش أي
حاجة تستاهل إنك تعملي كده في نفسك عشانها!
اندهشت من كلماته، كالعادة لا يتوانى هذا المحامي الشهير عن محاولاته وحيله
في اقناع من أمامه بما يُريده، وكأنه بات مُبرمج على هذا منذ نعومة اظافره، لا
تدري على أي سؤال تقوم بالإجابة أولًا، ولا حتى تستطيع الهروب من هذه المناقشات
التي تذكرتها بماضي جمعهما وهو يحاول اقناعها بما لا يقبله عقل، يتظاهر بالطبع أنه
المُخطئ الآن ولا تستبعد بعد لحظة واحدة أن تُصبح هي الجانية وهو المجني عليه.
حاولت انتقاء كلماتها لتتحلى بالصلابة أمامه كما تعلمت من هذا الخبيث لتلفظ
كلماتها المقتضبة وهي تشيح بنظرها عنه:
-
ومين قالك إن ده عشانك؟
قلب عينيه بنفاذ صبر ليتحدث بحدة:
-
بصي، كدبك عليا مش هاينفعك ولا هينفعني، لما تحاولي تكدبي اكدبي على واحد
ميعرفكيش!
التفتت له لتكلمه بتهكم وازدادت حدة نبرتها:
-
وأنت بجد مصدق إني يا عيني زعلانة عليك وبموت نفسي عشانك! لا أنا مش عمر
الجندي اللي كل شوية ينتحر
كلماتها كادت أن تصيبه بالانفجار الوشيك وتحول كل ارهاقه وآلمه لحالة من
الغضب ليحذرها قائلًا ببرود ذكرها بالكثير من ملامح رجل لا تمقت بحياتها أكثر منه:
-
طيب ادي الظروف حكمت إنك تقعدي من غير موبايل ومن غير الأمن بتاعك ومن غير
أهلك ومن غير الدُنيا كُلها.. أنتِ مبقاش قدامك غير حل واحد، يا تهدي وتعقلي لغاية
ما نتطلق، يا تتعدلي وتسمعي كلامي لغاية ما نتطلق..
-
أنت بتكلمني أنا كده!
اشارت بسبابتها بغطرسة نحوه وهي تشتعل بالغضب ولكن مجرد رؤية ملامحه تلك
اصابتها بالفزع ليريح ظهره بمقعده وهو يشيح بنظره عنها مرغمًا على فعل الأمر:
-
ما دام الذوق منفعش معاكي يبقا ده الحل الوحيد واعتقد إني حاولت اتفاهم
معاكي بدل المرة مليون وانتِ اللي رفضتي!
تأهبت بجلستها ونبضات قلبها تتصاعد تلقائيًا بداخلها لتترك هذا الفراش
واتجهت نحو الباب لينهض مرغمًا على الإمساك بها من ذراعها قبل أن تخرج لتتفقده
بارتباك بأنفاس توترت من اقترابه الذي يصيبها بالرعب ليتشدق بنفاذ صبر:
-
لو فكرتِ تاخدي خطوة واحدة بس برا الباب ده أنا معنديش أي مشكلة افكرك مين
عمر الجندي من أول وجديد!
يتبع..
إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة بتول طه لا تنسى قراءة روايات و قصص أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية