-->

رواية جديدة كما يحلو لها لبتول طه الفصل 32 بالعامية

    رواية كما يحلو لها

الجزء الثالث من رواية كما يحلو لي بقلم بتول طه

رواية جديدة كما يحلو لها

تنشر حصريًا على المدونة قبل أي منصة أخرى

من قصص وروايات

الكاتبة بتول طه

الفصل الثاني والثلاثون

النسخة العامية 


ناول الهاتف إلى "محمود" سائقه بعد أن انتهى من اجراء بعض المكالمات منه وترتيب خطته لليوم بالذهاب إلى "مريم" ثم والده واستلام هاتفه الجديد بدلا من ذلك الذي دمرته هي ومسح على وجهه وهو يزفر بإرهاق، حياته بهذه الأيام باتت غريبة لا يُمكن لأحد أن يتحملها، لا يعرف متى وكيف سوف ينتهي هذا الكابوس الذي أصبح يُعايشه وكأنه واقع.. لا يستطيع تصديق آخر عامان من حياته، وكلما تشبث بأنن هناك أمل جديد له يجد السخرية تسيطر على كل أفكاره، فلا التظاهر سيُفيد ولم يعد هناك سوى البؤس كحل واقعي، هذا نتيجة كل أفعاله، وحتى الموت لن يُشكل نهاية حقيقية لكل هذا!

 

نهض باستياء وهو لا يدري كيف ستعامل مع تلك القنبلة الموقوتة بالداخل، تبدو وكأنها لن تتوقف أبدًا عن تلك التصرفات ولكن لابد من أن تتعقل نوعًا ما قبل أن يُصرع واحد منهما بكل ما تفعله، ولو حدث، لن يصل أحدًا منهما لنهاية قد تريحه..

 

-       أنت تخليك هنا متجيش ورايا.. مش ناقصين مشاكل معاها!

 

تحدث إلى "أوفيد" بنبرة مُحذرة ثم التفت ليأخذ خطوتين وباغته بتوقف والتفات مفاجئ ليجده يتبعه ليحدثه بمزيد من الجدية زاجرًا إياه:

-       قولت تخليك هنا، ولا لازم اكرر كلمتي مليون مرة!

 

رأى الحزن جليًا في عينيه ليشعر "عمر" بالاستياء قليلًا فهو يعرف أنه لا يقضي معهما وقتًا طويلًا، ربما قد تغير نوعًا ما بسبب اقتراح "مريم" له ولكن كلاهما مسئولية لا يدري متى سيتفرغ لهما ولا أين له بالوقت لقضائه مع كلاهما!

 

توجه نحو الداخل وبحث عنها بعينيه بينما لم يجدها بصالة الاستقبال ولا المطبخ فتوجه نحو الأعلى ولكنه توقف عندما استمع لبعض الأصوات بغرفة المكتب فعاود أدراجه وتوجه ليرى ماذا تخفي له بقائمة الجنون لليوم فوجد الباب ليس مغلق فدخل بهدوء ليتفقد ما الذي تفعله وبمجرد رؤية ما تُمسكه بيديها توسعت عينيه واتجه نحوها ليجذب ذلك الدفتر منها لتفزع لوهلة من وجوده فلقد ظنت أنها بمفردها بالغرفة بأكملها!

 

ابتعدت وهي تتابع ما يفعله حيث أمسك بدفترين مماثلين لما جذبه منها من فوق سطح مكتبه استمعت لكلماته المُحذرة:

-       حاجتي متجيش جانبها زي ما بجيش جنب حاجتك!

 

عقدت ذراعيها وهي لأول مرة تراه مهتم للغاية بهذه الطريقة الغريبة لشيء ما ليزداد استغرابها بداخلها أكثر، هل ما يوجد في هذه الدفاتر المبهمة مهم للغاية أم أنها نجحت في تلقينه درس قاسيًا بكل ما يملكه، ستكتشف هذا الآن!

 

-       غريبة، ما أنت كنت بتفتح شنطتي وبتاخد حاجتي.. ايه المشكلة لما امـ ـسك حاجتك..

 

زفر بضيق وهو يتجنب النظر نحوها وحاول أن يُكلمها بهدوء حتى لا يتحول هدفه من مجرد ابلاغها بأمر ما لشجار عنيف فيكفي ما تعرضت له منذ قليل على يـ ـديه ليعقب باقتضاب:

-       أنا مبقتش بلـ ـمس حاجة تخصك!  

 

أطلقت زفرة ترددت بها صوت سخرية واضح لتنتقل بعيدًا بخطوات قليلة تجاه تلك الكتب المرصوصة بداخل مكتبة عملاقة، يا له من لعين، من أين له الوقت بقراءة كل هذا؟

 

قررت أن تستفيد بالمزيد من تلك القدرة على اغضابه ثم حدثته وهي تتفقد تلك الكُتب بعينيها وتوجهت نحو رف جديد تظن أنه لم يكن متواجدًا بالسابق فذلك الجزء كان فارغ من الكتب بالسابق:

-       ما أنا زمان كنت بحترمك وأنت مقدرتش، اعتقد إن ده حقي زي ما كنت شايفه حقك..

 

استمعت لرده المقتضب:

-       اديكي قولتي زمان.

 

تابعت عينيها ما تتفقده ثم بدأت في القراءة بصوتٍ عال:

-       عقل غير هادئ، ممسوس بالنار، ظلمة تتهاوى، روبرت لويل حوار مع كاي ريدفيلد جايمسون، Manic-Depressive Illness: Bipolar Disorders and Recurrent Depression، Exuberance: The Passion for Life، لا ده كلهم لنفس الكاتبة.. ده أنت اقتنعت فعلًا!

 

اقتربت لتتفقد ما يقبع أسفل هذا الرف لتجد كتب أخرى تتحدث عن اضطراب ثنائي القطب ولكن لأكثر من كاتب أو كاتبة مُرتبة بالترتيب الابجدي لتسخر مما تراه وأخذت يدها تخرج تلك الكتب لتُفقدها ترتيبها والتفتت نحوه لتتفقده باستهزاء ثم أخبرته:

-       النظام طبعًا أهم حاجة العربي الأول بالترتيب الأبجدي وبعدين الإنجليزي.. لو حطيت الكتب من غير ترتيب ممكن تجري من المكتبة بليل!

 

هزت رأسها باستنكار وهي تتوجه نحو الخارج ولكنها لم تغفل عن أنه لم يمنعها سوى من تفقد تلك الدفاتر، لابد من أن بها شيء ما هام للغاية، عليها أن تحصل عليها بأي طريقة كانت لتقرأ ما الذي يخفيه عنها.. فيكفي أن ما كان يُخفيه بالسابق كان يستحق حكم الإعدام عليه!

 

اتجهت نحو المطبخ لتصنع بعض القهوة بينما حاول استلزام بعض الهدوء وهو يتنفس أنفاس عميقة بانتظام ثم يزفرها بنفس الطريقة لكي لا يسمح لها باستفزازه وتوجه حيث ذهبت ليخبرها بما آتى من أجله ليتوقف في منتصف طريقه نحو تلك الباقة التي أُرسلت لها ووجد البطاقة التي آتت معها بجانب الزهرية بينما وجد تلك الورقة التي كتبها قد تبعثرت لأشلاء على الأرضية أسفلها ليشعر بالغضب ولكنه سرعان ما تراجع، ما الذي يتوقعه؟ عدة كلمات كُتبت بخط يده نقلًا عن شاعر مات منذ حوالي ألفي عام ستصلح كل هذا الدمار بينهما؟!

 

أكمل طريقه ثم توقف وهو يُكلمها بصوت مسموع ليتحدث بنبرة إخبارية بحتة:

-       أنا رايح لمريم وبعدها لبابا وبعدين هعدي على الشركة، حابة تروحي تجيبي هدوم أو تزوري مامتك وتحكيلهم على اللي حصل امبارح أو تجيبي خط جديد بدل اللي اتسرق؟

 

سكبت تلك القهوة وامسكت بالكوب ثم التفت نحوه فوجدته لا ينظر لها فهمست بسخرية:

-       مريم!

 

تابعته بعينيها وهي ترى ملامحه تتحول للانزعاج فتابعت بمزيد من تلك النبرة التي باتت تقتله:

-       لا روح انت اتعالج وشوف بابا عشان ميحرمكش من المصروف ومالكش دعوة بيا، أنا هاعرف اتصرف في كل حاجة!

 

مسح على لحيته وهو يحاول أن يكظم غيظه ليتكلم بنبرة مُحذرة:

-       اسلوبك ده مش هاينفع، لا هينفع معايا ولا هينفعك، صدقيني مش هافضل احذرك كتير!

 

همهمت بنفس سخريتها وكأنها تُفكر في شيء ما لتقول باستفسار مستنكر:

-       اوه، ويا ترى إيه اللي هيحصل، هتجبلي تمساح المرادي؟

 

رفع عينيه نحوها بنظراتٍ لوهلة جعلتها تتوتر ولكنها لن تسمح قط لنفسها بمزيد من الخوف أمامه لتهمس:

-       تصدق خوفت!

 

لا يدري إلى أين اتجهت يده التي لا تحمل الدفاتر حيث ارتطمت بشيء ما زجاجي تهشم أرضًا عوضًا عن الذهاب نحوها بصفعة ستعيد تهيئة عقلها بالكامل ليجدها ترتبك بوقفتها وقد تحرك كتفيها على إثر صوت هذا التهشيم ليتوجه مقتربًا منها بلهاث غضبه ليتكلم بهدوئه اللعين المعتاد وكأنه لا يشتعل بداخله:

-       افتكري إني كنت بتكلم معاكي باحترام وبهدوء بس واضح إن مينفعش معاكي غير الاجبار، اشربي الزفت اللي في ايديك واجهزي عشان هنمشي كمان ساعة!

 

حاولت الثبات أمام ملامحه المُفزعة بالرغم من تلك الضربات التي تتصاعد بجنون خلف قفصها الصـ ــدري:

-       مش جديد عليك الكدب، افتكر كده منظرك من كام يوم وأنت مش قادر تبص في عينيا وبتقول هتعمل كل اللي أقول عليه

-       بس مفيش حد عاقل يولع في البيت وفي نسفه واسيبه يعمل كل اللي يقول عليه

 

اندهشت من رده لتجادله بالمزيد:

-       وهو أنا كنت بعمل ليه اللي تقول عليه وأنت كنت قربت تولع في البيت وترمي نفسك وتطلع تقف قدام الناس عر يان؟!

-       عشان أنتِ مش زيي، أنتِ مش متزفته عندك اللي عندي، مبقاش حاسس أنا بعمل ايه ولا بتصرف ازاي.. خلاص وصلنا للي أنتِ كنتي عايزاه من بدري أوي، أنا خلاص مقتنع إني مجنون.. مقتنع إني عندي مشاكل في فهم كل حاجة واللي حواليا وحتى في إني افهم نفسي.. فجأة خلاص بقيتي زيي!

 

تصاعدت أنفاسها من شدة هذا التوتر الذي سيطر عليها عندما وجدته يصرخ غاضبًا بمثل هذه الطريقة ولكنها لم تستطع أن تصمت فلقد سكتت كثيرًا وندمت أشد الندم بعدها لتصيح به:

-       لأ مش فجأة بقيت زيك، بعد عذاب يجي شهر وجواز زي الزفت وكل اللي شوفته معاك ده ميخلنيش اتجنن؟ على الأقل أنت محدش عمل فيك ربع اللي عملته فيا، لو هتقارن نفسك بيا ابقا قارن صح..

 

اقترب منها بغتة وهو يشعر أنه قارب على الانفار ليتساقط منها الكوب لتزداد خوفًا مما يحدث وهو يُمسك بذ راعها بتلقائية ولم يلحظ ما يفعله من شدة غضبه من كلماتها ثم هتف بها بنفس هذا الهدوء المخيف الذي لطالما ارعبها بالماضي وهو يُشدد على نطقه لكلماته:

-       لو اتجننتي بسببي هتعقلي بسببي.. ومن هنا ورايح مبقاش قدامك غير إنك تتصرفي كويس يا إما هتشوفي مني وش عمرك ما شوفتيه لا دلوقتي ولا زمان!

 

ارتفعت أنفاسها ليشعر بتلك الرجفة التي تسيطر عليها ليخفض سريعًا من يـ ـده التي تُمـ ـسك بذراعها لتبتعد بعينيها عن تلك النظرات المفزعة التي تنهمر من مقلتيه السوداويتين فوجدته يُمسك بتلك الدفاتر بيـ ـده الأخرى لتجذب واحد منهما وهي تفاجئه بتصرفها وفي نفس الوقت ابتعدت عنه ولكنه أوقفها بعد أن تبعها وهي تهرول بعيدًا عنه ليجـ ـذبها من خصـ ـرها قبل أن تفلت بما حصلت عليه وترى ما كتبه فبالطبع ستُلحق هذه التفاصيل بمزيد من سخريتها وهي تستخدم كل الطرق المتاحة حتى تجعل حياته أسوأ لترتطم به فحاوطها لكي يحاول اقتلاع الدفتر من يديها لتتحدث متسائلة وهي تنازعه:

-       ايه المهم اوي كده ومش عايزني أشوفه؟ معملتش ليه معايا كده وأنا بشوف باقي كتبك؟

 

نجحت في فتح الدفتر وهو يحاول بشتى الطرق ألا يفعل ما يؤلمها به ولكن لم يعد لديه حل سوى العنف معها ليد فعها لأقرب جدار بينما هي تقرأ أولى ما وقعت عينيها عليه:

-       أعرف أن الخطأ بأكمله يكمن في..

 

تأوهت بشدة عندما ارتطمت بهذا الجدار وهو يُرغمها بقوة على الالتفات لكيلا يتضرر وجهها وقام بعقد قبضته على يـ ـدها ليزداد صياحها في توجع ثم انتشل الدفتر منها وهو يلهث بغضب ليشعر بأنه قارب على فقد عقله من تصرفاتها:

-       أنتِ بجد عايزة ايه؟ عايزة إيه بحركاتك دي؟

-       أنت اللي عايز إيه؟

 

نظرت له ولهاثها لا يختلف عن لهاثه شيء سوى بمقدار الخوف الذي يصيبها لاقترابه منها ولكن بنفس مقدار الغضب الشديد الذي أصابه ليجيبها بتلقائية:

-       عايز أحس إني بتعامل مع إنسانة طبيعية

-       ما أنا كان نفسي في كده سنة بحالها واستحملت، إيه الغريب يعني، ولا هو صح ليك وغلط ليا؟

 

خلل شعره بعصبية شديدة ليتحدث في النهاية بين أسنانه المُطبقة بعد عدم نجاحه في إيجاد رد منطقي لتقتنع هي به بعد كل ما نطق به مرارًا لها:

-       لو متعدلتيش صدقيني كل اللي فات ده هيبقا ولا حاجة.. قدامك ساعة والاقيكي جاهزة!

 

اتجه وتركها ممسكً بالثلاثة دفاتر نحو المطبخ لتجده يُمسك بأدوات التنظيف لتبتسم بداخلها، يا له من إنجاز، هي من تُفسد كل شيء وهو يُدرك تمامًا أنه عليه إصلاحه، لن تُريه النوم وستجعله يتمنى ولو دقيقة من راحة دون أن تُصيبه بالمزيد، لن تتوقف حتى يُصبح كل ما ينطقه توسل خالص بأن تكف عن افعالها حتى ولو بدت في البداية أمر تافه!

--

بعد مرور ساعة..

أخذ تلك الخطوات للأسفل بعد أن اغتسل وبدل ملابسه لأخرى ليراها جالسة تطالع شيء ما بهاتفها الجديد ليدرك أنها بالطبع قد اعادت تهيئة جهاز الانترنت لتحصل على كلمة المرور، كيف لم يُفكر بمجال عملها واهتمامها قبل أن يتزوجها؟ ليته اكترث للأمر في البداية!

 

-       مغيرتيش هدومك ليه؟

 

لم تُعره اهتمام يُذكر وظلت مُسلطة تركيزها على استعادة كل شيء بهاتفها ليزفر بإرهاق واتجه نحوها فرفعت عينيها نحوه باحتراس لتجده لا ينظر لها مباشرة ثم حاولت الابتعاد لتنهض من مقعدها ولكنه لن يقبل بالمزيد مما تفعله إن لم تستيقظ من ذلك الكابوس اللعين سيترك كل شيء ليجعلها تتفهم ما تفسد به حياتها..

 

قام بحملها مباشرة لتصرخ وهي تحاول التخلص منه:

-       أنت يا متخلف ابعد عني

 

تنهد ثم عقب على كلماتها وهو يحاول أن يسيطر على محاولات إفلاتها منه:

-       أنا ولا كنت باجي جنبك ولا ببصلك بس واضح إن مش عاجبك!

 

اخفضها بداخل غرفة الملابس حيث أعد كل ما بالغرفة منذ قليل بدلًا من ذلك الدمار الذي كان يلحق بها منذ قليل ليجدها متوترة للغاية وهي تنظر له بغضب وقبل أن تبادر بكلمات يعرف أنها ستستفزه وتصيبه بمزيد من الغضب وهو لتوه أخذ قرار لا يدري كيف ستكون نتائجه عليه وعليها وبالكاد هيء نفسه لفعله:

-       يا ترى هتغيري هدومك بنفسك ولا عايزة مساعدة!

 

نظر إليها نظرات جادة محذرة وكلاهما يدرك أنه لا يمزح بشأن ما يفعله ثم رمق ساعته بغطرسة وهو يراقب الثواني التي تمر وعندما لمحها تتأهب لتتحدث قاطع محاولتها ليقول:

-       هم عشر ثواني مفيش غيرهم.. اخلصي!

 

ارتفعت أنفاسها لتصرخ به:

-       مش رايحة معاك في حتة ولا طايقة أشوف وشك ده، ولو قربت مني صدقني هتعرف يعني ايه تصرفات واحدة مجنونة بجد!

 

لا يُنكر أنه ارتبك بداخله ولكنه تماسك وأكمل ما يفعله وبمجرد انقضاء الثواني قام بغلق الباب ورفع عينيه نحوها ثم اقترب لتبتعد هي ليتنهد بنفاذ صبر وقال بعدم اكتراث:

-       كملي، انتِ هتجري وهجري وراكي في البيت ومش هنخلص، وفي الآخر هيحصل اللي أنا عايزه..

-       ولا عمري هسمحلك تقرب مني.. ولو مبعدتش ده آخر تحذير هديهولك!

 

تابعها ليقوم بد فعها للتوقف بركن بالغرفة حتى يلحق بها عندما تأخذ أي خطوة من جديد ثم تفوه محذرًا:

-       لآخر مرة بقولك، هتغيري هدومك ولا اغيرهالك بنفسي وبالعافية؟

 

ذلك المزيج من الخوف وشعورها بالاختناق من نفس طريقته التي لطالما اتبعها بالسابق معها وكونها بمفردها معه مشوشة لا تعرف ما خطوتها القادمة وهذا العبء الذي يتثاقل بمرور كل ثانية بداية من عقلها حتى أنفاسها التي تلتقطها أصبح يصيبها بالغضب منه والكراهية المُطلقة لنفسها لتحدثه بتشفي وهي تلقي على مسامعه ما تعرف أنه سيصيبه بالألم:

-         وهو أنت متعرفش تعمل كده غير معايا، العافية بتكون معايا أنا بس، مكنتش ليه مع واحدة خانتك بجد، ولا مع بابا اللي غصب عليك طول حياتك تعمل كل حاجة مبتحبهاش، ولا ماما اللي سايباك ومبتسألش فيك طول عمرها، هتعرف تجبرني اغير هدومي واسمع كلامك إنما مش هتعرف تدافع عن نفسك قدام واحد غريب مسكك ضربك وكل اللي عملته قعدت تعيط في المستشفى لواحدك تلت شهور، متعرفش تتحكم في نفسك قدام أي ضغط وتروح تنتحر، مش عارف تقبل إن مفيش حد في الدنيا دي بيحبك ولا طايق يعرفك سواء أهلك ولا اللي كانت مراتك ولا أي حد يعرفك.. العافية مبتنفعش غير معايا أنا وبس مش كده؟!

 

احتبست أنفاسه وملامحه تتحول أمام عينيها لتختفي جميع الألوان الدالة على بقاءه على الحياة لتشعر بانتصارها الشديد لتتشفى بالمزيد:

-       أنت كل اعتراضك كان إني بعمل تصرفات، اديني معملتش أي حاجة من الصبح، كل اللي بطالب بيه هو حقي فاللي أنا عايزة اعمله من غير ما تخنقني وأحس اني مسجونة زي زمان، من غير ما احس إني مُجبرة على كل اللي أنا عايشة فيه بسببك، فميجيش واحد فاشل زيك في حياته وفي علاقاته بكل الناس ويقولي اعمل ايه ومعملش ايه، ولا تيجي وتعمل فيها واحد منظم اوي وبيحافظ على مواعيده وفجأة عايز يروح يتعالج لأ وكمان اروح معاه.. اللي أنت عملته فيا مكنش سهل، وأنا وأنت فاهمين ده كويس.. فمالكش أي حق تمثل فيها دور المنقذ وإنك خايف عليا ولا تقنعني إنك اتغيرت.. ابقى روح الأول شوف حياتك ونفسك بعيد عني وبعدين ابقى تعالى حاسبني مع إن ده مش من حقك!

 

 نظر لتلك الثورة التي تتحكم بها وبلهاثها وغضبها الشديد وتلك الكلمات التي نطقت بها دُفعة واحدة جعلته يضطرب بشدة، تعرف أنها وضعت يدها على أكثر ما يؤلمه بحياته، التصرف الطبيعي هم الانفجار غضبًا بوجهها، ولكن لو فعلها لا يستبعد ما حدث لها صباح اليوم وهو يحاول أن يجعلا تستفيق من تلك الحالة التي أضرت بها، لو لم يتعقل الآن في مزاجه القريب من الاستقرار متى سيفعل؟ خصوصًا وأنه لا يضمن أن يسوء مزاجه في المستقبل ليفعل ما لا يُحمد عقباه!

 

اقترب منها لتنكمش هي من اقترابه ثم حدثته مستفسرة باستنكار:

-       إيه، مش مكفيك اللي سمعته؟ تحب اسمعك اكتر من كده!

 

بدأ في محاولة ابدال ملابسها لتنازعه بيـ ـديها على أن يتوقف حتى تمنعه مما يفعله واختار ألا يتفقد ملامحها لكي لا يصاب بمزيد من هذا الألم الذي لا يرأف به وبالرغم من اختياره هذا الاتجاه المتعقل لم تمر كلماتها مرور الكرام على رأسه ليجد نفسه مختنقًا بكل ما تحدثت به فحدثها باقتضاب:

-       أنا مكنتش بهزر

 

لاحظ خفوت نبرته واختناقها باندفاع تلك العبرات المكتومة التي حالت بين مقلتيه وبين رؤيته فحاول أن يسيطر على نفسه فهو لن يسمح لنفسه بأن يبكي أمامها لتتفقده هي وألحقت به المزيد:

-       يااه، عمر الجندي هيعيط من كلمتين، تصدق مبسوطة اوي بنفسي..

 

كظم غيظه وهو يطبق فكي أسنانه بعنف وحاول منع نفسه من الاستجابة لأي مما تقوله أو قالته ليقوم بتمزيق جزء من ملابـ ـسها في وسط هذا الصراع بينهما لتفزعه بما يتمنى نسيانه للأبد:

-       كمل، كمل كمان، ما أنت عملتها قبل كده، شهر ونص بحاله كنت بتغـ ـتصبني فيهم، هدومي بتتقطع وممكن عادي زي الحيوانات الاقي نفسي برا تقوم مقرب مني وتصمم تعمل اللي بتعمله، ولا حتى وأنا نايمة.. مش أول مرة تعملها، وبعدين فجأة كده بقا عندك استعداد تقرب مني وتلــمـ ــسني بعد ما كنت محرم على نفسك تعملها، تحب اجيبلك جوانتي جديد، ولا تـ

-       أرجوكِ كفاية بقا!

 

صرخ بغضب شديد ثم رفع عينيه نحوها ليجد امارات الرعب واضحة على ملامحها لتتثبت في مكانها وهي ترى تلك العبرات المكتومة بعينيه ثم تابع بلهاث:

-       أنا لغاية النهاردة مكونتش عارف أنا بعمل ايه ولا فاكر حاجة غير مواقف قليلة ولولا الكاميرات اللي في البيت مكونتش هاكتشف اللي حصل، أنا عارف إن أنا السبب بس أرجوكِ كفاية، أنا فاكر كل حاجة من غير ما تفكريني.. كفاية، اللي أنتِ بتعمليه ده هيبقا صعب عليكي قبل ما يكون صعب عليا، اعقلي وغيري هدومك وأرجوكِ متخلنيش اغصبك على حاجة، أنا وأنتِ عارفين كويس إن هقدر اعملها!

 

ابتلعت وعينيها تتشفى بملامحه وتوسله الذي استمعت له بأذنيها كان كنغمات رائعة لم تستمع لما يُضاهيه لذة في حياتها لتهدأ قليلًا وهي ترى ما أصبح عليه ولكن لمفاجئتها لم تر سوى نفسها وهي تمر بنفس ما يمر به الآن كما حدث لها بالسابق معه، كانت تتوسل وتبكي لعله يكف عما يفعله ولكنه لم يستجب وقتها قط!

 

-       اطلع استناني برا وأنا البس واجي معاك.. وبعد كده لما تطلب مني حاجة ابقا اطلبها بأدب واحترام، مش بالعافية.. واوعى تتخيل إنك لما تغـ ـصبني على حاجة هاسمع كلامك، كان زمان، افتكر الكلمة دي كويس!

--

 

وقفت السيارة أمام نفس ذلك المبنى الذي بمجرد الاقتراب منه جعل الكثير من الماضي يتحول لواقع أمام عينيها، كم من مرة آتت إلى هنا كالهاربة فقط لتجد ما يساعدها معه؟ كم من مرة بدت كلصة تفعل أمر مشين لتحاول فهمه ولو قليلًا؟ كم من مرة كان يتجدد بداخلها أمل أنه قد يستجيب ليوم من الأيام لكل ما تستمع له في جلسة بصحبة "مريم" وتظن أنها ستقنعه حتى ولو فعل الأمر لأجلها؟! لقد كانت غبية، كيف لها أن تُصدق أن العشق يصنع المعجزات!

 

الأمر الوحيد الذي كان محق به هو أن العشق يدفع المرء لكل ما لا يؤمن به، لو قتل نفسه بالسابق من أجل عشقه لها عندما اكتشف فداحة ما يفعله فلقد فعلت هي الكثير من أجل عشق ظنت أنه سيدوم يومًا ما!

 

-       محمود، انزل من العربية شوية!

 

اتجه السائق للخارج ليلمح شرودها وكأنها لم تستمع لصوته المتحدث على الإطلاق فتابعها ليجد حزن مقيم لا يريد التخلي عن وجهها الذب لا يستحق أن يبدو هكذا ليلعن نفسه على كل ما وصلا إليه وأخذ يُتابعها حتى وجدها تبكي وكأنها في حالة عدم وعي بما يجري حولها ليكلمها بنبرة مُنبهة:

-       انزلي من العربية

 

لم تستمع حقًا لما قاله وهي غارقة بتلك الدوامة من حياة بأكملها بينما نبهها مرة أخرى بنبرة محذرة:

-       مسمعتنيش ولا اكرر كلامي تاني، انزلي من العربية!

 

ارتفعت أناملها سريعًا لتجفف عبراتها ثم انتبهت على صوته وهي تكرر كلماته بغمغمة غير واضحة:

-       انزل من العربية

 

تعجبت مما يُطالبها به ثم تحدثت له بتحفز:

-       أنا مش هاروح في حتة، عايز تنزل أنت انزل، ولا مش مكفيك إني أفضل مسجونة هنا مع السواق بتاعك لغاية ما حضرتك تخلص مواعيدك!

 

زفر بضيق وهو يتابعها عبر المرآة الجانبية للسيارة ثم تكلم مستفهمًا بهدوء:

-       هتنزلي تجري مني في الشارع وهتبقا خناقة والناس تتفرج علينا، ولا هتنزلي بهدوء من غير مشاكل عشان نخلص من اللي ورانا؟

 

استغربت من صوغه للأمر بهذه الطريقة لترد مجيبة:

-       نخلص واللي ورانا، أنت لسه مش مُتخيل إن مبقاش فيه حاجة تجمعنا غير شوية حبر على ورق.. ولا آه أنت بتصدق أي حاجة مكتوبة في الكتب معلش، نسيت إني بكلم واحد مش هيفهم كلامي..

 

زفرت بإرهاق ثم تابعت:

-       انزل أنت وأنا هستنى مع محمود.. مش هاطلع معاك!

 

عقب باقتضاب مسرعًا:

-       تمام!

 

وقف بجانب السيارة وعينيه تبحث عن سائقه ثم ناداه:

-       تعالى يا محمود أقف هنا جنب الباب اللي ورا ده ومتتحركش من هناك..

 

تعجب من مطالبته بهذا ولكنه بات مؤخرًا يفعل أشياء غريبة ولطالما كان يفعل منذ أن بدأ عمله معه منذ أعوام ليتجه حيث الباب الخلفي للسيارة من جهة الشارع هذه ليست مرته الأولى على كل حال وبمجرد تأكد "عمر" من أنه قد وقف حيث أراد قام بفتح الباب الخلفي ليجذبها من ذ راعها مرغمًا إياها على الاتجاه للخارج بعد نزاع عابر بينهما يبدو وأنه سيتكرر كثيرًا إلا أن ينتهي هذا الزواج للأبد!

 

-       برضو بتجبرني وبتغـ ـصب عليا.. والمرادي قدام الشارع كله! متبقاش تزعل من اللي يحصل!

-       أنتِ مسبتليش حل تاني..

 

زفر بعمق وهو يُعدل من ملا بسه التي فسدت وهو ينخفض ليخرجها من السيارة وأمـ ـسكها بقوة لكي لا تذهب لأي مكان ثم ارتبك بداخله على ما أوشك على فعله ليجبرها على أخذ الخطوات معه حتى الأعلى.. لم يعد لديه مفر من هذا، وبدلًا من تكرار الأمر ربما سيكون النطق به مرة واحدة ستكون الأولى والأخيرة أمام كلتاهما أسهل من النطق به مرتين وثلاثة!

 



يتبع..


إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة بتول طه لا تنسى قراءة روايات و قصص أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية


رواياتنا الحصرية كاملة