رواية جديدة كما يحلو لها لبتول طه الفصل 41 بالعامية
رواية كما يحلو لها
الجزء الثالث من رواية كما يحلو لي بقلم بتول طه
رواية جديدة كما يحلو لها
تنشر حصريًا على المدونة قبل أي منصة أخرى
من قصص وروايات
الكاتبة بتول طه
الفصل الحادي والأربعون
النسخة العامية
أكروبوليس.. أثينا..
اليونان..
ثوبها الحريري الأحمر يلائمها أكثر من تلك التماثيل
المنحوتة منذ مئات الأعوام، وتوهج عيناها وهي تتلفت هُنا وهناك كان كفيلًا ليجعله
يعبر من بوابة زمنية إلى أخرى لا يتواجد بها سواهما، مشهدها وحده يفوق آلهة تعبد
لها أمم هنا على نفس هذه الأرض، لا يكترث لأصوات الموسيقى، ولا يهتم بهذه الأمسية
الساحرة وذلك التأثير المحبب لقلبه برؤية هذا المعبد بطابعه المميز، ربما عند
تغزله بها منذ أسبوعان كان معه حق، هي فاقت أفروديت حُسنًا وجمالًا.. وفاقت قدرته
على أن يتحمل الجلوس بجانبها ورؤيتها دون أن يحصل منها سوى على القليل من القُبـ
ــلات، رجل مثله لن يُمكنه الانتظار أكثر..
التفتت نحوه ثم رفعت خصلاتها التي حجبت عيناها عن رؤيته
بفعل ذلك الهواء البارد وسألته بعفوية:
-
فيه ايه؟ الـ show مش عاجبك؟
عبث الهواء بمزيد من خصلاتها فرفع يـ ـده ليُبعد هذا
التشويش عن ملامحها الفاتنة واقترب منها ليهمس بأ ذنيها:
-
شكلك حلو اوي..
ابتسمت له بخجل بينما وجدته يطبـ ـع قبـ ـلة على أناملها
وأحـ ـست بانعكاس أنفاسه الدافئة لتتابعه بعسليتيها بانبهار ولوهلة شعرت أنها كانت
محقة في أن تُعطيه فرصة أخرى ولقد مر فقط سبعة أيام منذ أن سافرا لمرتهما الثانية
ولكن كل شيء بات أفضل معه بينما هو كان يتحرق لامتلاكها للأبد دون كبرياءها اللعين
الذي يفسد عليه كل مُتعه..
-
تعالي..
نهض وهو يجذب يـ ـدها لتتبعه متعجبة إلى أين سيذهبان
وشعرت بالإحراج وكلاهما يسيران بهذه السرعة بين تلك الصفوف الحاضرة لهذا الحفل
وامتدت يـ ـدها الأخرى لتُمسك بهذا الفراء الذي يحميها من تلك البرودة لتجده يتجه
إلى الخارج حيث تلك السيارة التي تصحبهما بكل الأماكن منذ أن أقاما بأثينا وقام
بفتح الباب لها فقامت بالدخول ليتبعها وكلم السائق بالإنجليزية:
-
سنتجه إلى الفندق..
نظرت إليه باستغراب لتسأله بابتسامة:
-
وأنت إيه اللي غير رأيك بسرعة كده؟ مش قولت إنك بتحب
المكان ونفسك نحضر حفلة هنا؟
احتوى كف يـ ـدها بين كـ ـفيه ليُجيبها بمحاولة ثُعبانية
منه بأن يُعطيها ما يروقها دون البوح بكامل ما يشعر به:
-
ساعات بتتغير تفضيلاتنا، اللي عايزه بقا أهم من مكان
بحبه بالنسبالي!
اتسعت ابتسامتها وهي لا تفهم إلى ماذا يُشير لتجده يـ ُ
ــدلك أناملها بلمـ ـسات اقشعر لها جـ ــسدها فأخذت تتابعه ولا تفهم كيف يفعل كل
ذلك وهو ينظر إلى الطريق وكأن ما يفعله أمر تلقائي للغاية بينما جعلها لا تقوى على
ملاحقة أنفاسها فقط ببضع لمـ ـسات تبدو لطيفة!
تفاجأت عندما توقفت السيارة ليغادرها أولًا ثم ساعدها
على الخروج واستمر في معانقة يـ ـدها بين يـ ـده ليقف كلاهما أمام المصعد وهي لا
تفهم لماذا لا ينظر لها مثلما تفعل هي، هل هو جذاب ولكن هي ليست بمثل هذه
الجاذبية؟
-
أظن عمري ما هاحب آجي اليونان تاني بعد ما بقا جنبي اللي
احلى من كل الستات اللي شوفتهم واللي قريت عنهم في حياتي..
همسه بتلك الكلمات بأ ذنها جعلها تبتسم وبمجرد خروجهما
من هذا المصعد قام بحملها لتتفاجأ مما يفعله وابتسمت وهي تعا نق عنـ ـقه بذر اعيها
لتتشبث به خوفًا من أن تسقط ليُقـ ـبل جبهتها ثم لأخبرها بصوتٍ دافئ:
-
الـ card في جيب الجاكيت، افتحي الباب..
لاحظت تلك النظرة التي ينظر لها بها لتُسلب أنفاسها
بالكامل وتمنت لو يتوقف عن إعطائها هذه النظرات بعد أن كانت تتساءل منذ قليل لماذا
لا ينظر لها ربما من الأفضل ألا ينظر لها على الإطلاق حتى تستطيع التعامل معه!
قامت بفتح الباب ليتجه بها إلى الداخل وانغلق الباب
بمفرده بفعل تلك الماكينة المثبتة فوقه ليُخفضها بهدوء بالقرب من الفراش فتابعته
بعسليتين متسائلتين وقبل أن تتفوه بمزيد من الأسئلة سرق شـ ـفتيها مُلتهمًا كلتاهما
بقـ ـبلة طويلة هادئة لم تختبرها قط معه، وكأن كل مرة يقترب لها خلالها تُصبح أفضل
من الماضية!
استند بجبهته على جبينها لتجده غامض العينين لتلتقط
أنفاسها بصعوبة ونظرت له ببلاهة ووقعت في نفس الشتات الذي يصيبها كلما اقترب منها
أو استمعت لكلماته تلك:
-
مش عايزنا نبقا بعيد أكتر من كده..
لم تقو على الرد بكلمة واحدة لتلاحظ داكنتيه تتفقداها
ليرى الر غبة جلية بعسليتيها فحاوط خصـ ـرها بين ذرا عيه بقوة لتتفلت منها شهقة
خافتة جعلته يشتعل للمزيد منها فاقترب ليعا نق شـ ـفتيها مرة ثانية بين شـ فاهه
وتشبثت هي به إلى أن سقط ذلك الفراء الذي كانت تحتمي به من البرودة التي لم تعد
تتواجد بفعل تلك الأنـ فاس المحمو مة بينهما!
تقوف عن استكمال ما بدأ به ثم د فعها برفق ليحثـ ـها على
الالتفات أما مه حتى أصبح ظهـ ـرها موجهًا له فقام بإبعاد خصلاتها وجمعها لتتدلى
على كتـ ـفها الأيمن ولم يعد يُطيق حُسنها الذي باتت تهتك به كل ذرة على تحمله
وسيطرته على نفسه معها!
قام بجذب هذا الرباط الرفيع ليحـ ـررها من هذا الثوب
الذي لن يلائم امرأة سواها واقترب هامسًا بأذ نها متسائلًا:
-
عايزاني؟!
بمجرد تحرر الرباط جعلها تلتفت لتصبح عينيها أمامه
مباشرةً ورأى إجابة سؤاله بهما ليقترب وهو يُــ قبلها مرة ثانية وأخذت يـ ـده في
جذ ب ثو بها بهدوء إلى أن تحررت منه بالكامل كما تحررت شـ ـفتيه وهو يُطلق لها
العنان في تذ وق كل ما كانت تنتظر أن تمنحه له ليد فعها برفق نحو الفر اش وهو لا يريد أن تكون
مرتها الأولى بمثل تلك الهمجية التي اختبرتها معه بالسابق وبمجرد أن شعرت بنفسها
أسـ ـفله وهو ما زال يُسبب لها هذا الشعور بالشتات نادته لكي يتوقف:
-
عمر، عمر بلاش دلوقتي.. أنا لسه مش مستعدة لده..
أزاد مما يفعله لعلها تستجيب إليه بينما لم تتقبل وشعرت
بتوترها يزداد لتحاول أن تد فعه بعيدًا عنها برفق:
-
عمر، أرجوك! أنا لسه منستش.. أنت وعدتني.. بلاش لو سمحت!
زفر بالقليل من تلك النيران التي تسري بداخله وهو في
حالة شديدة من الغضب منها بعد أن دفعته بلمـ ـساتها وحُسنها وفتنتها اللعينة إلى
أن يصل لتلك الحالة من الإ ثارة لينهض مبتعدًا دون أن ينظر لها واتجه للشرفة لعل
هواء الليل البارد يخمد تلك النيران التي تحرقه!
نهضت سريعًا وهي ترتدي ملابس غير رسمية استخرجتها لتداري
بها جـ ـسدها ثم رفعت خصلاتها لتبعدها عن مرمى رؤيتها وهي تحاول أن تهدأ من تأثيره
الذي تستجيب له بل مرة لترطب شـ ـفتيها وهي لا تدري هل أخطأت أم أن هذا من حقه أم
عليها ألا تُفسد هذه الأيام السعيدة لتخطر ببالها فكرة وتتمنى لو استجاب لها بعد
هدوئه بالأيام الماضية فنهضت لترتدي سترة ثقيلة وتناولت بنطال غير رسمي يخصه وسترة
رمادية اللون وقميص صنع من الصوف ثم اتجهت للخارج لتجده يُدخن سجائره فازداد عنا قها
لتلك الملابس وكأنها تتشبث بها لتحدثه قائلة:
-
أنا آسفة بس..
-
خلاص!
انزعجت من طريقته الغريبة وعدم إرادته بمتابعتها للحديث
لتُحدثه قائلة:
-
ايه رأيك بم إننا جينا هنا عشان نخرج ونتفسح ونتبسط.. ما
تغير هدومك وتعالى ننزل نجيب آيس كريم!
لمحها بنظرة جانبية بثاقبتيه التي تُثـ ــير توترها
فارتقبت اجابته لتجده يتساءل باستهجان:
-
آيس كريم في الجو ده؟
همهمت له ليلتفت ناظرًا لها بعقدة حاجباه فرأى شعرها
يتطاير بفعل الهواء لتناوله الملابس التي انتقتها له وقالت:
-
نتمشى شوية وناكل آيس كريم ونرغي لغاية الصبح..
اقترب نحو ها دون أن يتناول ما تقدمه له لتنكمش على
نفسها بارتباك لتجده فجأة ينتشل الملابس التي تُمسك بها ليقول وهو في طريقه
للداخل:
-
اياكي يجيلك برد من الآيس كريم!
تلك الأمسية، كل هذا الوقت معها وهي تتشبث بيـ ـده بعد
أن سقطت المثلجات منها فأعطى لها خاصته، لم يكن الأمر يومًا عن ممار سة الجـ ـنس
معها، ولكنه هو أيضًا كان مثالي معها، لقد وقع في عشقها هذه الليلة، لم ترفضه
امرأة من قبل لتنتهي ليلتهما وهما يجوبان شوارع أثينا ليتناولا المثلجات وهو يستمع
لها وهي تتحدث عن كل ما تمنت أن تختبره مع الرجل الذي ستتز وجه في يوم من الأيام..
خطواتها الرشيقة، ابتسامتها، مظهرها الذي يسلب أنفاسه،
كل ما بها كان يجبره على الوقوع في عشقها، يا تُرى متى وقعت هي في عشقه؟ هل يُمكنه
العودة لهذه الأيام من جديد؟ ولماذا اختفى صوت بُكائها؟ لقد كان يستمع إليها منذ
ثواني.. ما الذي حدث؟
فتح عينيه ونظر حوله ليجد الكثير من الوجوه المألوفة،
ورائحة كريهة تتسلل لأنفاسه بطريقة مزعجة، تبًا، هو بالمشفى..
التفت حوله وهو يتبين ما الذي يحدث ليلعن حظه الذي جعله
يعود لنفس المكان من جديد، نفس المشفى، تبًا، لا تمر مرة وحيدة يأتي بها هذه
البلدة على خير دون أن تُذكره بكل ما عاناه بها يومًا ما..
❈-❈-❈
-
حمد الله على
السلامة، إيه مالك، سمعت اخبار وحشة ولا إيه؟
سخر بملامحه
المُرهقة لصياغة هذا الطبيب ما سمعه بهذه الطريقة ثم عقب قائلًا:
-
يا ريت!
تفقده الطبيب متعجبًا
ليصحح من قوله وهو لا يريد أن يفسر ما حقيقة ما أدى به إلى هذه الحالة:
-
مفيش، الطبيعي
يعني.. مسمعتش حاجة!
همهم الطبيب
وهو ينظر بنتائج الفحوصات ثم حدثه متسائلًا:
-
النتايج تمام،
بس انت بتدخن كتير ولا إيه؟
هز رأسه بالنفي
ثم أجابه:
-
العادي، مش
كتير اوي يعني.
رفع الطبيب
حاجباه ونظر له بجدية ثم أجابه:
-
ده شبه أزمة
قلبية بس كانت خفيفة ودكتورة رضوى عملت الإسعافات الصح، من اللي شايفه أنت معندكش
مشاكل، سنك والفحوصات بتقول إنك تمام، أنت عندك ضغوط في حاجة معينة؟
كاد أن يضحك
مقهقهًا بسخرية شديدة، كيف يُمكنه أن يحصي ويشرح له كل هذه الضغوط كما يُصيغها؟!
-
لا مفيش كله
تمام!
ضيق عيناه
نحوه ليحدثه زافرًا:
-
عمومًا كل
اللي حصل ده ملوش تفسير غير إنك سمعت حاجة مش كويسة كأن حد مات مثلًا، الموضوع
نفسي، أنت معندكش مشاكل في حاجة عضويًا.. بس أنت بتاخد أدوية نفسية؟ مهدئات ومثبتات
مزاج؟ مش كده؟
أومأ له
بالموافقة وخجل من اعترافه بهذا ليجيبه باقتضاب:
-
أنا مريض bipolar فعايش بالأدوية..
همهم له بتفهم
بينما قام بالإشارة بحبر قلمه بعلامات في هذا التقرير ليكلمه قائلًا:
-
حاول تبعد عن
العصبية والضغوط والمشاكل، أنت صغير ومفيش حاجة مستاهلة يجيلك أزمة قلبية كده في
السن ده بسببها، وحتى لو كانت بسيطة بس في المستقبل لو استمريت كده ممكن يحصل
مضاعفات أكبر، طبعًا ابعد عن التدخين الفترة دي خالص.. ألف سلامة عليك..
ابتسم له
برسمية ليلتفت وهو يغادره فناداه الآخر مسرعًا:
-
دكتور معلش،
بلاش حد يعرف بموضوع إني bipolar
مراتي بس اللي تعرف هي وأخويا وهبقا أقول لأهلي بعدين..
التزم برغبته
ليُجيبه قائلًا:
-
متقلقش، مش
هاقول لحد، بس كل ما تعرفهم أسرع يبقا أحسن عشان يقدروا يفهموا أنت بتمر بإيه.. حمد
الله على سلامتك..
-
هو أنا أقدر
أمشي امتى؟
-
يا ريت لو
تقدر تستنى لبكرة نطمن عليك بس لو حابب أنا هاكتبلك على تصريح خروج وتقدر تمشي
النهاردة، بس ياريت تلتزم باللي قولتلك عليه!
تركه وغادر ليُفكر
بكلمات الطبيب إليه، وكأن والده سيكترث بهذا، أو مثلًا والدته ستهتم بما يمر به
بعد أعوام اعتادت على عدم وجوده بها سوى كاسم ينتسب لزوجها ليس إلا!
لم تمر سوى
ثواني ووجد والده بالغرفة لينظر له بلوم ورأى الحزن يختفي بمُقلتيه وسط جفاء
ملامحه الذي يمتاز به دائمًا وأبدًا ليسأله باقتضاب:
-
إيه اللي
حصلك؟
زفر بضيق وهو
يستند على يده اليُسرى ليجلس على الفراش ثم أجابه:
-
كنت بفكر في
كل حاجة وفجأة محستش بنفسي.. بابا انا كنت هجيلك.. أنا مقصدتش، كنت متعصب وغصب عني
مـ
-
اعمل اللي أنت
عايزه يا عمر!!
قاطعه دون أن
يسمح له بمزيد من الكلمات ثم واصل كلماته:
-
متنساش إنك
بتموت في نفسك وبتهد حياتك عشان واحدة متستاهلش!
-
يا بابا ارجوك
لو سمحت متـ
-
ومتنساش كمان
إنك قربت تخسر أبوك بسببها زي ما خسرت شغلك وكنت هتخسر نفسك!
لم يتقبل
المزيد من الكلمات منه واتجه عائدًا نحو باب الغرفة مرة ثانية ليتوقف قائلًا دون
أن ينظر له:
-
أنا عارف إنك
متعلق بيها وبتحبها، معاك شهر يا عمر، لو حالك ده متظبطش أنا مش هاسكت، بالذات
وأنا حاسس إنك بتعاديني عشانها!
❈-❈-❈
حاول أن يلمحها
بالمرآة الجانبية للسيارة وملامحها تبدو باهتة، شاردة لا يعلم بماذا، الهم والحزن
يتضح على كل ما بها، لقد أعطى لها صفـ ـعة جديدة بما لم تتخيل أنها ستعيشه في يوم
ما، حتى ولو لم يقصد هذا أو يخطط لفعله، لابد أنها مُتعبة من كل ما مر عليها
اليوم، هما في هذا الطريق للعودة لا يدري حقًا إلي أين يعودان، للمنزل أم لحياة مبهمة
المعالم!!
كان عليه أن
يتحمل حتى يُصبحان بمفرديهما بعد أن مر بتلك المجاملات من أخيه ووالدته وابن عمه
وزو جته إلى أن غادر هذا المشفى الكريه بشق الأنفس وهو لا يستطيع تحمل ثانية واحدة
بداخلها، قد يكون وجودها بجانبه هو ما جعله يتحمل، رؤيتها معه وجانبه تجعله يشعر
أفضل، حتى ولو بهذا الوضع المُزرِ، وحتى لو كان لا يستحق أن يشعر بمثل هذا الشعور
بالألفة والطمأنينة!
هل كانت تبكي
من أجله حقًا كما أخبره "أنس" بصوت خافت حتى لا يستمع له أحد؟ أم كانت تبكي
لأنها ستفقد الشخص الوحيد الذي ستشعر بالراحة لتألمه؟ ولكنه سمعها جيدًا، تعشقه،
يا لها من مزحة سخيفة، كيف ما زالت تعشق من أوصلهما إلى هذه العتمة الحالكة بكل ما
تحمله من ظلام يلتهم قلبيهما معًا؟
توقف
"أنس" ليُحدثه قائلًا:
-
أنت تطلع بقا
تنام للصبح وتريح في اوضتك وسيبك من أي حاجة بتحصل.
هز رأسه
بالتفهم لينضم صوت "رضوى" إليه:
-
آه يا ريت يا
عمر، أنت أصلًا المفروض كنت تفضل في المستشفى، خليك في اوضتك وأنا هبقا اعدي عليكم
كمان ساعتين تلاتة لو محتاجين حاجة..
التفتت نحو
"روان" الجالسة بجانبها ثم أكدت عليها بود:
-
أنتِ معاكي رقمي،
لو احتاجتي أي حاجة كلميني حتى لو الفجر هجيلك..
أجبرت ابتسامة
على ملامحها المُتعبة وردت عليها بلباقة:
-
ميرسي يا
رضوى، لو احجت حاجة أكيد هكلمك..
توجه جميعهم
لخارج السيارة ليحدثه "أنس" بخفوت:
-
مش قولتلك عمي
مش هيستحمل عليك الهوا، ده كان هيتجنن قبل ما تفوق وأنت جوا بس عامل فيها جامد..
أومأ له
باقتضاب ثم أخبره:
-
هو أتكلم معايا،
أظن الدنيا بقت تمام!
لم تكن كلماته
سوى مهرب سريع حيث أنه لم يعد بداخله ذرة من طاقة للحديث في أشياء لن يمكنها أن
تتغير بعد خمسة وثلاثون عام من التعود على تلك العلاقة بينه وبين والده!
-
بص يا أنس أنا
هتمشى شوية كده وحبة واطلع..
-
تتمشى إيه، ما
تشوفي جو زك يا روان..
التفتت نحوهما
عندما ناداها "أنس" لتتفقدهما بينما ردت بتردد وهي تهز كتـفيها:
-
خليه براحته،
أحيانًا بيحب يتمشى.. أكيد مش هيطول..
اقتربت
"رضوى" من زو جها ثم حدثته قائلة:
-
سيبهم
براحتهم، أهم حاجة بس لو حسيت إنك تعبت ارجع تاني، وبلاش مجهود خالص.. حمد الله
على سلامتك..
ابتسمت
لكلاهما وهي تُمسك بيـ ـد زوجها وضغطت عليها بإشارة أن يذهبان ويتركان بعض المساحة
لهما وفرصة للحديث فهو منذ أن استعاد وعيه وأصبح بخير لم يتبادلان ولو كلمة
واحدة..
لم يستطع
النظر إليها بعد كل ما سمعه منها اليوم، لا يستطيع النسيان، وأكثر من اختلاس عدة
نظرات بأعين نادمة وبعض من الذكريات التي لا يستحقها بأكملها، لا يمكنه المطالبة
بالمزيد، قد يكون أنانيًا في أي يُريدها أن تبقى قليلًا معه بعد.. ولكن ليس
أنانيًا بشكل كامل، فقد يكون هذا من أجلها هي الأخرى!
تفقدته وهي
تجده يُخفي ملامحه بالنظر لتلك البقعة في الأرضية وكان لديها ملايين من الكلمات
المكبوتة بداخلها قد تتمنى لو يعود بها الزمن لكي تقولها ولكنها اختارت أن تصمت،
لم يعد يُمكنها المواصلة في الحديث إليه، على الأقل ليس بعد كل ما حدث اليوم!
-
أنا هطلع فوق
-
ممكن تخليكي
معايا شوية؟!
فكرت في سؤاله
الذي آتى فورًا لتتردد في الرفض وفي فضولها كذلك لتعرف ما الذي يُريده ولكنها كانت
في حالة من الإنهاك الشديدة لترد مُجيبة باقتضاب:
-
ماشي!
وجدته بدأ في
المشي فتوجهت معه في صمت تام وظل كلاهما يتمشيان لعدة دقائق في قلب هذا الليل
لتبدأ في الشعور بالخوف، المكان هادئ، حفيف تلك المزروعات التي كانت تبدو رائعة في
الصباح اختلفت كثيرًا الآن، إن لم يكن لتوه واجه أزمة قلبية وبيـ ـد لا يُمكنه أن
يُحركها لكانت فُزعت من كل ما يحدث!
وجدته يتوقف
حتى أشار نحو بقعةٍ ما فانتبهت حيث أشار ليتكلم بهدوء:
-
أنتِ عارفة إن
كل حاجة حصلتلي وأنا صُغير حصلت هنا، مريم بتقول إني محاولش افتكر عشان ميحصلش أي
انتكاسة.. بس لو تحبي تعيدي كل اللي حصلي من سنين أنا معنديش مانع!
التفتت له
باندهاش ليتيقن من تلك النظرة على وجهها ليواصل كلماته:
-
برضو قالتلي
إن الصدمة دي اللي خلتني سادي، بس بصراحة أنا لسه مش مقتنع اوي، أنا فاهم إنها
مكنتش حاجة سهلة عليا ولا على أي طفل في سني، ويمكن كرهت أمي بعدها، لكن لسه جوايا
اقتناع إن كل راجل وست بينهم وبين بعض من حقهم يختاروا الطريقة اللي تبسطهم.. وأنا
فشلت أعمل اللي أنتِ عايزاه وأنتِ عمرك ما قبلتيني!
تفقدته في صمت
لتعقد ذراعيها ولم يمكنها أن تصمت أمام هذا لتتحدث قبل أن يبادر بقول شيء آخر:
-
لا يا عمر أنا
قبلتك، أنا جربت، بس ملقتش نفسي مرتاحة وانا قاعدة تحت رجليك وأنت بتهزأ فيا..
مهما كنت بحاول كان دايمًا جوايا مش راضي، كنت ببقا متضايقة وحاسة بالإهانة!
حدق بنفس
البقعة وهو يستمع لكلماتها ليرد قائلًا:
-
لو فاكرة إنك
تعملي كل اللي عملته فيكي في الأوضة هيريحك، فأنا شايف إن اللي هيوجعني أكتر هو
هنا.. مش في الاوضة خالص، أنا عمر ما حد جه هنا معايا غير أنس وكانت صدفة، أنتِ
الوحيدة اللي ممكن اثق فيها واجيبها هنا!
انخفضت أنظاره
للأسفل وهو يبحث عن شيء ما لربما يحلو لأناملها الرقيقة التي لا يُمكنه تصور أنها
ستُمسك بسوط ما في يوم من الأيام إلى أن وجد قطعة من الحجر بنهاية حادة فتناولها
بيـ ـده ثم عاد من جديد ليقف أمامها وقدمها إليها ورفع عيناه نحوها ليخبرها:
-
دي هتنفع،
اعملي كده، لو إنك تشوفيني موجوع هيريحك يبقا هي دي فُرصتك!
امتلأت عيناها
بالعبرات المتحجرة لتحدثه بين أسنانها باستهجان:
-
وأنت فكرك إني
عايزة أعذب الطفل اللي اتعذب هنا؟
التوى فمه
بسخرية ليرد قائلًا:
-
ما هو الطفل
ده نفس اللي كان بيعذبك، الاتنين ميختلفوش كتير!
شعرت
بالاختناق ولم تستطع أن تواجه هذه الحالة الغريبة من الشتات الواقعة به وكأنها
عادت إلى نقطة الصفر معه من جديد لتتحدث مُغيرة مجرى الحديث:
-
أنا تعبت
النهاردة، أنا عايزة اروح!
التفتت لتغادر
ليُمسك بيـ ـدها برفق ثم سألها وهو يتفحصها:
-
كلمتي مريم؟
زفرت بضيق وهي
تجذب تنتشل يـ ـدها منه واكتفت بأن تومأ بالموافقة ليسألها مرة ثانية:
-
أنتِ مش عايزة
تعرفي أي حاجة؟
أطالت نظرتها
نحوه لتتنهد وهي تهز رأسها بالنفي ورأى ذلك الارتجاف الذي يُسيطر عليها ليتحدث من
تلقاء نفسه:
-
بابا هو السبب،
من ساعة ما عرفت مريم وهي بتحاول تفهمني ده، لقيت نفسي بفكر في كل ده بعد ما
اتكلمت مع أنس وهو بيقنعني ادخل اعتذرله وفجأة محستش بالدنيا حواليا وصحيت لقيت
نفسي في نفس المستفى اللي كنت فيها من سنين!
شعرت بالشفقة
على حاله لتنظر بعيدًا عن داكنتيه الباهتتين في هذا الظلام لترطب شـ ـفتيها وهي مشتتة
في الحزن الشديد لا تدري أعليه أم على نفسها لتجده يواصل متسائلًا:
-
حاسة إنك أحسن
بعد ما اتكلمتِ معاها؟
التوى ثغرها
بحسرة واجابته متنهدة باقتضاب:
-
شوية!
زفر بألم وهو
ينظر لها نادمًا على كل ما ضيعه يومًا ما فهو أقصى ما يتمناه أن يجمعهما عناق ولو
للحظة واحدة ولتقبض روحه بعدها، يعلم أنها تحتاج لهذا وقد يتوسل هو باكيًا من أجل
أن تسمح له ولكنه سيطر على نفسه متسائلًا:
-
يعني خلاص، كل
حاجة هتبقا أحسن شوية من الأيام اللي فاتت؟
أومأت له
بالموافقة وجففت عبرة تساقطت منها دون تحكم لتلتفت نحوه وهي تنظر له لتقول:
-
يالا نرجع
عشان احنا الاتنين تعبانين ولازم نرتاح شوية!
هز رأسه ثم عاود
كلاهما أدراجهما للمنزل الذي يجمع باقي العائلة ليسألها آخر ما يتمنى أن تكون
بداية جديدة لكلاهما:
-
لما نرجع تحبي
اسيبلك البيتين وتعيشي لواحدك؟
التفتت نحوه
بحيرة لتتنهد في النهاية لتجيبه بما كان يجب عليها أن تتظاهر به وليس ما تريده على
الاطلاق:
-
يكون احسن!
إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة بتول طه لا تنسى قراءة روايات و قصص أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية