رواية جديدة رحلة الآثام لمنال سالم - الفصل الرابع
قراءة رواية رحلة الآثام كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
الفصل الرابع
(الفرحة المرتقبة)
توالت عليها الأيام بطيئة، مستنزفة للأعصاب، ومرهقة للتفكير، فالرد لم يأتِ بعد من ناحية خالتها، مما جعلها فريسة سهلة للهواجس والشكوك، فتنهشها بعمقٍ وتزيد من إحساسها بالخوف والقلق. مرة ثانية، أثناء تواجدها بالمطبخ لمساعدة والدتها في إعداد الطعام، عاد الشرود ليهاجمها، فراحت تقلب الحساء بلا تركيزٍ إلى أن انتبهت لصوت تذمر أمها، فأفصحت لها "فردوس" عما يُحيرها ويملأ صدرها الملتاع متسائلة بقلقٍ:
-تفتكري يامه هعجبه؟
ضجرت "عقيلة" من هذه الأسئلة المستهلكة، فهي لا تكف أبدًا عن الإلحاح وسماع نفس الرد الرتيب، لذا أخبرتها بعد زفيرٍ ثقيل يشوبه الملل:
-ربنا وحده أعلم، بس أدينا بندعي يجعل في وشك القبول، ويراضيكي.
هذا الكلام المطمئن يبث نوعًا من الراحة داخلها، وإن كان مبهمًا، عائمًا، متكررًا، وغير مضمونٍ. لاحت على شفتيها ابتسامة حالمة وهي تسترسل بأريحية معها، كأنما تحادث رفيقة مقربة لها، لا والدتها المتحفظة:
-يـــاه، أما جدع يخطف العين بصحيح، طول بعرض، وعليه طلة إنما إيه!
نهرتها والدتها عن التمادي في الأمر هاتفة بحدةٍ:
-يا بت اختشي! عيب كده!
لوت ثغرها مغمغمة بتبرمٍ:
-يوه يامه، إن مكونتش أفضفض معاكي في الكلام، هفضفض مع مين؟
سرعان ما لانت معها، وقالت وهي تضع ابتسامة حزينة على محياها:
-يا رب يا بنتي يفرح قلبك ويسعدك، إنتي ياما صبرتي واستحملتي.
هزت رأسها معقبة:
-أه والله، راضية بنصيبي وبدعي ربنا إنه يعجله.
طلبت منها أمها وهي تشير بيدها نحو الرف الخشبي المعلق أسفل دولاب المطبخ:
-ناوليني الملح من عندك.
أحضرته إليها قائلة:
-أهوو يامه.
تابع والدتها الحديث إليها، فأضافت:
-عاوزين نجيب ورقة فلفل لأحسن الشوية اللي فاضلين عندي خلصوا.
أكملت عليها مستعيدة في ذهنها ما أمرتها بإحضاره سابقًا من محل البقالة الكائن بالمنطقة:
-ماشي، مع الطحينة، وصابون الغسيل.
-وإزازة خل.
-طيب.
استمرت كلتاهما في العمل بداخل المطبخ إلى أن تحدثت "فردوس" من جديد:
-تعرفي يامه لو كانت "تهاني" هنا مكانتش وافقت على اللي حصل عند خالتي...
سلطت كامل نظراتها على أمها وهي تتم جملتها:
-كان زمانها عقدت الدنيا.
جاء رد "عقيلة" مهمومًا إلى حدٍ ما:
-ربنا يهديها لحالها.
لم تعرِ مشاعر والدتها المزعوجة لغيابها المؤثر فيها اهتمامًا، وواصلت القول:
-هي أصلها باصة في العلالي، عاوزة حد ابن ذوات.
رمقتها "عقيلة" بهذه النظرة الصارمة قبل
-مسيرها ترجع لعقلها، ادعيلها ربنا يرجعها لينا بالسلامة.
تجاهلت ما قالته، وسألتها بوجه متلهف:
-أومال احنا هنعرف الرد إمتى من خالتي؟
عاتبتها في صبرٍ نافد:
-تاني؟!!
مدت يديها لتمسك بها من ذراعها، كما لو كانت تتعلق به، وألحت عليها بتوسلٍ:
-عشان خاطري يامه، ما تجربي تسألي كده خالتي.
سحبت ذراعها من أسفل قبضتيها قائلة بجمودٍ:
-يا خبر بفلوس، بكرة يبقى ببلاش.
أطلقت زفرة طويلة من رئتيها محملة بكل الرجاوات والآمال لتردد بعدها:
-هون يا رب، وقرب البعيد.
❈-❈-❈
استفاقت بعد برهةٍ من حالة الوهن التي سيطرت عليها، لتصبح أكثر وعيًا، واتزانًا، وقدرة على السير بمفردها. ابتسمت "تهاني" في خجلٍ وهي ترى مدى الاهتمام والرعاية من قبل ذلك الطبيب الوسيم الذي لم يتردد للحظة في تقديم يد العون لها، عاملها كأنها شخصية استثنائية وغير عادية، على عكس ما توقعت أو دار بمخيلتها من معاملة روتينية فاترة. لن تنكر أن التوقير والاحترام الزائدين من جميع من قابلهما في طريقهما إلى أن استقرت بهذه الغرفة الجيدة أشعرتها بأهميته الكبيرة هنا وبمدى هيمنته، ورغم أنها لم تعرف بعد عنه شيئًا سوى اسمه وطبيعة مهنته بداخل المشفى، إلا أن هذا القدر غير الكافي من المعلومات جعلها في حالة من الفضول لمعرفة المزيد عنه، قاومت رغبتها تلك ريثما تجد الفرصة المناسبة لتقصي أمره دون إثارة الريبة، فالوقت أمامها متاح ووافر.
مرة أخرى اختلست النظرات ناحيته أثناء انشغاله بتدوين شيء ما على اللوح المعدني المعلق على طرف فراشها، أمعنت التدقيق والتفرس في ملامحه، وقسماته، وهيئته البدنية، ومظهره الخارجي الأنيق، كأنما تريد أن تحفر معالمه في ذاكرته، لدهشتها! وجدت فيه هالة غريبة تستحث دواخلها على الانجذاب إليه والإعجاب بشخصه الغامض، فشابٍ مثله وصل إلى هذا المركز الرفيع في هذا المشفى المميز يعني ببساطة أنه ليس بشخصٍ عادي، بل شخصية هامة ذات نفوذٍ وتأثير. رفع "مهاب" رأسه فجأة لينظر ناحيتها، فأمسك بها وهي تتأمله مليًا، مما دفعها لخفض ناظريها في حرجٍ كبير. ابتسم قليلًا، وسألها:
-حاسة إنك أحسن؟
شعرت باندفاع الدماء الفائرة إلى وجنتيها لتبث فيهما سخونة كاشفة لأمرها، قامت "تهاني" بتجلية أحبال صوتها لترد برعشة خفيفة ما زالت ناجمة عن شعورها بالحرج:
-أيوه .. الحمد لله.
أوصاها وهو يستقيم واقفًا ليثبت كل نظره عليها:
-حاولي تاخدي بالك من نفسك أكتر من كده، محدش هينفعك لو وقعتي تاني، وأكيد مش أنا اللي هفهمك الكلام ده يا دكتورة.
رمشت بعينيها قائلة، وهذه البسمة الخجلى تنير قسماتها:
-معاك حق.
تقدم تجاه جانبها من الفراش، فتوترت، وراحت تفرك أناملها معًا في ربكةٍ لا يمكن التشكيك فيها. من خبرته المحنكة في عالم النساء أدرك منذ الوهلة الأولى، ومن طريقة تطلعها إليه، أنها شخصية سهلة المنال، طموحة لِما لا تملك، وتفتقر لتجارب عاطفية قوية وذات بصمة في حياتها، فنجح ببساطة في فرض حضوره وتأثيره الطاغي عليها بأقل مجهود يُذكر، حقًا كانت له طريقته ومهاراته المتفردة في سلب عقول النساء –خاصة الساذجات منهن- وهذا ما استثار نزعة الغرور لديه، لذا تعمد إطالة مدة انشغاله في الكتابة، تاركًا لها كل الوقت لتُملي عينيها منه، مستمتعًا بأول خطواته نحو مطاردة طريدة جديدة سهل الإيقاع بها في حبال آسره. وقف قبالتها وخاطبها وهو ينظر من علوه في عينيها مباشرة، وبطريقة ساحرة شعرت بها تتخللها وتنفذ إليها بسهولة، وتزيد من حالة الاضطراب بها:
-حمدلله على سلامتك.
لم تستطع مجاراته في النظر إليه، وقالت متحاشية تحديقه الذي طال بها:
-شكرًا ليك يا د. "مهاب"، تعبتك معايا، ده غير إني عطلتك وآ...
قاطعها هاتفًا وهو يدس يده في جيب معطفه الطبي:
-ده واجبي، أكون جمب المريض في أي وقت.
اكتفت بمنحه ابتسامة صغيرة ناعمة بعد أن تشجعت لتنظر إليه، فاستغل الفرصة وسألها بمكرٍ:
-بس إزاي إنتي شغالة هنا ومصادفش إني أشوفك ولا مرة؟
لم يكن سؤاله مجرد فضول عابر، سيمضي بعد ذهابها في التو، بل بدا اهتمامًا صريحًا بشأنها لا لَبس فيه، ظلت أنظاره باقية عليها وهو يسألها:
-يعني تخصصك إيه؟
ابتلعت ريقها وأجابته بصوتٍ كان أقرب للهمس:
-أنا مش خريجة طب بشري.
نظر لها صامتًا، فتابعتٍ موضحة:
-أنا اتخرجت من علوم، وجاية هنا تبع البعثة المصرية، تقدر حضرتك تقول دراسة وتدريب.
مط فمه في إعجابٍ قبل أن يتكلم:
-برافو، هما هنا مش بياخدوا غير الأكفأ.
أحست بتناقص توترها مع أسلوبه السلس المرن في التحاور معها، ناهيك عن مزجه بشيءٍ من الودية والغزل المستتر، مما استحث مشاعر الأنثى القابعة بداخلها لتنفض الغبار عنها وتتيقظ، خاصة حين استأنف في وداعةٍ:
-وأنا حظي حلو إني شوفت طالبة نجيبة زيك.
قالت وهي ترفرف بأهداب جفنيها:
-شكرًا على ذوق حضرتك.
اشتم رائحة شوقها لسماع ما يزيد من شعورها بالإطراء، فصار على النفس النهج قائلًا:
-دي مش مجاملة، المستشفى هنا مابيقبلش يشغل فيه إلا المَهرة وبس.
بقيت محدقة في وجهه وهو لا يزال يخاطبها:
-وأظنها فرصة حلوة ليكي عشان تثبتي نفسك.
علقت بتلقائية:
-أنا بعمل اللي عليا.
انتفضت بجسدها كليًا حين مد ذراعه فجــأة نحوها، ليزيح بيده هذه الشعرة الملتصقة بجبينها هامسًا:
-كده أحلى.
توترت، وارتكبت، وتملكها القلق، رفعت يدها المرتعشة لتسوي مقدمة رأسها، وسألته:
-هو مسموح إني أخرج؟
أجاب في الحال:
-أيوه.
هزت رأسها بخفةٍ، ثم أزاحت الغطاء الأبيض عنها لتخفض ساقيها، باحثة عن حذائها لترتديه، كم شعرت بالخجل حين رأت كيف يبدو مظهره في قدميها وضيعًا، رخيصًا، لا يليق بها! بلعت غصة مريرة في حلقها، والتفتت للجانب عندما سألها "مهاب" مهتمًا:
-قوليلي، في حد موجود يوصلك؟
نهضت واقفة وهي تجيبه:
-أنا هشوف مواصلة ترجعني السكن.
ثم تقدمت نحو الباب بعدما علقت حقيبتها على كتفها؛ لكن "مهاب" في التو تحرك صوبها ليعترض طريقها ويستوقفها بجسده قائلًا بصيغةٍ شبه آمرة، ويده مرفوعة قليلًا في الهواء:
-أنا هوصلك في طريقي.
تمسكت برفضها قائلة:
-لا مايصحش، كفاية إني عطلت حضرتك وضيعت وقتك.
أطلت من عينيه لمعة ماكرة أتبعها قوله المليء بالإصرار:
-أنا مصمم.
اعترضت بحرجٍ:
-بس آ...
وضع هذه الابتسامة المرسومة بعناية على زاوية فمه قبل أن يقاطعها بهدوءٍ لكنه يضم الحزم:
-مش هاقبل بالرفض!
انصاعت صاغرة له، وأطرقت رأسها حياءً، رغم أنها في أعماقها كانت تبتهج سعادة، لكونها –كأنثى- أصبحت ذات تأثيرٍ، وإن كان ما زال محدودًا، على صنف أمثاله من الرجال.
❈-❈-❈
تعمدت أن تسير على مهلٍ لتستطيل مدة مشيهما معًا، فتتمكن من الحديث معه أكثر، وتستعلم منه عما لا تعرفه بعد. توقفت بجوار سيارته، فراحت تتأملها بعينين منبهرتين، فقد ابتاع الطراز الأحدث من هذا النوع، شتت نظراتها عنها عندما تكلم أحدهم بصوتٍ مرتفع ولافت من مسافة قريبة منهما:
-لا مش ممكن، الدنيا فعلًا زي ما بيقولوا صغيرة.
استدارت لتنظر تجاه صاحب الصوت المألوف، فرأت "ممدوح" قبالتها، يمد يده لمصافحتها وهو يسألها باسمًا:
-إزيك يا دكتورة "تهاني"؟
توترت للحظةٍ، واختطفت نظرة سريعة تجاه "مهاب" قبل أن ترد وهي تمد يدها تجاهه:
-أهلًا بحضرتك يا دكتور "ممدوح".
حلَّ القليل من الوجوم المشوب بالضيق على قسمات وجه "مهاب"، وتساءل باستغرابٍ:
-إيه ده؟ هو إنتو تعرفوا بعض؟
ضحك مستمتعًا قبل أن يخبره بتلميحٍ لئيم، كان متأكدًا أنه سيثير نزعته التملكية:
-طبعًا دكتورة بالرقة دي صعب تتنسى.
رمشت بعينيها مرددة ببسمة مجاملة:
-شكرًا لذوقك...
غام وجه "مهاب"، وبدا وكأنه غير راضٍ عما قيل، فتوجست خيفة من إنهاء معرفته بها قبل أن تتوطد جيدًا، لكونه يظن أنها على علاقة بغيره، لذا حاولت تفسير الموقف من تلقاء نفسها بقولها الموضح:
-هو احنا فعلًا اتقابلنا صدفة في المطار، لما كنت جاية على هنا.
مال "ممدوح" ناحيتها قليلًا ليضيق عينيه معقبًا في عبثيةٍ غير مريحة:
-وأنا شكلي هحب الصدف اللي دايمًا بتجمعنا ببعض.
صراع البقاء للأقوى لاح بينهما، خاصة فيما يخص تأثيرهما على الصنف الناعم، فأضاف "مهاب" هو الآخر مبتسمًا ابتسامة لا معنى لها:
-نسيت أقولك يا دكتورة "تهاني"، "ممدوح" ده صاحبي من زمان، عِشرة عمر.
تحرك الأخير من موضعه، ليقف مجاورًا لـ "مهاب"، ضم كتفيه بذراعه، وتبسم قائلًا:
-طبعًا، احنا يعتبر أكتر من الإخوات، ما بنفرقش بعض إلا قليل أوي، وكل حاجة تقريبًا بنعملها سوا.
أزاح "مهاب" ذراعه عنه، وأعاد ضبط سترته، وياقة قميصه، ليستأنف "ممدوح" كلامه الموجه إلى "تهاني" متسائلًا في فضولٍ محير:
-بس إيه لم الشامي على المغربي؟ يعني آخر مكان كنت أتوقع أشوفك فيه هنا.
استفاضت مجيبة:
-أنا تدريبي هنا في المستشفى، ود. "مهاب" شافني تعبانة شوية فساعدني.
سدد "ممدوح" نظرة موحية، ذات بُعد مفهوم، لرفيقه وهو يعقب:
-طول عمره بيحب عمل الخير، وما يتأخرش عنه ... أبدًا!!
لا يعرف إن كان يقصد بكلماته تلك مدحًا أم ذمًا أم سخريةً مبطنة؛ لكن "مهاب" تجاوز عنها ليقول في شيءٍ من الرسمية:
-بينا يا دكتورة عشان أوصلك ترتاحي.
في التو اعترض "ممدوح" طريقهما ليستوقفهما قائلًا بعبوسٍ مصطنع:
-إيه ده؟ هتمشي كده من غير ما نقوم معاها بواجب الضيافة؟ إنت عاوزها تقول علينا يا "مهاب" بخلا؟
تفاجأت "تهاني" من اقتراحه، لم تكن مستعدة للذهاب بهذه الهيئة، لذا حاولت الاعتذار مرددة بحرجٍ:
-لا مافيش داعي خالص، أنا آ...
رفع سبابته أمام وجهها مقاطعًا إياها بإصرارٍ رغم لطافة نبرته:
-مش هاقبل بالرفض، ده حتى زي ما بيقولوا عندنا في مصر يبقى بينا عيش وملح.
ثم خاطب "مهاب" مبتسمًا:
-عيب نكسف ضيفتنا.
نفخ في سأمٍ، وسأله:
-هتودينا فين يا "ممدوح"؟ بما إنك الخبير هنا!
أجابه بعد صمتٍ خفيف:
-في مطعم تحفة فاتح قريب من هنا، الكل بيشكر فيه، إيه رأيكم نجربه؟
مط فمه قليلًا، وعلق في شيءٍ من التحدي:
-معنديش مانع، بس الحساب عندك.
دون تفكيرٍ قبل بالعرض مردفًا، ونظراته كلها صوب ضيفتهما:
-وماله.. إكرامًا للدكتورة "تهاني".
❈-❈-❈
انحنت تنظر بعينين متأففتين لرفوف الثلاجة الفارغة، ثم مدت يدها لتمسك بعلبة بلاستيكية، انتزعت غطائها واشتمت ما بداخلها، فأصيبت بالاشمئزاز، وانقلبت معدتها شاعرة بالغثيان، استقامت "ابتهال" واقفة بعدما أغلقت الباب، لتمشي بالعلبة تجاه سلة القمامة، أفرغت محتوياتها بداخلها، ثم اتجهت نحو الحوض لتغسلها وهي تُحادث نفسها بعفوية:
-عاوزين نشوفلنا أي بقالة قريبة مننا، أنا عارفة بيسموها إيه..
وضعت العلبة جانبًا بعد تنظيفها، وهي لا تزال تتكلم بصوتٍ مسموع:
-المهم نجيب منها حاجات تنفع تتاكل بدل ما الواحد بيفضل على لحم بطنه كده بالساعات.
جففت كلتا يديها في جانبي قميص البيت الذي ترتديه، وقالت بإيماءة خفيفة من رأسها:
-المفروض الحساب يكون بالنص، ما أنا مش هاكل لواحدي، هي أكيد هتجوع زيي.
اختمرت الفكرة برأسها، وتحمست لتنفيذها قائلة بتصميمٍ:
-لما ترجع أبقى أكلمها.
سارت نحو الشرفة، نظرت من خلف الزجاج بعدما أزاحت الستارة قليلًا، وتساءلت في تحيرٍ:
-بس هي اتأخرت ولا أنا اللي جوع مخليني أحس إن الوقت طويل؟!!
❈-❈-❈
كانت مأخوذة ومبهورة بكل ما يحدث معها في مباراة جذبها لاتخاذ جانب أحد الطرفين، لم تنكر أنها شعرت بالانتشاء لرؤية كليهما يتباريان عليها رغم معرفتها المحدودة بهما، نحت شكوكها جانبًا، متجاوزة عن الطريقة المراوغة والمثيرة التي يتخذاها معها، والتي تحفز شعور الاسترابة بداخلها، إلا أنها منحت التبرير المنطقي لنفسها بأن مثلهما لا يقارنان بمن عرفت سابقًا من ذوي التطلعات المحدودة والقدرات المادية المعدومة، هما أكثر تباهيًا وغطرسة، وهذا ما أثار اهتمامها بهما. لم تكن لتقبل بحياة الشقاء والعوز، مما دعم –بقوة- اختيارها المستقبلي في حصر المنافسة بينهما.
عادت إلى الطاولة الجالس عليها ثلاثتهم بعد أن ضبطت هيئتها بحمام المطعم، لتجدهما في انتظارها، وقائمة الطعام موضوعة أمام موضع جلوسها. نهض "مهاب" ليسحب المقعد قليلًا حتى تجلس، فابتسمت لطريقته المهذبة في التعامل معها كسيدةٍ راقية، أمسكت بالقائمة بيدين ترتعشان قليلًا، خاصة حينما وقعت نظراتها على الأسعار؛ شتت تركيزها اللحظي صوت "ممدوح" حين خاطبها:
-اطلبي اللي عاوزاه يا دكتورة...
هزت رأسها مواقفة وهي تزين وجهها ببسمة لطيفة، فتابع بمكرٍ، وهو يختطف نظرة سريعة نحو "مهاب"، كأنما يتعمد إغاظته:
-ولو حابة نصيحتي جربي الطبق ده، هيعجبك جدًا.
ثم أشار بإصبعه نحو أحد الأصناف، فقالت وهي تغلق القائمة:
-طالما ده رأي حضرتك، فأنا واثقة فيه.
كان "مهاب" يصغي إليهما بملامحٍ فاترة، كاشفًا حيلة رفيقه المفهومة لاستدراجه نحو المنافسة عليها، فكلاهما يتشاركان في سمة غير طيبة، الإيقاع بالنساء واللعب على مشاعرهن المرهفة لجرهن نحو شباك العشق الآثم. أغلق قائمة الطعام، واضعًا إياها جانبًا، وعلق باسمًا:
-"ممدوح" في الأكل ما يتوصاش، عارف إيه الصنف المناسب، اللي يعجبك وياخد العقل.
بادله الابتسام قائلًا بلهجةٍ فهم مضمونها:
-خبرة بقى.
إكثار الحديث بهذه الطريقة أمامها قد يجعلها ترتاب، وتتخذ حذرهما من كليهما، لذا غير "مهاب" من مجرى الحوار، وسألها في اهتمامٍ:
-قوليلي أخبار الدراسة إيه؟
ردت بإيجازٍ:
-ماشية الحمدلله.
انتصب بكتفيه مؤكدًا عليها:
-لو محتاجة مساعدة أو توصية فأنا موجود، معارفي هنا كتير.
علق عليه "ممدوح" فيما بدا وكأنه حسدًا:
-طبعًا، نفوذ وسُلطة، وكل حاجة.
سأله مستفهمًا بمزاحٍ:
-دي غيرة ولا حقد؟
لم يخفِ عليه نواياه عندما أفصح:
-الاتنين.
ضحك "مهاب" عاليًا فاندهشت "تهاني" من ردة فعله، توقعت أن يغضب، أن يظهر انزعاجه؛ لكنه كان هادئًا للغاية، سجالهما التنافسي ليس معتادًا عليها في هذه الأوساط، فتساءلت وعلامات الحيرة تغطي ملامحها:
-هو إنتو على طول كده؟ زي...
ترددت قبل أن تختتم جملتها بحرجٍ:
-ناقر ونقير.
شرح لها "مهاب" ببساطةٍ وهو يميل بجسده ناحيتها:
-ما أنا قولتلك احنا عِشرة عمر، اتربينا وكبرنا سوا.
قالت وهي تخفض بصرها متحرجة من اقترابه اللافت:
-ربنا يديم الصداقة دي بينكم.
مرة ثانية، وعند هذا القرب، سألها "مهاب" في صوتٍ جاد، ونظراته المهتمة تحتويها:
-مرتاحة في السكن؟ ولا تحبي نكلملك حد يغيرلك المكان؟
شعرت وكأن الحظ يبتسم لها، يفتح ذراعيه لاستقبالها، فمن النادر أن يتودد أحد الأثرياء لفتاة فقيرة شبه معدمة، لا تملك من متع الدنيا سوى حظًا في التعليم، وقدرًا معقولًا من الجمال، بالكاد حافظت على تحمسها، وحمحمت مرددة بحرجٍ:
-لأ، كله تمام.
أكد لها بنفس النبرة:
-مش كلام صدقيني، أنا كلمتي مسموعة هنا.
أحس "ممدوح" أن كفة المنافسة تميل لصالح خصمه، فصاح منهيًا ما بينهما من حوار جانبي:
-بيتهيألي ننادي على الجرسون عشان جوعنا.
اعتدل "مهاب" في جلسته، وقال مسترخيًا:
-وماله .. اطلب لنا على ذوقك يا "ممدوح".
أراح ظهره للخلف مثله، وأخبره بهذه الابتسامة اللئيمة:
-أكيد .. وأنا ذوقي دايمًا مميز ومختلف.
❈-❈-❈
خشيت أن تهوي من سماء أحلامها الوردية على أرض الحياة الواقعية، فيُكسر قلبها، ويتحطم ما نشأ بداخلها. ظلت تكتم ما يضرم في صدرها من مشاعر متلهفة، وأحاسيسٍ متصارعة، داعية الله سرًا أن يحدث المراد، وتلقى القبول. ما إن جاءتها البشرى حتى أطلقت العنان لحنجرتها لتزغرد بلا توقف، وكما لم تفعل من قبل. حذرتها "عقيلة" من الإسراف في التعبير عن فرحتها بقولها الجاد:
-يا بت استني لما الموضوع يكمل، داري على شمعتك.
كل ما فات وانقضى من عمرها قبل هذه اللحظة الفارقة لم تحزن عليه، فقد غلبت عليها فرحتها، وأنستها ما مرت به من شعور جارح بالنفور والإهمال، لذا باحت لها بلا ترددٍ:
-يامه مش قادرة أمسك نفسي، ده أنا الفرحة مش سيعاني.
مرة ثانية شددت عليها بخوفٍ:
-بدل ما تتحسدي.
تفهمت مقصدها وقالت على مضضٍ:
-ربنا يستر ويكملها على خير.
ومضة خافت صدحت في عقلها لتذكرها بلقائها العفوي معه، فتخيلت نفسها إلى جواره، كزوجته المخلصة، يُلاطفها، ويتودد إليها، ويملأ أذنيها بمعسول الكلمات ليستطيب قلبها، لم تشعر بابتسامتها وهي تتشكل بوضوح على محياها، ولم تبددها كذلك، تركتها تزيد من الإشراقة التي أنارت وجهها، وجعلتها تبدو أصغر من عمرها، أتفعل الفرحة بالمحب ذلك؟ أتبدل حاله من شيء لآخر؟ قفزت في مكانها تطلب من أمها بحماسٍ:
-أنا عاوزة أنزل أشتري قماش جديد من عند بتاع المانيفاتورة، عشان أفصله فستان عند الخياطة، بس يكون حاجة كده ألاجة وآخر منجهة.
هزت رأسها معقبة عليها:
-ماشي، دي أمرها سهل، السوق فيه كام تاجر معروفين ببضاعتهم الحلوة.
أحست بنفسها تملك سمة من سمات الأنثى المثالية، فبدت مهتمة للغاية بالظهور في مظهر الكمال والجمال، أشارت بإصبعها متابعة:
-وهشوف جزمة حلوة من بتوع "تهاني" ألبسها، بس يا ريت تيجي مقاسي.
اقترحت عليها أمها بجدية:
-لو واسعة نحطلها فرشة.
وافقتها الرأي، وقالت وهي تحاول تجسيد ما تتخيله بحركات عشوائية بكلتا يديها:
-أيوه، وكمان عايزة أعمل شعري، وأفرده زي ما الممثلات بيعملوا.
ضحكت "عقيلة" من طريقتها الطريفة في الوصف، بينما استمرت "فردوس" بالتحليق في خيالاتها الفسيحة كاتساع الفضاء بترديدها المتفاخر:
-أنا مش هستخسر في نفسي حاجة نهائي، ده يوم مايتعوضش.
زمت شفتيها هاتفة:
-وماله ..
ارتفع صوت إحداهن من المنور الخارجي مناديًا بعجالةِ:
-يا "دوسة! يا "دوسة"!
انزعجت "عقيلة" من هذا الصخب، وتساءلت في تبرمٍ:
-ياختي مين بينادي كده؟!
اشرأبت ابنتها بعنقها لتنظر من فتحة الشباك الموجودة في المطبخ، رأت جارتهما بالأسفل تلوح لها بيدها، فأشارت لها لتكف عن النداء، ثم خاطبت أمها دون أن تنظر تجاهها:
-دي "إجلال" يامه.
على مضضٍ طلبت منها والدتها وهي تجر المقعد القصير لتجلس عليه بعدما راحت عظام ساقيها تئن من كثرة الوقوف:
-شوفيها عاوزة إيه.
-طيب.
قالت كلمتها الموجزة وهي تفتح الشباك سائلة إياها بصوتٍ حائر:
-خير يا "إجلال"؟ بتنادي كده ليه؟
أجابت بإشارة من يدها:
-ليكم جواب مع البوسطجي عند البقال.
استغربت مما قالت، ورددت بحاجبين معقودين:
-جواب!
هنا هبَّ "عقيلة" واقفة، وخرج من جوفها صيحة مليئة بالشوق:
-يبقى أكيد من أختك...
غلبتها لهفتها إليها، فصاحت تأمر ابنتها بحدةٍ:
-انزلي أوام هاتيه قبل الراجل ما يمشي.
تركت ما تفعله، وقالت بوجهٍ مال للوجوم:
-على طول يامه.
تبعتها "عقيلة" بخطواتٍ شبه بطيئة، وهي تُحادث نفسها في عتابٍ خافت:
-أخيرًا افتكرت إن ليها أم تسأل عليها.
❈-❈-❈
صارت شاردة، واجمة، ترسم التعاسة علامتها على وجهها الحزين وهي تستحضر في ذاكرتها الأوقات الأخيرة التي جمعتها بابنتها قبل أن تقرر الرحيل والسفر وراء الأحلام المستحيلة. مسحت "عقيلة" دمعة نافرة من طرفها، وسحبت نفسًا عميقًا لتطفئ به لهيب شوقها إليها، أثناء استماعها لما كتبته "تهاني" في مكتوبها الورقي إليها، حررت أنفاسها المختنقة، لتتساءل من جديد:
-يعني صحتها كويسة؟
أخبرتها "فردوس" وهي تطوف بعينيها على الأسطر في تعجلٍ:
-أيوه يامه، ما أنا قولتلك إنها كاتبة إنها بخير، وأعدة في مكان حلو.
جاهدت لإخفاء عِظمة لوعة اشتياقها؛ لكنها لم تستطع، فمشاعرها الأمومية طغت عليها، سألتها بصوتٍ شبه مختنق:
-هتنزل إمتى؟
انتظرت لهنيهة قبل أن تجيب:
-مش كاتبة.
لاحقتها بفيض أسئلتها تباعًا:
-طب بتاكل كويس؟ ونومتها مرتاحة فيها ولا لأ؟ وفي حد بيساعدها إن احتاجت حاجة، ولا سايبنها كده؟ وشغلها ودراستها؟
ردت باقتضابٍ:
-كله تمام يامه.
سئمت من إيجازها، فهتفت بها بضيقٍ:
-يا بت اقريلي المكتوب تاني بالراحة خليني أفهم بدل ما أنا باخد الكلام منك بالقطارة.
أخبرتها بصوتٍ محتج:
-تاني يامه؟ طب ما أنا بجاوب على اللي بتسأليني عليه.
نفخت عاليًا، وأمرتها بنبرة اخشوشنت نسبيًا:
-اقري بس، ده هيتعبك في إيه؟!!
حكت جبينها وقالت مستسلمة:
-ماشي، اسمعي يامه.
انتهت من إعادة قراءة ما جاء في رسالتها، لتتضرع بعدها "عقيلة" بقلبٍ واجل، ولسانٍ لاهج:
-ربنا يردك بالسلامة يا "تهاني".
ظلت "فردوس" تتطلع إليها بغير اهتمام، ربما كانت تفتقد وجودها؛ لكنها في نفس الآن تذكر كيف تصبح مهمشة في حضورها، كأنها غير مرئية من الجميع، إحساسها بأنها أصبحت مطلوبة ومرغوبة عزز في نفسها مشاعر الغيرة والتنافس. ودَّت فقط أن تختفي عن المشهد، وألا تعود ريثما يتم زواجها، فمن الأفضل أن تحصل على أي لقبٍ غير أن يقال عنها المرأة العانس! أحضرتها من تفكيرها المشحون نبرة والدتها المتسائلة:
-هي مش حاطة رقم تليفون نطلبها عليه من السنترال؟
قلبت المظروف على جانبيه قبل أن يأتيها جوابها حاسمًا:
-لأ، مش مكتوب.
ساد التجهم على تعابير أمها وقالت بصوتٍ مال للانكسار:
-جايز تكلمنا من نفسها.
بفتورٍ غير مبال أخبرتها وهي تطوي الرسالة بمغلفها معًا:
-أيوه.
على حسب فهمها لطبيعة شخصية شقيقتها، كانت متأكدة أنها لن تفعل ذلك إلا أن انتقص عليها شيء، حينها فقط ستكلف نفسها العناء وتخاطب أمها لتطلب المساعدة، والأخيرة لن تفكر مرتين لإعطائها ما تريد، فهي المفضلة دومًا لديها، أما هي فتأتي في المرتبة الثانية في كل شيء!
❈-❈-❈
-اتأخرتي ليه؟ ده أنا مستنياكي من بدري.
صاحت "ابتهال" بهذه العبارة وهي تقف عند عتبة باب المسكن لاستقبال شريكتها، كأنما تقوم بدور ولي أمرها، خاصة بعدما رأتها تترجل من هذه السيارة الفارهة، وأحدهم يخاطبها بألفة غريبة. لم تكن لتترك الأمر يمضي هكذا دون أن تشبع توقها لمعرفة أدق التفاصيل؛ لكنها لم تنطق بشيء، مبدية بوجهها ضيقًا واضحًا لملاحقتها السمجة. تجاهلتها "تهاني" عن قصدٍ، وولجت للداخل نازعة عنها حذاء قدميها، فتبعتها الأولى تتأملها بفضولٍ وهي تهتف من ورائها:
-يا "تهاني" أنا بكلمك، إيه اللي آخرك برا؟
نبرتها الحادة أزعجتها للغاية، فقالت بوجومٍ:
-بطلي دوشة، عاوزة أرتاح.
ثم استلقت على الأريكة في استرخاء، وراحت تتنهد مليًا، بعدما حلت شعرها، وتركته ينساب بتحررٍ على كتفها، شردت مبتسمة، محاولة فصل عقلها عن الواقع الحالي، لتسبح في لقاء الأحلام الذي كانت جزءًا منه قبل قليل، لفت خصلة من شعرها حول إصبعها، وراحت تعبث بها في نفس الملامح المستكينة الناعمة، ونظرات "ابتهال" الفضولية تشملها، إلى أن استحثها تطفلها السمج على اقتحام خصوصيتها والإلحاح عليها بأسئلتها:
-إنتي شكلك مبسوط وآخر روقان، أومال مين اللي وصلك ده؟ حد نعرفه؟
نظرت لها باستعلاءٍ قبل أن ترد في صيغة متسائلة:
-وإنتي هتعرفي ولاد ناس منين؟
شعرت بقدرٍ من الضيق لإهانتها المتوارية، وردت عليها كطلقة سهم مصوبة في صدر أحدهم:
-هو أنا جاية من الشارع، ده أنا تخصص حشرات، والأولى عن دفعتي، والكل ما بيصدق يشوفني عشان يكلمني، وآ...
قاطعتها رافعة يدها لها لتكف عن الثرثرة الفارغة:
-خلاص مش عاوزة أسمع حاجة.
زفرت بتكاسلٍ، ونهضت من مكانها متجهة إلى الحمام، ومع ذلك لم تتركها "ابتهال" لحالها، تبعتها كظلها وهي تسترسل:
-لأ بس العربية فخمة الصراحة، تجيلها بكام دي؟
كعادتها حين لا تتوقف عن الكلام تسد "تهاني" أذنيها عنها، وتقوم بما تفعله في صمتٍ تام، حيث فرغت من غسل وجهها وكفيها، وخرجت من الحمام معها منشفتها، لتذهب إلى غرفتها، وصوتها اللحوح يلاحقها، أبقت على برودها معها، واستمرت تُوضِّب ثيابها، وتجمع ما يحتاج للغسيل جانبًا، لتعلمها في النهاية:
-اعملي حسابك أنا مش رايحة معاكي بكرة.
تقطب جبين "ابتهال" باستغرابٍ آخذٍ في التزايد، وسألتها وهي تبدو مندهشة بشدة:
-ليه؟ أدوكي أجازة؟
ظهر الغرور على محياها حين أجابتها:
-لأ، في عربية مخصوص هتوديني وتجيبني من المستشفى.
شهقت في ذهولٍ قبل أن تهلل:
-إيه ده! عربية مخصوص؟ سيدي على الدلع كله.
ثم التصقت بها كالبق طالبة منها بسخافةٍ:
-طب ما تاخدي أختك حبيبتك معاكي، بدل العطلة والدوخة اللي ببقى عليها كل يوم، وفي الآخر الواحد يروح مأريف، ويرجع مفرهد.
نظرت لها بنفورٍ، قبل أن تدفعها بعيدًا عنها، لتزيح الغطاء عن جانب الفراش، أشارت لها بيدها قائلة وهي تستعد للتمدد عليه:
-أنا عاوزة أنام، ممكن تطلعي برا.
بقيت مجاورة لها، تسألها بتحيرٍ:
-مش هنجيب أكل؟ ده أنا واقعة من الجوع.
تثاءبت وهي ترد:
-اطلبي إنتي لواحدك.
رفضت "ابتهال" الذهاب قبل أن تخبرها كذلك بما فكرت فيه باكر:
-طب بقولك إيه في حاجات كتير ناقصة عاوزة أشتريها هتنفعنا، وآ...
قاطعتها بعدم اهتمامٍ:
-بعدين، أنا مش فايقة، اقفلي الباب وراكي.
بالكاد انزاحت من غرفتها لتغمغم في صوتٍ مسموع، ومصحوبٍ تنهيدة طامعة:
-اوعدنا يا رب بمعارف تقال زي اللي بتعرفهم "تهاني" يا رب.
رفعت الأخيرة رأسها عن الوسادة لتتطلع إلى أثرها بعدما غادرت غرفتها، ساد على وجهها تكشيرة نافرة منها وهي تنهض سريعًا لتغلق الباب في التو، قبل أن تفكر في العودة وتزيد من إزعاجها بأسلوبها غير المستلذ. استندت بيدها على الإطار الخشبي وابتسامة ناعمة تشق طريقها إلى شفتيها مع تذكرها لمدى الراحة التي كانت عليها وهي بصحبة ذلك الجراح، كان لطيفًا معها للغاية، ودودًا لدرجة أبهرتها، وجعلتها تتمنى أن تكون وثيقة الصلة به؛ لكن نغص عليها صفو لحظاتها المميزة النظرات الغريبة المتبادلة مع رفيقه، ورغم ذلك لن تنكر أنها انجذبت إلى أسلوبه المثير في تحفيز من حوله، احتارت، وتحيرت، وتخربطت أفكارها، فلم تجهد عقلها بالمزيد من التفكير التحليلي، واكتفت بالاستمتاع بما عاشته كأميرة مدللة لهذا اليوم، عادت إلى سريرها تتبختر في مشيتها وهي تدندن بخفوتٍ، وآمالها العظيمة قد طارت محلقة في الأفق البعيد:
-بكرة يا دُنيا، نلف الدُنيا .......................................... !!