رواية جديدة لا يليق بك إلا العشق الجزء الثاني لسماح نجيب الفصل 11 - 2
رواية جديدة لا يليق بك إلا العشق الجزء الثانيمن قصص وروايات الكاتبة سماح نجيب
الجزء الثاني من رواية لا يليق بك إلا العشق
رواية لا يليق بك إلا العشق الجزء الثاني
الفصل الحادي عشر
الجزء الثاني
❈-❈-❈
بتذكر الإمام حال إبنته ياسمين ، تغشى الحزن عيناه ، وكسا الألم والوجع قسمات وجهه البشوشة ، والتى لا تنطق دائماً إلا بالرفق واللين ، ولكن رغم مصابه الأليم بما حدث لابنته وقرة عينه إلا أنه لم يفقد الأمل بداخله على أن تعود ياسمين كما كانت سابقاً وأن يشرق النور بعينيها بعد ذلك الظلام الدامس الذى أتخذ من عيناها مسكناً له
ربت على يـ ـد عمرو ورد قائلاً بإبتسامة هادئة:
- تسلم يا إبنى على شعورك الطيب ، بس صدقنى والله الحمد لله مستورة ولو بنتى محتاجة عملية أكيد طبعاً هخلى أحسن دكتور فى البلد يعملهالها ، بس الدكاترة قالوا أن العملية فى الوقت ده صعب ولازم تعالج التلف اللى حصل فى أعصاب العين الأول قبل ما تعمل عملية ، فالمسألة مسألة وقت مش حكاية فلوس
عاد عمرو وعرض عليه أن يأتى لها بطبيب أخر من إحدى الدول الأوروبية وأن يتولى مهمة معالجتها ، ولكن رفض الإمام عرضه ، فهو من البداية رفض أن يدفع له عمرو ثمن نصيحته له ، وكم من مرة حاول بها أن يبدى شكره وإمتنانه له بالهدايا والعطايا ، ولكن دائمًا ما كان يرفض هو تلك الهدايا التى جاءته من باب الإمتنان ، فكونه أن لديه ولدًا شاباً لم يكن يريد أن يراه يوماً يعانى من السوء أو الإنحراف ، كان إحدى دوافعه بأن يساعد عمرو على الخروج من تلك البؤرة الفاسدة التى كان غارقاً بها ، ودافعه الأول كان إبتغاء مرضاة الله
بعد فشل عمرو فى الحصول على موافقة الإمام ، ظل بضع دقائق معه بالمسجد ومن ثم خرج وأخذ سيارته وهو بنيته أن يعود للمنزل ، ولكن تذكر تلك المشادة الخفيفة التى حدثت بينه وبين والدته ، لذلك أرجئ أمر عودته للبيت ، وفكر فى الذهاب لإحدى المكاتب الهندسية لرغبته فى تغير ألوان تلك الغرفة التى يسكنها ، والتى ستصبح فيما بعد غرفة خاصة به وبزو جته ذات اللسان السليط ، التى ما أن تذكرها إبتسم بعفوية على أفعالها والتى ينال منها النصيب الأكبر ، كأنها تتدخر كل سخطها ونقمها وحديثها اللاذع من أجله ، وكلما يتخيل كيف حالها الآن بعدما إستطاع توريطها بالزوا ج ، يشعر بنشوة عارمة ، خاصة وأنها منذ ذلك اليوم تهاتفه أكثر من عشر مرات لتتحدث معه ، وعندما لا يجيب على إتصالاتها ، ترسل له عدة رسائل على مواقع التواصل الاجتماعي لا تخلو من العبارات الساخطة والناقمة علاوة على تهديدها الصريح له بأنها ستجعل حياتهما سوياً جحيماّ بكل للكلمة من معنى إذا تزو.جها حقاً
❈-❈-❈
رآت ساندرا أنه من الأنسب لها الخروج للحديقة ، لعل يساهم الهواء الطلق بجعلها تشعر بالهدوء ، الذى إفتقدته منذ أن أخبرها راسل بشأن مجيئها معهم لمنزل عائلته ، فالجو داخل القصر مشحون بالتوتر والتساؤلات والنظرات المستاءة والحانقة ، رغم أنها لم تلقى مهانة من أحد حتى حياء ، فالأمر أقتصر بينهما على تجنب حياء لها وحرصها على ألا يجمعهما مكان واحد أو أن تتواجهان وجـ ـها لوجـ ـه ، ولكن شعور عارم بعدم الراحة راح ينهش قلبها ، خاصة أنها حتى الآن لم تقابل رياض ، رغم عودته للمنزل منذ بضعة أيام ، ولم يذكر راسل أنه يرغـ ـب فى أن تقابل والده ، بل أنه يتصرف على نحو غير مبالى بأى شئ يحدث حوله
وصلت للحديقة ولكنها كانت غير سعيدة الحظ بأن تعيد أدراجها بعد رؤيتها لرياض يجلس بالحديقة ويرافقه حياء وسوزانا وسجود ، إذ كانت تقف على مقربة من مجلسهما ، ولم تشأ أن تدعهم يظنوا أنها لا تريد الجلوس معهم أو أنها تفتقر إلى الذوق ولم تلقى التحية عليهما ، فأكملت سيرها حتى وصلت إليهم وألقت عليهم تحية الصباح ، فردوا التحية عدا حياء التى رمقتها بنظرة باردة وعادت تكمل لهوها مع سجود
بعد أن شعرت بالفتور على وجوههم بعد رؤيتها ، فضلت أن تعود للداخل إلا أنها سمعت صوت رياض قائلاً بما يشبه الأمر:
- تعالى يا ساندرا أقعدى علشان عايز أتكلم معاكى شوية ، غريبة بقالى كام يوم فى البيت ومفكرتيش تشوفينى ولا حتى شوفت ساجد أنتوا مخبينه عنى ليه ، هو أنا هاكله ، مش أنا أبقى جده برضه ، ولازم أشوف حفيدى
هذا ما كانت تخشاه أن تجد نفسها بالأخير فى حضرة رياض النعمانى والذى طالما سمعت عنه من راسل ووفاء ، وعلمت مدى حكمته وحنكته وذكاءه الحاد ، جلست على أحد المقاعد وضمت كفيها ، كتلميذة تجلس أمام معلمها
إرتكز رياض بكفيه على رأس عصاه وأنحنى قليلاً للأمام متسائلاً:
- قوليلى يا ساندرا إيه حكاية جوازك أنتى وراسل ؟ وإيه الموضوع بالظبط وهو فين ساجد
ضمت ساندرا شـ ـفتيها وضغطت عليهما بفكيها حتى كادت أن تدميهما ، ولكن ما أنقذها من ذلك المأزق هو مجئ راسل وهو يحمل الصغير ، فنظر للجالسين تباعاً ومن ثم نظر لساندرا قائلاً بهدوء:
- ساندرا ، ساجد شاكله محتاج يغير هدومه ، فقومى علشان تغيرليه وتأكليه
هبت ساندرا واقفة كأن جاءها الخلاص ، فردت قائلة بسرعة :
- حاضر راسل ، تعال ساجد لماما
أخذت الصغير منه ولكن قبل أن تلوذ بالفرار من مكانها ، سمعت صيحة رياض وهو يقول بإستنكار :
- هو مفيش أى حد من الشغالات هتعرف تغيرله وتأكله يا راسل ، كنت عايز أتكلم معاها شوية ، ومش تستنى أشوف إبنك يا دكتور ، اللى لحد دلوقتى مخبيه عنى زى ما تكون خايف
أشار راسل لساندرا بالمغادرة وإلتفت برأسه لوالده وهو يقول ببرود :
- عايز تتكلم معاها ولا تستجوبها زى ما تكون قابض عليها ، اللى عايزة تسألهولها ، إسألنى أنا وهجاوبك يا رياض باشا ، يلا يا ساندرا روحى أعملى اللى قولتلك عليه ، ولما تغيرلى لساجد هاتيه لجده علشان يشوفه
أنتفخت أوداج رياض من سلوك راسل المتسم بالبرود والجحود مثلما كان معه دائمًا ، وكأن تلك الأيام القليلة التى قضاها معه كأب وإبنه وكانت أمورهما أخذت بطور التحسن ، لم يعد لها وجود كأنه لم يعد يتذكرها وعاد لما كان عليه من جحوده بحقه ، فليلة الحب الأثمة والتى نتج عنها إنجابه لراسل ، يبدو أنه أعادها هو بشكل أو أخر ، حتى يترك زو جته التى عشقها وعشقته ويعود بطفل من إمرأة أخرى ، وما أشبه الليلة بالبارحة ، فهما حقاً متشابهان ليس فقط بالملامح ولكن بنتائج أفعالهما من أنهما وقعا بذلك الفخ من النزوات ، والتى لم تنتهى بأن تكون ليلة حب آثمة وتذهب بطى النسيان ، ولكن ينتج عنها خطيئة أخرى لن يكون مصيرها أن تُنسى أو تهمل
دب رياض الأرض بعصاه وهو يقول بإنفعال :
- أنت خايف أقعد أتكلم معاها وأعرف أنت مخبى إيه عليا يا دكتور
إلتوى ثغر راسل ورد قائلاً بتهكم :
- هخبى إيه يعنى كل حاجة واضحة أهى قدام عين الكل ، وأنا مش هسمح لحد يزعل ساندرا أو يدسلها على طرف ، حتى لو كان إنت يا رياض باشا
بدفاعه المستميت على الحفاظ على شعور ساندرا جعل حياء تشعر بالسوء ، فهل أصبحت تلك الفتاة تشكل لديه فارقاً إلى هذا الحد ؟ وهى التى كانت زو جة له مستميتة بعشقه والحفاظ على سلامته لم يأبه بألامها ، فكم تغير معشوقها ، ولم يعد هو من كانت ترجو دقيقة واحدة تجمعهما عندما كان غائباً عنها
راحت تهمس بقرارة نفسها بتشجيع :
- إهدى يا حياء ومتخليش حد يشمت فيكى ، مش لازم تبقى ضعيفة خليكى قوية
أكملت لهوها مع سجود ، فى حين أنها ترهف سمعها لتستمع لما يجرى حولها ،ولكن لو كان بإمكانها لكانت فرت هاربة من ذلك المجلس ولتجد مكاناً لتبكى فيه على سجيتها ، ولتطلق سراح إسمه الحبيس بين شـ ـفتيها ، لعل ذلك يفلح بإنهاء ذلك الألم ، فكلما حاولت إقناع عقلها وذاتها بأن عواطفها ومشاعرها تجاهه أحترقت بالكامل ولم يتبقى سوى رمادها ، تعود وتشعر بالغيرة كلما رآتهما سوياً أو سمعته يتفوه بإسمها من بين شـ ـفتيه ، هاتان الشـ ـفتان اللتان أشبعتها بالماضى إطراءًا وغزلاً وعطفاً وعشقاً ، فتلك المرة التى تحدته بها وجعلته يشعر بأنها لم تعد تراه زو جًا ، مازالت متذكرة طعم العناق بها ، حتى وإن رفضت التصريح بذلك حتى لو بخلوتها مع ذاتها ، فعصفت رياح الغيرة بقلبها ، كلما تتخيل كيف يكون شعوره عندما يضم إليه أنثى غيرها ، وكيف يكون حال ساندرا عندما يتوددها مثلما كان يتودد إليها
خرجت حياء من دوامة أفكارها وشرودها بعد سماع صوت والد زو جها يصيح قائلاً بغضب :
- أنا نفسى أعرف وأفهم أنت جنسك إيه بالظبط ، وعايز توصل لإيه من اللى أنت بتعمله ده ، أنت رجعت علشان تنقذنى ولا علشان تخلص عليا بعمايلك وترتاح
جلس راسل بذلك المقعد الذى كانت تجلس عليه ساندرا ، ومن حظ حياء السئ أنه كان قريباً من مقعدها ، وضع مرفقيه على حافتى المقعد وقال ببرود :
- خلاص أنا مهمتى خلصت وأنت الحمد لله بقيت كويس وأنا مسافر الفجر وهريحك منى يا رياض باشا وهرجع كندا تانى
حدق به رياض مشدوهاً ، كونه لم يكلف نفسه عناء إخبارهم بأنه مسافراً بفجر الغد ، بل كان يبدو عليه أنه سيجعلها مفاجأة غير سارة كمرته الأولى ، فحقاً هو يحسده على ذلك البرود الذى يتحلى به والقادر على إصابته بالمرض مرة أخرى
رفع رياض عصاه وأشار له بها وهو يقول بإستنكار وإنفعال :
- يعنى كمان كنت هتسافر تانى وأنا معرفش يا غلطة عمرى
إبتسم راسل بتهكم ورد قائلاً بعدم إكتراث :
- أيوة أنا غلطة عمرك ، زى ما ساجد غلطتى أنا كمان وكل واحد فينا يتحمل غلطه ، ساندرا مش حابة تعيش هنا فى إسكندرية وأنا ميهمنيش إلا راحتها وراحة إبنى ، لأن مش هسيبهم علشان خاطر حد ، بس أوعدك أن مش هبقى زيك يا رياض باشا وأعايره بأمه وأنه جه على الدنيا غلطة
يبدو أنه لن ينسى ولن يعود بإمكانه أن يصلح مفاهيمه عنه حتى بعدما صار بهذا العمر ، فماذا يفعل معه ؟ أو إذا صح القول ماذا فعل بحياته حتى يكون راسل عقاب الله له على الأرض ؟
- بس ياريت قبل ما تسافر ، تبقى تفتكر تطلقنى يا دكتور
قالت حياء بسخرية وهى تحدق به بهدوء ، ولكن لم يستطع هو النظر إليها ولكن إكتفى بالنظر فى وجـ ـه إبنته الجالسة بجوارها ، فرد قائلاً وهو يترك مكانه :
- أول ما أوصل هناك هبعتلك ورقة طلاقك متقلقيش
عقدت حياء ذراعيها وقالت ببرود كأن الأمر لا يعنيها :
- وليه مطلقنيش دلوقتى ، عندك مانع يا دكتور
توقف عن السير وإلتفت برأسه إليها قائلاً بسخرية مؤلمة :
- مليش نفسك أطلقك دلوقتى يا حياء
صمت وعاد يكمل حديثه بقرارة نفسه الملتاعة :
- أنا مش عارف أعملها إزاى أصلاً يا حياء ، دا عذاب ما بعده عذاب ، إن أطلقك وأنتى واقفة قصاد عينى ، زى ما يكون بحكم على نفسى بالإعدام ، لكن لما أبقى بعيد جايز أقدر أعمل كده
لو قايضه أحد الآن على أن ينزع قلبه من جوفه مقابل أن يضـ ـمها إليه لأخر مرة قبل رحيله ، لقبل المقايضة على الفور ، يكفى أنها كانت زهرة في بستانه رواها بأشواقه وغرامه ، فهى أجمل زهرة رأتها عيـ ـناه، نسمة من عبير فواح إشتم عبق عطرها، و مازال متذكراً عندما رأي أول مرة عينيها المكتنفتان بسحر وبريق أذاب صقيعه، فكأن سهام الحب ضربت قلبه ، وصار مصاباً وعليلاً بعشقها، يهواها ويعشقها ولا يريد أن ينساها ، ولكن يريدها أن تنساه ولا تعد تفكر به ، أفكار متناقضة تهدر بداخله ، لا هو قادراً على أن يخطو للأمام أو للخلف فى تلك العلاقة التى حكم عليها بالفشل من تلك الظروف المحيطة
تركهم وعاد للداخل حتى وصل لغرفته ، وقرر قضاء تلك الساعات المتبقية له بالمنزل وهو جالساً بها ولن يبرحها إلا عندما تحين تلك اللحظة التى سيترك بها البيت ويسافر على متن تلك الطائرة التى ستعيده لكندا ، فأرتمى على الفراش وحاول أن يغفو قليلاً كونه أنه يريد أن يظل ليله مستيقظاً حتى يشبع عيـ ـناه من المنزل وساكنيه دون الحاجة أن يواجه أحدًا منهم
فبالمساء بعدما إستيقظ من نومه المتقطع، أصر على تناول العشاء بغرفته ، وصعدت الخادمة له بالطعام وأوصاها أن تعد له قدح من القهوة ، حتى لا يغلبه النعاس وأن يظل مستيقظاً لقبيل الفجر ، أخذ قهوته وولج للشرفة ، أمعن النظر بحديقة القصر المتلألئة بالأنوار ، ولكن لا أحد يجلس بها سوى الحراس
- إيه الصداع ده
قالها راسل وهو يضع يده على جبهته يدلكها بعد شعوره بآلام شديدة بها ، فعاد للغرفة ووضع قدح القهوة الفارغ ، جلس على حافة الفراش ووضع رأسه بين يـ ـديه وما هى إلا دقائق حتى غط بنوم عميق
بعد عدة ساعات
أقتربت سجود منه ووكزته بذراعه وهى تقول بإلحاح :
- بابى بابى إصحى يلا
فتح راسل عيناه بصعوبة ونظر لإبنته ولكن ما جعله ينتفض من نومه هو رؤيته لنور الصباح الساطع بالغرفة ، فأعتدل جالساً وهو يقول بدهشة :
- هو النهار طلع إمتى والساعة كام دلوقتى
نظر بشاشة هاتفه وجد الوقت قد شارف على الثامنة صباحاً ، فأنتفض من مكانه وترك الفراش وهو يبحث عن حقيبة ثيابه وجوازات السفر التى تركها على الكومود ولكنه لم يجد لها أثراً
خرج من الغرفة وهبط الدرج وشعره مشعث وهندامه مبعثر من أثر نومه وحافى القدمين ، وصل لغرفة المعيشة الكبيرة التى يجلس بها والده ، فصاح قائلاً بغضب :
- هو إيه اللى حصل وإزاى نمت وفين الباسبورات بتاعتنا وفين ماما وساندرا وساجد أنت عملت إيه بالظبط
أرتشف رياض مشروبه البارد ورد قائلاً بهدوء :
- وأنا إيش عرفنى هم راحوا فين ولا أنت جاى تتبلى عليا وتقل فى أدبك زى عوايدك يا دكتور ، يمكن تلاقيهم نايمين
علم أنها مبارزة خاسرة بينه وبين أباه ، فهو يعلم علم اليقين أن له يـ ـد بما حدث له ، وربما هو من أوصى الخادمة بوضع منوم له بقهوته حتى يستطيع أن يفوت عليه تلك الفرصة ، ولم ينسى أن يعرقله عن إعادة الكرة بأن يرحل من المنزل بأن أخذ جوازات السفر الخاصة بهم ، فماذا يفعل هو الآن مع والده ، الذى لديه إصرار كامل على أن يصبح ذلك القصر كالجحيم ؟ خاصة أنه حتى الآن يحاول أن يمارس ضبط النفس ، وإلا أنهار ثباته المزيف
ترك غرفة المعيشة وخرج وهو يتمتم بعبارات السخط والغيظ ، وأثناء صعوده الدرج لم ينتبه لحياء التى عقدت حاجبيها بدهشة من هيئته ، وهى التى كانت تظن أنها عندما تفيق من نومها ستجده قد رحل عن المنزل ، لذلك أعدت حقيبتها بالغرفة وكانت بنيتها هى الأخرى أن تترك البيت بعد أن تخبر رياض بقرارها ، وتعطيه تلك الأوراق التى تفيد بأن أملاك عائلة النعمانى عادت لمالكها الأصلى
تبادلا النظرات سوياً بصمت ، وأكمل طريقه حتى وصل لغرفته ، بينما هى هبطت الدرج ووصلت لمجلس رياض وناولته الأوراق ، ولكنه رفض رحيلها من المنزل ، واعدًا إياها بأنه يجب عليه رد حقها الأول من ولده وبعد ذلك هى حرة بقرارها ، ولكنه رفض التصريح بأسبابه الحقيقية التى جعلته يصر عليها أن تظل هنا بالمنزل ، والتى لن يصرح بها لأحد حتى يحين وقتها ويعلم ما يخفيه عنه راسل
❈-❈-❈
نظر أدم بشاشة هاتفه ، وعلم أنه لم يتبقى على إقامته بالإسكندرية سوى يومان وسيعود لفرنسا ، فألقى الهاتف من يـ ـده بشئ من الحدة ، كأنه لا يريد أن يتذكر أن وقت رحيله قد شارف على المجئ ، ترك مقعده وولج لشرفة غرفته التى مكنته من أن يرى البحر بوضوح ، فتلاطم أمواجه العاتية ، ذكرته بما كان عليه عندما عقد العزم على المجئ هنا ، تدفعه رغبـ ـته فى رؤية تلك المدينة التى طالما سمع عنها من والدته ، التى كانت عاشقة لها وكانت تزورها من وقت لأخر قبل مولده مثلما أخبرته ، ورغم سنوات عمره التى تخطت الخامسة والعشرون ببضعة أشهر ، إلا أنه لم يفكر بمرة أن يزورها ، ولكن بعد وفاة والدته ، أراد زيارتها ليعلم ما كانت تخفيه من ذكريات بين رمال شواطئ تلك المدينة الساحرة ، فهو لم يترك مكان بها لم يزوره ، وذهب لتلك الأماكن التى رآها بصور والدته
ولكن مكان واحد لم يستطيع أن يمتلك الشجاعة لزيارته ، على الرغم من أنه كان قاب قوسين أو أدنى منه ، ولكن كأنه يفتقر للشجاعة اللازمة لجعله يواجه ذلك الأمر الجديد ، الذى طرأ عليه ،وجعله يعيد ترتيب أفكاره وحساباته كاملة ، ولكنه لا ينكر أن زيارته للإسكندرية درت عليه فوائد عدة منها أنه أقيم حفلتان غنائيتان وربح من خلالهما مال وفير ، علاوة على أن حفله الأخير والذى سيقام غداً قبل سفره بليلة ، تم التعاقد عليه بمبلغ مالى مساوى لما ربحه من الحفلتين ، ولكن لم يكن يهمه كل ذلك ، قدر إهتمامه بأنه قابل حياء
سمع صوت إقتراب خطوات صديقه منه وهو يحمل له قدح من القهوة ، فإبتسم له وهو يأخذها منه ، فأرتشف منها وقال بدون مرح :
- فاضل يومين ونرجع فرنسا تانى
إبتسم صديقه على نحو مبهج ورد قائلاً بسرور :
- دى أحلى حاجة أن هنرجع فرنسا ، على الأقل هنرجع على رجلينا ، بدل ما نرجع فى توابيت يا مجنون
قهقه أدم على قول صديقه ، بعدما فهم تلميحه من حديثه ، جلس على ذلك المقعد بالشرفة ورد قائلاً برنة حزن :
- تصدق زعلان أنا علشان خلاص مسافر وممكن مش أعرف أشوفها تانى
جلس صديقه على المقعد المقابل له متسائلاً بجدية :
- قولى بجد يا أدم إيه سر إهتمامك بحياء دى بالذات مع أن أنا أعرفك كويس وأكتر من أى حد وعارف أنك من النوع اللى مبيستمرش فى علاقة كتير بتزهق بسرعة ، فغريبة إن ألاقيك مهتم بواحدة وكمان متجـ ـوزة وأنت عارف ومتأكد أن باللى عرفته عنها أنها مش هتسمحلك تقرب منها ولا هتبصلك أصلاً
إرتشف من قهوته ، لعله يمنح ذاته الوقت الكافى للبحث عن سبب مقنع يخبره لصديقه ، لأنه لن يستطيع التصريح بأسبابه الحقيقية ، فحتى وإن كان صديقه المقرب ومدير أعماله ، إلا أن ذلك الأمر الخاص به جعله حكراً على نفسه ولم يشأ أن يعلم أحدًا أخر به ، فعوضاً عن بحثه لسبب مقنع ، أكتفى بالصمت لعلمه أن صديقه ما أن يراه يرفض الإدلاء بأسبابه سيلتزم بالصمت أو ربما يكتفى بتأنيبه على حماقته فى التقرب منها
وضع أدم قدح القهوة الفارغ من يـ ـده وهب واقفاً وهو يقول بشعور خفى من الضيق :
- أنا هخرج أتمشى على الشاطئ وعايز أروح لوحدى خليك أنت هنا
ألح على صديقه بألا يرافقه أو يتبعه ، فأخذ هاتفه وخرج من غرفته ، بل من الفندق بأكمله ، فكر بأن يسير على الشاطئ ، لعل الحظ يحالفه ويراها صدفة مثلما رآها ذلك اليوم
وصل للشاطئ وتجولت عيناه هنا وهناك ، فعاد يأنب نفسه ويعنفها على تفكيره بأن يقحمها بذلك الأمر الذى عاد يشغله منذ أن علم لأى عائلة تنتمى بزوا جها من ذلك الطبيب الذائع الصيت ، ظل يسير وهو شارد الذهن ، حتى لم يعد يعلم أين هو إلا أن رؤيته لذلك المبنى الكبير ، جعلته يدرك أين هو ، فهل هو سار تلك المسافة بطول الشاطئ ، حتى وجد نفسه أمام إحدى شركات النعمانى ؟ فلم ينكر أنه منذ أن رآى حياء أول مرة وعلم من تكون ، أصر على أن يقيم بالفندق القريب من مبنى تلك الشركة بعد علمه بأنها هى من تديرها ، ولكنه لم يتجرأ بمرة أن يزورها بمقر عملها
قبل أن يعيد أدراجه ويعود للفندق ، لمحها وهى تخرج من الشركة ولكنها لم تستقل سيارتها بل عبرت الشارع ووصلت للشاطئ ، فوجدها فرصة سانحة أن يتبعها ليتحدث معها قليلاً ، وهذا ما كان فبعدة خطوات مهرولة ، كان يصل إليها
ناداها قائلاً بإبتسامة :
- حياء
لم تفزع من وجوده ، كأنها كانت تعلم بأمر مجيئه ، بل على النقيض ، إبتسمت وقالت بكياسة :
- أهلاً يا أدم أخبارك إيه
طار أدم فرحًا بسماع صوتها الهادئ وهى تحدثه ، فرد قائلاً ببشاشة :
- تمام ، تعرفى أن كان قلبى حاسس إن هشوفك النهاردة
ضحكت حياء لعلمها بأن عبارته من أقدم العبارات التى يرددها الشباب لإستمالة الفتيات ، فأخذت حديثه على محمل المزاح وردت قائلة وهى تنظر للبحر أمامها :
- أرجوك يا أدم بطل الإسطوانات بتاعتك دى ، دى طريقة قديمة أوى دى
شاركها أدم الضحك ، لظنها أنه عاد يتغزل بها مرة أخرى ، ولكن رآها تكف عن الضحك وتنظر له بإمعان قائلة بجدية ووضوح:
- قولى يا أدم ، ليه أنت مصر على عمايلك دى معايا مع أن لو واحد غيرك وعرف إن أنا متجـ ـوزة ومش حابة يكون فى تعارف بينا ومحاولاتك معايا كلها فشلت ، كان خلاص هيبعد عن طريقى من غير ما يفكر وخصوصاً أكيد أنت عرفت جـ ـوزى من عيلة مين وإيه اللى ممكن يحصلك ، فقولى عايز منى إيه بالظبط
تنفس أدم بعمق ووضع يـ ـديه بحيبى بنطاله وظل يحدق بأمواج البحر وتلك المياه التى كادت تلامس قدميه ، فزفر قائلاً بهدوء:
- جايز أنا مصر أقرب منك علشان أنا يعتبر مش غريب عنك ، لأنك تقريباً زى ما بيقولوا هنا إنك مرات عمى
فغرت حياء فاها بعد سماع الشق الأخير من حديثه ، فرمقته ببلادة وهى تقول بدهشة :
- أبقى مرات عمك إزاى يعنى مش فاهمة يا أدم ، أنت حصل لعقلك حاجة
حملق بها أدم بنظرات مبهمة ، كأنه يمنحها الوقت الكافى للتفكير فى حل ذلك اللغز الذي إكتنف حديثه ، ولكن لم يشأ أن يزيد من حيرتها أكثر ، فرد قائلاً بهدوء:
- أيوة أنتى تعتبرى مرات عمى ، لأن أنا أبقى أدم عاصم النعمانى
إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة سماح نجيب من رواية لا يليق بك إلا العشق، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية و حكاية