-->

رواية جديدة مشاعر مهشمة 2 لشيماء مجدي - الفصل 28

 

قراءة رواية مشاعر مهشمة الجزء الثاني كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى




رواية مشاعر مهشمة الجزء الثاني 
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات 
الكاتبة شيماء مجدي 

الفصل الثامن والعشرون




بعدما توجهت والدته إلى غرفتها استعدادا للنوم بعد انقضاء ذلك اليوم المستنزف، ووضع هو صغيره الغافي في فراشه في الغرفة المجاورة له، قام عند عودته الغرفة خاصته بإطفاء الضوء، حتى تريح زوجته أعصابها في سكون الليل، مع الضوء القليل المتخلل من الشق الصغير لبابي الشرفة، بينما بقى هو متيقظا، رغم محاولته الدؤوبة في استحضار النوم، ولكنه عجز تماما مع الحزن المستوطن قلبه، والمؤسف أنه غير قادرٍ على إشراك زوجته فيه، حتى لا يضنيها نفس العذاب، فهو ييقن من أن مأساة شعور فقدها لذلك الجنين سيكون أضعافا مضاعفة لما بداخله. بعد مرور ما يقرب من الثلاث ساعات، شعر بحركة جسدها المتعب على الفراش، حول عينيه الساهمة، والساهدة على فوره نحوها، وجد عينيها تُفتح تدريجيا، وبعد أن تنبهت مداركها على صحوته، وثبتت عينيها عليه، سألها بخفوت مع مسحة رقيقة من يده على مقدمة رأسها:


-لسه حاسة بوجع؟


تمطت بجسدها بحركة بسيطة، لتفك  تيبس عظامها من نومها على نفس الجانب لبضعة ساعات، وأجابته بتريث:


-الحمد لله خف عن الأول.


رمقها بنظرة حنون، وحمد ربه بنفس الصوت الهامس، مع بسمة صغيرة افترت بها شفتاه:


-الحمد لله يا حبيبتي.


قربت جسدها من حضنه، حتى يعم وجدانها الأمان بوجوده، وبعد صمت دتم لعدة لحظات، رفعت رأسها له، وسألته بقلق، ورغبة ملحة للاطمئنان:


-الدكتور طمنك على حالة الجنين؟


ابتلع ريقه ببعض التوتر الذي حاول أن يواريه عن عينيها، ورد عليها بتأكيد بصوت بدا عاديا:


-أيوه، مانتي سمعتي الكلام اللي قاله.


ضمت شفتيه للحظة وهو تهمهم، ثم أخبرته بارتياب تفشى بأمارات وجهها:


-قلقانة شوية.


ملس فوق ذراعها وهو يسألها بهدوء يحمل طيف استنكار:


-من إيه بس؟


سحبت نفسا مطولا، ثم زفرته على مهلٍ، وعلى فوره قالت بريبة ما تزال مستبدة بها:


-خايفة ليكون قال كده بس قدامي، لكن لما خرج برا قالك كلام تاني.


عاجلها برد نافٍ لهواجس رأسها:


-لا يا حبيبتي مقالش حاجة، نفس اللي قاله جوا كرره تاني لما خرج، قال تفضلي نايمة الفترة الجاية على ضهرك، ومتعمليش أي مجهود خالص.


أومأت برأسها بالإيجاب، وشردت بعينيها في الفراغ، مع شعور بالندم اقتحم نفسها، على عدم مواظبتها على المتابعة، والاطمئنان على صحة جنينها، كأنما ذلك الحادث لفت نظرها إلى إهمالها لذلك الجنين مقارنة بحملها ب"يونس"، مجددا رفعت نظرها له، لتسترعي انتباهه إليها، وأردفت ببؤس نادم:


-أنا غلطانة إني الفترة اللي فاتت أهملت المتابعة، بس أنا قلت إنها ملهاش لازمة خصوصا في أول الحمل، وكمان ده مش أول حمل ليا، وعارفة إيه اللي بيتعمل الفترة دي والأدوية اللي بتتاخد، بس خلاص بعد كده مش هفوت متابعة، وزي ماكنت مواظبة في حملي ليونس هواظب في الحمل ده، وانت كمان لو نسيت أبقى فكرني.


لم يعقب على ما قالته، رغم رؤيتها لنظرها المنصب عليها، انزوى ما بين حاجبيها، وسألته باستغراب:


-انت ساكت ليه؟


حافظ على هدوء وجهه، رغم شروده ثانية عن كلماتها؛ في أمر إجهاض الجنين الآخر، الذي ما زال مجهولا عنها، ورد عليها بغير حماس:


-ابدا، بسمعك.


تعجبت من رده الفاتر، وشعرت أن بوجود خطب ما به، لذا بدون تفكير متزايد في تبدل حاله، سألته باستشفاف:


-أنا حاسة إنك فيك حاجة.


قبل أن تجعل له مجالا للرد، استفسرت منه بقلق ملأ صوتها:


-الخبطة كانت صعبة، إيدك بتوجعك صح؟


لكيلا يبعث القلق في نفسها، ويجعل الهواجس تجوس في فكرها بشأن حملها، أخبرها بلهجة مطمئنة:


-متقلقيش مش بتوجعني، أنا بس لسه حاسس إني متاخد من اللي حصل، مش سهل عليا أشوف عربية بتخبطك وبعدها تنزفي والموضوع يعدي عادي.


انفرج ثغرها بابتسامة محبة، وضمت جسدها له أكثر، وطمأنته بنبرة خافتة يملأها النعاس:


-بس انا بقيت كويسة.


حاوطها من ظهرها، ليزيد هو الآخر من ضمها، وعلق برنة خوف لم يستطع إخفاءها من صوته:


-أنا بقى لسه مش كويس، ومش هتطمن إلا أما تولدي واشوفك انتي والبيبي كويسين.


بعد تثاؤب، انغلقت عينيها إثرا له، قالت له بصوت خفيض:


-هنبقى كويسين طول مانت جنبنا.


خبا صوتها بعد ذلك، وسريعا ما انتظمت أنفاسها، ليعلم أنها قد خلدت إلى النوم، بينما هو ظل مستيقظا كما كان، لم يقل قلقه، أو يزول حزن قلبه، ودعا في نفسه وهو يتنهد بإنهاك:


-يا رب تبقوا كويسين يا زينة.



❈-❈-❈


من جلسته على مكتبه، بين الأوراق المطروحة أمامه، رفع عينيه عن الملف الممسك به في يده، إلى باب مكتبه، الذي انفتح بغتة، وما كادت عضلات وجهه تشتد بضيق من دخول أحدهم دون استئذان مسبق، حتى لان وجهه عندما أبصر دلوف "عاصم"، نهض عن كرسيه، ودار حول مكتبه وهو يهلل ببسمة ودودة، ومتفاجئة فب نفس الآن:


-إيه ده عاصم! أول مرة تعملها وتيجي مكتبي.


تقدم نحو المكتب بخطوات متباطئة، ووجه غير مقروء التعبيرات، وبجمود مهيب في صوته سأله:


-إيه متضايق ولا إيه؟


لم يرتَب "كرم" من غموضه، لاعتياده على تلك اللهجة الجامدة، والنظرات المتغطرسة، وبنفس الطريقة الدبلوماسية عقب:


-وإيه اللي هيضايقني بس؟ وبعدين دي شركتك تروح وتيجي فيها مكان ما تحب.


أخفض "عاصم" نظره متعمدا نحو يده اليمنى، مرتكزة على خاتم الخطبة، واستطرد بشيء من الاتهام المبهم:


-مقولتش يعني إنك خطبت.


شحب وجهه صدمةً من معرفته، وضرب التوتر كافة أوصاله، حمحم في ربكة كانت ظاهرة للآخر، ثم رد عليه بتلعثم خفيف:


-اا.. الموضوع جه بسرعة، بس أنا كنت هعرفك.


رفع حاجبيه بطريقة تنم على عدم التصديق، وحدجه بنظرته الثاقبة، وهو يتساءل بهدوء مريب:


-وكنت هتعرفني برضه إنها بنت توفيق العاصي؟


ازدرد ريقه، وحاول أن يتحكم في تلبكه، وهو يجيبه بصدق غير مختلق:


-أنا فعلا كنت هعرفك يا عاصم، من كام يوم لو فاكر قلتلك إني عايز اكلمك في حاجة خاصة بيا، وانت قلتلي نأجلها لبعد الاجتماع.


لم تختفِ نظرة الاتهام من عينيه، وهو يعلق بعدم تصديق:


-أديك قلت أهو لبعد الاجتماع، مش بعد كام يوم، أو لوقت ماعرف انا وافاتحك في الموضوع.


حاول التبرير أمام تضييقه الخناق عليه، مرردا:


-مانا انشغلت بعدها في كزا حاجة ونسيت اعرفك.


وضع يده في جيبي بنطاله، ليزداد جسده طولا، واشتدادا، وعقب بتكذيب على مبرره الذي رآه ضعيفا:


-انت لو كنت حاطت في دماغك إنك تعرفني فعلا مكنتش نسيت.


كاد "كرم" أن يوضح له أسبابه المنطقية، ولكنه منعه بقوله المقتضب:


-على العموم مبروك.


ضم فمه ببعض الضيق من معرفته التي سبقت إخباره له، ثم سأله في توجس:


-يعني انت مش زعلان مني عشان هناسب توفيق العاصي؟


رد عليه بغير اكتراث لشخصه، ووجه ما يزال مشدودا:


-دي حاجة ترجعلك، أنا ماليش اني احكم على حياتك.


اغتنم فرصة العبارة المقولة اغتناما لصالحه، مستطردا:


-هي بنته غيره خالص الحقيقة، وبتحبني، ومانكرش برضه إني أعجبت بيها، واما حسيت إن علاقتنا أخدت منحدر تاني غير الصداقة قررت اتقدملها.


استرعى فضوله ما فاه به، واستفهم عن نقطة بعينها متسائلا:


-وانت اتعرفت عليها امتى بقى؟


تنحنح جاليا صوته، وقال بإيضاح مكذوب بعد ترتيب سريعا لكلماته المختلقة في رأسه بأحداث وهمية مُحكمة:


-بينا صحاب مشتركة، وجمعنا أكتر من مرة كزا كمان، وحصل بينا كلام واتعرفنا، وبقينا صحاب فترة، وبعدين هي اعترفتلي بحبها، فحبيت أخد خطوة رسمي لما حسيت إني مشدودلها، انت عارفني مليش في اللف والدوران.


مط "عاصم" شفتيه بحركة تنم عن عدم الرضاء، ناهيك عن التشكيك المنبجس في رأسه حيال صحة ما يقول، ثم بعدم استحسان للتعجل الظاهر في ذلك الارتباط أخبره:


-هو الموضوع فيه تسرع كبير، بس عموما انت حر طبعا لو واثق من الخطوة اللي خدتها، خصوصا وأنك عارف شغل ابوها.


رمقه بنظرة ذات مغزى ما قوله الأخير، حينئذ تفقه "كرم" مقصده، ورد عليه بحكمة:


-ايوه عارف، بس أنا مليش دخل بشغله، أنا ليا دخل باللي هتبقى مراتي، وزي ماقلتلك بنته غيره.


ثبت نظراته الغامضة، والباعثة على الربكة على وجهه لعدة ثوانٍ، ثم أخبره برنة تشكيك محسوسة من صوته الأجوف:


-ياريت فعلا يبقى زي ماقلت.


بهتت ملامحة خيفةً من عدم تصديقه، وبقلق تفشى بوجهه، وبصوته الذي بدا مهزوزا بعض الشيء، سأله باشتفاف:


-قصدك على إيه؟


نظرته لم تقل غموضا عن ذي قبل وهو يرد عليه بتوضيح يحمل شكوكا دفينة داخلة:


-قصدي بنته يعني تكون زي ماقلت.


أومأ "كرم" في تفهم، وداخله متوجسا خيفةً من عدم تصديق "عاصم" الظاهر له، بل ومن تبعات ذلك إن انصبت حقا شكوكه نحوه، ووضعه -إن اكتشف خيانته- في دائرة اعدائه، فحينها لن يسلم من مكره، وسيطوله لا محالة شدة بأسه، فمن الواضح أنه تسرع حقا في تلك الخطبة، سيتسبب في وضع كثير من المشكلات فوق رأسه، فبدلا من أن يكون قد ضرب عصفورين بحجر واحد، في الاستفادة من تلك الخطبة للظفر بمطامعه، ولإخراج نفسه من دائرة الشكوك إن علم "عاصم" بزيارته المتكررة لعدوه، جعل الشك يخامر "توفيق" نحو حقيقة نواياه حيال تلك الخطبة المفاجئة، كما دفع الظنون بداخل الآخر نحوه في احتمالية تآمره مع غريمه في تدبير الفخاخ من وراء ظهره.



❈-❈-❈



أسوء ما يمكن اقترافه في حق النفس هو جلد الذات، والبحث في بواطن الذاكرة عن البدايات، خاصة إن كانت سيئة التبعات. لم تترفق "داليا" بحالها، ولا بالهوان المتمكن من كامل جسدها، حتى أنها كان ينيغي أن تهتم بنظامها الغذائي، بداية من وقت معرفتها بحملها، أو بالأحرى منذ اللحظة التي أعطاها زوجها الموافقة على إكماله، لكنها كانت فاقدة للشهية، ومنزوع منها الشعور بروح الحياة، اكتأبت، وانطفأت، وأصبحت تميل للعزلة ميلا بالغًا، حتى أنها أصبحت ترضع طفليها كنوع من تأدية الواجب، وليس لمحبتها الخالصة في فعل ذلك.


جلست في الحديقة الخلفية، لرغبتها المعدومة في مجالسة أحد لها، راحت تعيد في ذهنها بعض الذكريات التي صنفتها قاسية، ومخزية، بينها وبين "عاصم"، حتى أصبحت تبحث فيما طوته الذاكرة، عن بدايات علاقتهما، كان جامدا، مراوغا، ومليئا بالعيوب التي غفلت عنها طوعا لارضاء حاجة قلبها، وحمقا لصغر سنها مقارنة بحنكته البالغة في عالم النساء، ولكنها تجزم أن عنفه حينئذ لم يكن واصلا إلى ذلك الحد الجائر، ربما كان يميل للشدة في ممارسة طقوس الحب، ويجد متعته في الشعور بقوته الجسمانية، وفرض سيطرته وهيمنته عليها.


ولكن النزعة السادية التي سادت في علاقتهما الحميمة، قد بدأت عند حدث بعينه، وكان هو النقطة الفارقة، في تحول جوعه النهم، والجامح معها للوصول إلى وطره، إلى التلذذ بالتعذيب والإذلال ليظفر بمآربه، والمؤسف أنها هي من أعطته الإشارة البيضاء لذلك الغزو الضاري، الذي يجعل كل جزء في جسدها يصرخ مما يضنيه من آلام موجعة. سبح ذهنها في أمواج الذاكرة، واصلا إلى حدٍ معين في أعماقها، ممسكا بأطياف ما حدث في ذلك اليوم الذي صنفته مشؤوما.


في بدايته لقى "عاصم" تعنيفا قاسيا من والده، جراء قيامه بفعل مجهولٍ عنها، ولكن ما فطنته حينها أنه كان مخالفا لأوامر التي كانت كالحد نافذة عليه، فذلك اليوم شهدت بعينها لأول مرة منذ انتقلت للعيش في بيت خالتها، هجوم "كمال" المخيف على ابنه، بل وتصاعد الأمر إلى تأديبه بصفعة قوية على وجهه، تبع ذلك وبعد وصلة مستمرة من التوبيخ اللاذع، والسباب المقزز طرده له من مكتبه.


أسرع آنذاك "عاصم" بصمت كان مشبعا بالغضب المكتوم إلى غرفته، حثها قلبها إلى عدم تركه في تلك الحالة البائسة، فربما وجودها إلى جواره يخفف من حدة حزنه، وضيقه من عقاب والده، الذي أصبح رجلا عليه، لديه من العمر ثلاثون عاما، طرقت على الباب بعد تردد هائل انتهى بحسم أمرها، بعد عدة دقات كانت تنتظر بضعة لحظات بعد كل دقتين متتاليتين، جاءها سماحه لها بالدلوف، ورغم الخوف الذي دب في أوصالها من صوته الحانق، إلا أنها ولجت في الأخير، وعندما وطأت بقدمها للداخل، ولم تكد بعد تغلق باب الغرفة، صدح صوته بتساؤل يحمل سخط بالغ:


-عايزه إيه؟


تقدمت منه بتلبك، ويداها أخذت تفركهما ببعضهما البعض بتوتر كان ملحوظ له، وهي ترد عليه ببراءة محبتها له:


-جيت اتطمن عليك.


تفقه من عبارتها التلقائية، علمها بما دار بالأسفل في مكتب والده، غمره النقم من رأسه حتى أخمص قدميه، وأمرها بخشونة حادة:


-عايز أقعد لواحدي، اخرجي برا.


جلست بجانبه، ومدت يدها محتضنة كفه بلمسة ناعمة، واعترضت برقة صوتها:


-بس أنا مش عايزه اسيبك لواحدك وانت متضايق.


اجتذب بعصبية كفه من قبضتها، واحتدمت نظراته الموجهة نحوها وهو يزجرها باحتقان:


-ملكيش دعوه بيا يا داليا، متخلنيش اطلع نرفزتي عليكي، امشي احسنلك.


غلب حبها الجم له، خوفها الغريزي مما تراه عليه من شراسة شديدة، وأصرت على موقفها وهي ترجوه بطيبة زائدة:


-مش مشكلة أنا هتحملك، بس عشان خاطري سيبني افضل معاك.


نهض عن الفراش بانفعال، وأخبرها باهتياج بعد زفرة مسموعة الصوت، لاختناقه الشديد:


-أنا مخنوق، ومش طايق نفسي.


وثبت عن جلستها وتوجهت نحوه، وتوسلته ثانيةً برجاء متزايد:


-طب خليني معاك، جايز اعرف افك خنقتك.


شملها بنظرة بدت لناظريها قاتمة، وبعد صمت دام للحظات تُعد، اعترض بجمود، بصوت بدأ في النهجان الغريب:


-بلاش يا داليا واطلعي برا.


لسذاجتها ظنت أن صوته الذي انخفضت قليلا نبرته، أنه بدأ يستجيب إلى رجائها، وعلى نفس المنوال استمرت وهي تدنو منه محتضنة جذعه، قائلة بنعومة مغرية، على الرغم من تلقائيتها:


-عاصم أرجوك أنا عايزه ابقى معاك.


فك التفاف ذراعيها عن خصره، وأبعدها عنه، وعندما رفعت نظرها لعينيه، وجدت نظراته تحولت إلى الشهوانية الخالصة، وهو يتفرس في تفاصيل جسدها، وأخبرها بإنذار بث الريبة من القادم في نفسها:


-افتكري اني قلتلك بلاش.


قذفها بهمجية على الفراش، وأطبق على جسدها بكله، ولم يترك لها مجالا لمجاراته، وبدأ في إظهار جانبا آخر لم يظهر من قبل معها منه، وعجزت تماما عن السيطرة على ما اعتبرته فتك بكل ما هو ضعيف بها. لجهلها بطبيعة الممارسات الحميمية، كانت تظن في بادئ الأمر أن بعض الشدة التي تُبرَز من الطرف الذكوري في العلاقة أمر طبيعي، لذا كانت تتقبلها بغير احتجاج لتوقعها أنها طريقته في التعبير عن الحب، ولكن ما فاجأها ذلك اليوم، ووسع مداركها، هو إظهاره لجانبه العنيف في تلك الأثناء، والتهامه بوحشية لكل ما كانت تقع عيناه عليه من بقاع جسدها المستسلم، حتى انتابها شعور أنه كلما شعر بازدياد وجعها، كلما تمتع بصورة مضاعفة، ومنذ ذلك الحين، وقد أدركت من تلميحه المبطن، ومما قام به فعليا، أنه يخرج شحناته العصبية المكبوتة عن طريق بعض الممارسات العتية.


عادت بذهنها المستنزف إلى أرض الواقع، ولاح على وجهها الكدرة، كما حفرت عليه كل معالم البؤس، والندم، فلوهلة تمنت لو كانت تملك القدرة على تركه منذ أن استضاحت الرؤية لها، لكانت على الأقل رحمت نفسها مما تتكبده إلى الحين من عناء، ولما كانت وقعت في أسيرة تلك البؤرة الخالية من الضياء، والتي ما يكاد يطولها بصيص نور، حتى تحل عليها الظلمة الحالكة ثانيةً، ولكنها من بين كل ما عانته، وما تزال تعانيه إلى لحظتها تلك، تدرك تمام الإدراك، أنها قبل حتى أن تتيقن من حقيقة مشاعر حبها له، وقبل أن يوصم ذلك الحب الذي كان طاهرا بالآثام، أنه الوحيد الذي كانت تشعر معه بالألفة والأنس، وفي أمس أوقاتها ضعفا كان هو فقط من تحتاج.



❈-❈-❈


انشغل لعدة أيام متواصلة، بداخل دوامة الأعمال التي لا تنتهي، فكان الأيام الماضية خروجه من البيت باكرا، يسبق موعد استيقاظها، وعودته كانت تصادف إما أوقات انشغالها بطفليها، أو جلوسها رفقة كلا من والدة وزوجة أخيه، رائيا في ذلك تهربا واضحا من الاجتماع به، وما جعله لا يعلق بأي فعل محتج أنه كان يخلد إلى النوم عند رجوعه لإرهاقه البدني، لذا لم يتاح فرصة ليتبادلا أطراف حديث جاد منذ آخر مرة بأي شكل من الأشكال، وقد كان الحديث بينهما -إن بدرا من أحدهما- يقتصر على بضعة كلمات مقتضبة، وروتينية، مشبعة بالملل. أراد "عاصم" ألا ينهك نفسه بالعمل اليوم، حتى يكون صافي الذهن لحضور أولى جلسات علاجه النفسي، عله عن طريقها يجد خلاصه من تلك المتاعب الخانقة، وينهي ذلك العناء. خلال توجهه المتعجل نحو سيارته، لمح توقف سيارة بالقرب منه، كانت من النظرة الأولى مؤلوفة له، وتأكد من معرفته لها، عندما ترجلت الحبيبة السابقة له منها، ظهر الضيق على وجهه، في حين عاجلته هي بتساؤل متلهف وهي تتقدم منه:


-انت مروح؟


حاول أن يتظاهر بالهدوء في حضورها الذي أصبح يحفز أعصابه بصورة بالغة، ورد عليها بتساؤل مستنكر وهو يمد يده لفتح باب السيارة خاصته:


-انتي شايفة إيه؟


تحرت قليلا لتمنعه من ولوجها، واقفة قبالته، قائلة بنفس اللهفة المشبع بها صوتها:


-كويس إني لحقتك.


ضاق ذرعا من أسلوبها المتجاوز لما جعله مسموحا بينهما منذ عودتها، وسألها بصوت مزعوج:


-في إيه؟


ظهر على فوره التجهم على ميحاه، وصاحت بانزعاج مماثل:


-في إيه انت؟


ناظرها بنظرة تحمل حنقا من عدم حصوله على الرد على تساؤله، ثم أخبرها بغيظ بنوع من التذكرة:


-مبحبش الرد على السؤال بسؤال.


تجاهلت رنة الاستياء الممزوجة بعبارته، وسألته مباشرة بسبب حضورها المفاجئ إلى محل عمله:


-مبتردش على مكالماتي ليه؟


توقع السبب مسبقا، حتى وإن كان يريد الإفصاح عنه، كأنما يجد في ذلك إرضاءً لغروره، وبهدوء مستفز أخبرها موجزا:


-مشغول.


استشاطت من إيجاز رده المستخف بها، وعلقت باستهجان:


-مشغول! وعلطول active على السوشيل ميديا.


لم تتبدل تعابيره التي عبرت عن تريث متناقض مع تكدره من مجيئهت المباغت، ورد عليها ببرود مشوب بالملل:


-شغل برضه.


تغاضت عن أسلوبه الفاتر معها، ودنت منه في محاول للسيطرة عليه بأسلحتها الأنثوية، عبثت بأناملها فوق مقدمة رابطة عنقه، عارضة عليه ببحة صوتها الخاصة:


-طيب إيه رأيك نخرج مع بعض النهارده؟


أنزل يدها عن صدره، وأخبرها بفجاجة بلهجة مليئة بالضجر:


-ماقلتلك مشغول، ماخدتيش بالك ولا إيه؟


اختنق صدرها من تجافيه معها، وصده لسائر محاولتها في استعادة ما مضى بينهما، ضمت ما بين حاجبيها في حزن، وعاتبته بنبرة ظنت أنه ما يزال لها تأثيرها عليه:


-عاصم احنا مش اتفقنا هندي لبعض فرصة تانية.


لم يتأثر بما اعترى ملامحها من بؤس جم من أسلوبه الجامد معها، بل ازداد أسلوبه فظاظة وهو ينفي بغلظة: 


-أنا متفقتش معاكي على حاجة.


عبس وجهها، وراحت تذكره بما دار، وفطنته حينها:


-أنا قلتلك وانت معترضتش.


صحح له فهمها الخاطئ، مرددا بجمود مقتضب:


-أنا مردتش.


على الفور علقت بما يشبه فرض نفسها عليه:


-يبقى وافقت.


قلب عينيه بسأم من مماطلتها، وتصميمها على عودة الأمور بينهما إلى نصابها السابق، وبعد زفرة حاول عن طريقها تثبيط انفعاله الوشيك، أخبرها باستنكار، ذي مدلول:


-انتي اللي فهمتيها كده.


طفح بها الكيل مما اعتبرته تقليلا مقصودا، ومتعمدا منه لها، وهتفت في انفعال:


-وانت لو مش عايزني في حياتك كنت قلت من أول ما ظهرت تاني، لكن انت عايزني، وفرحان بالجو ده.


ضيق ما بين حاجبيه في عدم فهم لمقصدها، وتساءل بصبر فارغ:


-جو إيه؟


غلف صوتها الكمد والغل وهي تفاجئه بتفقهها لما يدور داخله:


-إني هموت عليك، وبتحايل عليك كل شوية عشان نرجع لبعض.


راق لها ملاحظتها بتلذذه بإذلالاها، رائيا في ذلك انتقاما لما أضناه لسنوات بسبب هجرها، وبلهجة فاترة غير مبالية:


-محدش قالك تتحايلي عليا، ولا أنا اديتلك أمل اننا هنرجع تاني.


حاك رده المجرد من الشعور في قلبها، فصرخت به بانفعال، ولمعت بعينيها دموع متحجرة:


-لأ اديتني يا عاصم.


اشتد وجهه غضبا، وهتف في نبرة مستنكرة:


-أمتى ده؟


تساقطت دموعها وهي تخبره ببصياح هادر:


-لما بعتلي قبل ما اسافر وقلتلي إنك هتفضل بتحبني، وهتفضل مستنيني لحد مارجع تاني.


علق بغير اكتراث لما رآه محاولتها في الضغط على أعصابه، ليخنع بالأخير لرغبتها:


-ده كان قبل متسافري وتتجوزي.


أخبرته مسرعة كأنما تلفت نظره لشيء كان غافلا عنه:


-واتطلقت خلاص.


رأى أن تبادل الحوار بينهما في تلك النقطة أصبح عقيما، يشبه السير في دائرة مغلقة، كما أن إذلاله لها الفترة الماضية قد أشعره بلذة انتقامه المنشودة، لذا أخبرها بشكل نهائي، حتى يقطع جذور الأمل عندها:


-انتي معدتيش تلزميني يا مي.


قبل أن تمسط يده بمقبض باب السيارة، أمسكت بكفه على الفور وهتفت مسرعة بصوت منتحب:


-عاصم أنا لسه بحبك.


ضم شفتيه في ضيق مضاعف، وقد سار في جسده دفقات من الغل الحانق أمام إصرارها على إجباره ما لا يريد، وما كاد أن يفتح فمه ليمنع إضافتها للمزيد من العبارات التي أضحت مستهلكة، حتى فاجأته بارتمائها في أحضانه، مطبقة على ظهره بقوة، كأنها تأبه رفض ضياعه المحتوم من بين يديها، وبعاطفة مشبعة بالجوى أخبرته:


-بحبك أوي بشكل متتخيلوش.


حاول إبعاده، ولكنها كانت رافضة، وحتى لا يتعانف في فك حصارها عن جسده، دمدم في حنق:


-مي..


ابعدت رأسها عن صدره، ولكنها بقيت ملتصقة به، وهي تخبره بلوعة:


-لو في أي حاجة بعدتك عني المرادي أنا هموت.


عجز لوهلة عن الرد، وتخبط رأسه دهشةً مما رآه من تبدل جذري في طباعها، من عدم تقبلها لوضع مغاير لرغبتها. حال دون متابعة سيل كلماتها المستميلة، صوت رنين هاتفه، حينئذ ابتعدت عنه مكرهةً، لتتيح له فرصة للرد على المتصل. انشغل لعدة لحظات على الرد بكلمات مقتضبة على من يهاتفه، وبعدما انتهى، أعاد وضع الهاتف في جيبه، تهرب بعينيه من النظر لها، وقال بلهحة متعجلة، حتى يظهر تعطله عن آداء مهامه بسببها:


-أنا مش فاضي دلوقتي، نكمل كلام بعدين.


تفشى الانزعاج بقسمات وجهها، وعاجلته مرة أخرى قبل أن يركب سيارته، بتساؤل متلهف، ومبتئس:


-هترد عليا؟


أجابها بموافقة تنم على رغبته في إنهاء ذلك الحوار الدائر فحسب:


-طيب.


أدار محرك السيارة، وغادر الشركة قبل أن ينتظر خروجها، فرارا من ثرثتها، وحتى يريح رأسه من ذلك الضغط المستنفذ لأعصابه، وبينما يقود السيارة، استعاد في رأسه ما فاهت به، بذلك الإلحاح الغريب، كأنما كانت تفرض نفسها عليه بشتى الطرق، وهذا ما لم يكن من طباعها المعتادة، لغرورها، وغطرستها المعهودة، وإن فسر ما يبدر منها الحين، لن يفسره على أنه هوس من الحب، بل سيرى أنه عدم تقبل للرفض، وإذا صح حدسه، وتظن أنها ستظفر بمتغاها إن ظلت تلاحقه بتلك الطريقة الخانقة، لن يضمن ما يمكن أن يتخذه كردة فعل لمحاولات استمالتها له، حتى تكون ناهية وقاطعة.


❈-❈-❈


عندما شعرت باهتزاز الهاتف في جيب بنطالها، مد يدها لتخرجه بغير اكتراث، ولكن حينما أبصرت اسم المتصل على شاشته، فقد كان الرجل المخول لمراقبة زوجها، والذي يعمل حسب أوامرها سرا منذ فترة ليست بالوجيزة. زاد خفقان قلبها، توترا، وريبة، لم تضيع مزيدا من الوقت لكيلا تنتهي المكالمة، وضغطت سريعا على موضع الإيجاب، ثم وضعت الهاتف فوق أذنها، وردت على الفور بصوت بدا عاديا في ظاهره:


-ألو.


أتاه رد الرجل باحترام:


-أيوه يا داليا هانم.


شعرت بالربكة سرت في عروقها، قبل حتى أن تعلم بالمستجدات، وسألته بترقب:


-إيه في حاجة حصلت؟


بعد نحنة بسيطة، ورغم أنها لم تستغرق سوى لحظة، إلا أنها ضاعفت من تآكل أعصابها، أخبرها مسترسلا:


-من شوية الست اللي بعتالي صورتها دخلت الشركة وفضلت شوية، وعربية عاصم بيه خرجت بعد كده وهي خرجت بعده علطول.


أنزلت الهاتف عن أذنها، وفي لحظتها اعترى القهر ملامح وجهها، وتفشى بقلبها، وروحها، ولكن مع ذلك تحجرت الدموع في عينيها، كأنما اعتادت منه على شعور الخذلان والخيبة، وفي كافة الأحوال، لا تجد فائدة في البكاء، والتحسر على الحال.


يتبع...




إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة شيماء مجدي من رواية مشاعر مهشمة الجزءالثاني، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية