-->

رواية جديدة رحلة الآثام لمنال سالم - الفصل 15 - 1

 

قراءة رواية رحلة الآثام كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى





رواية رحلة الآثام 
(ما طواه التامور وطمره)
 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة منال محمد سالم



الفصل الخامس عشر
الجزء الأول
(حيرة)
❈-❈-❈


كل ما سيطر عليها في لقائها المنفرد به بالقرب من مقر عمله هو التأكد من إقناعه بالموافقة على ما قررته بشأن ابنة شقيقتها، غير مبالية بجريرة ما ستتعرض له هذه المضطهدة على نفسيتها، المهم ألا تمس سمعة العائلة بسوء. أصرت "أفكار" على المجيء بمفردها، فإذ ربما مع الضغط والحرج تتراجع شقيقتها، وتصبح في موقف عسير، لذا تجنبت كل ما قد يفسد خطتها، وأطلعته عليه كأنها مسألة عادية مفروغ النقاش فيها! لولا كونهما في الشارع، وحولهما عموم الناس لصرخ "عوض" استنكارًا وتنديدًا على ما أفصحت به. اشتعل وجهه بحمرة الغضب، ورمقها بنظرة حادة مدمدمًا في استهجانٍ متعاظم:
-إيه الكلام ده يا خالة؟!!
ببرودٍ مناقض له أخبرته بلهجة الذي يقرر مصائر البشر:
-ده اللي المفروض يتعمل.
أبدى رأيه صراحةً، ودون رهبة منها:
-أنا مش موافق عليه...
حدجته بنظرة منتقدة له، فتابع مشددًا بنفس الاستهجان:
-ده ما يرضيش ربنا نهائي.
خشيت أن يزيد إلحاحها من عِناده، فحاول اللجوء لحيلة المسكنة، فخاطبته في صوت هادئ، على أمل أن تمتص غضبته المندلعة:
-بس الناس آ...
استفزته بكلامها الأخير، فقاطعها قبل أن تنهي ما بدأته:
-وأنا مالي ومال الناس، بقى عاوزاني أغضب ربنا عشان أرضي الناس؟
ضغطت على شفتيها في امتعاضٍ، فسألها في شيءٍ من الاستعطاف:
-والغلبانة دي ذنبها إيه تتعرض لحاجة زي كده؟
زرَّت عينيها بتدقيقٍ، فتابع على نفس النبرة المتسائلة في حمئةٍ:
-وهي أصلًا موافقة على ده؟
هتفت فيه بهجومٍ:
-الذنب من الأول ذنب أخوك، واحنا بنحاول نلم الدنيا.
أحس بموجاتٍ من الضيق تغمره، فهي لم تخطئ في إلقاء اللوم على عائلته، ابتلع غصة مريرة في حلقه، وظل مركزًا نظره معها وهي لا تزال تكلمه:
-ومتقلقش، احنا مطمنين من بنتنا، بس يهمنا سمعتنا وشرفنا قصاد الغُرب.
جاهد لإثنائها على رأيها، فاستطرد بزفيرٍ محموم:
-يا خالة آ....
إيجاد المبررات والأعذار، والتعلل بأي حجج لم يكن مطروحًا في قاموسها، لذا رفضت الإنصات إليه، وقاطعته حاسمة الأمر:
-شوف من الآخر كده، اللي قولتلك هيتعمل، سواء كنت موافق عليه ولا لأ!
اتسعت عيناه حنقًا، فغضت بصرها عنه، وأولته ظهرها استعدادًا لذهابها قائلة بجمودٍ:
-مش هعطلك أكتر من كده، فوتك بعافية!
بقي في مكانه متسمرًا، مستهجنًا لكل ما يدور، ضرب كفه بالآخر، وراح يخاطب نفسه في حزنٍ متزايد:
-لا حول ولا قوة إلا بالله، يعني مش كفاية اللي حصلها سابق، نيجي نكمل على الباقي فيها؟!
حرك رأسه يمينًا ويسارًا، وتابع في أسى بعدما اختفت من أمامه تمامًا:
-لطفك بينا يا رب!
❈-❈-❈
لم يتوقف عن هز ساقه في توترٍ مشوب بالعصبية وهو يجلس بالخارج على المقعد المعدني في الردهة الخاصة بهذا المشفى الاستثماري الشهير. رفع يده أعلى رأسه، ثم خفضها قليلًا ليفرك مؤخرة عنقه وهو لا يصدق ما حدث في دقائق، وكأن الحظ يُعانده ويعطيه فقط أسوأ ما لديه، كان على وشك الظفر بمكانة لا تقدر عند أبيه، وحينئذ كان سيحظى بكل ما تمناه لنفسه، الاهتمام، الاحترام، اعتلاء عرش العائلة المهيب؛ لكن ضاعت أحلامه في لمح البصر وتحولت لهباءٍ منثور. حرر "سامي" زفرة ثقيلة معبأة بالحقد من رئتيه، وأراح ظهره للخلف مرددًا في جنبات أعماقه:
-مكانش على البال إن "فؤاد" باشا يدخل يعمل عملية قلب!
عكس وجهه ما تخفيه نفسه، فبدا كظيمًا، ومغلولًا، وهو ما زال مستغرقًا في تفكيره. ظل يكرر في غيظٍ حانق:
-لأ، ومين اللي يبقى واقف مع طقم الدكاترة اللي جوا.. "مهاب" بنفسه!
كز على أسنانه مُطلقًا سبَّة خافتة قبل أن يتكلم بصوتٍ خافت:
-مش لو كان اتأخر شوية كنت آ...
لم يستطع إتمام جملته من شدة غيظه، وتساءل بملامح غائمة للغاية:
-طب أعمل إيه تاني عشان مايشوفش إلا أنا؟!!
توقف عن تفكيره التحليلي عندما وجد الباب الخاص بالتوجه لغرفة العمليات يُفتح، هبَّ واقفًا، واتجه إلى شقيقه الذي أطل عليه منه، رمقه بهذه النظرة الحائرة المتسائلة، فتولى "مهاب" الكلام باسمًا في حبورٍ:
-الحمدلله العملية عدت على خير، شوية وهيتنقل العناية المركزة.
وكأنه لم يسمع ما قاله، هاجمه دون مبرر، بصوتٍ حاد ومرتفع:
-لو جراله حاجة هتكون إنت السبب.
سدد له "مهاب" هذه النظرة المستخفة، تركه يظن أنه المسيطر على الوضع، إلى أن أخرسه بتعقيبه الصادم:
-وإنت نفسك تخلص منه عشان تورث الإمبراطورية، مش كده يا "سامي"؟
ارتفع حاجباه للأعلى، ونظر له مذهولًا للحظة، هربت الدماء من وجهه، وبدا مهتزًا وهو يرد مدافعًا عن اتهامه الواضح:
-إنت بتقول إيه؟
بنفس النبرة الهادئة، والملامح المستكينة، أخبره مؤكدًا:
-أنا أكتر حد فاهمك، إنت زي الكتاب المفتوح قدامي!
ثم ربت على كتفه قائلًا بصوتٍ هازئ يحمل الإهانة في طياته:
-ومش عاوزك تشيل هم إني هاخد مكانك، لأني مش زيك أبدًا...
اشتدت قسمات شقيقه الأكبر، وحدجه في نظرة قلقة سرعان ما تحولت للغيظ الشديد عندما أكمل بإهانةٍ صريحة:
-تابع، مستني اللي يديني الأوامر!
وكأنه سكب فوق رأسه دلوًا من الماء المثلج، انتفض ثائرًا في وجهه، محاولًا لملمة ما تبعثر من كرامته المهانة:
-لو بابا جراله حاجة هخليك تندم، سامع!!!
مجددًا ربت "مهاب" على كتفه قائلًا بشبه ابتسامة:
-مش هتقدر تعملي حاجة.
اشتاط غضبًا على غضب، وأطلق صيحة هادرة فيه:
-إنت متعرفنيش كويس يا "مهاب".
تقدم منه شقيقه، ومال عليه مُحدثًا إياه في أذنه بنبرة جمعت بين السخرية والصرامة:
-بلاش تزعق، إنت هنا في مستشفى، وده بيقل منك يا كبير العيلة.
احتقنت نظرات "سامي" أكثر، فما كان من شقيقه الأصغر إلى أن تركه يغلي في مكانه حقدًا، واستدار مبتعدًا عنه، كور الأول قبضته متوعدًا:
-هنشوف، مين هيضحك في الآخر!

❈-❈-❈
حاصر الهم ملامحها، فكانت مكللة بأحزانها، ولما لا تستاء وشقيقتها قد طلبت منها فعل ما تعجز عن البوح به لابنتها؟ ظلت "عقيلة" تتحاشى الجلوس بمفردها معها، لئلا تضطر لإخبارها بما قررته خالتها بالنيابة عنها في ليلة زفافها، مما دفع "فردوس" للاسترابة في أمرها، فوالدتها كانت غريبة التصرفات مؤخرًا. لم تترك عقلها لخواطرها المحيرات، واستطردت تسألها في جديةٍ حينما كانت منزوية بالشرفة:
-يامه إنتي بقالك كام يوم متغيرة، في حاجة حصلت؟
اضطربت، وارتبكت، واعتلى وجهها القلق، في التو أنكرت ما يشغل تفكيرها مرددة:
-لأ يا "دوسة"، كله تمام.
ومع ذلك لم تشعر بالارتياح، ما زال هناك ما يؤرق والدتها، وهذا الشيء كان جليًا في نظراتها الآسفة نحوها. صممت عليها دون اقتناعٍ:
-أومال أنا حاسة ليه إنك مخبية عني حاجة.
اهتزت نظراتها إليها، وبدا وكأن الدموع تشق طريقها إلى عينيها، استشعرت "فردوس" الخطر، وسألتها في شكٍ:
-"عوض" مش عاوز يكمل الجوازة؟ مغصوب عليها زي أخوه؟
شهقت صغيرة خرجت من بين شفتيها، ثم هتفت نافية ذلك في الحال:
-وربنا ما حصل.
سألتها في إلحاحٍ مستنكر:
-طب في إيه؟
ادعت رغم نبرة الصدق الظاهرة في صوتها:
-زعلانة إنك هتفارقيني زي أختك، بقالها أد كده لا حس ولا خبر منها، ربنا يهدي سرها.
أكدت لها بلا تفكيرٍ، وقد التمعت عيناها بالدموع المتأثرة:
-أنا هفضل جمبك، ويوم والتاني هتلاقيني عندك.
شاركتها في إحساسها المرهف، وقالت وهي تسحبها لتضمها إليها في صدرها:
-تعيشي يا ضنايا.
❈-❈-❈
طمس الوقائع، وما على هذه الشاكلة، لم يؤثر على الحقيقة الجلية بأن الحياة معه لن تكون إلا جحيمًا ممتدًا، وهي لا تتحمل ذلك أبدًا، في لحظة بعينها ستنهار، وقد تفعل ما لا يُحمد عقباه. مرة ثانية استغربت "تهاني" من مجيء "ممدوح" لزيارتها؛ لكنها لم تكن كالسابق في وضعٍ مهمل ومزري، بدت هادئة أكثر، وأنيقة. استقبلته في الصالون برسميةٍ وجمود، ومع ذلك بدا شديد الأريحية معها، انتظرت ذهاب الخادمة لتسأله دون استهلالٍ:
-ممكن أعرف سبب إنك موجود هنا تاني؟
نظر لها مليًا، بعينين تتفرسان فيها بتدقيقٍ، وهو يغوص بجسده في الأريكة، فأكملت بنبرة متهكمة ومغلفة بالمرارة:
-أنا دلوقتي أحسن، مافيش خوف مني.
حمحم قائلًا بهدوء، وعيناه مرتكزان عليها تمامًا، ليرى ردة فعلها:
-دي وصية "مهاب"!
سألته في تحفزٍ مصحوب بالضيق:
-ليه؟ معينك الحارس الخاص؟
استمتع برؤيتها تبدي التعبير الذي أراده، ثم أجابها باسمًا، وهو يرفع حاجبه للأعلى قليلًا:
-ممكن تقولي حاجة زي كده، ولو إني أفضل إنك تعتبريني ملاكك الحارس!
كررت كلمته الأخيرة في استنكارٍ:
-ملاك؟
هز رأسه إيجابًا، فأخبرته بتهكمٍ ممزوجٍ بالإهانة:
-أنا مشوفتش هنا إلا شياطين وبس!!
وكأنها أعطتهما الوصف الملائم لشخصيهما الوضيعين، فسألها متغاضيًا عما فاهت به:
-سيبك من ده وقوليلي عاملة إيه دلوقتي؟
أغمضت عينيها للحظةٍ، وأجابتها في صوتٍ شبه حزين وآسف:
-زي ما أنا، خسرت أحلامي، وبقيت محبوسة هنا بين أربع حيطان.
ساد وجهه علامات المكر، وسألها في تعاطف خبيث:
-ليه بس؟ ما إنتي تقدري تخرجي وتروحي أي مكان طالما أنا معاكي فيه.
حدجته بهذه النظرة الغريبة، فتابع على نفس المنوال:
-ولو حابة ترجعي شغلك تاني مافيش أي مشكلة.
قالت بغير اقتناعٍ:
-شغلي؟
قال مؤكدًا لها عن ثقة عجيبة:
-أيوه، فرصة تلهي نفسك في حاجة بدل الفراغ الكبير اللي إنتي فيه، وخصوصًا إني زعلت لما عرفت إنك سبتي دراستك، مكانش لازم تعملي كده.
تعمد إثارة هذا الموضوع مرة ثانية بداخلها ليزيد من كراهيتها له، ونجح ببساطة في مسعاه، تبدلت تعبيراتها للوجوم، وهتفت في ضيقٍ قد ملأ صدرها:
-شوفتني كنت موافقة يعني؟
ادعى اهتمامه بأمرها، فاعتذر في التو:
-أنا أسف، المفروض أفهم إنه كان غصب عنك، عمومًا المهم عندي دلوقتي إنك تكوني بخير.
وقتئذ طالعته "تهاني" مطولًا بشيءٍ من الحيرة والتخبط، خاصة مع سوء اختيارها وتبعات ذلك، وفهم "ممدوح" ذلك من نظراتها إليه، فبات شبه واثقٍ من الدرب الذي سيسلكه لإفساد راحة رفيقه.
❈-❈-❈
سعل سعلة حرجة آلمت حلقه، فأشار بيده للممرضة المرابطة بجوار فراشه لتأتي له بالماء، ساعدته على شرب القليل، ثم أراح رأسه على الوسادة وهو يحدق أمامه لينظر إلى ابنه وهو يتفقد باهتمامٍ شديد التقارير اليومية التي تخص متابعة حالته بعدما استقر في هذه الغرفة. رفع "مهاب" بصره تجاهه، واستطرد في ابتسامة لطيفة:
-حمدلله على السلامة يا باشا.
لم ينبس السيد "فؤاد" بشيء، فعاتبه ابنه بوديةٍ حذرة:
-كده تقلقنا عليك؟
عندئذ لامه والده بوجه مكفهر:
-يعني مش عارف أنا تعبت من إيه؟
سلط "مهاب" عينيه على الممرضة ليشير لها بالانصراف دون أن يفوه بكلمة، امتثلت لأمره غير المنطوق، وغادرت الغرفة في هدوءٍ تام، ليقترب بعدها من فراش أبيه متحدثًا إليه بابتسامته المعهودة:
-اطمن يا "فؤاد" باشا، أنا عمري ما أخذلك.
سأله في استعتاب غليظٍ:
-وجوازتك الخايبة دي؟ تسميها إيه؟
سحب "مهاب" المقعد ليضعه على مقربة منه، جلس عليه، وأخبره بكلماتٍ شبه موحية:
-راجل ومتغرب، وعايش لواحدي .. يعني محتاج واحدة تشوف طلباتي.
ضاقت عينا "فؤاد" بغير رضا، ومع ذلك أنصت لابنه وهو يوضح له أسبابه باستفاضةٍ:
-وأنا قاصد أتجوز واحدة كده، مقطوعة من شجرة، تكون تحت رجلي، وفي أي لحظة أقدر أرميها من غير مشاكل ولا وجع دماغ، ده غير إني عاوز أجبر بيها واحدة في دماغي من صفوة المجتمع تغِير، ما هو في ستات ماتحسش بالقهر إلا من واحدة من جنسها، والنار تغلي في عروقها لما تكون أقل منها!
زوى ما بين حاجبيه سائلًا:
-واسم العيلة؟
أكد له بما لا يدع مجالًا للشك:
-اطمن .. محفوظ، وعمري ما اسمح لحد يلطخه، ولو عاوزني أطلقها في لحظة، هعمل كده.
أبقى والده على صمته، ولم يعلق بشيء، مما دفع ابنه للتأكيد مرة ثانية عليه:
-كلها مصالح، وأنا فاهم بعمل إيه كويس.
ثم مد يده ليمسك بكفه، ضغط عليه برفقٍ، وطلب منه بحذرٍ:
-المهم عندي ماتتعبش نفسك دلوقتي، وترتاح.
من الناحية الأخرى، وعلى مقربة منهما، تلصص "سامي" عليهما في حيطةٍ ليعرف ما الذي يدور بينهما من ورائه، امتلأ صدره بالغل والحقد وهو يرى كيف استطاع خداع أبيه، وجعله يتخذ صفه، أطبق على شفتيه في غضبٍ، وهمهم مع نفسه:
-عرفت تضحك عليه تاني، طب أعمل إيه عشان أكسبه في صفي؟!!
❈-❈-❈
قبل أن تتشبث برأيها، وتحلق خلف أحلامها، كانت مدركة للهوة العميقة التي وُجدت بينها وبين عائلتها، ومع ذلك اشتاقت كثيرًا لنزاعهما الخالي من أي مكائد، ففي الأخير لم تقم والدتها بإيذائها، ولا شقيقتها بهدم مستقبلها، هي من أقدمت بتهورٍ على ما دمر مخططاتها ظنًا منها أنها ستحظى بنعيم الدنيا ومتعها، وفي النهاية سقطت في قعر الجحيم. كم ودت لو هاتفتها وأطلعتها على ما مرت به؛ لكنها خشيت من عتابها القاسي! تراجعت عن رغبتها تلك، وانخرطت في همومها.
ملازمته لها خلال هذه الفترة أفادها إلى حدٍ ما، وهونت عليها الكثير، بالرغم من إنكارها للتصريح بذلك علنيًا، أثرت الاحتفاظ بما تشعر به لنفسها، تجنبًا لأي مشاكل قد تطرأ من لا شيء. خرجت "تهاني" بصحبة "ممدوح" بناءً على دعوة مُلحة منه لتمضية السهرة في أحد المسارح. انتظرت رفع الستار لمشاهدة العرض الاستعراضي لإحدى فرق الأداء القادمة من الخارج. كانت جالسة في الصفوف الأمامية، في المنطقة المخصصة لأهم الضيوف، لم تشعر ككل مرة بالفخر والغبطة، بل بدت مشاعرها فاترة، مشوبة بالضيق، نظرت حولها في غير مبالاة، إلى أن تكلم "ممدوح" فجأة وهو يمد يده بعلبةٍ ما صغيرة الحجم، مُغلفة بورقٍ مفضض:
-اتفضلي.
سألته وهي تتناولها منه:
-إيه دي؟
احتفظ بابتسامته الهادئة وهو يخبرها:
-هدية بسيطة.
اندهشت من الأمر، وسألته مستفهمة وهي تحرك يدها بها:
-في مناسبة معينة؟
أجابها في بساطة شديدة جعل داخلها يرتبك تحيرًا:
-لأ، بس أنا كنت حابب أجيبلك حاجة تفرحك.
ترددت في أخذها منه، وقالت بحرجٍ وهي تعيدها إليه:
-شكرًا، مكانش ليها داعي.
أصر عليها بملامحٍ جادة:
-هزعل جدًا لو رفضتي تاخديها.
ظلت ذراعها ممدودة تجاهه، فوضع كفه على راحتها القابضة على العلبة، ودفعها برفقٍ ناحيتها دون أن يتكلم، سرعان ما سحبت "تهاني" يدها، وبدأت تفض الورق اللامع لتنظر إلى ما أحضره، تفاجأت بزجاجة عطرٍ باهظة الثمن، رفعتها إلى مستوى نظرها متأملة إياها بانبهارٍ واضح قبل أن تتحول عيناها إليه متمتمة بابتسامة رقيقة:
-برفان!
بادلها الابتسام وهو يقول بشيءٍ من التمني:
-يا رب يعجبك، أنا مش عارف إنتي بتحبي أنهو نوع، بس حسيت إن ده مناسب لشخصيتك أكتر.
نزعت الغطاء، ونثرت القليل من العطر في الهواء لتستنشق رائحته بعمقٍ، تغلغلت في رئتيها، وأنعشتها، مجددًا نظرت ناحيته لتخاطبه بملامح مبتهجة قليلًا:
-ريحته جميلة أوي.
علق عليها في انتشاءٍ:
-مبسوط إنه عجبك.
وضعت العلبة مع غلافها المفضض في حقيبتها، وواصلت كلامها إليه:
-متشكرة جدًا يا دكتور "ممدوح".
قال عن قصدٍ ليزيد من ربكتها:
-أنا اللي شاكر جدًا للبهجة اللي بترسميها بوجودك في المكان.
رمشت بعينيها في دهشة متعجبة، فاستأنف بهدوءٍ، وكأنه لم يقل إلا ما رآه مناسبًا:
-وماتنسيش لو احتاجتي حاجة فأنا جاهز أساعدك.
عجزت عن إيجاد المناسب من العبارات لتوصيف ما يفعله، فعبرت عن ذلك بغير مبالغة:
-مش عارفة أقول إيه قصاد اللي بتعمله ده كله.
رسم على ثغره هذه الابتسامة الرائعة مخاطبًا إياها:
-ولا حاجة، كفاية إني أشوفك مبسوطة كده.
وليضمن إبقاء تأثيره عليها، أضاف عن عمدٍ:
-وما تشليش هم "مهاب"، أنا كفيل أقنعه بأي حاجة.
بلا تفكيرٍ أخبرته في نزقٍ:
-يا ريت لو تقدر تخليه يطلقني.
سكت للحظاتٍ قبل أن يفوه بحذرٍ:
-هحاول، بس خدي بالك هو دايمًا عنيد في حاجات معينة.
بغصة مؤلمة في حلقها اعترفت بألمٍ:
-المشكلة إني مش فارقة معاه أصلًا.
رد عليها بصوته الهادئ:
-الوضع بقى دلوقتي مختلف.
وكأنه تتأكد مما لمح إليه فسألته:
-قصدك بسبب الحمل؟
أجابها مقتضبًا:
-أيوه.
غامت تعابير وجهها، فأوضح لها بنوعٍ من التحذير المستتر:
-ده هيخليه يفكر مليون مرة قبل ما ياخد قرار، باعتبار إن اللي في بطنك يخصه.
قالت في أسى:
-صعب أجيب طفل أظلمه بأب زيه، إنت مش عارف هو وحش إزاي.
انتهز الفرصة، وحاول استمالتها قدر المستطاع لتثق أكثر فيه قائلًا:
-كل مشكلة وليها حل، خلينا بس دلوقتي نستمتع بالأجواء الجميلة دي.
هزت رأسها موافقة، وسألته:
-هو العرض هيبدأ امتى؟
قال مشيرًا بعينيه نحو الستارة الحمراء:
-أظن خلال 5 دقايق بالكتير.
حركت رأسها بإيماءة خفيفة، لتتوقف عن النظر ناحيته، وقد راح الحزن الممزوج بالخوف يلفها من جديد، فمستقبلها مع زوجها لا يزال غامضًا، ناهيك عن كونه محفوفًا بالتهديدات المستمرة !!