رواية جديدة مشاعر مهشمة 2 لشيماء مجدي - الفصل 32
قراءة رواية مشاعر مهشمة الجزء الثاني كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
الإلحاح في مطلب شيء، لن يستطيع الشخص تنفيذه، دائما ما ينجح في استثارة الأعصاب. أثناء قيادته لسيارته، كان يعلو وجهه وجوم ممزوج بغضب عارم، فبدلا من أن يسير اليوم وفقا لتخطيطه، وكيفما رتب، قاطعت هي ذلك الترتيب بإلحاحها، وفرض نفسها الغير مستحب على حياته. فقد ظل رنين هاتفه يصدح لأكثر من مرة، معلنا عن اتصالها به، وعندما علم بأنها المتصل، تجاهل ذلك الرنين عدة مرات متتالية، إلا أنها لم تكف، أو تكتفي، بل استمرت تهاتفه فور انتهاء مدة الاتصال، مضاعفة من غليل دمائه، مما جعله في الأخير يرد على مكالمتها، حتى ينهي ذلك الإلحاح البغيض. وضع الهاتف فوق أذنه، وبينما ينظر في اتجاه الطريق، لئلا يفتعل حادثا وهو يسير بين السيارات بأعصاب مستثارة، هدر بها بسأم:
-في إيه؟ رن رن رن، هو انتي مش هتنزلي من دماغي بقى.
ما قالته جعله يضم شفتيه، في محاولة لكبح جماح غضبه، وبهدوء متنافي مع وجهه المشدود بغضب واضح سألها:
-انتي فين بالظبط؟
ردها لم يستغرق سوى ثانيتين، بعد ذلك أخبرها بجمود، قبل أن ينهي المكالمة:
-عشر دقايق وهبقى عندك.
غير اتجاه سيره إلى الاتجاه المغاير، وهو يسب، ويلعن تلك الشخصية المقيتة، هل تظن أنها عن طريق تهديده بإلقاء نفسها من فوق جسر؛ ستجعله يرضخ لها؟ غبية إن ظنت أنه ذلك العاشق حد العمى -الذي كانت تسيطر على دواخله بكل سهولة ويسر، حتى يصبح كالخاتم في إصبعها، في تنفيذ سائر مطالبها- ما يزال له وجود داخله، حتى يكون فاقدا إدراكه عما تحاول الوصول إليه، فهي غدت كالمختلة في تفكيرها، تهرول خلف رغبةٍ واحدة، وبشتى الطرق؛ تحاول الحصول عليها، كأنما ما تريده شيئا ماديا يمكن شرائه بأي ثمن، أو الإمساك به بين قبضتيها بأي طريقةً كانت، حتى وإن كانت مخالفة لطباعها، ونهج حياتها المتعجرف. أهي غافلة عن كون ما تريده بشرا؟ قلبا سبق وحطمته، وزجت كليهما من حياتها، بغير إحساس أو شعور بالذنب.
إن لم تكن غير متقبلة ذلك الرفض من قبله، سيجعلها تتقبله، ولكنها بتلك الطريقة ستجبره على استخدام ألذ الطرق، وأكثرهم متعة بالنسبة له، في سبيل إنهاء تلك المسرحية المبتذلة. ترجل من سيارته، صافقا بابها بغل، وهو يتقدم من موضع وقوفها، هادرا باستهجان مستشيط:
-انتي مش هتبطلي جنان يعني؟
ناظرته بعينين ناعستين، بنظرة تظن أنها ما تزال مؤثرة، وعلقت وهي تدنو منه بوجهها لتقبيل شفتيه:
-أنا فعلا بقيت مجنونة، مجنونة بيك يا عاصم.
أوقفها عن التمادي، ممسكا بكتفيها حتى يثبتها في موضعها، وصاح بها بصبر نافذ:
-كفاية يا مي لحد هنا، انتي زودتيها أوي.
احتدت ملامحها بعض الشيء، وهي ترد عليه بضيق مما رأته انتقاما وصل إلى مداه:
-وانت كمان زودتها، انت خدت حقك مني بما فيه الكفاية، خلينا نرجع بقى.
هز رأسه في استنكار وهو يعقب بغير اكتراث لتأثير ما يفوه بها عليها:
-مين قالك إني ناوي ارجعلك؟ فوقي بقى يا مي، انتي معدتيش فارقة معايا.
ارتدت قناع الهدوء أمام تقليله البالغ من شأنها، وقربت يدها من جانب وجهه، متحسسة وجنته بإغراء وهي تقول بميوعة:
-بس انت فارق معايا، فارق أوي يا عاصم.
أنزل يدها عن وجهه، وعيناه لم تبرح وجهها وهو يخبرها بجمود:
-اللي بتعمليه ده معادش بيأثر فيا، أفهمي بقى، أنا معدتش بحبك، انتي بالنسبالي صفحة وقطعتها ودوست عليها برجلي.
نحت كرامتها جنبا، وثبتت موضعها، لم تتزحزح وهي تقول له بحرارة شديدة:
-بس أنا لسه بحبك، بحبك أوي.
مع صمته -الذي كان يكبح من خلاله جماح غضبه- ظنت أن ما تفعله قد جاء بنتائجه، لذا ازدادت في اقترابها، حتى باتت لصيقة به، وبنفس الطريقة الباعثة على الإغواء أكملت:
-وعارفة إنك بتحبني، بس أنت لسه مش قادر تسامحني.
رفعت يديها بجراءة منها وحاوطت وجهه، وتابعت بهمس مغري:
-أنا مقدرة ده، وانا عارفة كويس اوي ازاي هقدر أخليك تسامحني، وعارفة ازاي هرجع مكاني في حياتك تاني، لازم تعرف إنك ليا لواحدي يا عاصم، مش لحد تاني.
كان ثابتا، لم يهتز له جفن، وهو يستمع إلى كلماتها الواهية، كأنما ينتظر نهايتها، حتى يبدر منه ردة فعل، ولكنها فاجأته بعد انتهائها، بتلمس شفتيها لفمه، وعلى فوره بات كالملسوع بصاعق كهربائي، وفي نفس الآن كان كمن ألجمته الصدمة في موضعه، ظل لبضع لحظات لم يبادلها، أو حتى يبعدها، بل تملكت منه صدمته ليظل جامدا كالصنم دون حراك.
❈-❈-❈
عدم التصديق سيطر عليها فور علمها بتوجهه للقاء تلك الدخيلة على حياتها، فقد أخبرها ذلك الرجل المكلف بمراقبة زوجها، باستماعه خلسةً أثناء تواجده على مقربة منه في محطة البنزين، بالحديث الهاتفي الذي استمع إليه من طرفه، واستنبط منه ذهابه للقاء إحداهن، لذلك دون تفكير قرر مخابرة سيدته، لإبلاغها بالمستجدات لديه، ولكن تلك المرة تذبذبت بين تصديق وتكذيب، فمنذ لحظات توقعت أن تغدو حياتها معه في أفضل صورة، كما توطدت علاقتهما إلى حد بالغ، وأصبحت ترى العشق المتبادل بينهما يلوح في الأفق.
لذلك لم تستطع تصديق إقباله على خيانتها، بعد أن كان بين أحضانها، يبثها من حبه، ويمدها بكل ما تحتاجه من مشاعر. أرادت أن تتأكد مما علمته، ترى بعينيها مقابلته لأخرى، حتى لا تحكم عليه بالخيانة، مثلما فعلت المرة السابقة، وحينما شرح لها حقيقة الأمر، أيقنت أن غيرتها هي التي كادت تنهي زواجهما، لذلك تجهزت في مدة وجبزة لم تتجاوز الخمس دقائق، كانت السيارة خاصتها خلال ذلك تنتظرها أمام باب الفيلا، حيث إنها هاتفت السائق ليقوم بإخراجها من المرأب ريثما تهبط له.
وصلت سيارتها للمكان الذي تعقبه إليه الرجل الذي يعمل لديها، كان ذلك بعد عدة دقائق من تحاور زوجها مع الأخرى، وقفت منزوية خلف شجيرة في الجوار، على مقربة منهما، التقطتها عين تلك الساقطة، وبكل تبجح راحت تخبر زوجها بحبها له، وعلمها بحبه هو الآخر لها، رائية حينئذ صمت زوجها، ليكون بالنسبة لها تأكيدا غير منطوقٍ منه على حديثها، وحينما انتهت كلماتها التي كانت مشبعة بعاطفة بذيئة، لم يردعها "عاصم" عن التمادي حينما أقبلت على تقبيله.
وضعت "داليا" يدها على فمها، كاتمة شهقتها، ودموعها أصبحت تتسابق في الهطول من مقلتيها، لم تتحمل رؤية المزيد، وهرعت عائدة أدراجها نحو سيارتها، توقفت على بُعد عدة خطوات من السيارة، فقد داهمها دوار شديد، جعل جسدها يترنح في وقفتها، رفعت يدها نحو جانب رأسها، تضغط فوقه حتى تتحكم فيما أصاب رأسها من صداع شديد، حينئذ لاحظ السائق ما حل عليها، نزل من السيارة على عجالة، وهرول نحوها وهو يسألها بقلق:
-داليا هانم! انتي كويسة؟
هزت رأسها في إيماءة مؤكدة، ولكنها لم تستطع موارة الهوان الذي أصابها، خاصة مع دموعها التي لم تتحكم بها، وأخبرته بصوت منتحب وهي تتوجه نحو جانب السيارة بخطى مهزوزة:
-رجعني البيت.
أثناء عودتها، لم تتوقف دموعها عن الانسياب، ولم تتوقف عن معاتبة نفسها، على كل فرصة أعطتها له، في سبيل إصلاح حياة، كان محكوم عليها منذ الوهلة الأولى بالفشل، حتى دفعت بنفسها في بؤرة الهاوية، متهشما كل بها، والآن؛ السبيل الوحيد أمامها، لكي تنتشل نفسها من ذلك الظلام الدامس الذي أحاط بها من كل جانب، هو الانسحاب من تلك العلاقة السامة، والقاتلة.
❈-❈-❈
وضعهما ملاصقان إلى ذلك الحد، جعل حرارة جسده تزداد، وللغرابة ليس شهوة مؤججة، ولكنه كان غضبا مستعرا، خاصة عندما شعر بحركة شفتيها فوق فمه الثابت، مما جعله يستعيد إدراكه، ويخرج من الصدمة التي تملكته من فعلتها المباغتة. سريعا ما أبعدها عنه بدفعها من كتفيها، وشملها بنظرات مشمئزة من ذلك الرخص الذي باتت عليه، وأردف بسخط يخالطه التقزز:
-فاكرة إنك هتجيبيني بالطريقة دي؟
رمقته بنظرة منزعجة، من دفعه لها بتلك الطريقة عنه، كأنها خرقة متسخة، يخشى أن تدنسه، في حين تابع على نفس الشاكلة الغير مبالية مبشاعرها:
-حطي في دماغك إن الحاجة اللي برميها، استحالة أوطي اخدها تاني، فياريت تحافظي على اللي باقي من كرامتك وابعدي عن حياتي يا مي.
كاد يستدير، ليعود إلى سيارته، ولكنها حالت دون تحركه، أمسكت بيده، وتحركت لتقف قبالته، قائلة بتصميم:
-لو محاولة إني ارجعك ليا فيها إهانة لكرامتي، معنديش مانع، في سبيل إنك تبقى ليا في الآخر.
جذب كفه من يدها بحركة منفعلة، ودمدم في وجهها بصوت هادر:
-أنا مش لعبة في إيدك، زمان لما زهقتي منها رمتيها، ودلوقتي لما بقيتي عايزاها راجعة تاخديها.
بنبرة غير متراجعة أخبرته بنفس درجة الصوت المرتفع:
-أنا مش هتراجع يا عاصم مهما عملت.
بنظرات لم يخبُ منها القرف، قال لها بصوت شبه محتدم:
-وأنا مش هسمح إن يبقى في يوم من الأيام في علاقة جامعة بينا، تحت أي مسمى كان.
اهتاجت أعصابها من تلك الطريقة المستفزة، تقدمت منه في هجوم، وأمسكت به من تلابيبه، هزته في عصبية وهي تهتف بصراخ:
-انت بتعمل ليه كده؟ انا معدتش قادرة، كفاية بقى، أنا بحبك يا عاصم، هموت من غيرك.
لم يبعدها عنه، وظل ثابتا كأنما راقه انفعالها، بل وأشعره بلذة الانتقام المنشودة، وبكل برود قال لها:
-موتي.
شُدهت من رده، ورمقته بعيني متوسعتين، بينما هو اشتدت عضلات وجهه، ثم قال لها بأسى مشبع بالنقم:
-مانا كنت بموت زمان بسببك كنت صعبت عليكي؟ كنتي عارفة قد إيه بحبك، كنتي عارفة إن الحب ده محستش بيه بالساهل، قلتلك إني صعب اتعلق بحد، قلتك إني لما بحب حد مش بتحمل بُعده عني، وانتي عرفتي إيه اكتر حاجة بتوجعني وعملتيها.
لمعت عينيها بالدموع، وهي تنظر له بصمت تنصت إلى ما يضيفه بنبرة أشد نقما:
-انتي مسيبتنيش عشان شاهين بيه قالك اعملي كده وانتي نفذتي أمره، انتي كان عاجبك إن واحد دايب في التراب اللي بتمشي عليه، وانتي رميتي ورا ضهرك وكملتي حياتك بعده ولا فرق معاكي، غرورك هو اللي خلاكي تنهي اللي بينا، وغرورك برضه اللي مرجعك دلوقتي عايزه ترجعيني ليكي عشان بقيت مع غيرك.
غصة اجتاحت حلقها، مع الدموع الحارقة، جعلتها غير قادرة على الرد، في حين تابع هو على نفس المنوال:
-بس اللي متعرفيهوش إن اللي معايا دلوقتي عمرها مكانت مع غيري، وعمرها مافكرت تبص لواحد غيري، ورغم كل اللي شافته مني، اتحملت، وعمرها ماباعتني قصاد أي فرصة أحسن جاتلها، قفلت حياتي وأحلامها عليا وعلى سعادتي.
انهمرت الدموع من مقلتيها، ورغم ذلك قالت له بشراسة أنثوية يخالطها البكاء:
-مهما قلت ومهما عملت، انت عارف إن محدش يستحق يبقى معاك غيري.
لم يعبأ ببكائها، وبقساوة علق على ما فاهت به مصححا معتقدها:
-مفيش واحدة تستحق تبقى معايا ولا يبقالها مكان في قلبي غيرها.
رفعت يدها مشيرة نحو نفسها، وهي تهتف ببؤس:
-وأنا برضه كان ليا مكان في قلبك، ليه مش عايز تعترف بده؟ ليه مش عايز تدي للي كان بينا فرصة؟
رفع أحد حاجبيه، وهو يحدجها بنظرة باغضة، مردفا ببرود:
-عايزه تعرفي ليه؟
شملها بنظرة مقللة من أعلى رأسها لأخمص قدميها، ثم أخبرها بغير أدني تعبير على الشفقة:
-عشان أنا مباخدش بواقي غيري.
اخترقت عبارته قلبها كالسهم القاتل، شهقت نفسا مطولا أثناء بكائها، وهي تنظر له بعينين حمراوتين يشعان حزنا، لم يأخذه بها شفقة، وأخبرها بلا مبالاة وهو يشير اتجاه البحر برأسه:
-البحر قدامك، عايزه ترمي نفسك اتفضلي، رغم إني عارف إنك مش هترمي نفسك، وإن دي محاولة رخيصة منك في التأثير عليا.
دموعها فقط ما كان يبدر منها، مما جعل أوداجه تنتفخ من شدة الاستمتاع، ولكن ملامحه ظلت على ارتخائها، وهو يستمر في إطلاق سهام كلماته المسمومة على سمعها:
-أنا مكنتش جاي عشان امنعك، انا جيت عشان اخلص من قرفك وزنك، أنا وانتي عارفين إن اللي زيك مش هيضحي بحياته عشان حد، ولا بيفرق معاه حد، اللي زيك مبيفرقش معاه غير نفسه ومصلحته وبس.
علا صوت انتحابها، وأصبح جسدها يرتج بوضوح من شدة بكائها، نظراته لم تحمل سوى التشفي، وأطنب بضيق احتل قسمات وجهه:
-وأنا لحد قريب أوي كنت زيك، ويمكن أوسخ كمان، بس عشان مراتي وولادي، بقيت بحاول اتغير، عشان اعرف اديلهم اللي مخدتوش، وعشان استحق أبقى الزوج والأب اللي يليق بيهم.
مط شفتيه بحركة زيف تلقائيتها، وهو يكمل:
-لعلمك أنا ولا مرة فكرت اتغير عشانك، ولا كنت بفكر بالشكل ده وانا معاكي، عارفة ده لو هيثبت حاجة هيثبت إيه؟
ثبتت عينيها الدامعة عليه، ليتابع هو حينها مستطردا:
-إن الحب اللي كان في قلبي ليكي كان حب مراهقة، حب عبيط واهبل، مقدرتش بس انساه عشان الذكري اللي اتدمغت بيه، عشان رفض ابوكي ليا، وعشان بعتيني بالساهل، يعني تقدري تقولي إن مكنتش متقبل الرفض زيك، بس لما لقيت الحب اللي بجد، بقيتي انتي وذكرياتك مش فارقينلي، كان كل اللي فارقلي حاجة واحدة بس، هي إني اخد حقي منك، وحصل.
تقوست شفتيه ببسمة مريضة، وهو يخبرها بنبرة خالية من الشعور الإنساني:
-دلوقتي بس اقدر ارميكي نفس الرمية وأنا متشفي فيكي، عرفتي بقى ليه دموعك مش بتأثر فيا زي زمان؟ عشان حسستيني بلذة الانتصار، ببقى مستمتع وأنا شايفك منهارة قدام عيني ومذلولة، عرفتي ليه كل اللي بينا مش هيرجع تاني؟ لإني مبقيتش شايفك يا مي، مبقيتيش تعنيلي ولا فارقة معايا.
أخفضت وجهها لأسفل وهي تبكي بشدة مرة أخرى، تشعر بألم لم يصب فقط قلبها، بل طال كرامتها وكبريائها. رؤيتها على تلك الحالة انعشته، وأعادت جزء من كرامته التي دهسها والده، وأكملت هي على الباقي من روحه بهجرها له. بعدما وصل إلى هدفه، وهو رؤية انهيارها، والتأكد من إيقاف سائر محاولتها بالتوود له، تظاهر بضبط سترته، وقال لها ببرود موحي وهو ينظر إلى ساعة يده بحركة مفتعلة:
-معلش بقى مضطر امشي، أصل مراتي حامل ومحتجاني جنبها، عقبالك ولو إني اشك إنك هتضحي بسهولة بشكل جسمك عشان تبقي أم.
انفرج جانب فمه ببسمة بارده وهو يخبرها بتهكم، قبلما يتركها بعد أن أوصلها إلى أوج انهيارها:
-أبقي شوفيلك بقى ملياردير خليجي، ولا رجل أعمال أجنبي المرة الجاية، مانا عارفك بتجري ورا اللي يدفع أكتر.
لم تنظر له وهي تتلاقي سيل الإهانات الموجهة لها، أو حتى تمنعه عن الحركة حينما بدأ في السير مبتعدا عنها، ظلت تبكي والندم يتآكل بها، فقد أدركت خطئها من البداية، عندما ظنت أن من السهل عليها استعادته، وعاندت أمام كل مرة كانت تجد رده جامدا، وفاترا، متوقعة أنه يحاول فقط تلقينها الدرس جيدا، وسيعود بعدها إلى سابق عهده معها، ولكن على ما يبدو أن جميع ظنونها، وتوقعاتها، كانت فقط من وهم خيالها، والحب الذي كان كامنا بداخله لها، تناثر مع الريح، مثلما تناثرت الحين كرامتها وكبريائها.
❈-❈-❈
لم يمر على دخولها البيت سوى بضعة دقائق، وكانت سيارة "عاصم" تصتف في المرأب، أنفاسها كانت متهدجة إلى درجة كبيرة، وعيناها تبدلت لمعة السعادة فيهما، إلى غضب مشوب بالقهر، خطواته الغير مسموعة لها، كانت تتآكل بأعصابها، فالمواجهة تلك المرة ستكون ملحمية، لا مجال للمسامحة أو الغفران، بعد ما رأته بأم عينيها، ومر كالجنجر المميت عبر أذنيها، أعتصرت عينيها بغضب مكتوم حينما شعرت بدخوله الغرفة، وكزت على أسنانها عندما استمعت لغلقه الباب، الخطى المأخوذة منه نحوها، تزيد من اشتعال النيران بجسدها، كانت واقفة آنئذ في منتصف الغرفة، مولية له ظهرها، مما جعل التعجب يلوح فوق وجهه، خاصة عندما انتبه إلى تبديل ثيابها، وبينما يتقدم منها، سألها بغرابة ملموسة في صوته:
-انتي كنتي برا؟
تجاهلت سؤاله، وبصوت مشحون سألته دون أن تلتف له:
-انت كنت فين؟
ألقى سلسلة مفاتحه فوق الطاولة، ورد عليها بنبرة عادية رغم ارتيابه من سؤالها المباغت:
-مانا قايلك قبل ماخرج.
التوى ثغرها بهزوٍ مشبع بالغليل الذي لم يبصره عينيه، وسألته بتحفز:
-يعني انت روحت العشا!
ازداد تعجبه من تساؤلاتها، وأضحى متأكدا من وحود خبطا ما، لذا رد عليها مؤكدا ومستفهما:
-أيوه روحت، هو في إيه؟
التفتت إليه حينئذ، وصرخت بوجهه مرددة:
-في إنك كداب يا عاصم.
انفعل من سبها له، وصاح بها بغلظة:
-داليا إلزمي حدودك.
ارتفع حاجباها بدهشة من تبجحه، ودمدمت في سخط جلي، وهي تلوح بيديها بعصبية شديدة:
-ألزم حدودي ازاي لما تقولي إنك رايح عشا مع عملا، واعرف بعدها إنك رايح تقابل حبيبة القلب القديمة.
توسعت عيناه بصدمة من علمها بالأمر، بينما هي اقتربت منه وبنفس نبرة الصوت الهادرة هتفت أمام وجهه:
-انت كدبت عليا، قلتلي إن مفيش بينكم حاجة، وأنت بتقابلها من ورايا، انت كداب وخاين.
تحكم بصدمته، وبربكة ظاهرة في صوته راح يبرر لها:
-أنا آه كدبت عليكي، بس ده عشان مش عايز يحصل مشاكل بينا، لكن أنا مخنتكيش.
هزت رأسها في استنكار بالغ، وعقبت بسخرية:
-مخنتنيش! بجد والله! وبالنسبة بقى لإن أنا شايفاها بعيني وهي في حضنك وبتبوسها، ده إيه؟ دي بالنسبالك مش خيانة؟
تضاعف تفاجؤه من رؤيتها لما حدث، ولكنه لم يترك الصدمة تتملك منه، وتكلم على الفور مدافعا عن نفسه:
-انا ملمستهاش، هي اللي كانت بتقرب ولما لقيتها سائت فيها وزودتها بعدتها عني ووقفتها عند حدها.
لم ترَ في كلماته سوى المراوغة، كمحاولة أخرى للعب بعقلها، مما جعل الدماء تغلي بعرقها، وبعلو صوتها صرخت به:
-كفاية كدب بقى.
صراخها به، وتكذيبها له، جعله يفقد القدرة على التحكم بأعصابه، وهتف نافيا برد ثائر:
-أنا مش كداب، ده اللي حصل.
احتدم وجهها، وصوت صراخها راح يرن بعدم تصديقها له:
-وأنا مش مصدقاك، ومش عايزه اعيش معاك لحظة واحدة بعد اللي شوفته بعيني، وبعد خداعك ليا، طلقني يا عاصم.
اشتدت تعبيرات وجهه من مطلبها الأخير، وزجرها بعصبية بالغة:
-انتي شكلك اتجننتي، وعايزه تزعقي وتتخانقي وخلاص.
حركت وجهها في إيماءة نافية، وصاحت في تصميم:
-ده مش جنان، بالعكس، انا كده عقلت، حياتي معاك من الأول كانت غلط، وأنا بصلحه دلوقتي، وبقولك طلقني.
تحولت عيناه للإحمرار، وهتف بصوت اخشوشن على الأخير:
-وأنا سبق وقلتلك مش هطلقك، انسي إن حاجة زي دي تحصل.
لم تتراجع عن موقفها، بل ازدادت عنادا وهي تخبره:
-وانسى إني هقبل افضل على ذمتك، أو إني اسمي يبقى جنب اسمك بعد اللحظة دي.
تظاهر بالبرود، لئلا ينساق خلف موجات الغضب الجحيمي داخله، وقال لها بلا مبالاة:
-اللي عندك اعمليه، وبرضه مش هطلق.
أومأت له بهزات متتالية، مع نظراتها الغامضة، قائلة برد راضخ في ظاهره، ولكنه باعث على الظنون:
-تمام يا عاصم.
قبلما تجول الأفكار في رأسه، رآها تتحرك من أمامه، مهرولة نحو باب الغرفة، تحفز في وقفته وهو يسألها:
-انتي رايحة فين؟
ردت عليه بنبرة غير مريحة، وهي تركض نحو الخارج:
-هتشوف.
انتابه القلق من ردها، ومما ستقبل على فعله، وساوره الشكوك في لحظتها، لذا لم يبقَ موضعه، ولحق بها لأسفل، تبعها بخطوات مسرعة، حتى توجهت نحو المطبخ، كانت تسبقه بعدة خطوات، لذلك حينما دخل، كانت قد قامت بما انتويت فعله، لم يهتز له جفن وهو يراها أمامه، ممسكة بسكين بين يدها، ظن أنها ستهدده به حتى يخضع لها، وبالطبع صدق حدسه، حينما طلبت منه بلهجة منفعلة:
-طلقني.
لم تتغير تعبيراته، وبنبرة هادئة سألها باستخفاف:
-انتي فاكرة إنك كده هتخوفيني؟
عندما تداركت استهانته بها، رفعت السكين نحو عنقها، وهددته قائلة:
-هدبح نفسي.
صر فوق أسنانه، واشتدت عضلات وجهه، وهتف بها بصبر بات فارغا:
-نزلي السكينة يا داليا.
عبرت هيئتها عن انفعال هستيري وهي تقول بإصرار مهتاج:
-مش هنزلها، وهتطلقني.
حينما وجدها ألصقت الحافة الحادة للسكين بعنقها، حتى صرخ بها بعصبية بالغة:
-نزلي السكينة بقولك.
لم تستمع له، بل أنها فقدت كامل القدرة على تحكيم عقلها فيما تفعله، وهتفت بصوت متهدج:
-احنا حياتنا مع بعض انتهت لحد كده، وانت عملت كل حاجة عشان تكرهني فيك وفي حياتي معاك، نجحت في إنك تخليني أنا اللي ابقى عايزه ابعد عنك وأكره قربي منك.
كان مشدوها مما تفوه به، حتى أن الرد علق في حلقه من ظنها المغلوط حياله، انسابت العبرات من عينيها، وهي تتابع التكلم بصوت مختنق:
-ده كان هدفك مش كده؟ ماهو عاصم مش بيعمل حاجة غصب عنه، فقلت تخليها تيجي مني أنا عشان تبقى ضمنت إني خرجت من حياتك للأبد، كان لازم افهم ده من الأول.
رفع حاجبيه بغير تصديق لما يستمع له، وهتف في دهشة جلية:
-انتي واعية للي انتي بتقوليه ده! انا لو عايز كده كنت هوافق على حملك ليه؟ كنت هبقى خايف على زعلك، وكل ما يحصل حاجة مني تضايقك هصالحك بعدها ليه؟
بنفس النبرة الفاقد لكل معاني العقلانية علقت على ما قاله:
-ماهي دي خطتك، تطلعني زي كل مرة أنا الغلطانة، عشان مايبقاش في مجال للوم أو عتاب بعد كده، بس صدقني خلاص ماعادش هيبقى في أي حاجة، لإني هخرج من البيت ده ومش هتشوف وشي تاني، بس ده بعد ماتطلقني، ودلوقتي.
حينئذ شعر باحتراق طال سائر خلاياه العصبية، ودمدم باستهجان وهو يلوح بيده في الهواء:
-انتي اتجننتي فعلا، اتجننتي وبقتي مش عارفة إنتي بتقولي إيه.
في حركة تلقائية أنزلت يدها الممسكة بالسكين عن عنقه، وبحركات جسدية منفعلة، صرخت في جنون:
-جناني ده انت السبب فيه، دمرت أعصابي وتعبت عقلي، كرهتني في حياتي كلها، وقضيت على كل حاجة فيا.
مع نطقها بآخر عبارة صارخة، كانت يداها تحملان بضعة أطباق زجاجية من فوق الرخامة الجانبية، وقامت بإلقائهم أرضا تحت قدميها، جحظ بعينيه وهو يرى الزجاج المتناثر من حولها، مما جعل الرعب يدب في قلبه، فإن لم تؤذي نفسها بالسكين، سيطول جسدها الزجاج -بطريقة أو بأخرى وهي على تلك الحالة المهتاجة- لا محالة.
❈-❈-❈
على صوت ارتطام الزجاج الرهيب بأرضية المطبخ، نهض كل من "عز الدين" وزوجته من النوم مذعورين، نظرا إلى بعضيهما في استرابة، وقلبيهما يخفق بشدة إثرا للخضة التي تلقاه كليهما، بالأخص "زينة" التي سريعا ما تكلمت متسائلة بقلق:
-إيه الصوت ده؟
رد عليها "عز الدين" بريبة وهو يحاول استجماع تركيزه المشوش بفعل النوم:
-ده صوت إزاز اتكسر.
تحولت آنذاك نظراتهما نحو باب الغرفة، حينما وصل إلى سمعهما صوت الصراخ الآتي من الأسفل، ازداد توسع عيني "زينة"، وقالت بخوف ظاهر:
-في زعيق جاي من تحت.
أزاح الاثنين الغطاء عنهما، وسارعا في النهوض، وبخطوات مسرعة خرجا من الغرفة، وقتئذ وجدا "أمل" متوجهة نحوهما، وعلى ما يبدو أنها استيقظت على صوت الضحيج الصادر من الأسفل، وتساءلت بفزع:
-في إيه يا ولاد؟ إيه اللي بيحصل تحت؟
رد عليها "عز الدين" بتشوش وهو يشرع في السير ثانية نحو الدرج ومن خلفه زوجته:
-مش عارف، خليكي انتي مع يونس عشان ميصحاش مخضوض من النوم، وأنا هنزل أشوف في إيه؟
❈-❈-❈
تجمد في مكانه من الصدمة التي تحكمت في كامل وجدانه، ولكن خشيته من أن يمسسها ضرٌ، جعلته يتغلب على صدمته، وتحرك من موضعه نحوها، ليبعدها عن محيط الزجاج المهشم، حينما أبصرت هي تقدمه منها، حتى خطت للأمام ممسكة بالسكين مرة أخرى، ضاغطة أثناء ذلك بحذائها على قطع الزجاج، حينئذ هتف "عاصم" بذعر:
-داليا ابعدي عن الإزاز.
وضعت السكين ثانية فوق عنقها، وأمرته بصوت صارخ:
-ارجع لورا.
أتيا كل من "عز الدين" وزوجته في تلك اللحظة، توسعت أعينهما في رهبة من المشهد، ولم يستطعا التدخل بينهما، خوفا من أن تجرح الأخرى بحركة هوجاء نفسها، بينما توقف "عاصم" محله آنذاك، وهز رأسه في موافقة، ثم بدأ في الرجوع وهو يقول لها بنبرة تقطر خوفا:
-تمام تمام، رجعت، ابعدي عن الإزاز وأنا مش هقرب منك.
انفرجت شفتيها ببسمة ساخرة، وقالت له بتهكم ممزوج بالقهر:
-أوعى تكون خايف عليا.
اهتزت نظراته بينها وبين السكين، وهتف في خوف حقيقي:
-أنا فعلا خايف عليك، انتي لابسة كعب وممكن تقعي على الأزاز، ابعدي عنه يا داليا وسيبي السكينة دي من إيدك.
انهمرت دموعها وهي تكذبه بهدير صارخ:
-بطل تمثيل بقى، انت عمرك ماخوفت عليا.
لمعت عيناه بالدموع وهو يخبرها بحنق من عنادها الأعمى:
-أنا عمري ماخوفت على حد غيرك، كفاية يا داليا وسيبي السكينة.
صرخت بها تصميم هستيري:
-مش هسيبها إلا لما تطلقني.
ضغطها على أعصابه ضاعف من انفعاله، وهدر بها برفض قاطع:
-مش هطلقك، استحالة اطلقك انتي فاهمة.
حينئذ مررت حد السكين على رقبتها، مما جعل بعض قطرات الدماء تظهر بوضوح أمام عينيه، برقت عينا أخيه، وكتمت زوجته شقتها بيدها المرتعشة، بينما صرخ هو برعب شديد:
-انتي بتعملي إيه؟
تحاملت على نفسها شعور الوجع، أو بالأحرى كان نزيف قلبها أشد وأقوى، وبدموع متحجرة بعينيها، قالت له بنبرة ميتة، منزوع منها روح الحياة:
-انا مبهددش، لو مطلقتنيش دلوقتي حالا هكمل.
لم يجد من الصراخ نفعا، لذا لجأ إلى التوسل علّها تعود إلى رشدها، وبصوت هادئ طلب منها:
-عشان خاطري سيبي السكينة، أرجوكي يا داليا نزليها من على رقبتك، وأنا هعملك كل اللي انتي عيزاه.
حدجته بنظرات كارهة وهي تخبره بحدة متزايدة:
-ماعادش ليك خاطر عندي يا عاصم، واللي انا عايزاه دلوقتي إنك تطلقني.
ضم ما بين حاجبيه في توتر عصبي، وبمزيد من التوسل حاول استعطافها:
-طب عشان خاطر رائف ونائل بلاش أنا، عشان خاطر ابننا اللي في بطنك، لو جرالك حاجة هيموت.
في خضم انهيارها، نطقت دون تفكير بجنون بالغ:
-يموت، مش فارق معايا.
اهتياج أعصابه وصل إلى أقصى حد، تشنج جسده وصرخ بها بصبر نافذ:
-كفاية يا داليا.
لم ترتدع، بل ازداد عنادها الأهوج عن ذي قبل، وصرخت وهي تتضغط أكثر على عنقها:
-طلقني يا عاصم، طلقني.
عندما لاحظ ازدياد الدماء المنسالة من عنقها، توسعت عينيها في رعب جعله يفقد صوابه، وهتف دون وعي من الضغط الشديد على أعصابه:
-انتي طالق.