-->

رواية جديدة مشاعر مهشمة 2 لشيماء مجدي - الفصل 33

 

قراءة رواية مشاعر مهشمة الجزء الثاني كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى




رواية مشاعر مهشمة الجزء الثاني 
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات 
الكاتبة شيماء مجدي 

الفصل الثالث والثلاثون



كلمة واحدة، كفيلة بجعل القلب ينزف بالقهر والوجع، كلمة كانت كحد السيف، نحرتها للعنق أشد من نحر السكين الكال. لم يكن وقعها المؤلم مقتصرا على سمعها فقط، فقد كانت صدمته بمغادرة تلك الكلمة فمه؛ مدمرة لروحه، وممزقة لتامور قلبه، تلفظه بكلمة الطلاق، كانت بمثابة إطلاق سهم قاتل في صدره، إما أن يطول قلبه فيسلبه -في لحظتها- روحه، وإما أن يتحول كل ما حدث لكابوس بغيض، يستفيق منه ويجدها جواره، متوسدة أحضانه. 


ما جعل إدراكه يتحفز، ويتنبه إلى حقيقة كونه للتو أنهى زواجهما، ضحكات الأخرى، التي جلجلت بشكل متقطع، مما جعل حاجبيه ينزويا وهو ينهج بصدره من شدة انفعاله وأعصابه المستنزفة، ولكن البكاء الذي اختلط بضحكاتها الهستيرية، أشعره بتسلل القلق إلى داخله، بل أن الرعب عاد ليحتل ثانيةً قلبه عندما وجدها بدأت في التراجع بغير هدى إلى الخلف، وصوت فتات الزجاج المهشم يصدر من أسفل قدميها. 


توسعت عيناه، وتواترت دقات قلبه عندما وجد صوتها يخبو شيئا فشيء وجسدها بدأ في الترنح أمام عينيه، وقبل أن يهرع نحوها، ليتلقفها قبل السقوط، حطت غمامة سوداء على عينيها وخار جسدها مرتطما بالأرض، جلس على ركبتيه، ورفعها قليلا ليسندها على صدره، ودار بعينيه على موضع سقوطها، متفقدا وجود أي زجاج أسفلها، وعندما اطمأن على عدم إصابتها بأي خدش، مد يده نحو وجهها، ضرب بخفة فوق وجنتها وراح يهتف باسمها محاولا إفاقتها:


-داليا! 


لم يصدر منها صوت، أو حتى رمشت بعينيها كتعبير على استماعها له، حينئذ كرر فعلته، و بصوت بدا خائفا:


-داليا انتي سمعاني!


توجه أثناء ذلك "عز الدين" نحوهما، جلس على عقبيه، ومد يده ممسكا بساعدها، متفقدا عرقها النابض، وبعد مرور عدة لحظات، أخبر أخيه:


-النبض ضعيف.


حول عينيه المرتعدتين نحوه، وكأنما كان يختلط بهما الضياع وهو يسأله بتخبط:


-ننقلها المستشفى؟


بعد تفكير دام للحظتين، رد عليه بعقلانية:


-بلاش ننقلها المستشفى، عشان هيبقى في تحقيق على الجرح اللي في رقبتها، وكمان أقرب مستشفى من هنا مش هتاخد أقل من ساعة إلا ربع.


تشتت نظرات "عاصم"، كأن عقله عاجزا تماما عن التفكير، في حين وثب الآخر عن الأرض، وأضاف بصوت جاد:


-أنا هكلم دكتور صاحبي هخليه يجيلينا، بيته قريب من هنا، طلعها انت الأوضة لحد ما اكلمه.


أومأ له بانصياع صامت، وحاوط ظهرها بذراعه، ومرر الآخر أسفل ركبتيها حتى يحملها، ثم توجه بها إلى الأعلى، ولأول مرة ينتايه شعور بأن تفكيره جامدا، لا يسعفه للتعامل مع الموقف الراهن، ومع حالتها المغيبة عن الواقع.


بقيت "زينة" مع "داليا" في الغرفة، أثناء فحص الطبيب الذي جلبه "عز الدين" لها، بينما ظل "عاصم" واقفا بالخارج وجواره أخيه، غضبه الشديد أثناء تشاجره مع زوجته، وخوفه من أن يصيبها مكروها، جعله لم ينتبه إلى الرهاب الغريزي داخله من رؤية الدماء، فجزء من خوفه كان راجعا لذلك السبب، وعندما هدأ انفعاله، تدارك رعشة جسده عندما أبصر خيوط الدماء المنسالة فوق عنقها ونحرها، لذلك لم يستطع البقاء بالداخل، أثناء تجفيف الدماء، وخياطة الجرح إن لزم الأمر.


بعد مرور ما يقرب من النصف ساعة، خرج الطبيب إليهما، تحفز حينئذ "عاصم" في وقفته، ولكنه بقى صامتا، خوفه متملك منه، بينما ذهب نحوه الآخر وسأله باهتمام بما ود "عاصم" التساؤل حوله:


-خير يا حاتم؟ 


بعد زفرة سريعة أجابه بنبرة عملية:


-جالها هبوط في الدورة الدموية، وده اللي سبب حالة الإغماء، ده غير إن واضح إنها متعرضة لضغط عصبي شديد وده مش كويس نهائي على الحمل.


حانت من "عز الدين" نظرة خاطفة نحو أخيه الواجم، ثم عاد بنظره إلى صديقه وسأله مجددا:


-طب والجرح اللي في رقبتها؟


أجابه بنبرة مطمئنة وهو يفرق النظرات بينه وبين الآخر:


-الجرح سطحي محتاجش خياطة، عقمته وعملتله تضميد، وهيحتاج يتغير عليه كل أربعة وعشرين ساعة.


مد يده له بالروشتة المدون بها العلاج الذي ستحتاجه، وتابع قائلا بهدوء:


-وده العلاج بتاعها، تاخد منه دلوقتي، بس المضاد الحيوي الأفضل بعد ماتاكل.


أخذ منه الورقة وأوما له بالإيجاب بهزة بسيطة من رأسه قبل أن يعتذر منه:


-تمام يا حاتم، ومعلش إني قلقتك في وقت زي ده.


ربت على جانب ذراعه، وأردف بود وهو متحفز للمغادرة:


-متقولش كده، مفيش قلق ولا حاجة، عن إذنكم.


اصطحبه "عز الدين" إلى الأسفل، وحتى يبعث أحد من الخدم لشراء الدواء لزوجة أخيه، بينما بقى "عاصم" محله، عقله إلى الآن يحاول استيعاب ما حدث، رؤيتها للقائه ب"مي شاهين"، شجارها معه، ومحاولة انتحارها، انتهاءً بطلاقه لها، كل ذلك كان كالذوبعة تدوي برأسه، ومع ذلك كان عاجزا عن تصديق أنها بين طرفة عين باتت كارهة لوجوده معها، ومن أمر كانت في الماضي تتغاضى عن الأسوأ منه ليبقى فقط في حياتها.



❈-❈-❈



حزن شديد، قلب محطم، وحياة مدمرة، هيئتها المذرية كانت توحي بكل ما تحمله في نفسها، وبما تعانيه في تلك الأثناء داخلها، ومع ذلك ظلت ساكنة، حتى ألمها البدني لم تعبر عنه بالبكاء. عينيها غائرة، والدموع بهما متحجرة، تنظر في سقفية الغرفة، متبعدة بنظراتها عن كل من "زينة" و"أمل" التي جاءت للاطمئنان عليها بعدما عاد الصغير للنوم، بعد إن استيقظ فزعا من البلبلة التي أصدرتها هي وزوجها. عندما فُتح الباب بغتة، وشعرت بدخوله الغرفة، سريعا ما أغمضت عينيها، غير راغبة في النظر إلى وجهه، فرؤيته أصبحت أكثر ما تكرهه في الوقت الراهن.


تقدم نحوها بخطى متمهلة، حتى وقف أمامها، رائيا اعتصارها لعينيها، مدركا عدم رغبتها في النظر إليه، وعلى الرغم من سخطه على كل ما فعلته، إلا أن رؤيتها على تلك الحالة الواهنة بعد انهيارها أمام مرمى بصره، يحز في قلبه بشدة، حتى وإن كانت ظلمته، حتى وإن كانت بتفكير أهوج أنهت ما بينهما، لكنها ستظل الشخص الوحيد في حياته، الذي يخنع قلبه لها، ومع كامل الحق في زجره جراء كل ما عانته منه، ولكنه مع ذلك لم يستطع منع نفسه عن لومها، وبصوت بدا جامدا سألها:


-ليه كده؟


ضمت شفتيها بشدة، وهي تزيد من غلق عينيها، مما جغل الضيق ينبجس بقوة داخله، وكرر عتابه بصوت أكثر شدة:


-ليه وصلتينا لكده؟


ارتعشت شفتاها المزمومتان، واغرورقت عيناها بالدموع، التي ظهرت من طرفيها له، وانسابت على صدغيها، مما جعل شفتيه تتقوس ببسمة بها طيف سخرية، من تأكده أن تصميمها على إنهاء الزواج، لم يجعل الراحة تتخلل قلبها في النهاية، وبتهكم منفعل سألها:


-ارتاحتي لما طلقتك؟ حسيتي إنك أحسن لما رميت عليكي اليمين؟


حالتها كانت كما هي، كأنما يحادث الفراغ، لم يبدر منها صوت، أو إيماءة واحدة، باستثناء اهتزاز فمها وعينيها المغلقين، انزعج من كونها تنفر من النظر في وجهه، ومن صمتها الخانق له، دنا منها أكثر، وقبض على فكها، مما جعلها تتأوه بوجع، ولكنه أجبرها في الأخير على فتح عينيها والنظر له، وقال له بنبرة تملكية:


-بس لو فاكرة إنك كده خلصتي مني تبقي غبية، انتي في جميع الأحوال سواء كنتي مراتي أو طليقتي، هتفضلي بتاعتي.


ناظرته بعينين دامعتين، يحملان وجعا جما، ناهيك عن الخذلان والخيبة اللذان ينبثقان منهما، نافذين إلى قلبه في التو، ليشعر بوخز يعصف به على ما آل إليه حالها، على الرغم من أنه تلك المرة لم يسيء لها، تغلب على شعوره، ورغبته في ضمها، قائلا بتشدد مؤكدا على ملكيته الخالصة بها:


-انتي ليا، سمعتيني يا داليا؟ انتي ليا مهما حصل.


سحبت وجهها منه بحركة منفعلة، والنظرات المتبادلة بينهما تجعلهما يبدوان كأنهما خصمان يتباريان، وليس حبيبين، بينهما طفلين، وطفل ثالث لم يولد بعد، تدخل "عز الدين" في ذلك الوقت، خوفا من أن يتصاعد الحوار بينهما إلى شجار آخر، لن يكون في مقدور الأخرى تحمله، وغير متوقع تبعات تفكيرها المتهور، وضع يده فوق كتفه، وحثه على الابتعاد عنها، قائلا بنبرة لينة، حذرة حتى لا يثير غضبه:


-خلاص يا عاصم، أجل أي كلام لبعدين، وسيبها ترتاح دلوقتي، وزينة هتفضل معاها.


نظر له بوجه المشدود للحظة، ثم عاد للنظر لها، العتاب كان يندلع من عينيه، رغم الغضب الذي يلوح بهما، يرغب في تعنيفها، والصريخ في وجهها، ومع ذلك وافق أخيه الرأي فيما قاله، فهي بحاجة إلى إراحة جسدها، وأعصابها المستنزفة، وهو الآخر لا يضمن عواقب بقائه، إن استمر في معاتبتها بذلك الانفعال، لذلك أرغم نفسه على الابتعاد عنها، تراجع عدة خطوات للخلف، ونظراته ما تزال مثبتة على وجهها، الذي أخفته عنه بالتفاتها إلى الجانب الآخر، صر أسنانه، وبصعوبة استدار تاركا الغرفة، بل البيت كله، فبقائه معها محفوف بالخطر، وأوْبَتُه إليها وبداخله ما يزال موقدا بنيران الغضب ليس مأمونا نهائيا.



❈-❈-❈



ربما القرارات التي تؤخذ في لحظة الغضب، تكون غير محمودة العواقب، ومع ذلك عزمت داخلها على تنفيذ القرار الذي أخذته، وهي عائدة إلى البيت، بعدما شهدت خيانته بعينيها، بعدما ألقى الوعود، وكرر العهود، ولكن على ما يبدو أنه سيظل كما هو، لن يتبدل، ولن يصبح لها السكنى والسند التي كانت تأمله، لن يلوح بصيص نور في حياتها إن استمرت معه، ستظل على عتمتها، ودمارها مادامت متمسكة بوجوده المُشقي. ستبتعد، تلك المرة سترحل بلا رجعة، حيث لن يجدها ثانية، حتى لا يحدث بينهما لقاء يجبرها أن تعدل عن قراراها. التفت برأسها، ناظرة نحو "زينة"، وتساءلت بجدية:


-فين ولادي؟


ظنت أن سؤالها نابعا عن خوف أمومي، لذا ردت عليها بلهجة هادئة مطمئنة:


-نايمين في أوضتهم مع المربية.


حينما وجدها "عز الدين" استفاقت من حالة الصدمة التي كانت متملكة منها، وبدأت في التحدث، تدخل في الحديث قائلا بعتاب جاد:


-متزعليش مني يا داليا في اللي هقوله، بس بصراحة مكانش ينفع اللي عملتيه. 


أطرقت نظرها لأسفل، ولكنه لم يكن خزيا كما ظهر له، إنما كان عدم رغبة في التكلم عما حدث، لاذت بالصمت وهو يتابع في عتابه:


-مهما كان سبب الخلاف بينكم، مكانش لازم توصل لأنك تفكري تموتي نفسك، إنتي مش مسئولة عن روحك بس، في روح جواكي هتتأذى، وربنا هيحاسبك عليها لو عملتي في نفسك حاجة.


تؤاءى لوالدته عدم تحمل الأخرى سماع أي تأنيب، خاصة في ذلك الوقت، لذلك أخبرته بغير استحسان:


-ملاهوش لازمة الكلام ده دلوقتي يا عز.


حول نظره تجاه والدته، وخاطبها في استنكار غير منفعل:


-أنا مش بلومها عشان خاطر عاصم، أنا بلومها عشان نفسها وابنها اللي في بطنها، وولادها اللي لسه بيرضعوا ومحتاجينها أكتر من أي حد.


تقدمت منه وقالت له بتشدد وهي تنظر له بنظرات ذات مغزى:


-برضه مش وقته يابني، أهم حاجة ترتاح دلوقتي.


التزم الصمت حينما فهم نظراتها، بينما تكلمت "زينة" بحنوٍ حينما شعرت بحاجة الأخرى إلى إراحة جسدها:


-احنا هنسيبك تنامي دلوقتي، بس لو احتاجتي أي حاجة تعالي صحيني، ماشي.


أومأت لها بهزة بسيطة من رأسها، لم يكن بها أي نية على اللجوء لأي منهم، ظلت صامتة، محاولة التماسك لحين خروجهما، حتى تتجهز سريعا، وتغادر خفيةً، وعدم وجود زوجها بالفيلا، سيساعدها على الفرار دون شعور أحد بها، والوقوف حائلٌ ضد ما عزمت على تنفيذه.



❈-❈-❈



إلى متى سيظل ذلك العناء؟ كان هذا التساؤل الذي يدوي في رأسه طوال الساعات التي قضاها خارج البيت، فكلما حاول أن يصل إلى الراحة، يجد جميع الأبواب تُغلق في وجهه، كأن الراحة لم تُكتب له يوما. لقد ظل لما يقرب من الثماني ساعات، جالس في سيارته، عائدا برأسه للخلف، مغمض العينين، يحاول فهم ما حدث خلال دقائق تُعد، غير مجرى حياته، وطاح بأحلام مستقبله، والمؤسف أنه لا يستطع لومها على ثورتها، فهو من أوصلها إلى تلك الحالة المتدنية، وأحدث ذلك الشرخ من البداية في علاقتهما، ولكن أي علاقة؟ تلك التي بدأها باستغلالها، واستمر خلالها في تعذيبها، نفسيا قبل أن يكون بدنيا، حتى تحولت من الشخصية الناعمة، المسالمة التي كانت عليها، إلى أخرى ناقمة، وغاضبة من أقل اشتباك يحدث بينهما، كيف يلومها؟ وهذا نتاج أفعاله النكراء، وعدم احترامه لمشاعرها من البداية.


كيف يطالبها بالتمسك به؟ وهو لطالما باعها بكل دناءة، وكان يتفنن في دهس كرامتها وكبريائها، كيف يشرح لها أنه بعد لقائه بتلك البغيضة، اعتذر عن حضور العشاء، وعاد لها ركضا، حتى يرتمي في أحضانها، ويخبرها أنها من تملكت قلبه، وأنها من يريد البقاء طوال حياته بقربها. طوال الساعات المنصرمة حارب رغبته في العودة للومها، ونهرها جراء ما أحدثته بغبائها، وتسرعها الأهوج، حتى لا ينتهي ككل المرة الحديث بينهما بعراك يزيد كرهها له، ذلك الكره الذي رآه بعينيها لأول مرة، كأن خيانته لها، كانت القشة التي قسمت ظهر البعير، وجعلت كل الحب الكائن في قلبها يتبخر في الهواء، ويذهب أدراك الرياح، كأنما لم يكن له وجود يوما. أليست هي من أصرت على هذا الزواج؟ ألم تجعله عاشقا إلى ذلك الحد لها؟ لن يسمح لها إذن بإنهاء زواجهما، فذلك الزواج، وذلك الحب، باتا السبب الذي يحيا لأجله، أدار محرك سيارته، أخذا مجازه نحو بيته، عاقدا العزم على عدم السماح لها بالافتراق عنه.


ترجل من سيارته، وبخطوات مسرعة، صعد إلى غرفتهما، ولكنه تعجب عندما وجدها فارغة، فقد ظن أنها بعد استنزافها لطاقتها الجسدية، وثورتها الانفعالية، ستكون خالدة في سبات عميق، وخاصة وأن الساعة لم تتخطَ السابعة صباحا، رغم عدم ارتياحه لعدم وجودها، ولكنه أرجح أن تكون توجهت لغرفة صغيريها، تمسك بذلك الظن، وخرج من الغرفة، متوجها إلى الغرفة المجاورة له، طرق على الباب طرقتين، وانتظر ريثما تفتح له المربية، بعد عدة لحظات، فتحت له الباب، ولكنها حينما وجدت أنه الطارق، ارتدت للخلف، حينها شعر بالحرج، لإن الساعة ما تزال مبكرة ومؤكدا ما تزال بثياب النوم، كما أنه لم يتحدث لها منذ جاءت لرعاية طفليها، حمحم بخفة، وتساءل بنبرة جامدة:


-داليا جوا؟


ردت عليه المربية من خلف الباب باحترام:


-لأ مدام داليا بالليل الساعة اتناشر تقريبا، جيت أخدت الولدين ورجعت أوضتها؟


انزوى ما بين حاجبيه، وتساءل باستشفاف مستريب:


-يعني نائل ورائف مش معاكي؟


نبرته المحققة وترتها، خاصة مع استماعها للشجار الذي كان دائرا بينهما ليلة البارحة، لذلك تلعثمت قليلا وهي تكرر نفيها:


-لأ مش معايا، أنا لسه قايلة لحضرتك إن داليا هانم أخدتهم.


قبل ان يترك مجالا القلق ليتسلل إلى داخله، توجه إلى الغرفة التي كانت لها قبل زواجهما، والتي كانت تبيت بها عندما يتشاجران معا، ولكنه لم يجد بها أحد هي الأخرى، ليشعر بعدم الراحة تحتل قلبه، كان آخر وجهة للبحث عنها هي غرفة أخيه، فقبل ذهابه، تركها بصحبتهم، ومحتمل أن تكون معهم، أو يكون لديهم علم عما حدث في غيابه على الأقل، انتظر بالقرب من الباب، بعدما دق عليه، لم يطول انتظاره، وكان "عز الدين" فاتحا الباب، وقبل أن يستفسر منه عن ما إن كانت "داليا" متواجدة مع أي منهم، عاجله "عز الدين" متسائلا بريبة:


-في إيه يا عاصم؟ في حاجة حصلت لداليا؟


توسعت حينئذ عيناه في قلق، وسأله بصدمة:


-هي مش معاكو؟


تعجب من سؤاله الغريب، ورد عليه نافيا:


-لأ احنا لقيناها تعبانة ومحتاجة ترتاح، فسيبناها تنام عشان تريح أعصابها وكل واحد فينا رجع على أوضته.


زاغ بعينيه عنه، وردد كأنما يحادث نفسه ولكن بصوت مرتفع:


-يعني راحت فين؟


استمع "عز الدين" لغمغمته، انزوى ما بين حاجبيه، وسأله بتعجب:


-راحت فين ازاي! هي مش في الفيلا؟


تجاهل الرد عليه، وسريعا ما وضع يده في جيب بنطاله، مخرجا هاتفه، حينما طرأ في عقله أمر مهاتفتها، ولكن مدة المكالمة انتهت دون أن تجيب على اتصاله، اشتدت عضلات وجهه بعصبية، وأعاد الاتصال بها، وقتئذ تفاجأ بغلقها للهاتف، سارت الدماء في عروقه، وتشنج جسده، وسار بخطوات غاضبة تجاه الدرج، حتى يذهب إلى الحرس، ليستعلم منهم عن رؤية أحدهم لها، أو مغادرتها الفيلا ما أن لم يجدها أثناء نزوله في أي من الغرف المتواجدة بالأسفل، ولكنه بغتة توقف موضعه، حينما تذكر عبارة بعينها مما قالتها أثناء عراكهما بتصميم غير قابل للرجوع فيه:


-هخرج من البيت ده ومش هتشوف وشي تاني..


راحت تتردد في ذهنه تلك العبارة من بين كل ما قالته، لتحدث ذوبعة في كيانه، خفق قلبه بقوة، واكفهر وجهه، وبخوف شديد قال:


-لأ يا داليا، مش هسمحلك تبعدي عني.


هرول نزولا إلى الأسفل، وبداخله يدعو ألا يصدق حدسه، وتكون قد نفذت ما انتوت على فعله في وقت عصبيتها.



❈-❈-❈



لم يكن مستيقظا من بين الحرس، سوى حارسين، توجه إلى أحدهما، وقلبه متضخم من شدة خفقانه، ففكرة تركها له التي راودته، تجعله على مقربة من فقد اتزانه، توقف أمام الحارس، وسأله بتعبيرات جادة، ومترقبة، يخفي خلفها تزعزع أعصابه:


-داليا هانم خرجت من الفيلا قدامكم؟


رد عليه الحارس مسترسلا باحترام:


-ايوه يا باشا، خرجت من ساعة تقريبا، من غير العربية، وكان معاها ولاد سعادتك.


هذا يعني أنها استغلت غيابه، في تنفيذ تهديدها له، اشتدت عضلات وجهه، وهدر به بانفعال:


-ومحدش عرفني ليه وقتها؟


نكس نظره لأسفل وهو يجيبه ببعض التوتر:


-ساعدتك منبهتش علينا بكده.


كاد يفقد أعصابه من تأكده من تركها له، ولكن المثير للخوف في الموضوع، هو احتمالية عدم إيجاده لها، ضغط على رأسه، محاولا نفض ذلك الهاجس عن عقله، وحدج الحارس بنظرة غير متساهلة، وشدد عليه بلهجة صارمة:


-تخرجوا دلوقتي حالا، تقلبوا الدنيا وتعرفولي راحت فين، مترجعوش إلا وانتوا عارفين مكانها، مفهوم؟


رد عليه في خنوع وهو يشرع في التحرك من أمامه:


-أوامر ساعدتك.


لم يتوقف محله هو الآخر، وسارع نحو سيارته، استقل كرسي القيادة، وأدار محركها على الفور، أخذا مجازه نحو بيتها، الذي اعتاد أن يجدد به أشواقه لها في الماضي، توقع أن تكون عادت للمكوث به، فهي منذ تركها بيتهما بعد سفره رفقة والدته لتلقي علاجها خارج البلاد، وقد اتخذته بيتا لها، على الرغم من وجود بيت والديها، ولكن كان ذلك البيت أصغر في المساحة، مما يجعلها غير راهبة من العيش به بمفردها، كما أنه كان الأقرب لبيته من بين البيوت التي تملكها، والتي ورثتها عن أبويها.


ركل جانب سيارته بقدمه بغضب جحيمي، عندما وجد البيت مغلقا بالأقفال من الخارج، خاب ظنه، والمكان الوحيد الذي توقع أن تتواجد به، لم تقرب منه، مما ضاعف من ريبته، فعدم توجهها لذلك البيت، يعني أنها متقصدة عدم التواجد في أي مكان يُسهل من خلاله العثور عليها، ومع ذلك قاوم تصديق ذلك الظن، وصعد إلى السيارة، ليقوم بالبحث عنها في الأماكن المتوقع تواجدها بها، وأثناء بحثه الدؤوب، الذي استغرق أكثر من ست ساعات، وهو يقود سيارته، رن هاتفه الجوال، قام بتفقده بعجالة، ليجد المتصل أحد رجاله، أجابه على الفور، قائلا بتلهف:


-لقيتوها؟


جاءه رد الرجل بأنفاس متزايدة قليلا:


-ملهاش أي وجود في كل الأماكن اللي متعودة تروحها، حتى صحابها محدش منهم شافها خالص من أكتر من شهر.


كز على أسنانه، قبل أن يسأله بصوت أجوف:


-ورفيف الكيلاني؟


رد عليه برنة صوت حذرة:


-رفيف مع جوزها في الشركة بتاعتهم، وساعدتك عارف إن مينفعش حد فينا يحتك بيها.


ضرب على عجلة القيادة وهو يهدر بعصبية شديدة:


-يعني إيه؟ ملهاش وجود! الأرض انشقت وبلعتها؟


أخبره الرجل ببعض التوتر الملموس في صوته:


-احنا ماقولناش كده يا عاصم بيه.


تهدجت أنفاس "عاصم" من شدة غضبه، شاعرا باحتراق الدماء التي تسري في عروقه، وبصوت اخشوشن على الأخير أمره:


-ماشوفش وش حد فيكم إلا لما تعرفولي مكانها، لو ملقيتوهاش مترجعوش.


رد عليه الرجل بانصياع خانع في اختتام للمكالمة:


-حاضر يا باشا.


ألقى "عاصم" الهاتف بحركة انفعالية فوق تابلوه السيارة، وكل خلية من خلاياه العصبية تتآكل مع عدم عثوره عليها في أي مكان يتوجه له. استمر في البحث حتى غابت الشمس، وحل مكانها الليل، شعر آنذاك بفقدان الأمل في إيجادها، على الرغم من تشديده على رجاله بعدم العودة دونها، صعد بكتفين متهدلين إلى الغرفة، ووجه شاحب، وعينين غائرتين، من استيقاظه الذي دام ليومين متواصلين، وعدم تناوله أي طعام يُذكر منذ وجبة الغداء الذي تناولها رفقة زوجته بالأمس، فلأول مرة يشعر بأنه في غيابها، سلبٌ لروحه منه. 


تسلل لجسده البرودة، عندما وطأ بقدمه الغرفة، كأنما الدفء الذي كان يغمرها، رحل برحيلها القاسي عنه،  وعند تلك النقطة سقط قناع الثبات الذي كان يرتديه، وهطلت الدموع الحبيسة بعينيه، شيئا فشيء أصبح لبكائه صوت، وارتج جسده بعنفه مع شهقاته المنتحبة، فقدها بالنسبة له كفقد عالمه بأسره، كفقد أبويه، وفقد روحه من جسده. ورغم يكائه الذي استنفذ الباقي من طاقته، إلا أنه ما يزال يشعر باتقاد النيران بداخله، اختناقه لم يتبدد، وثورته لم تُخمد، وبحركات انفعالية مهتاحة راح يقذف كل القطع الزجاجية الموضوع فوق الأرفف، والطاولات، وهو يصرخ في هياج شديد ويردد:


-روحتي فين؟ 


طالت يداه بعضا من الأثاث أثناء تهشيمه لمحتويات الغرفة، وهو يهدر في جنون:


-ليه دلوقتي؟ لييه بعد كل ده؟


صوت التكسير، وصراخ "عاصم" المختلط به، كانا يدويا في كل أرجاء البيت، في بادئ الأمر ترك "عز الدين" أخيه ينفس عن غضبه المكبوت، بالصورة التي تريحه، وبكن عندما زاد الأمر عن حده، بالأخص عندما وقع على سمعه صوت الزجاج المهشم، قرر أن يتدخل، ليهدئ من فوران أعصابه، دلف الغرفة بخطى سريعة، ووقف أمامه حائلا بينه وبين أحد القطع الخشبية التي كانت ستأخذ نصيبها من التحطيم بجوار الأخريات، وطلي منه بهدوء حذر:


-ممكن تهدى يا عاصم، تكسيرك في الأوضة مش هيحل حاجة ولا هيرجعها، اهدى وفكر بالعقل وأكيد هتعرف راحت فين.


لم يستمع لأي مما قاله، فقد أعماع غضبه، ودفعه بغل من صدره وهو يصرخ به:


-ملكش دعوة، أخرج برا.


تغاضى عن لكزته العنيفة لعظام صدره، وبخوف أخوي غير مبتذل أخبره:


-أنا خايف عليك يا بني آدم، انت ممكن يجيلك أزمة قلبية، أو ضغطك يعلى من العصبية دي.


استوحشت عيناه وهو يعلق بحدة محتدمة:


-انت مالك، ولا انت هتعمل دكتور عليا.


لئلا يزيد من ثورته، حاول ألا يتجادل معه وحدثه بتريث:


-لا يا سيدي مش هعمل دكتور، بس انا بقولك كده عشان خايف عليك.


احتقنت نظراته بشدة، وامتزجت بنوع من الإزدراء، مدمدما:


-أنت مفكر نفسك اخويا فعلا؟ 


ناظره "عز الدين" بدهشة من قوله، بينما ازداد الآخر في تقليله منه، قائلا باحتقار:


-لا فوق كده انت ولا حاجة، ومش عشان عطفت عليك واتعاملت معاك مرة ولا مرتين حلو، خلاص تفتكر نفسك مهم وليك كلمة عليا، انت هنا زيك زي الخدم بالنسبالي، ملكش لازمة.


تجلت الخيبة فوق وجهه، وبتعبيرات أضحت باهتة، علق بهدوء مشوب بالشجن:


-شكرا يا عاصم إنك عرفتني مقامي، وانت عندك حق فعلا أنا نسيت نفسي، ونسيت عاصم باشا عامل ازاي، كان لازم اعرف انك عمرك مهتتغير، والغلط مني أنا فعلا إني اتعاملت معاك على أساس إنك اخويا.


قطب جبينه مظهرا ضيقه الممزوج بغليل أعصابه، في حين تابع "عز الدين" تعقيبه المشبع بالأسى:


-ومعنديش مشكلة إني ابقى زيي زي الخدم، احنا كلنا عايشين بنخدم بعض، بس اللي عمري ماهقبله إني ابقى عايش عالة عليك، حتى لو في حقي، عشان كده انا ماشي من البيت، هسبهولك تشبع بيه.


اتبع آخر قوله استدارته، وتركه له في أوج غضبه، مجيئه الذي كان يحاول عن طريقه تهدئة ثورته، انتهى بمضاعفة اشتعال جذوة الغضب داخله، فقد بات يشعر أن كل ما سعى لتحقيقه، هُدم فوق رأسه، وتحطمت كل آماله، فقد خسر كل من تجمعه به صلة، لسوء طباعه الغير مقبولة، وصعوبة معاشرته، وسلاطة لسانه، وغدا في طرفة عين، طريدا من حياة الجميع.



❈-❈-❈



الانتظار دون وجود أمل، أمر من أبشع ما يكون، كما أن التكهنات التي تدور في الرأس آنذاك، تجعل النفس تخامر أقصى أنواع العذاب. ظل "عاصم" كمن يدور حوب نفسه في دوامة البحث على زوجته، طوال الأيام المنصرمة، وعندما يأتي الليل كان يدفن نفسه في البارات، ويتجرع ما يطوله يده من أنواع الكحوليات، حتى أنه امتنع عن حضور جلسات العلاج النفسي، فقد رأى أنه لم يعد هناك بدا من التغيير، فمن أراد أن يصبح الشخص الأفضل لأجلهم، رحلوا عن حياته، وتركوه بمفرده، حتى أصبح منبوذا، وحيدا، وشريدا، لم يتجرع فقط مرارة ترك زوجته، بل وأضناه عذاب مفارقة طفليه، وآلمه ابتعاد أخيه عنه، بعد أن اعتاد على وجوده الداعم إلى جواره، ولكنه المذنب الوحيد، والمخطئ في حق نفسه، قبل أن يكون في حق الجميع.


كان كالطفل الصغير، يبكي بأنين صامت، ولكن وعيه كان مشتتا بفعل ما تناوله من مشروبات مسكرة، كان يحاول عن طريقها، أن يذهب عقله عن حقيقة كونه بات وحيدا، علّه بتلك الطريقة يخفف من الوجع الذي يضنيه، ولكن حتى في غياهب وعيه المسلوب، الألم لم يزول، ولم يترك قلبه. أثناء بقائه في سيارته، بعد انقضاء ليلته في الملهى الليلي، وسط زجاجات الخمر، والصخب الذي يقتل التركيز، قال بصوت متحشرج، مليء بالأسى:


-ماعادش ليه لازمة اروح لدكتور نفسي، معادش ليه لازمة اتغير وابقى انسان كويس.


انهمرت دموعه وهو يطنب باختناق نابع من قلب ممزق على فراق أحبته، وأعزاء قلبه:


-اللي كنت عايز اتغير عشانهم سابوني، طلعوا من حياتي خلاص.


يتبع...


إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة شيماء مجدي من رواية مشاعر مهشمة الجزءالثاني، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية