رواية جديدة مشاعر مهشمة 2 لشيماء مجدي - الفصل 35
قراءة رواية مشاعر مهشمة الجزء الثاني كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
الفصل الخامس والثلاثون
الانتظار طويل المدى، الذي يكون لأجل غير معلوم، يجعل الشخص يفقد ثباته، والصدر يضيق باختناقه. كل ليلة يعود من رحلة بحثه خائب الأمل، يجرجر أذيال خيبته خلفه، حتى أن طاقته الذي يظل يشحذها بقصارى جهده، لكي يستيطع التماسك أمام اختفائها المقلق، نفذت، واستنزفت مع حلول عشرون ليلة بلاها. ربما الآن بعدما ذاق مرارة فقد الحبيب، شعر بما كان يلحقه بها من افتراقه عنها المتكرر سابقا، والذي كان يتعمده كأنما كان يتلذذ بتعذيبها، وها هو الآن ذاق من نفس الكأس، تخليصا لذنبها.
تمدد على الفراش بإهمال، وأغمض عينيه الغائرتين، واللتين أصبحتا محاطتين بالهالات السوداء، لعدم نومه سوى قدرا بسيطا كل ليل. خلال استحضاره للنوم، بعد أن تخدر جسده، وخمل، بفعل الإنهاك الجسدي، الذي بات لا يُحتمل، والناجم عن تقضية يومه في التجول في أماكن متعددة، والقيادة لمسافات كبيرة ومتباعدة، اهتز الهاتف في جيبه، اهتزازة بسيطة، توحي بتلقيه رسالة من أحدهم، مال قليلا بجانب جسده، حتى يستطيع إخراجه من جيبه، ثم فتحه بلا مبالاة لما أُرسل، وبعد أن فتح صندوق الوارد، وجد أن الرسالة المرسلة من رقم "داليا"، تبلغه بها الشركة أن الرقم متاح الآن يمكنه الاتصال به.
فور قراءته ذلك الإشعار، حتى خفق قلبه بقوة، وانقلب حاله في ثانية، ولم يضيع الوقت في صدمته، وسريعا ما استقام من نومته، وأجرى اتصالا هاتفيا على رقمها، ومع صوت الرنة التي تنفذ عبر سمعه، يزداد خفقان قلبه، ولكن ما جعل الانزعاج يعلو وجهه هو انتهاء مدة المكالمة دون رد، زفر نفسا ضائقا وكرر الاتصال، وعندما اقتربت مدة الاتصال مجددا على الانتهاء، ازداد تحرق أعصابه، وردد بتلهف ضاجر:
-ردي بقى.
نهض عن السرير بحركة منفعلة، أصبح يدور في الغرفة، ويذرعها جيئةً، وذهابًا، وهو مستمر في تكرار الاتصال عليها، ولكن عندما يأس من إيجابتها، دخل أحد مواقع التواصل الاجتماعي، وقام بكتابة رسالة نصية فحواها:
-داليا لوسمحتي ردي عليا.
عندما وجد بجانب الرسالة علامتان، أدرك أن جهازها متصل بالانترنت، ولكن بغتة تسارعت خفقاته بعدنا رآهما تلونا باللون الأزرق، مما يعني أنها فد قرأت رسالته، انتظر لعدة لحظات ردها، ولكنها لم تعلق بحرف، لذلك سارع قبل أن تغلق حسابها، وضعط على أيقونة تسجيل الصوت، وسجل له بصوته المتلهف المشوب بالتوسل:
-انا هتجنن عليكي وعلى الولاد، عشان خاطري ردي عليا طمنيني عليكوا بس واقفلي.
رأى رؤيتها للرسالة بل واستماعها لما قال، وثانية لم يجد منها رد، حاول أن يستميلها بطريقة أخرى، متفهمة، وبعد أن ضغط على أيقونة التسجيل، قال لها بهدوء حذر:
-طب انتي فين؟ عايز أشوفك، خلينا نتكلم، ولو انتي مرتاحة وانتي بعيد عني مش هفرض عليكي حاجة، بس ابقى عارف انتي فين.
صمتها فاق حد الاحتمال، وعندما لم ترد على ذلك التسجيل، غلت الدماء في عروقه، وسجل لها ثانيةً بصوت منفعل:
-طب طمنيني على عيالي، انتي مش من حقك تبعديهم عني ولا تخبي مكانهم.
خلل أصابعه في شعره بغضب بالغ وهو يرى استماعها للمرة الثالثة دون أي رد، خشي أن يراسلها صوتيا في تلك اللحظة، حيث لن يستطيع التحكم في غضبته، لذلك لجأ إلى الكتابة مجددا، مرسلا لها بتذلل لم يبدر منه يوما مع أحد:
-داليا ردي عليا متعمليش كده.
لم تتعلم الرسالة سوى بعلامة واحدة، مما يعني أنها قطعت اتصال الانترنت عن هاتفها، مما جعل الدماء ترتفع إلى رأسه، وقام بالاتصال هاتفيا عليها، ليجدها أغلقت هاتفها كذلك، حينئذ فقد القدرة على التحكم بأعصابه، وقام بحمل المصباح الجانبي للفراش، الموضوع على الكومود المجاور له، وألقاه أرضا وهو يزمجر بغضب، ثم صاح في انفعال بالغ:
-بتعملي فيا كده ليه؟
❈-❈-❈
إذا قال له أحد من قبل أنه سيأتي يوم ويهمل عمله لأجل معرفة أخبار "داليا"؛ لكان وصمه بالجنون. فما هو عليه تلك الفترة، بعيدا كل البعد ومناوئا تمام عن الذي كان متوقعا منه، وما كان ليتنبأ أن يكون مشتتا، وتائها إلى ذلك الحد من بُعدها عنه، ومن بضعة أيام كان يهجرها في الماضية أضعافها، ويسافر إلى خارج البلاد حتى يتعذر عليها الوصول إليه، وها هي فعلت المثل، وأصبح يعاني من نفس المشاعر المهشمة الذي جعلها تعاني منها في السابق، ولكن الفارق الوحيد أن الخوف يترأس كافة مشاعره، مما أصبح متخوفا من رنين هاتفه، أو مجيء أحد رجاله، حتى لا يتلقى خبرا سيئا عنها، أو عن ابنيه الذي يشعر أنه لا يعطيهما حتى حقهما في الحزن، والخوف مقارنةً بوالدتهما.
لا يدري كيف غفاه النوم أثناء الليلة الماضية، فقد ظل لكثير من الوقت يتحرك في الفراش، من أرقه، قلقه، واشتياقه المحموم، ولكن على ما يبدو أنه عندما عجز رأسه عن احتمال أصوات أفكاره، وهواجسه المخيفة، لجأ إلى النوم، كحل مؤقت لإنهاء ما يخامره. تجهز سريعا في الصباح، متجاهلا تناول طعام الفطور كالآونة الماضية، وخرج من غرفته بخطوات متعجلة، ومع سيره عدة خطوات حتى قلت عجلته، وارتسمت بسمة صافية بها بعض التعب على ثغره، حينما رأى اقتراب ابن أخيه الراكض نحوه، مناديا عليه بصوت أسر قلبه في لحظتها:
-عاصم.
انحنى "عاصم" بجذعه حتى يحمله، وما إن حمله حتى احتضنه "يونس" باشتياق مُستلذ، وبنبرة صوته اللطيفة لعب على أوتار قلبه وهو يخبره:
-وحشتني.
اتسعت بسمته من تعبيره الطفولي الصادق عن اشتياقه، وقام بطبع قبلة صغيرة على وجنته، كرد فعلي ولكنه صامت، في تلك اللحظة كان أخوه واقفا أمامه، حيث كان يتبع ابنه سيرا نحوه، ولكن الآخر كان الأسبق لهرولته حينما رأى عمه، نظر له "عاصم" بعينين يحملان بعض العتاب، وتكلم بلهجة تجمع ما بين الفتور واللوم:
-هو ده اللي هتيجي بكرا.
ابتسم بسمة متحرجة بعض الشيء لمرور أربعة أيام منذ كان عنده، حك مؤخرة عنقه، وبرر له سبب تأخره مرددا:
-معلش بقى كان في كام حاجة انشغلت فيها، قلت اخلصها الأول وبعدين آجي.
هز رأسه في إيماءة بسيطة، فلم يكن ببال رائق نهائيا لتبادل أطراف حديث مع أي أحد، لذلك أنهى عتابه برد موجز، قائلا:
-ولا يهمك، المهم إنك نورت بيتك.
انفرجت شفتاه ببسمة متسلية، ثم علق بطريقة ممازحة:
-هتعود كده على الحب ده.
بادلة بابتسامة مجاملة، تبعها تقبيله لوجنة الصغير مجددا، ثم أنزله أرضا بتريث، وحينما استقام بجسده، سأله "عز الدين" باهتمام:
-رايح الشغل؟
أومأ له بالنفي ثم رد بنبرة عادية موجزا:
-لأ.
لم يخفَ عنه حالته المرهقة، والتي توضح التعب النفسي، والجسدي الذي يعانى منه منذ غياب زوجته، وبنبرة ما تزال على اهتمامها استشف منه:
-هتدور على داليا؟
همهم له مؤكدا، وقتئذ عرض عليه "عز الدين" بمحبة أخوية:
-تحب آجي معاك؟
حافظ على ثبات تعبيراته وهو يرفض عرضه بهدوء:
-ملهوش لزوم.
لم يرد أن يضغط عليه، خاصة مع ملاحظته عدم ميله إلى التحدث وإخراج مع بجعبته الحين، لذلك اكتفى بنصحه بجدية:
-خلي بالك من نفسك، وبلاش تشرب النهارده يا عاصم، صدقني مش حل.
مع زفرة منهكة أومأ له برأسه، وقال له وهو يشرع في التحرك:
-سلام.
اتبعه بنظراتٍ تحمل الأسى على حاله المؤسف، إلى أن خرج من باب الفيلا، حول نظره من بعد ذلك إلى الصغير الذي ينظر له في صمت هادئ، ارتسمت بسمة محبة على شفتيه من عدم إحداثه جلبة كالعادة، وكأنما قد شعر بحالة الحزن المتملكة من عمه، انحنى بجسده حتى يحمله، وقال له بصوت حانٍ وهو يعبث بشعره:
-يلا نطلع لماما.
حرك "يونس" رأسه بهزة موافقة، وحاوط بذراعيه عنقه وهو يصعد به درجات السلم، في حين كان بال "عز الدين" ما يزال منشغلا بأمر أخيه، وكيفية التهوين عليه في محنته.
❈-❈-❈
تأزم وضعها أكثر من ذي قبل، وأصبحت أكثر انفعالا، وعنفا، باتت تصرخ في طفليها كلما بكيا، وتحطم أي شيء أمامها كلما تملك منها غضبها، مما أضحت تكره الاستيقاظ من نومها، الذي تجده المهرب الوحيد من الواقع المرير. بعدما أفرغت شحنتها العصبية في تكسير أحد الأواني الزجاجية، أثناء تدفئة الحليب الصناعي للرضيعين، جلست على الأريكة، وهي ترضع الطفل الأشقر، بغير اهتمام منتوئ لما كانت عليه في السابق، كأنما فقط ترضعه لتبقيه على قيد الحياة، وليس حبا في إمداده بالحنان قبل الغذاء، وخلال ذلك رن هاتفها الموضوع بجانبها.
كانت على علم بأن المتصل ليس "عاصم"، كونها حظرت رقمه الليلة الماضية، حتى لا يزعجها باتصالاته المتكررة، كلما فتحت هاتفها لطلب ما تحتاجه من الأطعمة أو الأدوية من المحال المجاورة، تفقدت الهاتف بنظرة غير مهتمة، كان المتصل صديقتها "رفيف"، لم ترَ بدا من عدم الرد عليها، خاصة وأنها راسلتها الآونة الماضية كثيرا، ولم تكن ترد على أي من رسائلها، كما أنها حاولت الاتصال بها أثناء غلقها الهاتف، لذلك قررت أن تجيب اتصالها، حتى تطمئنها على حالها ببضعة كلمات موجزة، لتكف عن الاتصال بها ومراسلتها بذلك الإلحاح الذي أصبح خانقا من كل جانب، وفور أن وضعت الهاتف فوق أذنها بعد أن استقبلت المكالمة، استمعت إلى صوتها الحانق متسائلة:
-انتي فين يا داليا؟
من رسائلها التي كانت تقرأ بعضها من الخارج، واتصالاتها المستمرة، استبطت لجوء "عاصم" إليها لمعرفة مكانها، وتساءلت بفتور بعد تنهيدة متعبة:
-عاصم كلمك؟
ردت عليها بنفس النبرة الضائقة:
-جالي الشركة.
بنبرة غير متفاجئة، استشفت منها ما توقعته:
-قالك على اللي حصل؟
أجابتها "رفيف" بلهجة ظاهر عليها انزعاجها من هدوئها المستفز:
-مقاليش حاجة غير إنكوا اتخانقتوا وسيبتي البيت وميعرفش مكانك.
همهمت بغير اكتراث، ثم سألتها:
-طيب انتي عايزه ايه دلوقتي؟
رنة الدهشة كانت واضحة في صوتها وهي تعلق:
-عايزه إيه! عايزه اعرف انتي فين، وقافلة تليفونك ليه؟
ردت عليها بتأفف وصبر نافذ:
-عشان مش عايزه اكلم حد ولا اشوف حد.
صاحت بها باستنكار شديد:
-ده هبل اللي انتي بتقوليه ده، اعقلي يا داليا وعرفيني انتي فين عشان اجيلك.
اهتاجت أعصابها من تدخلها الضاغط على أعصابها، مما جعلها تنفعل عليها في غلظة:
-قلتلك مش عايزه أشوف حد، انتي مبتفهميش.
لم تعلق "رفيف" على فجاجتها التي لأول مرة تبدر منها في الحديث، والتزمت الصمت، في حين شعرت "داليا" بالندم من استخدام أسلوب "عاصم" المؤذي في الرد عليها، ولكنها لم تعد تعرف كيفية التحكم في أعصابها، لذلك أرادت أن تنهي المكالمة، لئلا ينتهي بهما المطاف بنزاع لا تضمن تبعاته، وأخبرتها بلهجة ضائقة:
-رفيف اقفلي عشان مطلعش خنقتي فيكي ونخسر بعض.
لاحقتها قبل أن تغلق الخط قائلة بودية صادقة:
-انتي عارفة إن مهما حصل مش هنخسر بعض.
التمعت الدموع بعينيها، وكأنما كانت تحتاج لأي كلمة حنون تطيب جراحها، ولكنها ظلت صامتة، الأحاديث على طرف لسانها، إلا أن وجعها كالحبل الخانق؛ ملفوفا حول عنقها، يجعلها عاجزة عن التفوه بحرف، بينما أضافت الأخرى حينما لم تجد منها ردا، مردفة بهدوء يستحثها على الحديث:
-داليا اهدي وعرفيني إيه اللي حصل.
سحبت نفسا مطولا، تهدئ به نفسها، كونها قد قاربت على البكاء، ثم أخبرتها بصوت خرج مهزوزا، ومختنقا:
-أنا وعاصم اتطلقنا.
❈-❈-❈
أحيانا يتمنى الشخص عندما يفقد الأمل في الاجتماع بمحبوبه، أن تغادر تلك الحياة روحه، حتى ينزع الألم والمعاناة عن قلبه، ولكن كيف عساه أن يغادرها، وبموته سيكون افتراقا حتميا، ونهائيا عنه؟ أصبح "عاصم" يخشى من عواقب تفكيره، ومن كل ما هو محتمل أن يقوده إليه، فقد أصبحت فكرة الانتحار تراوده كثيرا الآونة الماضية، كحل أخير يتخلص عن طريقه من عذابه الذي يضنيه في ابتعادها، ولكن الإقبال عليه ربما يحتاج إلى شجاعة لا يملكها.
فإن غفل عن جزاء اقترافه لذلك الذنب العظيم، كونه جاهلا بكل ما يخص أمور الدين، لن يكون غافلا عن كونه سينهي أي فرصة لقاء بحبيبته، وولديه، كما أنه لن يتمكن من رؤية طفله الثالث الذي ما يزال ينمو في أحشاء أمه، ولو لمرة واحدة، ربما هذا هو السبب الرئيسي الذي يجعله يصرف ذهنه عن إنهاء حياته، ربما القشة التي ما يزال يتعلق بها، هي أمله في استعادة "داليا"، وحياته الماضية معها، فهذا ما يجعله مثابرا، ومتحليا بصبر لم يكن يحمل منه ذرة من قبل.
رآه من على بُعد عدة خطوات عنه أخيه "عز الدين"، جالسا على أريكة خشبية، مقابلة لحمام السباحة في حديقة فيلتهما، بدون تفحص استطاع أن يلاحظ شروده، والبؤس المعتلي قسماته، لم يستطع تجاهله، ويتوجه إلى الداخل، فقد رأى أنه من الواجب عليه، كونه أخيه، أن يدعمه في تلك الأثناء العصيبة، وأن يحاول إخراجه من تلك الحالة النفسية المتدنية، وبسبب تشتت تركيز "عاصم" عما حوله، لم يشعور بتقدمه نحوه، بل أن صوته ذا الطابع المرح، هو من جعله يتنبه لوجوده جواره، وهو يقول:
-تسمحلي أعكر صفو القاعدة الرايقة دي واصدعك شوية.
فاق من شروده على صوت أخيه القريب منه للغاية، التفت برأسه نحو مصدره، وجده أقبل على الجلوس جواره، حينئذٍ انفرج ثغره ببسمة لم تلامس عينيه، متسائلا ببعض التهكم:
-متأكد إنك مستني اسمحلك؟
ارتسمت بسمة ضحوك على وجهه، وبعد مرور عدة لحظات، حل بينهما خلالها الصمت، لعدم وجود ما يُقال من قبل الطرفين، قطع "عز الدين" ذلك الهدوء، مستطردا بنبرة تظاهر بخروجها على نحوٍ عادي:
-لسه بتروح للدكتور النفسي اللي متابع معاه؟
توسعت عيناه المناظرة للفراغ أمامه، والتفت على الفور له، يناظره في صدمة من معرفته بذلك الأمر السري، وقتئذ سارع "عز الدين" في المتابعة، بطريقة طبيعية مصطنعة:
-شكلك كده بطلت تروح.
بتعبيرات ما تزال على صدمتها، سأله "عاصم" بخوف من افتضاح أمره:
-انت عرفت منين؟
معرفته كانت بشكل مصادف، وذلك كان أثناء إيصاله إلى البيت منذ عدة أيام مضت، حيث إن سُكره في ذلك اليوم، ما جعله ينطق ببعض كلمات غير مفهومة حيال ذلك الشأن، وعندما ربطها "عز الدين" ببعضها البعض، استنتج توجهه إلى أحد الأطباء النفسيين، ولكن حادثة الطلاق، وهروب "داليا" منه، جعلاه يتدحدر، ويتوقف عن المتابعة في تلقي جلسات العلاج النفسي، وهذا ما لا يوده "عز الدين"، حيث إنه التمس فيه ندم حقيقي، ورغبة في التغيير، حينما حادثه من قبل، لذلك بصنعة لطافة، وحتى يخفف من وطأة الموقف، ويستطيع التحدث معه، حتى يحفزه على الاستمرار فيما بدأه، مازحه ببسمة طيبة:
-تقدر تقول أخوك وبيحس بيك.
لم يشغله كيفية معرفتة بقدر خوفه من تسرب ذلك الأمر، أو تعايره به مستقبلا إن تنازع معه أو تشاجر، تحولت الصدمة بعينيه شيئا فشيء إلى انكسار وهو يقول له:
-هتمسكهالي اكيد وتعايرني بيها، مش كده؟
انتقلت تعبيرات الصدمة على وجه "عز الدين" مما تطرق إلى فكر أخيه حياله، وردد بغير استيعاب:
-انت ازاي بتفكر كده؟ أنا اعايرك! في أخ بيعاير أخوه؟
تهرب بعينيه عنه، كأنما يخجل من النظر إليه، بعدما أصبح متعريا أمامه، ورد عليه باقتضاب:
-معرفش، مكانش عندي أخوات قبل كده.
أراد أن يبعث فيه الثقة تجاهه، حتى يبدد الشك -المدموغ بتفكيره فيمن حوله- على الأقل ناحيته، وبجدية شديد أخبره:
-طيب بما إن بقى عندك أخ، لازم تعرف إنه عمره مايعايرك، بل بالعكس، أخوك هيساعدك وهيقف جنبك لحد ما تقف على رجليك من تاني وتعدي المحنة اللي انت فيها.
ترقرقت الدموع في عينيه، تأثرا من كلماته المؤازرة، ولكي لا يظهر في صورة الضعيف، أبعد وجهه عنه، حتى يخفي دموعه التي لطالما كتمها حتى لا يصبح كالفتيات، كما وصفه والده من قبل. عندما لم يصد "عاصم" محاولات أخيه في مساندته، شجعه ذلك على المتابعة، وأطنب في لين:
-احكيلي بدل ماتكتم في نفسك يا عاصم.
أخفض نظره لأسفل، ورغم حاجته القصوى للتحدث، إلا أنه تردد في الإفصاح عما يجيش به صدره، مما سيترتب عليه سرد أمور شتى عن ماضيه، بما يتضمنه من طباع مشينة. أطلق زفيرا طويلا، يثبط به تضارب شعوره، ثم أخبره بصوت بائس:
-مش هتفهمني، أو هتشوفني زي ما الكل بيشوفوني بني آدم ظالم وجاحد، ومعنديش ضمير ولا قلب.
رأى في ردوده المتبادلة معه مؤشرا خيرا، واستجابة لمحاولة تقوية علاقتهما، ومع ذلك التمس الخزي المختلط بكلماته، لذلك استمر في استحثاثه على إخراج ما بجعبته، وأخبره في هدوء:
-ماتحكمش عليا يا عاصم من قبل ماتتكلم وتشوف رد فعلي، وبعدين مش جايز تلاقيني غير الكل واريحك في الكلام، وتزيح الحمل شوية عن قلبك.
نظر له بعينيه الشجيتين، وقال له في تخوف يخالطه التشتت:
-أنا فعلا محتاج اتكلم مع حد يسمعني، ويفهمني من غير ما يحكم عليا، بس مش عايز اندم.
خشى أن يصنف محاولاته الدؤوبة في الوقوف معه، على أنه ضغطا على أعصابه، لذلك تراجع عن موقفه، مردفا بتفهم:
-أنا مش هضغط عليك، بس صدقني مكنتش هندمك إنك حكيت.
بعد أن انتهى، وجه نظره لأسفل، ولكنه بعد مرور عدة لحظات تُعد، عاود النظر إلى أخيه، الذي تكلم بغتةً:
-أنا مكنتش عايز أبقى كده..
نظر له في اهتمام، حيث إنه شعر بإن جملته ابتداءً لحديث سيقصه عليه، وبالطبع ارتكز ببصره على زجهه وهو يسحب الهواء لرئتيه، ثم زفره على مهلٍ، وتبعه قوله بحزن بائس:
-كان نفسي أبقى شبه ماما، بس للأسف طلعت شبهه، صورة منه، لحد مابقيت كاره نفسي وخليت الكل يكرهني حتى أكتر حد حبني.
فطن أنه يرمي بحديثه على والده، لم يقاطعه، واستمر في النظر إليه، حتى يستطيع التكلم عن مكنوناته التي يضيق بها صدره، وبعد عدة لحظات أُخر، حسم خلالها "عاصم" أمره، حول بصره نحو أخيه، وسأله بصوت خالٍ من الخياة:
-عايزني أحكيلك يا عز؟
لم يدع له مجالا للرد على سؤاله، حيث استغرق الأمر لحظة واستأنف مضيفا:
-أنا هحكيلك، رغم إني عارف إنك هتكرهني انت كمان بعد ماتعرف أنا إيه وطول حياتي عايش ازاي وبعمل إيه.
كلماته من بعد ذلك لم تكن مرتبة، كان يأتي بحدث من الماضي القريب، ويلحقه بحدث آخر من الماضي البعيد، تناول ما سرده مواقف عدة، انتشل حاجز الحدود منها، حكى له مأساته مع تربية أبيه القاسية، والتي جعلت الشر يُزرع داخله، وجعلت طباعه مناوئة تماما عن الإنسانية، حتى أنه اعترف بساديته، وإلحاقه الأذى بمن يعترض طريقه، سيرا على خطى والده، ومن ضمن ذلك اضطهاده لعائلة "مجد"، والأذى الذي طاله هو الآخر، انتهاءً باستغلال حب "داليا" له، واستدراجها للدخول معه في علاقة مشينة، دمرت حياتها، وتسببت في تحطيم آمالها.
لم يكن لديه علم بالنواهي الدينية، والأصول الدنيوية التي ما كانت لتخول له الحديث في موضوع حرج مثل ذلك، يمس شرف زوجته، حتى وإن كان هو المجرم في حكايتها، ولكنه كان كمن يود أن يستفيض بكل ما يحمله داخله، علّ اعترافه بذنوبه، ينزع الحمل عن قلبه، ويجعله يستطيع تقبل نفسه الملوثة، ويعود ليكمل السير في طريق التغيير، الذي قد انحرف عن مساره مؤخرا، نتيجة لانفصال هو وزوجته، وابتعادها القاسي عنه، بعد أن انتهى من قص تفاصيل جمة، استغرقت وقتا، واستنزقت مجهودا أثناء سردها، نظر له بعينين ذابلتين، متسائلا بأسى:
-لسه شايف إني هقدر اتغير وابقى إنسان كويس؟
لقد فاق ما حكاه كل توقعاته، ورغم الصدمة التي حلت عليه، من بشاعة ما قصه، إلا أنه لم يتخذ موقفا هجوميا ضده، حتى لا يفقده الثقة في قدرته على الابتعاد عن طريق الآثام، ورد عليه بلهجة هادئة:
-أنا لسه عند رأيي، لو انت عايز بجد تتغير، وعملت كل اللي تقدر عليه عشان تبقى إنسان أحسن، هتتغير يا عاصم.
أغمض عينيه بتعب، فحتى الراحة لم تقرب من قلبه بعدما صرح عن مساوئه، فكان صدره مختنقا، كأنما يجثم حجر ثقيلا فوق روحه، فغيابها بعد أن أصبحت ونيسه، وسُكناه، أبخس من قيمة حياته ودنياه. أطرق رأسه لأسفل، وقد غامت عيناه خلف سحابة من الدموع، عندما شعر بحاجة ملحة للارتماء في حضنها، وغمغم بقهرٍ:
-أنا كنت بدأت اتغير، ليه مادتنيش فرصة؟
من حديثه المستفيض، أدرك ما عانته "داليا" بسببه، مما جعل الرؤية تتضح له في تحولها إلى تلك الشخصية الساخطة، وذلك عندما علم بدوافع انهيارها، والمسببات الأساسية لإيصالها لتلك الحالة المُدمرة، لذلك لم يستطع أن يؤثر الصمت عن الدفاع عنها، على الرغم من رؤيته لخطأها الفادح في إلقاء نفسها من البداية في تلك العلاقة الشنيعة، ألا أن سنوات عمرها الصغيرة مقارنة بعمره الذي كان يفوق عمرها بما يقرب من الضعف، كانت شافعة لها قليلا، وبعد لفظه نفسا سريعا، علق بشيء من التنبيه:
-من كلامك داليا مديتلكش فرصة واحدة يا عاصم، داليا اديتلك فرص كتير وانت ضيعتها.
تأنيب الضمير كان الطوق الخانق الموضوع حول عنقه، ابتلع غصة البكاء العالقة في حلقه، وقال بندم شاجن:
-مكنتش مقدر اللي هي بتعمله عشاني، بس لما لقيت إن الكل بيروح وهي اللي باقية، عرفت قيمتها وبقيت عايز اتغير، وروحت لدكتور نفسي عشانها هي وولادنا، عشان أبقى زوج كويس وأبقى أب حنين، بقيت بحارب نفسي عشان حياتنا تكمل ومنخسرش بعض، ليه محاولتش عشاني، هي مش بتحبني؟
شعوره بالأسى على حالته، وتأثره بانتحاب صوته، لم يجعله يأخذ صفه، ويتحامل على الأخرى، واستمر في دفاعه الحيادي عنها مرددا بحذر:
-كل نفس ليها طاقة تحمل يا عاصم، وانت بنفسك قلت إنها اتحملت كتير، فمتلومهاش على اللي عملته، ولا إنها بعدت لما لقيت إنها بقت شايلة فوق طاقتها.
ترقرقت العبرات في عينيه، فابتعادها المتعمد، أكثر ما يحز في قلبه، وراح يردد بما يضنيه، ويعذبه:
-داليا عمرها ماقدرت تبعد عني، طالما قدرت المرادي يبقى كرهتني، كرهتني في الوقت اللي اتأكدت فيه من حبي ليها، بعدت عني في أكتر وقت محتاجها فيه.
انهمرت دموعه، وأكمل بصوت ضعيف، ومقهور:
-مكنتش متخيل إني هتعب كده من غيرها، وإن ولادي هيوحشوني أوي كده.
عجز "عز الدين" عن التهوين عنه، فبعد ما علمه أدرك أن كل ذلك جزاء أفعاله النكراء، واتباعه الشهوات، فطريق الموبقات، الذي يتم سلكه سيرا خلف وساوس السيطان، ربما تكون بدايته يسيرة، حتى يمتلأ الإنسان بالذنوب، والآثام، ولكن عند نقطة معينة، تصبح نهايته وعرة، وتنقلب حياة الإنسان، حينما يلقى نتاج أفعاله، من العقاب والأثام.
❈-❈-❈
أثناء اختلائها بنفسها، بعدما أرضعت طفليها وخلدا إلى النوم، وقع بين يديها، خلال مشاهدتها لبعض الفيديوهات على موقع اليوتيوب، فيديو لأحد الشيوخ، يتكلم به عن العلاقات المحرمة، والتي أضحت منتشرة بصورة شنيعة، ومؤسفة في المجتمع الإسلامي، والتي تقع تحت تعريف الزنا، في بادئ الأمر كانت تشاهد بفتور، ولكن مع الشرح المسترسل، أصبحت مداركها تتنبه لما يقول، حيث إنها شعرت بأنها المقصودة من كل عبارة يقولها، وشيئا فشيء ارتجف قلبها، وتلألأت العبرات في عينيها، خوفا من المولى عز وجل، حينما علمت أن الزنا من كبائر الذنوب والخطايا التي توعد الله تعالى فاعلها بالعذاب المهين والمضاعف يوم القيامة، وليس كما كانت تتوقع، أنه ذنبٌ عاديٌ مثله كمثل ما ترتكبه من ذنوب تميل لها هواها ونفسها التي يغلبها حب الشهوات، ومع كل كلمة كانت الدموع تنساب بغزارة من عينيها، حتى عجزت عن متابعة المشاهدة، وسقط الهاتف من بين يديها، وهتفت بصوت مبحوح مشوب بالخزي:
-أنا زانية.
تكورت على نفسها في جلستها، واحتوت بيديها وجهها، ودموعها لم تتوقف عن الإنهمار، وتابعت بصوت باكٍ قارب على الانهيار:
-ربنا مش مسامحني.. أنا زانية.. مكاني في جهنم.
يُتبع..