-->

رواية جديدة مشاعر مهشمة 2 لشيماء مجدي - الفصل 39


قراءة رواية مشاعر مهشمة الجزء الثاني كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى




رواية مشاعر مهشمة الجزء الثاني 
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات 
الكاتبة شيماء مجدي 

الفصل التاسع والثلاثون



ليلته كانت مليئة بكل ما يقشعر له البدن، وترتجف له النفس، فقد بقى موضعه، بعدما عاونه أخوه على الوضوء، وعلمه كيفية آداء فريضة الصلاة، وأصبح بين يدي الخالق لأول وهلة في حياته، يراوده شعور غريب، كأنما أثلجت الصلاة صدره، أو غمرته بنوع من الراحة الغير مألوفة، تنهد مطولا، ساحبًا أكبر قدر من الهواء لرئتيه، وهو مغمض العينين، محاولا الحفاظ على الإحساس الجميل الذي نفذ لداخله، وحرك جزءً في أعماقه، متأثرًا بالهالة التي أحاطته في حضرة الرحمن، مما جعله يشعر بلسعة الدموع في عينيه، على الرغم من كونه لا يريد البكاء. انتبه أثناء ذلك لجلوس أخيه جواره، وقاله له ببسمة ودودة وهي يربت بيده فوق ساقه:


-تقبل الله.


التفت برأسه نحوه، ناظره بصمت، تفقه من خلاله الآخر عدم معرفته بالرد المناسب على جملته، حافظ على بسمته الطيبة وهو يخبره:


-بيترد عليها بمنا ومنك.


هز رأسه في إيماءة بسيطة، ثم رد عليه بنبرة رخيمة:


-منا ومنك.


بعد صمت دام لبعض الثواني، سأله "عز الدين" بتفقد مهتم:


-حاسس بفرق؟


تلبك "عاصم" من سؤاله، شاعرًا بضياع الكلمات من فوق لسانه، فهو لا يجد الوصف الملائم لما يراوده من شعور غريب، ولا يسعه التعبير عنه، سحب نفسًا واسعًا، زفره على مهلٍ، وأجابه بلهجة متخبطة:


-حاسس بإحساس غريب، ممكن مرتاح.. أو.. مش عارف، أول مرة في حياتي أجرب الشعور ده.


اتسعت بسمته، ووضح له سبب ما يشعر به، مرددًا في لين:


-يمكن عشان دي أول مرة تبقى بين إيدين ربنا.


ظل على صمته، وقلبه يخفق خفقانًا قويًا كلما أتى على ذكر المولى عز وجل، وأنصت باهتمام إلى باقي كلماته:


-انت كده ميدتله إيدك، وهو مش هيسيبك، وهيخرجك من اللي انت فيه، طول مانت رامي حمولك عليه.


كرر سحبه للهواء بنفس الطريقة التي تعبر عن اختلاج صدره بالكثير، وبعدما لفظه، سأله بنفسٍ متحيرة:


-تفتكر هيقبل توبتي بعد كل الذنوب اللي عملتها؟


التوبة، ما لم يسعَ لها يومًا، أو بالأحرى لم يفكر فيمَ يتعلق بأي من أمور الدين، وبحق الخالق عليه، واليوم، بعدما اسود كل شيء من حوله، كان هذا الطريق الوحيد الذي يوجد به بصيص نور أمامه، وفي مسلكه انتشالًا من ظلمة حياته، مهما كثرت العراقيل، أثناء مجاهدة النفس وحثها على التوقف عن فعل المعاصي، وارتكاب الذنوب. تهلل وجه "عز الدين" من سؤاله، الذي يؤكد له رغبته الحقيقية في ترك طريق الموبقات، ورد عليه بصوته الجاد:


-ربنا بيقبل توبة أي حد يا عاصم، مهما بلغت ذنوبه، بس لازم تكون التوبة من القلب، وتعزم بجد إنك تبعد عن أي ذنب.


تخلل شعور غريب لداخله، لا يدري أهو ارتياح، أم حمل عن قلبه وانزاح، ولكنه كان مشتتًا حيال أمور الدين، فوعيه الديني يكاد يكون لا يُذكر، وما شغل فكره في ذلك الوقت، وهو كيفية عبادة المولى عز الوجل، وراح يسأله على الفور:


-أنا معرفش أي حاجة في دينّا، عايز أفهم ازاي اعبد ربنا صح.


سعد من اكتراثه الواضح بالعبادة، وعزمه المتحفز للتوغل بين حنايا دينه، وهذا يثبت أن كلماته أحدثت فارقًا بالغًا داخله، مما جعل شفتاه تفتر عن بسمة غبطة، وأجابه بتريث:


-في الحالة دي هتقعد مع شيخ من الموجودين هنا، هو هيفيدك اكتر مني، وهيعلمك دينك وهيعرفك ازاي تعبده العبادة الصحيحة.


نفس الارتباك المختلط بالتحرج عاد في الظهور على وجهه ثانيةً، وقال بتردد:


-بس..


اتسعت بسمته الطيبة بعدما تراءى له حرجه، كأنما باتت تعبيراتة سهلة القراءة بالنسبة له، وقاطع محاولته المتلعثمة لإبداء عدم استحسانه، مرددا بجدية:


-مفيش فيها إحراج يا عاصم، دي مهمتهم، إنهم يعلموا الناس أصول دينهم ويدلوهم على طريق الهداية.


كان من الطبيعي أن يرضخ لكلامه، وينحي أفكاره، ومبادئه الخاطئة جنبًا، فنهج حياته البغيض تسبب في انقلاب كل شيء بها رأسًا على عقب، وسيره خلف شهواته، وتعمده -كلما سنحت كل فرصة له- اقتراف أي ذنب، جعل معيشته ضنكًا، وضنت حياته واسودت، إنما حياة أخيه إن كانت مُباركة، ومُيسَّرة، فهذا لرضاء الله عنه، ولرضائه هو بما كُتب له، وصبره على ما يحيق به، وهذا ما سيسعى الآن للحصول عليه، وللسير في طريقه، حتى يرفع الله عنه سخطه ومقته، وييسر له كل خطوة يتخذها في صلاح حياته.



❈-❈-❈


أتى الطبيب على وجه السرعة حينما هاتفته "زينة"، فحالتها الحرجة تضعه تحت مسئولية كبيرة، ولهذا السبب لم يعطِ لها تفسيرًا أوليًا بفحصه المبدئي في بيتها، ورأى أنه من اللازم نقلها للمشفى، حتى تخضع للفحص السريري، ليتمكن من معرفة حالة الرحم، والمتسبب في حدوث النزيف، والوجع التي تشتكي منه. أنزل السماعة الطبية عن أذنيه بعدما انتهى، وبينما يضعها في حقيبته، تساءلت "زينة" باهتمام قلق:


-خير يا دكتور؟


استقام بجسده، بعدما لملم أشياءه، وأجابها بجدية:


-لازم ناخدها على المستشفى حالا.


توسعت عيناها خوفًا من عبارته الباعثة على الريبة، وسألته وهي تفرق نظراتها بينه وبين الممدة على الفراش، بين الصحوة والإغفاء:


-ليه هي حالتها خطر؟


ضم شفتيه ببعض القلق، ولكنه لم يدع للشكوك تتآكل في رأسه، ريثما يتم الفحص، ورد عليها بنبرة غير مريحة:


-إن شاء الله خير، بس لازم فحص سريري في المستشفى، عشان اعرف حالة الرحم، وسبب الوجع بالظبط.


خرج من الغرفة، حتى يهاتف الإسعاف، بينما هي بقت موضعها، تضع يدها على بطنها المتكور، وقد شعرت بتلوي أمعائها، من الإدرينالين الذي تدفق في عروقها، من خوفها على الهامدة جوارها، وضعت الهاتف فوق أذنها، لتكرر الاتصال بزوجها، وحينما لم يأتِها رد منه، للمرة التي لم تعد تعلم عددها، اعتلى السأم وجهها، وعاودت الاتصال وهي تنفخ بضيق، مرددة بانزعاج:


-رد بقى يا عز.



❈-❈-❈


بينما يقود "عز الدين" السيارة، عودةً إلى الفيلا، انتبه إلى انقلاب وجه الآخر، واحتلال التكشيرة قسماته، مما بعث الاستغراب في نفسه، فقد كانت ملامحه مرتخية منذ برهة، وتظهر راحة واضحة، لم ترتسم على محياه منذ غياب "داليا" عنه، حينئذ رأى وجوب الاستفسار منه، ومعرفة ما إن كان السبب راجعًا لاحتمالية تلقيه خبرًا سيئًا من أحدهم، أثناء عبثه في الهاتف، الذي أغلقه لتوه، نظر له بنظرة سريعة، وهو يسأله باهتمام:


-في إيه؟ شكلك اتغير مرة واحدة ليه؟


كان مخفضَ العينين، عابس الوجه، فقد احتل طيف زوجته الهذيل، ووجهها الشاحب ذهنه، مما بعث المخاوف في نفسه، تنهد مطولا قبل أن يجيبه بنبرة معبأة بعدم الراحة:


-بفكر في داليا.


ظن أنه يفكر في كلمات الشيخ، بشأن زواجهما، وكيفية عرض الأمر عليها، لذلك قال له بنبرة مشوبة بالأمل:


-إن شاء الله اللي بينكوا هيتصلح وهترجعوا لبعض تاني.


لم يشكل ذلك فارقًا الآن مقارنة بخوفه الذي تسلل لداخله عليها، سحب نفسًا مطولا، ثم زفره على مهلٍ وقال له بقلق:


-أنا خايف على داليا أوي، شكلها تعبان ومريحنيش لما شوفتها النهارده، ووشها مصفر  وخاسة عن الأول، حتى بطنها صغيرة، مع إنها في الشهر الخامس، وفي الوقت ده في حملها اللي فات كانت بطنها أكبر.


تفهم قلقه، فهو كذلك لاحظ نفس الشيء عليها، ولكنه أرجح الظن لكون حملها السابق كان في توأم، وعلق بمنطقية:


-ممكن عشان حملها اللي فات كان في توأم


مط شفتيه بحركة تنم على تخبطه المعبأ بالقلق الذي لم يزول بعد، وأردف:


-مش عارف، بس اللي أنا متأكد منه إن شكلها مش طبيعي وفيها حاجة.


رأى أن ذلك لربما بسبب تدني نفسيتها، الذي سينجم عنه بديهيًا فقد شهيتها، والتقليل من تناول الطعام، وأخبره بتريث:


-متقلقش نفسك يا عاصم، وهي أكيد برضه مقللة في أكلها، عشان الحالة النفسية اللي هي فيها، بس لو عايز تطمن، ممكن تكلم سامح وتعرف منه حالتها عاملة إيه.


استحسن اقتراحه الأخير، وسريعا ما فتح هاتفه، وأتى برقم "سامح"، وبعد مضي قليل من الثواني، أتاه رده، فتكلم "عاصم" بنبرة عادية:


-أيوه يا سامح.


بصوت بدا مضطربًا أخبره:


-عاصم.. كويس إنك رنيت، انا كنت لسه هكلمك.


ضيق ما بين حاجبيه في ارتياب، وسأله بتوجس:


-في حاجة ولا إيه؟


في التو رد عليه بأنفاسٍ متسارعة بعض الشيء وكأنما يسير مسرعًا:


-داليا تعبت ونقلتها على المستشفى.


توسعت عيناه رهبةً، وسأله على الفور بهلع بالغ:


-مستشفى إيه؟



❈-❈-❈



التهم ذلك الخبر ما تبقى من ذرات صموده، وأثناء قيادة أخيه إلى المشفى، ظلت الأفكار المؤرقة، والهواجس المخيفة تنهش في رأسه، وبين الحين والآخر، كان يستعجل "عز الدين"، ويدفعه إلى الإسراع، حتى يخمد نيران القلق بالاطمئنان عليها،  يهدئ من وجيب قلبه الملتاع مما أصابها، وما إن توقف أمام المشفى، حتى ترجل من السيارة مسرعًا، قبل حتى أن يصتف الآخر في المكان المخصص لوقوف السيارات، وهرول إلى الداخل، وريثما استفسر من الاستعلامات عن الطابق التي تتواجد به غرفة زوجته، كان قد لحقه أخوه، وصعدا معا إلى الأعلى، بخطوات مندفعة دلف "عاصم" إلى الغرفة، ومن خلفه "عز الدين"، الذي توجهت نحوه زوجته فور دخوله، متسائلة بتعبيرات مستاءة:


-عز، أنا رنيت عليك كتير أوي، مكنتش بترد ليه؟


رد عليها وهو يضع يده خلف ظهرها، بنبرة قلقة:


-عملت الفون صامت وأنا بصلي ونسيت أشيله، في إيه اللي حصل؟


تخطاهما "عاصم" مارقًا إلى الداخل، وقف إلى جوار "سامح: مباشرة، الذي كان منشغل بتوصيل إبرة المحلول المغزي في ذراع زوجته، التي كانت هامدة على الفراش، لم ينبس بحرف وهو يتابع بقلق ما يفعله الطبيب، ويخاطب به ممرضته، بل ظلت نظراته مرتكزة على وجه الأخرى، التي تحاشت بنظرها عنه، وأغمض عينيها حتى لا ترى وجهه، حينئذٍ نهش الخوف بقلبه، وظن أن إغماضها من تأثير التعب، الذي ما يزال مجهولًا عنه، وتقدم منها متلمسًا كتفها في تفقد، حينئذ أبعدت ذراعها عنه، مما جعله يضم فمه في ضيق من أسلوبها النافر منه، وفي ذلك الوقت انتبه إلى انتهاء الطبيب من إملاء أوامره إلى الممرضة، ثم أشار له بإيماءة من عينيه ليلحق به للخارج، انصاع له دون أن يستفهم عن السبب، فقد توقع إبلاغه بالطارئ على زوحته، لذا تبعه بصمت حتى وقفا في الردهة، بالقرب من باب الغرفة، وتساءل وقتئذٍ بوجه ظاهر عليه كل معالم الخوف:


-في إيه يا سامح؟ داليا مالها؟


اشتدت ملامح "سامح" في غضب غريب، وصاح به بلهحة زاجرة:


-أنا مش عارف أقولك إيه بجد، انت ازاي سايبها كده؟ هو ده اللي هتاخد بالك منها! ده لا منتظمة على دوا ولا على تغذية، وأنا معرفك إن جسمها ضعيف ولازم تعوض اللي خسرته من حملها الأولاني خاصة وإنها حامل دلوقتي ووضعها خطر.


زوى ما بين حاجبيه في غرابة مما يفوه به، في حين أكمل الآخر بهدير مُستهجن:


-ده غير إنها مأهملة في المتابعة، رغم إني مشدد عليها متفوتهاش، عشان ابقى عارف التطورات في حالتها، عشان لو حصل حاجة، زي الوجع اللي بدأ يجيلها، ده غير النزيف، والرحم بنسبة كبيرة هيحصل فيه تمزق، ولو حصل لازم يتلحق في أوله، عشان ميبقاش فيه خساير لا على الأم ولا الجنين ولا حتى الرحم، وبالشكل ده أنا مش هعرف أعمل حاجة وقتها والوضع هيخرج من إيدي.


اعتلى وجه كل من "عاصم"، و"عز الدين" -الذي خرج لتوه من الغرفة بسبب علو صوته- صدمةً بالغة، واستفسر الأول بعدم فهم:


-انت بتقول إيه؟ أنا مش فاهم حاجة، بسبب إيه كل اللي بتتكلم فيه ده؟


تعجب "سامح" من عدم علمه الواضح، وسأله بشك:


-بسبب إيه ازاي؟ هي مدام داليا معرفتكش؟


ازدادت غرابته، وسأله بريبة:


-معرفتنيش بإيه بالظبط؟


زم "سامح" شفتيه بضيق، فقد صدق حدسه بشأن عدم علمه، مما يعني أن الأخرى لم تخبره بشيء عن حملها، وبعد زفرة مزعوجة من استخفافها بخطورة وضعها، وأجابه باستيضاح:


-مدام داليا عندها مشكلة في الحمل، بسبب إنه حصل بعد ولادتها القيصرية بمدة قليلة، ده غير العمليتين اللي حصلوا قبل كده، اللي انت عارف سببهم، متسببين في أضرر تانية.


تعمد عدم توضيح سبب عمليتي الإجهاض أمام "عز الدين"، حتى لا يفشي بذلك الأمر الحرج أمامه، في حين تضاعفت صدمة كلا الأخوين، من ذلك الخبر الحصري، وأُلجم لساناهما عن التعليق لعدة لحظات، كأنما يفكران في حجم الخطر المحتمل، إلا أن "عز الدين" كان الأسبق في التحكم في صدمته، وسأله بتوجس:


-يعني في مشكلة في إنها تكمل الحمل؟


أكد له على الفور بشرح مسهب:


-أيوه طبعا، جرح الرحم بيتفتح عادةً في الحالات دي، لإن معداش وقت كبيرة على عملية الولادة، ووقتها بنسبة كبيرة هيسبب نزيف، غير مشكلة المشيمة اللي عندها، وفي الحالة دي بيحصل ولادة مبكرة، والله أعلم هتحصل إمتى، وهل ده هيأثر على الجنين ولا لأ، وهل وقتها هيظهر مشاكل تانية من المتوقعة على الأم وممكن تعرض حياتها للخطر ولا لأ.


توسعت عينا "عز الدين" في جحوظ مصدوم، وحول نظره نحو أخيه، الذي كان فاغر العينين، فكلمات الطبيب كانت كالإعصار، الذي دوى برأس "عاصم"، وجعلته عاجزًا عن استيعاب كم الخطر الواقع على زوجته، وبلهجة متهدجة، مقاربة على فقد اتزانها، سأل الطبيب:


-لحظة واحدة كده، انتي جاي تعرفني بكل ده دلوقتي؟


ارتبك "سامح" من سؤاله، خاصةً بذلك الهدوء المريب، الذي من المؤكد أنه سابق لعاصفة على وشك الهبوب، وأجابه بلهجة بدت متوترة:


-أنا معرفش إنك معندكش علم بمشكلة حملها، وإنها مكانش ينفع لها حمل دلوقتي.


هنا ولم يستطع "عاصم" التحكم بأعصابه التي انفلتت، واندفع نحوه، ممسطا بتلابيبه، ودمدم في انفعال بالغ:


-لما هي مكانش ينفع لها حمل دلوقتي، خليتها تكمل فيه ليه؟


أسرع "عز الدين" نحوهما، وفك قبضتي أخيه عن مقدمة ثياب الآخر، وحال بينهما بجسده، مشكلًا حاجزًا بينهما، خوفًا من أن يتسبب غضبه أخيه الأعمى، في ارتكابه أي فعل أهوج، في حين رد عليه الطبيب مبررًا بتريث، حتى يمتص غضبه:


-يا عاصم داليا مكانتش متابعة معايا في حملها اللي فات، وعرفت من قريب بالصدفة منها إنها حملت بعد ولادتها بشهرين، ولما قلتلها لازم تجهض مرضيتش تنزله.


اشتد جسده الذي كان يحاوطه أخوه بذراعيه، وبنفس النبرة الصارخة، والغاضبة، صرخ به:


-معرفتنيش وقتها ليه؟


عجز عن الرد للحظة أمام سؤاله، كونه على علم بخطأه منذ البداية، في الانصياع لطلبها بإخفاء الأمر عن زوجها، ريثما تخبره هي بطريقتها، ولكنه لم يفكر في إخفائها الأمر بشكل تام عنه، وحاول مجددًا التبرير بنبرة متلجلجة تحمل الحرج:


-أنا قلتلها..


كز "عاصم" على أسنانه، وتحرك في موضعه بانفعالٍ وهو يزفر بغضب يحاول كبحه، ثم قاطع كلماته صائحًا به بصوت ناهج:


-أنا مليش دعوة باللي قلتهلها، معرفتنيش أنا وقتها ليه؟


رغم اعتارفه بخطأه، إلا أنه لم يقبل بأن يكون هو المُلام الأكبر في إخفاء الأمر عنه، وتنفس بعمق، قبل أن يخبره بهدوء:


-داليا قالتلي مقولكش حاجة يا عاصم، عشان متخليهاش تنزل البيبي، وقالت إنها هتبقى تعرفك بالراحة عشان تعرف تقنعك إنها تكمل في الحمل.


قبل أن يهتف بأي تعقيب صارخ، تدخل "عز الدين" في الحديث، حتى لا ينشب شجارًا بينهما، وخاطبه بنبرة متريثة، محاولًا تهدئته:


-اهدى يا عاصم، إن شاء الله مش هيحصلها حاجة.


وجه عيناه إليه وقد احمرتا بشدة، وهتف في عصبية نابعة من خوفه المتعاظم:


-أهدى ازاي؟ انت مش سامع اللي قاله، ومش شايفة منظرها، دي خلصانة جوا.


التزم "عز الدين" الصمت، حتى لا يتفوه بكلمة تزيد من حالة هياجه، بينما رفع هو يديه وضغط بهما على جانبي رأسه، وقد تحكمت به أفكاره السوداوية، ولم يلبث أن أضاف بقرار صارم، لا رجعة فيه:


-البيبي ده لازم ينزل.


في التو تكلم "سامح" ليردعه عن تلك الفكرة، غير متوقعة العواقب:


-بس يا عاصم..


منع محاولته في إبداء رأيه تجاه ذلك القرار المتسرع، وقال في تصميم مشوب بالخوف، وهو يشرع في العودة إلى الداخل:


-مفيش بس، أنا قلت هينزل يعني هينزل، أنا مش هستنى لما يجرالها حاجة، وابقى خسرتها خالص.



❈-❈-❈



بقدر المستطاع أخفى التشنجات التي انعكست على وجهه، ولكن خوفه الذي استوطن قلبه، بقى كما هو لم تزول معالمه نهائيا من فوق قسماته المشدودة، اجتهد وهو واقفًا بجوار السرير المتسطحة عليه، ألا يظهر في صوته تأثير عصبيته بالخارج، على الرغم من تأكده من وصول الصوت لها، وطلب من زوجة أخيه، التي كانت جالسة بجانبها، باقتضاب مهذب:


-ممكن تسيبينا لواحدنا.


أومأت في موافقة وهي تنهض عن جلستها، وقبل أن تستدير ربتت فوق ظهر يد الأخرى، الممدودة على سرير بجانب جسدها، لاتصال إبر المحلول بذلك الذراع، انتظر ريثما أغلقت الغرفة من خلفها، وسأل "داليا" -التي كانت تنظر أمامها، وكأنما تتعمد بتلك الطريقة تجاهل وجوده- بصوت جامد يحمل اللوم:


-ليه كملتي في الحمل؟


بغير أن تنظر إليه، أجابته بوجوم بكلمات تتقصد بها أن تذكره بما اقترفه في حقها:


-عشان ده ابني، أكيد مش هموته بإيدي، واخسره زي اللي خسرتهم قبله.


ضم فمه للحظة وقد أصابت هدفها في جعله يشعر بالذنب، الذي يخالجه الندم، ثم علق بنفس الصوت الذي يجاهد ألا يعلو، وينفعل:


-وبالنسبة لإنك معرضة حياتك للخطر؟


حينئذٍ حولت عينيها له، تحدجه بنظرة مكذبة، وهي تسأله بسخرية:


-فارقة معاك؟


لم ينجح -أمام أسلوبها المستفز لأعصابه- في الحفاظ على طور هدوئه، وهتف بعصبية تحمل الاختناق:


-داليا بلاش الأسلوب ده معايا، أنا مش متحمل.


تشنجت في نومتها، مما أشعرها بالتوجع، خاصة في موضع الرحم، وظهر تأثير ذلك على وجهه الذي اشتدت وهي تسأله بسخط:


-انت عايز إيه مني؟


لاح التخوف على وجهه، حينما رأى تعبيرات الألم حفرت فوق ملامحها، ولكنه تحكم في نفسه، وحافظ على ثباته المتزعزع وهو يقول لها بلهجة جادة:


-عايزك تنزلي اللي في بطنك.


على فورها رفضت بتصميم قاطع:


-مش هيحصل.


فارت الدماء في عروقه من عنادها، الذي سيعرض حياتها للخطر، وأخبرها بتشدد:


-انتي لازم تسمعي كلامي.


شعرت وكأن موجة من النيران المستعرة تضرب داخلها، من نفس الطريقة الآمرة، التي لن تقبلها ثانية في الحديث بينهما، واعترضت باحتجاج:


-أنا مش هسمع كلام حد غير نفسي، وانت مش هتفرض عليا حاجة تاني يا عاصم.


بالكاد تمكن من التماسك، وتدجت أنفاسه معبرة عن اختناق عظيم يجثم فوق صدره، وظل يحدق بها بنظرته التي تحولت لاستعطاف غير مصطنع، وهو يخاطبها باستنكار لتفكيرها الذي سيقودها لهلاك حتمي:


-انتي عايزه تموتي وتسيبيني وتسيبي ولادك عشان جنين لا شوفتيه ولا  لمستيه بإيدك.


تحكمت بها غريزة الأمومة، التي حثتها منذ البداية على التمسك بالجنين الذي مُنح لها، رغم المخاطر المتوقعة، وعلقت بنفس النبرة المصرة المتأثرة بالعاطفة الفطرية:


-بس حسيت بيه جوايا، واستحالة افرط فيه أو اتنازل عنه.



❈-❈-❈



لم يكن أمامه مع إصرارها الشديد، غير الرضوخ لرغبتها مكرهًا، ولكنه مع ذلك كان يوجد جزء في أعماقه استحثه بقوة على الانصياع، وعدم التفريط في ذلك الجنين، علّه يكون بداية لقدرٍ آخر يجمع بينهما، يتضمن حياة أفضل، ومستقبل أجمل، لكليهما رفقة أولادهما. تحدث مع الطبيب على انفراد في البداية، ليخبره بجميع الاخطار المحتملة، وما إن كان في مقدوره التحكم بها قبل أن تهدد حياتها لأي خطر، وبعدما طمأنه من عدة نواحي، أهمها وجود إحصائيات بحالات مماثلة حول العالم، نجا بها كل من الأم والجنين، تخلل قليل من الراحة داخله، على الرغم من الاحتمالية الكبيرة في فقد الرحم بعد خروج الجنين، ولكن لم يشكل ذلك فارقًا كبيرًا عنده، طالما أن حياة زوجته، ووليده ستكون بأمان.


بعد تلك الجلسة التي لم تستغرق إلا عدة دقائق، توجه وبصحبته الطبيب إلى الغرفة الماكثة بها "داليا"، حيث إن الخطر لن يبتعد عن محيطها، هي وجنينها، إلا بتنفيذ ما سيمليه عليها، واتباع كافة إرشاداتة، فتلك المرة لا يوجد بها تهاون، ولن يكون في مصلحتها أي إهمال من أي نوع. جلس على المقعد الجلدي المجاور للفراش، وبالقرب منه كان يقف "عاصم"، ينصت باهتمام إلى حديثه، الذي ابتدأه بنبرة هادئة:


-داليا، لو عايزه تخرجي من الحمل ده من غير خساير، لازم تسمعي كلامي الفترة الجاية، ده مفيش فيه استهتار.


أومأت برأسها وهي مخفضة عينيها، فهي على علم بأن تدهور حالتها راجعًا إلى إهمالها، وبعد زفرة مطولة، متعبة، سألته بندم:


-النزيف اللي حصل بسبب إهمالي، مش كده؟


لم يرد إشعارها بالذنب، كما أن السبب ليس واقعًا عليها بشكل كلي، وأخبرها في استيضاح للسبب الرئيسي:


-انت عندك المشيمة ملتصقة بعضلة الرحم.


تعقدت ملامح "عاصم" الذي يستمع بصمت، في حين اعتلى الاستغراب وجهها، وهي تسأله مستفسرة:


-مشيمة ملتصقة! بسبب أيه؟


أجابها على مهلٍ، بنبرة علمية:


-ليها كزا سبب في حالتك، منها حملك علطول بعد عملية القيصرية، والكشط اللي حصل في عمليتين الإجهاض، تقريبا دول أكبر سببين ليها.


حانت منها نظرة خاطفة نحو "عاصم"، الذي نكس نظره في خزي، لأنه المتسبب الأول في المخاطر الناجمة عن عمليتي الإجهاض، كونه هو من أجبرها على الخضوع لها، استرعى انتباههما الطبيب مرة أخرى، وهو يخاطب الأخرى بنبرة جادة مشوب بالتحذير:


-لو متابعتيش معايا أول بأول الفترة الجاية، هيحصل مشاكل كبيرة، ممكن تخسرنا الجنين، وممكن تخسرنا الرحم، وفي الحالتين حياتك هتبقى في خطر.


دون تفكير، انطلق لسانها بخنوع تام مرددًا:


-هعمل اللي هتقولي عليه.


سحب نفسًا عميقًا وهو يستقيم في جلسته، لفظه دفعة واحدة ثم استرسل بهدوء:


-الفترة الجاية النزيف محتمل إنه يتكرر، وقتها لازم تكلميني مهما كان كميته حتى لو نقط، احنا عايزين نلاحق على كل المشاكل المتوقعة، سواء المشيمة الملتصقة، أو تمزق الرحم، أو الولادة المبكرة.


سكت لحظيًا قبل أن يضيف بلهجة متشددة:


-الأدوية اللي كاتبها لازم تنتظمي عليها، وبالأخص حقن اكتمال الرئة عشان الجنين.


أومأت بموافقة تامة، بينما فرق نظراته فيما بينهما وهو يقول بإلزام مشدد:


-لازم راحة تامة، وممنوع العلاقة نهائي.


حول "عاصم" بؤبؤي عينيه نحوها، ليرى تأثير جملته الأخيرة عليها، إلا أنها تظاهرت بالثبات، بالرغم من التلبك الداخلي الذي أصابها، أبعد عينيه عنها عندما وجد "سامح" ينهض عن مقعده، وسأله باهتمام:


-هتخرج النهارده؟


آنئذٍ رد عليه بتعبيرات جادة:


-الأحسن تفضل النهارده، عشان هتوصل محاليل تانية، وفي شوية فحوصات لسه هعملهالها، وعشان كمان لو النزيف اتكرر اقدر الحقها وميحصلهاش مضاعفات.


لم يكن ليبدي اعتراض على ما فيه الصالح لها، وهز رأسه في موافقة، وتكلم بغير تفكير، بنبرة صوت عادية:


-تمام، أنا هفضل معاها.


تضخم صدر "داليا" في حنق، من فرض وجوده بشتى الطرق، وسريعًا ما صاحت بلهجة حادة، مستنكرة قراره المتجاوز، كونه لم يعد زوجًا لها، ولا يحق له الانفراد بها، مدمدمة:


-هتفضل معايا بصفتك إيه؟


يتبع...


إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة شيماء مجدي من رواية مشاعر مهشمة الجزءالثاني، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية