-->

رواية جديدة مشاعر مهشمة 2 لشيماء مجدي - الفصل 38

 

قراءة رواية مشاعر مهشمة الجزء الثاني كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى




رواية مشاعر مهشمة الجزء الثاني 
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات 
الكاتبة شيماء مجدي 

الفصل الثامن والثلاثون



بمجرد أن غادر بيتها، وقد حدد وجهته، فما عاناه، وأضناه الفترة الماضية، راجعًا إلى لعبة قذرة، كان بسذاجته طرفًا بها، ومن البداية هو من سمح لأن تصل الأمور إلى ذلك الحد، كونه لم يغلق الباب نهائيًا، وتركه متواربًا، حتى يظفر بانتقامه المنشود، برؤية الإذلال والقهر في عيني من ألحق به الأذى، إرضاءً لنزعته السادية، ولكن أي ذنب ارتكبته زوجته في تلك اللعبة، حتى تُوضع تحت براثن مكيدة امرأة؟ سبق وقد هجرته، وبعد أن صار له بيت، عادت حتى تخربه، وتحرمه من أن يهنأ بحياته مع من يحب، بعدما قد نغصت ذكراها عليه راحته لأعوام. 


كلف رجاله بمعرفة مكان تواجد تلك الساقطة، وفي خلال مدة وجيزة، وبعد مضي عدة دقائق كان يقود خلالها بسيارته، بعد أن أقل أخاه إلى محل عمله، آتاه الخبر اليقين، حينئذ توجه مباشرة إلى حيث توجد، في مطعم لم يكن يبعد عنه بمسافة كبيرة، لذلك وصل إليه بعد ما يقرب من الخمس عشرة دقيقة، ترجل من سيارته، ودلف المطعم بجسدٍ مشتد، وخطوات يظهر بها فوران دمائه، وغضبه المستعر داخله، مسح بعينين يتطاير منهما الشرر المكان بالداخل بنظرة مشتاطة، وجدها رفقة بعضٍ من صديقاتها، على إحدى الطاولات في الزاوية، توجه إليها على فوره، ومع كل خطوة يأخذها نحوها، يزداد تشنج جسده، وعندما انتبهت هي أثناء حديثها إلى صديقتها التي تجاورها إلى تقدمه نحوها، حتى توقفت عن التكلم، وانفرجت شفتاها ببسمة مسرورة، يمتزج بها التفاجؤ وهي تردد اسمه:


-عاصم!


اختفت بسمتها تدريجيا، حينما تراءى لها الغضب الذي يلوح فوق وجهه، وانقلبت فرحتها برؤيته، إلى خوف دب بقلبها عندما ضرب بيده سطح الطاولة، هادرا بها بقوة:


-هو انتي إيه بالظبط؟ معجونة بإيه؟


انتفضت في جلستها من علو صوته، وبصوت مشوب بالريبة سألته:


-في إيه يا عاصم؟


حدجها بنظرة كارهة، وهو يسألها بنقم بالغ:


-الكلام اللي قلتيه واللي عملتيه آخر مرة ده، كان وانتي شايفة داليا؟


اعتلت الصدمة وجهها من سؤاله المباغت، خاصة بعد مرور ما يقرب من الشهرين على ذلك الحدث، مما أربكها وجعلها عاجزة عن الرد:


-آا.. آا..


قاطع محاولتها الواهية في الرد عليه، فتوترها أكد له ما قالته زوجته، وتابع في عصبية عارمة، جعلت أنظار جميع المحيطين بهما تلتفت نحوهم:


-يعني يومها تبقي شايفة مراتي، وتقصدي تقولي الكلام ده، وتعملي كل اللي عملتيه ده قدامها؟ بتسمعيها الكلام ده عشان تثبتيلها إيه؟ كنتي عايزه توصلي لإيه باللي عملتيه فهميني؟


شعرت أنها باتت قاب قوسين، أو أدنى من الهلاك الحتمي، ازدردت ريقها، ونفت بتلعثم ما يتهمها به عن نفسها:


-أنا.. معملتش حا..


لم يدع لها فرصه للدفاع عن نفسها، ودنا منها وهو يطنب باستحقار:


-فاكرة إننا لما نتطلق وقتها هبقى ليكي، غباءك وصلك إني ممكن ابصلك تاني.


حركت حدقتيها ناظرة على الوجوه المتابعة لما يحدث، ونزعة الغرور داخلها جعلتها تتحكم في أعصابها، حتى ترد على إهانته لها، وصاحت به بانفعال:


-عاصم أنا مش فاهمة انت بتتكلم عن إيه، انت..


حبس الكلام في حلقها، وهو يضيف بانفعال أشد:


-انتي كدابة، وأنا بقيت بقرف منك.


كزت على أسنانها وهي تتحامل على نفسها سبه لها، فهي في جميع الأحوال لا تضمن عواقب الرد عليه وهو في أوج غضبه، كما أنه معه كامل الحق في زجرها، كونها هي التي تعمدت افتعال مشاحنة بينه وبين زوجته، بالتظاهر أمامها بوجود علاقة قائمة بينهما، حتى تنهي زواجهما، وتأخذ هي بعد ذلك مكانها. ولكن صمتها لم يشفع لها عنده، وتابع في قول كلماته المهينة، والمقللة من شأنها. نظر لها بنظرة مزدرية، متشدقا بلهجة جامدة، خالية من الشعور:


-فاكرة كلام شاهين بيه ليا؟ أنا جاي النهارده عشان أقولهولك.


قبل أن يترك لها الفرصة لاستيعاب قصده، هسهس أمام وجهه متكئا على الحروف بطريقة محتقرة:


-ابعدي عني يا مي.


التمعت عيناها بدموع، متأثرة من سيل إهاناته التي نالتها منه، سواء تلك المرة، او المرة السابقة، ولكنها استبقت نظرها عليه، متظاهرة بالقوة، والثبات، تناظره بعينين ميتتين وهو يضيف بقسوة ما توقعته مسبقا، من تكملة ما قاله والدها له في الماضي، حتى يكون قد أخذ منها حقه كاملا، ومكتملا:


-معادش ليكي دعوة بيا لا من قريب ولا من بعيد، وإلا رد فعلي ساعتها مش هيعجبك.


شيعها بنظرة ساخطة قبل أن يستدير، في حين لم ينتبه إلى نظراتها التي تحولت إلى العدائية، كأنما قد شنت داخلها حربًا ضارية عليه، فإن مررت المرة السابقة الإهانة، فلأنها كانت مقتصرة فيما بينهما، ولكن تلك المرة كانت على مرمى ومسمع من الكثير، وليست هي من يسامح فيما يمس كرامتها، أمام كائن من كان.



❈-❈-❈


عزلت نفسها في غرفتها، بعدما قد خانتها يدها، بانفعال أعمى، وتطاولت عليه، بصفعة مدوية على وجهه، جالسة على طرف السرير، بهيئة شاردة، ووجه باهت، وعينين ساهدتين، تحاول بشتى الطرق استحضار شعور الندم على ضربه، ولكن بداخلها يرفض رفضا تامًا، كأنما يرى أنها صائبة في فعلتها، كأنما في ذلك جزءً من العقاب الذي يستحقه، على كل ما ارتكبه في حقها، فأذاه على مدار أكثر من ثلاث أعوام امتد إلى أبعد حد، وليس مقتصرا على خيانة فحسب.


وضعت يدها فوق صدرها وأمارات الانزعاج تلوح فوق وجهها، من شعورها المألوف، والمعهود عند اجتماعها به بعد فراق يطول مداه، والذي انبجس بدوره داخلها فور أن وقعت عيناها عليه، تضغط بضيق فوق صدرها، علّها تخفف من ذلك الاختناق الذي داهمها، فكأن ما بداخلها يتضخم، ويضيق، مما يتسبب في صعوبة تنفسها بصورة طبيعية، فبعد كل ما عانته معه، ومنه، ما يزال قلبها يخفق بشدة لرؤيته، ولكن تلك المرة يصعب عليها تحديد السبب، هل حبًا كعادته معه؟ أم تفاجؤً من مجيئه الذي لم يكن متوقعًا؟ أم خوفًا من أن تلقى تعنيفًا على هروبها منه؟ ولكن هذا ما لن تسمح له نهائيا.


لن يفرض عليها هيمنته ثانيةً، ولن تتعاطف هي بدورها معه مرة أخرى، حتى وإن تظاهر بالتعب لهجرها، ولكن أي تظاهر تلك؟ وهي قد لاحظت عليه تغيرا بالغا، باديا عليه بشكل واضح، فقد نقص وزنه بصورة شديدة، ووجهه فقد نضارته، وشحب شحوبًا ظاهرًا، وأحاط السواد عينيه، كأنما أصبح يتعاطى المخدرات القاتلة، حتى ذقنه لم يسبق وتركها لتطول لتلك الدرجة، وهذا ما جعلها تتذبذب حيال شكها في أنه يتظاهر بالتعب أمامها، فقط ليستميل قلبها، فأي تظاهر الذي سيجعل هيئته تتغير مائة وثمانين درجة بهذا الشكل؟


كما أن نبرته المشوبة بمشاعر الأبوة، وهو يردد الكلمات الخفيضة بالقرب من أذني ابنيهما، حتى وإن حاولت إنكار صدقها، لقد التمست قلبها، وتراءى لها ارتياعه على "رائف"، الذي خصه اليوم باحتضانه، ولم يكتفِ بقبلة على جبهته أثناء نومه، كما فعل مع "نائل"، الذي كانت تظن أن له الجزء الأكبر من الحب في قلب والده، فلقد استبقاه بين ذراعيه، بالقرب من قلبه، وبدموع انهمرت على وجنتيه، همس له:


-رائف، حبيبي..


قرب رأسه نحو وجهه، مقبلا جبهته مطولا، ثم أكمل بتأثر:


-لو كان جرالك حاجة، أنا كان ممكن اموت فيها.


ضعف صوته، وانتحب وهو يتابع:


-مكنتش عارف إني بخاف عليك أوي كده.


أزاد في ضمه، وأطنب بعاطفة أبوية صادقة:


-انت واخوك أغلى حاجة في حياتي.


استعادة صدى تلك العبارات على سمعها، يجعلها مشوشة حيال اندفاعها عليه، وتكذيبها لما يظهره من محبة أبوية تجاه ابنيه، وقسرا راح تأنيب الضمير ينخر في صدرها، كونها ربطت بين نزاعاتهما وعلاقته بالطفلين، وهي رغم كل شيء لا تريد لهما أن يتأثرا بسوء اختيارها، وإقحام نفسها من البداية في علاقة محرمة، ومنفرة. عاد ذهنها إلى أرض الواقع حينما انتبهت إلى نداء "زينة" القريب منها:


-داليا.


حركت وجهها نحو مصدر صوتها، واعتلى وجهها تفاجؤ من وجودها، قطبت جبينها وهي تسألها:


-انتي لسه هنا يا زينة! مروحتيش ليه؟


تقدمت لتجلس جوارها، وأجابتها بنبرة هادئة مليئة بالود:


-مكنتش عايزه اسيبك وانتي في الحالة دي، وعز كمان قالي افضل معاكي عشان رائف.


شقت بسمة صغيرة شفتيها، تحمل امتنانا لوقوفها جوارها في محنتها، وقالت لها بصوت خفيض، حتى لا تيقظ الرضيعين:


-شكرا يا زينة، أنا عارفة إني تاعباكوا معايا، بس..


نظرت لها بنظرة لائمة، وعلقت بعتاب طفيف:


-تاعبانا معاكي إيه بس، متقوليش كده تاني عشان مزعلش منك.


حافظت على بسمتها الباهتة فوق وجهها، كرد صامت ممتن لكلماتها الطيبة، وما لبث أن اختفت حينما تذكرت أمر "عاصم"، ارتبكت ملامحها وسألتها على الفور بتورية:


-عز مشى صح؟


تفقهت إلى ما تريد الاستفسار عنه بسؤالها، وهو وجود "عاصم" من رحيله، وأكدت لها مع إضافة إجابة الجزء المستتر من تساؤلها:


-أيوه، هو وعاصم مشوا من شوية.


ارتبك صوتها وهي تخبرها عن رحيله، بسبب ما وصل إليهما أثناء جلوسها رفقة "عز الدين" في غرفة المعيشة، من صخب الشجار الذي دار بينهما، والذي انتهى باندفاعها من الغرفة ركضا نحو المرحاض، وأتبعها خروج "عاصم" بهيئته التي كانت توحي على كبت غضبه، ودون أن يتحدث لهما هرع نحو باب البيت، وقتئذٍ لحق به زوجها، وبعد ذلك استمعت إلى صوت مكابح السيارة، التي غادرت بعدها على الفور. 


غامت ملامح "داليا" عندما أخبرتها برحيله، وبداخلها كانت عاجزة عن معرفة السبب الوجيه في حزنها، فلا تدري أهو راجعا إلى كونها باتت وحيدة، أم من استرضائه لها بتلك الطريقة الزهيدة، وذهابه بعد ردة فعلها حيال تودده الغير محلل إن كان يعني شيئا، فلن يعني غير عدم تقبله لرفضها له، ولصفعتها المتجاوزة معه.


فإن كانت صفعة واحدة آثارت انفعاله بذلك الحد، ماذا إذن عن تخريبه لجسدها بأشنع الطرق السادية، في أوقاتهما الحميمية، التي كانت ينبغي أن تنشأ بينهما على المودة والرحمة، وليس على الشدة والقسوة. وهي التي كانت تسمح له بأن يعيث فيها كيفما يشاء، ولم تكن تقدر أن تبدي أي اعترض، حتى لا يعاقبها بالافتراق. ولكنها لن تقبل بأن تكون وعاءً لإفراغ شهواته مجددا، حتى وإن كان تحت لقب زوجة، فلا هو يقدر تضحياتها ويصون حبها، ولا يترأف بها وبضعفها ويرحم بدنها، انتشلتها مجددا من شرودها اللحظي "زينة"، وهي تتساءل ببعض التردد:


-انتي بجد مش هترجعي لعاصم تاني؟


عبس وجهها، وبعد تنهيدة تعبر عن اختناقها، أخبرتها في وجوم:


-مش عايزه اتكلم في حاجة يا زينة دلوقتي، انا محتاجة أنام.


أومأت لها برأسها بتفهم، وقالت لها وهي تمسد فوق ساعد ذراعها:


-طيب، نامي وارتاحي وأنا هفضل صاحية مع رائف عشان لو حرارته زادت تاني.


حركت رأسه بهزة بسيطة، وأردفت وهي تنهض للتوجه إلى غرفتها:


-أما تتعبي ابقي صحيني.


ردت عليها ببسمة طيبة:


-حاضر، متشغليش بس انتي بالك دلوقتي بحاجة وارتاحي.


بالكاد تماسكت في سيرها المتعب حتى حجرتها، بعد ما خاضته اليوم، بدايةً بانهيارها الحاد بسبب ندمها على فداحة ما ارتكبته من ذنوب، وارتياعها الذي تآكل بأعصابها بسبب مرض ابنها المفاجئ، نهاية بمواجهة "عاصم" وحالة التشاحن، والتناحر التي نشبت بينهما، مما جعلها مُستهلكة الأعصاب، مستشعرة تخدر ممزوج بالإنهاك في شتى أنحاء جسدها، ناهيك عن التوجع الذي ضرب أسفل بطنها بغتةً، واشتدادها، نتيجة لتكورها الطفيف، بسبب حركة الجنين الطبيعية في تلك الفترة من حملها، توقعت أن يخف التعب بنومها، لذلك سارعت في التمدد على الفراش، الذي ما إن احتضن جسدها، حتى خارت قواها، وانهالا جفنيها، وفي خلال لحظات، سحبها النوم إلى غياهبه.



❈-❈-❈


منذ أن وصل إليه خبر طلاقها، وقد انقلب حاله، وراحت الصور الجريئة، والتخيلات الماجنة، التي كان يرسمها في خياله لها معه، تعود إلى رأسه من جديد، مما جعله يتذبذب حيال خططه المستقبلية، الذي رسمها بشأن حياته القادمة، بزواجه بابنة "توفيق"، وعلى ذكرها بدأ عقله في عقد المقارانات فيما بينهما، ولافتتانه بالأخرى الشقراء، وبجمالها الساحر، كانت تخرج خطيبته خاسرة، كون جمالها ليس مميزا كالأخرى، ولكنه مع ذلك، بمرور الوقت بينهما تراءى له جمالها الفطري، بملامحها العربية الأصيلة، البعيدة كل البعد عن ملامح الأخرى الأوروبية.


فلم ينكر أن بها هالة استثنائية دونا عن غيرها، اجتذبته دون أن يشعر للتعرف على شخصيتها بشكل أكبر، كما أصبح فيما بينهما كيمياء خاصة، ونوعا من الصداقة المتوجة بالحب من طرفها، وكأن كل ما بها يتضافر لأسره في تلك العلاقة، حتى أصبح عاجزا عن أخذ قرار مصيري، في إنهاء خطبته بها، والتنازل عن طموحاته المجردة من الشرف، في سبيل الحصول على الأخرى، بعدما أصبحت حرة. حرك وجهه للأمام، وهمهم بانتباه، عندما وصل إليه ندائها، ليجدها قد عادت من دورة المياة، جالسةً أمامه على الطاولة، التزمت الصمت حتى أنزل النادل الطعام الذي طلباه كلاهما مسبقًا، وبعد أن رحل من أمامهما تساءلت ببسمة رائقة:


-إيه سرحت في إيه؟


اعتدل في جلسته وهو يحمحم، ثم أجابها بنبرة عادية وهو يشرع في البدء في تناول الطعام:


-ولا حاجة، انتي رجعتي امتى؟


كتفت ساعديها المستندين فوق الطاولة، وحافظت على بسمتها وهي تقول له بمشاكسة:


-من دقيقتين تقريبا، بس انت اللي مش معايا باين.


انشقت شفتيها ببسمة متسلية، وعلق بعبثية:


-امال هكون مع مين يعني غيرك؟


هزت كتفيها بطريقة بها بعض الغنج الغير مبتذل، وردت عليه:


-مش عارفة، المفروض أنا اللي اسأل.


وضع السكين في الطبق، ومد يده ممسكا بيدها، وقال لها بصوته الرخيم:


-مفيش حد في الدنيا شاغل بالي وقلبي غيرك.


التمعت عينيها بتأثر من مرادفاته الساحرة، وعذب عباراته، وبصوت رقيق سألته:


-بجد يا كرم؟ يعني انت..


خجلت من المتابعة في التساؤل عن حقيقة مشاعره، الذي يصرح بها بأفعاله الدائمة، منذ تمت خطبتهما، ولكنه لم ينطقها حقيقةً ولو لمرة واحدة. اقتضمت شفتها السفلى، ولكنها استبقت عينيها عليه، حينئذ اتسعت بسمته، وهو ينظر بداخل حدقتيها ذاتي اللون البني اللامع، بنظرة مطولة، ثم سحب يدها وقربها من فمه، وقبلها بتلقائية غير محسوبة، كسابق أفعاله، مما جعله مضطربا تجاه تأثير ما يبدر منه معها على مشاعره، ورجيف قلبه، بالأخص ما لا يرتب لفعله، وكأنه أصبح واقعا لامرأتين، واحدة تأسره جمالها، وأخرى متيمًا بفطرية شخصيتها، ونقاء روحها، ولكن أي امرأة سيقع عليها الاختيار من بينهما في النهاية، وسيكون لها السيادة على مسار حياته؟ التي يقوده في تفكيره بها رغباته الجسدية، أم التي تكمن معها راحته العاطفية؟



❈-❈-❈



استقرت عيناه بنظراتها الباهتة في الفراغ أمامه، أثناء وقفته المنفردة في حديقة بيته، فقد فقدت عيناه كل معاني الحياة، واعتراها شجنا لم يُرسم معالمه يوما على ملامحه، كما هو مرسوم الآن، فالأيام الماضية، منذ هجرته، وهجرته الراحة معها، ظن أن راحته سترد له بإيجاده لها، ولكن اليوم علم أن طريق الراحة معها، شائكا، وما يزال في بدايته، وإما أن يسلكه مهما كثرت به العثرات، حتى يصل إلى قلبها ثانيةً، وإما أن يتراجع عن ذلك الطريق، وبذلك يكون قد أنهى بيده حياته.


لا يسعه تصديق أن كل الحب الذي كان كائنا في قلبها، لم يعد له وجود، ولم يعد يرى في عينيها لمعته، حتى أنها لم تعد تعبأ بجرحه، كأن عدوى قساوته السابقة معها، انتقلت إليها، وأضحت تعامله بنفس أسلوبه المؤذي، ولكنه لم يكن يعلم أن وجعه ضاريًا إلى ذلك الحد، اعتصر عينيه وهو يحارب نفسه، ألا يفقد الأمل في عودة حياته معها إلى نصابها السابق، حتى جلسات علاجه النفسي، الذي عاد لحضورها، بعد حديثه مع أخيه، وبعد توقفه الذي دام لأسبوعين، يبدو أن مفعولها ليس قويا كفاية لتثبيط إحباطه، وخوفه من تصديق الحقيقة الواضحة له، وهو فقدها تلك المرة بشكل نهائي. 


آلمه قلبه عندما تطرق لفكره ذلك الهاجس، وترقرقت عينيه بالدموع، فحتى حقه في إن يكون بقربها خلال حملها في ذلك الجنين، الذي تقبل وجوده قبل أن يُولد، فقده قسرا، ولكن بأي حق يعتب عليها أو يلومها؟ وهو قد تركها وحيدة أثناء حملها السابق، ونبذها لأكثر من مرة، وهي التي كانت تستجدي فقط قربه، وتقبله لطفلين آتيين من صُلبه. سحب لرئتيه أنفاسًا مطولة، حتى يستطيع التحكم في نوبة البكاءً التي تداهمه، وبغتةً شعر من بين السكون المجاور له، بصوت خطوات تقترب منه، حرك رأسه نحو مصدر الصوت، ليجد أخيه يتقدم منه، أبعد وجهه للاتجاه الآخر، وقام بتجفيف وجهه، من الدموع التي انسابت فوق وجنتيه، انتبه "عز الدين" إلى فعلته، ومنذ البداية كان مترائيًا له حزنه، لهذا السبب ذهب إليه حتى يؤازره، وبعد أن توقف جواره، تكلم بلهجة آسفة:


-طالما انت تعبان بالشكل ده من غيرها، كنت سايسها بكلمتين حلوين وداليا قلبها طيب وانا متأكد إنها كانت هتلين لو كنت كلمتها بالراحة.


ابتلع غصة اجتاحت حلقه، وهو يومئ بالسلب، ثم قال بصوت منكسر:


-مقدرتش اعمل ولا أقول حاجة، طريقتها كانت صعبة معايا، أول مرة تكلمني بالشكل ده..


ضم شفتيه للحظة وهو يتذكر نفورها منه، وزفر نفسا مختنقا وهو يتابع:


-حتى مقبلتش إني المس إيديها، قالتلي احنا اتطلقنا ومبقتش أحللك.


عند ذكره سيرة الطلاق، وموقف داليا حياله، هتف بهدوء يحمل بعض الغموض:


-هي عندها حق، بس ده في حالة انكوا اتطلقتوا فعلا.


حول "عاصم" نظره نحوه، ولاح فوق وجهه عدم الفهم، استطاع الآخر أن يقرأ تعبيراته، وأضاف موضحا مقصده:


-انت وداليا لسه متجوزين ياعاصم.


زوى ما بين حاجبيه في غرابة، والتفت له بكامل حسده وهو يقول بتخبط:


-ازاي؟ أنا رامي عليها اليمين قدامك.


حرك رأسه في إيماءة متفهمة، ثم أخبره في استيضاح مسهب:


-ايوه بس انت مكنتش عايز تطلقها، انت طلقتها من تهديدها ليك يعني كنت تحت ضغط عصبي، واللي اعرفه إن الطلاق في الحالة دي مبيقعش.


تشتت نظراته، وعجز عن استيعاب كلماته، في حين لم يلبث الآخر حتى أضاف:


-وحتى لو وقع، انتوا لسه في فترة العدة، يعني ينفع تردها تاني، ومن غير كتب كتاب لإنك مطلقتهاش رسمي، وممكن برضه تسأل شيخ وهو يفيدك اكتر في موضوع وقوع الطلاق.


تتمة كلماته ضاعفت من حالة التشتت التي أصابت مداركه، حتى أنه ليس لديه سابق معرفة بأي شخص من أهل الدين، يفيده في تلك الأمور، وعلى نفس الشاكلة المشوشة أخبره:


-بس أنا معرفش شيوخ.


حينئذ وضع "عز الدين" يده على ظهره، ليحثه على التحرك معه، بقوله الهادئ:


-طب تعالى معايا وانا اوديك لشيخ معرفة، في المنطقة بتاعتنا، نحكيله اللي حصل وهو يقولك الطلاق وقع ولا موقعش.


انساق معه نحو موضع اصطفاف سيارته بانصياع، وكأنه يريد التمسك بأي شعرة، تعيد في عينيه وهج الحياة، وتعطيه الأمل حيال عودتها إلى أحضانه، مهما بلغ من الوقت مداه.



❈-❈-❈



افترشت أمارات السرور وجهه، حينما علم من أحد رجال الدين، بعد أن قص كليهما عليه أحداث ذلك اليوم المشئوم، الذي انتهى بتطليق "عاصم" زوجته، أن الطلاق في تلك الحالات الحرجة لا يقع، كونه كان تحت ضغط عصبي شديد، ولم يكن في وعيه الكامل حتى يسعفه عقله في التفكير فيما يقول، أو يفعل، كما أن تهديدها جعله يتفوه بما تريد سماعه حتى ينقذ حياتها، وليس لرغبة خالصة منه في إنهاء زواجه بها. وقف معا أمام السيارة، بعدما خرجا من الجامع، المتواجد في المنطقة الفقيرة، التي تربى بها "عز الدين"، تنهد "عاصم" ببعض الارتياح، كونها ما تزال على زوجته، وسيتسنى له محاولة التفاهم معها بأريحية، دون وضع حدودا واهية من قبلها بينهما في التعامل، حرك عينيه تجاه أخيه، بنظؤة مهتمة، عندما حدثه برزانة:


-اتأكدت إنه موقعش.


أومأ له مؤكدا، ثم زفر نفسا مطولا، قبل أن يسأله بقلق:


-بس تفتكر لو قلت لداليا هترضى ترجعلي؟


مط شفتيه بحركة تنم على عدم ثقته في ذلك الشأن، ولكن أخبره بمنطقية:


-عرفها يا عاصم وحتى لو مرضيتش، على الأقل هتبقى عارفة إنه مش حرام وجودك معاها لو روحت تشوف ولادك.


استند بظهر على باب السيارة، وخبت معالم السعادة من قسماته وهو يتكلم بنبرة نادمة:


-داليا فاكرة إني عايز ارجع معاها زي الأول، بس والله أنا كنت ناوي أصالحها واردها لعصمتي تاني، أنا بجد عايز اتغير، وعايز كل حاجة في حياتنا تبقى ماشية صح ومريحاها، عشانها هي وولادنا.


ربت بيده فوق كتفه وهو يخبره بلهجة مطمئنة:


-كل حاجة هتتغير إن شاء الله، وداليا هيجيلها وقت وهتعرف إنها متقدرش تستغنى عنك، وهترجع عن اللي في دماغها لما تشوفك بجد اتغيرت.


تنهد مجددًا بصوت مسموعٍ، ثم قال متمنيًا:


-يا رب.


ران الصمت لعدة لحظات بينهما، وخلال ذلك صدح صوت آذان العشاء من حولهم، ابتسم "عز الدين" له في محبة، وقال له بلطافة:


-طب على ذكر ربنا، إيه رأيك تيجي تصلي العشا معايا.


رمش بأهدابه بتفاجؤ من اقتراحه، فتلك الوهلة الأولى الذي يطلب منه أحد الصلاة معه، أو بالأحرى يأتي على ذكر الصلاة أمامه، وبعد صمت دام لثانيتين، رد عليه باقتضاب:


-روح انت وانا هستناك في العربية.


أصر عليه قائلا بتصميم:


-لأ انت هتيجي معايا، أنا عايز أصلي جنب أخويا.


نفذت عبارته الأخيرة إلى شغاف قلبه، مما أشعره برجفة -متأثرة من عظمة الجملة- على جسده، ولكنه في نفس الآن ارتبك من إصراره، كونه لا يعرف كيفية آداء فريضة الصلاة، وقال متهربًا:


-أنا مش متوضي.


سارع في إخباره بنفس النبرة المصرة:


-الجامع في دورة مياه، والمكان هنا نضيف يعني متقلقش هتعرف تتوضا جوا.


عجز عن التفكير في سبب آخر، يتحجج به، وردد بتلعثم:


-بس..


قطب "عز الدين" جبينه، وهو يسأله باستغراب من مماطلته:


-بس إيه تاني؟


شعر بأنه قد ضيق عليه الخناق، لذلك لم يجد حلًا لإخراحه من ذلك المأذق سوى الاعتراف بالحقيقة، لاح الضيق فوق وجهه، وأردف بحرج:


-أنا.. أنا مبعرفش اصلي.


لم يتفاجأ من الأمر، فهو متوقع بالنسبة إليه مما قصه عليه من نهج حياته البغيض، حاول أن يتظاهر ببساطة الأمر، حتى يرفع عنه الحرج، وعلق بنبرة عادية:


-طب ماتقول كده من الأول.


تفقد "عاصم" -بعد تعليقه الذي رآه غريبا- ما طرأ على وجهه، من معرفته بالأمر، الذي ظن أنه سيصدمه، ولكنه لم يرَ غير بسمة طيبة ارتسمت على شفتيه، وهو يضيف بتعقل:


-انت جيت في جمل يعني، ادخل معايا وانا اعلمك، الصلاة مفيش أسهل منها، ده غير إنها ملجأ لكل اللي بتضيق بيه الدينا، الواحد بيجيلها شايل الحمل على قلبه، وبيخرج منها مرتاح وحاسس إن الهم انزاح عنه.


شعر بالارتياح من رده الطيب، ولكنه لم يستحسن فكرة تعلم كيفية تأدية الصلاة وهو في ذلك العمر، أمام جماعة أهل الدين المرابطين في المسجد، أو الحشد الكبير من المصليين الذين يتوافدون واحدا تلو الآخر منذ أذَّن المؤذن، لذا أطرق رأسه لأسفل، وقال له بامتناع:


-بلاش هنا، مش عايز احرج نفسي قصاد حد.


تفهم موقفه، ودنا منه وهو يضع يده فوق ذراعه، بطريقة داعمة، وحدثه بتريث:


-مفيش حاجة هتحرجك، كل اللي بييجي هنا بييجي عشان يقرب من ربنا، ويتعلم أصول دينه من أهل الدين، وانت هتاخد خطوتك الأولى في القرب لربنا من هنا، ده بيته وهتحس إنك قريب منه فيه، ده أصلح مكان صدقني.


كان مهتزًا حيال الموافقة، ولكنه عندما راجع كلمات أخيه الفترة الماضية، والتي كان يحثه بها على التوبة، والتقرب من الله، لكي يصلح له حاله، ويفك كربه، حتى حسم أمره، وقرر أن يأخذ تلك الخطوة الفارقة، علّه يجد بها ضالته، رفع وجهه إليه، ونظر له بنظرة استشف منها أخوه موافقته، حينها سأله وهو متحفز في وقفته:


-يلا بينا؟


هز رأسه موافقا، وقال له وهو يشرع في التحرك معه:


-يلا.


ابتسم له بحبور، وربت بمحبة أخوية فوق ظهره، وهما يسيران معا نحو باب المسجد، حينئذ حانت من "عاصم" نظرة له، مليئة بالامتنان لوجوده الداعم، والمساند دائما، دون انتظار الطلب، حتى إنه لم يقابل شره وأذاه بغير التسامح والإحسان، وبعدما علم بمساوئه لم تختلف المعاملة، ولم ينظر له بنظرة احتقار وازدراء، بل عمل على بث الثقة في نفسه، وشد من أزره، ليقوي عزيمته، حتى يصبح الشخص الأصلح، عاصمًا عن ارتكاب الموبقات، مما جعله ييقن أنه خير رفيق له، يدله على طريق الهداية، وفعل الخيرات.



❈-❈-❈



لم يمضِ على غفوتها سوى بضع دقائق، وأفاقها من عز نومها، الألم الذي ينخر في بطنها، فقد تضاعف عن ذي قبل، وبدأت تتلوى في الفراش، مما أشعرها بالريبة، كونها أضحت في شهرها الخامس من الحمل، مما يعني أن أعراض التعب ستبدأ في الظهور، ومن هنا بدأت كلمات الطبيب، تجوس في ذهنها، حيال ذلك الحمل، المحفوف بالمخاطر، والمهدد لحياتها، وحياة الجنين الذي ينمو في رحمها، كونها قد حملت بعد مرور شهرين من ولادتها القيصرية، وخلال تلك الفترة الوجيزة، لم يلتئم جرح الرحم بعد، أو يكتسب الجسد ما فقده من الحمل السابق، وهذا ما كانت مغيبة تمامًا عن أخطاره، وصدفةً علمت من الطبيب، حينما كانت عنده في إحدى المتابعات الدورية، في بداية حملها، وقالت له بشكل تلقائي عن الأمر، وقتئذ استوقفها عن متابعة الحديث، وسألها بأمارات وجهٍ لا تبشر بالخير:


-انتي والدة أمتى بالظبط؟


ردت عليه آنئذٍ بلهجة متريثة تحمل بعض القلق من سؤاله المباغت:


-من اربع شهور.


رفع حاجبيه بتفاجؤ جم، وسألها بنبرة مصدومة:


-ازاي؟


ازداد القلق داخلها، وسألته بغير فهم:


-ازاي إيه؟


تغايرت تعبيرات وجه "سامح" بطريقة باعثة على الخوف، وهو يحدثها باستهحان:


-ازاي تحملي تاني دلوقتي؟ ده كده مفيش فرق غير شهرين بين ولادتك وحملك ده؟ معرفتنيش ليه بالكلام ده من وقت ماكلمتيني؟


عصف الخوف بقلبها، مما يتضح من كلماته، التي توحي باحتمالية حدوث خطب ما سيء، في حملها في ذلك الوقت، وعلقت بتردد:


-أنا افتكرتك عارف.


ما جعله يهول الأمر، أكثر من كون ولادتها التي تسبق الحمل لا يفصل بينهما سوى شهران، هو إجراءها عمليتين إجهاض لمرتين متتاليتين، مما يؤكد له أن حالة الرحم لن تكون قادرة على حمل جنين آخر في ذلك الوقت، وحتى لا ينفعل في الحديث من استخفافها بخطورة الموقف الراهن، مسح وجهه بكفيه، وهو يزفر نفسًا مطولا، ثم عاد للنظر لها وهو يقول بتجهم:


-لأ معرفش، انتي مكنتيش متابعة معايا الحمل اللي فات عشان اعرف، ولو كنت اعرف مكنتش خليتك تكملي، ده خطر.


تضاعف الخوف بقلبها، وسألته بوجه مكفهر:


-ليه خطر؟


زفر نفسًا آخر بشكل مطول، ثم شرح لها بهدوء معبأ بالضيق:


-انتي والدة قيصري، لازم يبقى فيه فارق بين الولادة والحمل التاني في المتوسط سنة ونص وعلى الأقل خالص ست شهور، ده غير الإجهاض اللي اتعمل مرتين قبل كده واللي أكيد عمل إضرار في الرحم.


ازداد رجيف قلبها، وغريزيا وضعت يدها فوق بطنها، وسألته بارتياع:


-يعني هيبقى فيه ضرر على البيبي؟


أكد لها بطريقة لا تقبل الشك:


-أكيد طبعا، محتمل يحصل إجهاض مع تقدم شهور الحمل.


تهدج صدرها من شدة الخوف، وسريعا ما استفسرت منه:


-حتى لو أخدت حذري، ومتحركتش كتير؟


رد عليها باستيضاح:


-المشكلة مش في الحركة، المشكلة في حالة الرحم، لسه الأنسجة بتلم، وممكن يحصل تمزق في الرحم، خاصة في مكان الجرح، ده غير الكشط اللي حصل في مرتين الإجهاض، واللي ممكن يسبب أضرار تانية لو حصلت هتعمل مشاكل أكبر.


أُلجم عقلها عن التفكير، بعدما انتابها شعور بأنها أضحت على شفير خسارة جنينها، وسألته بتشتت:


-طب وإيه الحل؟


ضم شفتيه بطريقة تنم على الأسف، ثم رد عليها بعقلانية:


-أنا كنت معترض في الأول على الإجهاض، بس أنا شايف إنه الحل الوحيد قدامنا دلوقتي، لإن مشاكل اكتمال الحمل في حالتك ممكن توصل لاستئصال الرحم أو الوفاة.


اعترضت على فورها بخوف أمومي:


-بس أنا مش عايزه انزله.


عاد الضيق في الظهور على وجهه ثانية، من امتناعها الأهوج، وقال لها بمحاولة أخرى لجعلها تعدل عن رأيها:


-يا مدام داليا الموضوع مفيش فيه..


بتصميم غير قابل للرجوع فيه، نابعا من عاطفة أمومتها، قاطعت كلماته:


-قلت مش هنزله، ومتحاولش تقنعني، أنا هكمل في الحمل، وربنا أكيد هيوقف معايا وهيكمله من غير مشاكل.


كتمت آنة في حلقها، بعدما قد استعادت ما قاله في رأسها، وحتى تطمئن نفسها، أقنعت حالها أنها مجرد تقلصات رحم عادية، وستمضي مع مرور الوقت، وظلت هكذا لعدة دقائق، تتقلب على الفراش، عسى الوجع يخف قليلا، ولكنها وجدت أن الألم لا يزول، ولا يتوقف، حينئذ تسلل الخوف لقلبها، وقررت أن تهاتف طبيبها، حتى يقوم بفحصها، أزاحت الغطاء عنها، وكادت تنهض عن الفراش، لتجلب الهاتف خاصتها، الموضوع فوق سطح التسريحة، ولكن الدوار راح يداهمها، وأثقل رأسها، تسطحت السرير ثانية، وهي عاجزة عن معاودة النهوض، ولم تجد حلا في تلك الأثناء غير اللجوء إلى "زينة"، وبصوت بدا متعبًا، نادتها:


-زينة.


انتظرت لبضع ثوانٍ، وحينما لم يأتِها رد منها، كررت النداء بصوت أعلى، ولكنه في نفس الآن معبأ بالتألم:


-زيينة.


وصل صوت ندائها الضعيف إليها، في الغرفة المجاورة، وقتئذ سارعت في النهوض من فوق الأريكة، التي كانت جالسة عليها الدقائق الماضية، بالقرب من الصغيرين، تقرأ أحد الكتب، ودلفت مهرولة إلى داخل غرفتها، متسائلة بقلق:


-مالك يا داليا في إيه؟


عبرت ملامحها عن التوجع الذي انتشر في جسدها، وأخبرتها بنبرة يتضح بها إعياءها:


-تعبانة أوي.


تقدمت منها وهي تساءلها بنفس اللهجة القلقة:


-حاسة بإيه؟


أخبرتها بضعف وهي تضع يدها فوق أسفل بطنها:


-بطني بتوجعني أوي، كلمي دكتور سامح، خليه ييجي بسرعة.


هزت رأسها بإيماءة متلبكة وهي تسألها ببعض الربكة:


-فين موبايلك؟


أشارت لها بيدها نحو التسريحة خلفها، وهي ترد عليها بصوت متقطع:


-هناك.. على التسريحة.


قالت لها بعجلة بعد أن استدارت:


-طيب طيب، هكلمه أهو.


قضمت شفتيها وهي تحاول كتم تأوهاتها، من الوخزات التي تضرب في بطنها، وهسهست بتوجع:


-مش قادرة.


ازداد نبض "زينة" من كثرة توترها، ورددت وهي واضعة الهاتف فوق أذنها، بعد أن أجرت الاتصال بالطبيب:


-بيرن أهو، حاولي تتحملي شوية.


لم تنتبه "داليا" لما قالته الأخرى، فقد لفت نظرها، وكامل تركيزها، بقعة الدماء الصغيرة المتواجدة أسفلها، والتي طُبعت في الفراش من ثوبها، مما اتضح لها أنها منسابة من بين ساقيها، وما فاق صدمتها برؤية الدماء في تلك اللحظة، هو شعورها بتشوش الرؤية وتغبشها، وتدريجيا حطت سحابة سوداء فوق عينيها، وقبل أن تحجب الرؤية تماما، وتجذبها داخل غياهبها، هتفت باسم الاخرى بصوت خفيض بالكاد وصل إلى سمعها:


-زينة.

يتبع...


إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة شيماء مجدي من رواية مشاعر مهشمة الجزءالثاني، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية