رواية جديدة مشاعر مهشمة 2 لشيماء مجدي - الفصل 37
قراءة رواية مشاعر مهشمة الجزء الثاني كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
الفصل السابع والثلاثون
كان انتظار "عز الدين"، وتأجيل إخباره بمكان زوجته المخفي عنه، مشروطا بتحين اللحظة المناسبة، ولكن لم يكن من المعقول أن يراوغه بعد استماعه لما قال، ويستمر في إخفاء الأمر عنه، خاصة مع مرض طفله المفاجئ، لذلك رأى أن الخيار الأفضل في تلك الأثناء هو إخباره، حتى يستطيع التصرف معه إذا كان الطفل قد أصابه مكروها، يتطلب حينها وجود كلا والديه معه، وإذ ربما يستطيع اقتناص الفرصة جيدا تلك المرة، لإصلاح ما أفسده مع زوجته، بعد صمت دام للحظتين، استغرقهما "عز الدين" لتدارك سؤاله، رأى إن الإجابة الفضلى هو إبلاغه بالجزء الذي يخص ابنه، وأخبره وهو متحفز في وقفته:
-رائف تعبان.
انقبض قلبه، وازدادت سرعة أنفاسه، وسأله بخوف أبوي:
-تعبان ماله؟
تخبطت نظراته، وأجابه بعدم علم وهو على نفس الوقفة التي تقدم ساق نحو باب الفيلا:
-زينة بتقول سِخن فجأة، خلينا نروحلهم بسرعة وهكشف عليه واعرف ماله.
هز رأسه موافقا بتلهف شديد، وبدآ في التحرك سويا بخطوات متعجلة، استقل "عاصم" سيارته، وركب إلى جواره أخوه، كانت الوجهة غير معلومة بالنسبة ل"عاصم"، وقبلما يستفسر، وجد الآخر يقوده إلى حيث يتواجدون، بصمت راح يتبع وصفه في أخذ المنعطفات المسلوكة، التي تتخلل الطرقات الطويلة الذي سارها بغير تساؤلات مستفسرة، فقط يتطلع على الطريق أمامه، بنظرات يمتزج بها الشوق بالخوف، فقلبه كان منقسما لنصفين، جزء يتحرق شوقا لرؤية حبيبته، والجزء الآخر يموت رعبا للاطمئنان على صحة وليده.
❈-❈-❈
صوته الهادر غطى على صوت خرير الماء، مما تسبب في استثارة حفيظتها، أغلقت الصنبور على عجلة من أمرها، ولفت المنشفة بإهمال حول جسدها، دون حتى أن تجففه أولا، وخرجت مسرعة من المرحاض، قابلها بنظرات مشتاطة، ووجه يظهر عليه احمرار رهيب، كأنما كان مجاورا لأتونٍ عظيم، أو لهيب مستعر قد اتقد داخله، راودها القلق من هيئته المريبة، وقبل أن تستفسر منه عن السبب في اندلاع ثورته منذ لحظات، وجدته يهب واقفا، وتوجه نحوها بجسد متشنج من شدة الغضب، هادرا بسخط جلي:
-أنا عايز افهم الزفت ده بيكلمك ليه؟ هو نسى اللي عمله فيكي.
دون تفكير توصلت لمن المقصود من حديثه حينما وجدت الهاتف خاصتها بيده، وأجابته بتلقائية:
-مانا قلتلك داليا سابتله البيت وهو..
كأنما ردها المستخَف ضاعف من غليله، لوح بيده بحركة عصبية أمام وجهها مقاطعا كلماتها، وهو يهدر في نقم شديد:
-ماتسيبله البيت ولا يولوعوا هم الاتنين في بعض، واحنا مالنا.
انتفضت في وقفتها من قوة صراخه، حتى أنها رفعت يديها أمام وجهها كأنها تحتمي بهما من انفعاله الأعمى، مما جعله يندم في لحظتها من غضبه الأهوج، ضم شفتيه في ضيق من نفسه، وزفر نفسا مختنفا، ثم تقدم منها بعد أن تحكم في أعصابه، واعتذر منها بغير انفعال:
-معلش يا رفيف، بس انتي عارفة إني بتجنن لما البني آدم ده بيقرب منك، مابالك إن بعد كل اللي حصل بيرن عليكي بمنتهى البجاحة وعايزك تساعديه.
كانت متفهمة أسباب كرهه المنطقية للآخر، ولكن عصبيته العارمة حينما يتعلق الأمر به تجعلها تخشاه في بعض الأحيان، لذلك كانت عابسة الوجه وهي ترد عليه بغير رضاء:
-جاسم مش كل شوية تتعصب عليا، وبعدين أنا مش هساعده في حاجة، كفاية اللي داليا فيه بسببه وهي أصلا حامل.
حرك وجهه للجانب بحنق مكبوت، ولكن عندما انتبه من بين طوفان غضبه إلى آخر قولها، عاد بنظرهولها وقد ارتفع حاجباه في صدمة غير مبتذلة، مرددا في ذهول:
-حامل! حامل تاني؟ هي مش لسه والده؟
أومأت بخفة بالإيجاب، وأكدت بإيجاز:
-أيوه، حملت تاني غصب عنها.
ازداد ذهوله من ردها الذي سبق وقد سمعه بحملها السابق، واقتبس مما قالته بغرابة:
-غصب عنها! هو كل مرة؟
انتقلت أمارات الذهول لوجهها، ورفعت حاجبيها بتعجب من موقفه هو الآخر تجاه حملها، مرددة فيه بضيق مدهوش:
-انت كمان يا جاسم؟
صمت للحظة، حينما تدارك ردة فعله، خاصة أن الشأن لا يعنيه، ثم قال بنبرة عادية:
-مقصدش يعني، دي حاجة خاصة بيها، بس هو في إيه بجد، هي كل شوية بتحمل!
كلماته التي تبدو متضادة مع بعضها البعض، جعلت بسمة صغيرة تغتصب شفتيها، ثم سريعا ما أخفتها وعقبت بعقلانية:
-يا حبيبي ده بإيد ربنا، وبعدين انت هتزعل يعني لو خلفتلك كل شوية؟
استغلت الموقف لصالحها بتساؤلها الأخير، الذي تهرب "جاسم" منه، ومن نظراتها الثاقبة حينما استدار، وخطى خطواته نحو الفراش وهو يقول لها باقتضاب:
-لأ مش هزعل طبعا.
تبعته بعينين لاح بهما انزعاج واضح من نفس الطريقة المستخفة بقيمة الحديث في ذلك الأمر، وتساءلت بتجهم:
-أمال انت ليه مش عايزنا نخلف دلوقتي؟
تقدمت منه بعد تساؤلها، في حين تنفس هو مطولا، ثم رسم بسمة صغيرة على ثغره وهو يخبرها بهدوء:
-حبيبتي روحي نشفي شعرك وجسمك كويس، والبسي هدومك عشان متبرديش.
اغتاظت من تبديله للحديث دون ردا شافيا على سؤالها، وخاطبته في لهجة جادة، قائلة:
-جاسم رد عليا لو سمحت، وبلاش تتهرب زي كل مرة.
زفرة أخرى غادرت رئتيه، وهو يحاول ألا يقايل إلحاحها في فتح مجال للحديث حول تلك النقطة بعصبيته التي تخونه، رغم أنها لم يكن لديها أي نية للانجاب في ذلك السن، ورد عليها بتريث مصطنع:
-اتهرب من إيه بس، كل الحكاية ان انا وانتي وقتنا ضايع في الشغل، ده غير إن انتي لسه بتدرسي، يعني مش فاضيين لرعاية طفل خالص دلوقتي، فإيه المشكلة إننا نأجلها شوية؟
لم تقتنع بأسبابه المختلقة، وعلقت بتكذيب لما يدعيه:
-أنا عارفة إن مش ده السبب يا جاسم.
حرك رأسه للجانب بحركة تعبر عن نفاذ صبره، بينما هي كانت تعلم في قرارة نفسها، أن سببه الأول، والأهم هو مرضها، وتحذير الاطباء من تعرضها لأي ضغط عصبي، أو إرهاق يحتمل أن يعيد أعراض التعب التي قد تعافت منها منذ فترة قريبة. رفعت يدها محتوية وجنته، حتى تجتذب نظره، وبعد أن فعل، قالت له بنبرة هادئة تحاول بها طمأنته، وقتل مخاوفه:
-صدقني الحمل مش هيعمل فيا حاجة.
نظر لعينيها بتفحص، وسألها باستشفاف:
-انتي عايزه تحملي؟
ردت عليه بصوتها الناعم وكأنها تتوسله:
-عايزاك انت اللي تبقى عايز.
تعجب من تبدل اهتمامتها، ورغبتها الغريبة في الحمل رغم معرفتها بحالتها المرضية، التي تتطلب تصفية ذهنها، والبعد عن أي فعل يحتمل بذل مجهود يزيد عن المحتمل، وإنجاب طفل ورعايته الرعاية المطلوبة، يستنزف الطاقة، ويرهق البدن والذهن، ناهيك عن الأعراض المصحوبة للحمل والولادة ومما يُحتمل أن يكون له تأثيرا على جرح رأسها، مد كفه واحتوى يدها، وقال لها بصوت يتدفق منه العشق الممزوج بالخوف:
-رفيف أنا مش عايز غيرك، ومش عايز أي حاجة تعرضك لبذل مجهود كبير، يرجعنا لنقطة الصفر من تاني، ونرجع نلف على الدكاترة.
قبل أن تبدي اعتراضها على ما قاله، تابع بتملك بات زائدا عن اللازم:
-أنا سايبك تيجي الشركة براحتك، وده بس عشان أنا عارف الشغل اللي بديهولك، غير كده مكنتش خليتك تشتغلي ولا تتعبي نفسك في حاجة.
رأت في كلماته تحكم بالغ منه في مسار حياتها، وفي كافة خطواتها، مما آثار حنقها، وراحت تهتف باحتجاج:
-هتمنعني عن كل حاجة في الدنيا يعني يا جاسم؟ من وجهة نظرك دي هتبقى حياة؟
لم ينفعل في رده وهو يعلق بطيف أنانية:
-طالما هتبقى كويسة هتبقى بالنسبالي حياة.
بنفس النبرة الضائقة، أخبرته بتجهم:
-بس أنا كده مش هبقى كويسة.
أمام لهجتها المتحفزة، لم يستطع كبت انفعاله وهو يقول بجزع:
-وانتي لو جرالك حاجة أنا مش هبقى كويس.
كادت تعقب بوجه ما يزال مشدودا، مما جعله يرى أن الحديث بينهما أصبح عقيما، وإن طال عن ذلك الحد لن يأمن عواقبه، لذلك وأد الكلام في حلقها، وهو يرفع يده أمام وجهها، مردفا في ترجٍ مشوب بالسأم:
-أرجوكي يا رفيف، مش عايز نتخانق، مش كل شوية عشان خاطري، أنا تعبت.
لم يترك لها مجالا لإضافة حرف آخر، ونهض عن الفراش، تاركا لها الغرفة كلها، مما جعل الاختناق يتآكل بصدرها، فطريقته التملكية أضحت تضيق عليها الخناق، في كل خطوة تنتوي أخذها، فحتى وإن كان خوفه مبررا، ولديه كامل الأسباب به، هي ليست بطفلة صغيرة، حتى تُمنع من تحديد مصيرها بنفسها.
❈-❈-❈
استغرقت قيادته حتى مسكنها -الذي لم يتذكر "عاصم" نهائيًا أنه واحد من إرثها من أحد أبويها- ما يزيد عن النصف ساعة بقليل، وجد قدميه فور أن ترجل من السيارة تهرول نحو باب البيت، بأعصاب تكاد تكون متلفة ضغط على زر الجرس، وانتظر عدة لحظات تُعد، من شدة لهفته شعر كأنها دهر، ازداد نبضه وهو يستمع لصوت قفل الباب يُفتح من الداخل، الذي ظهر من خلفه زوجة أخيه، هاتفة بوجه شاحب يظهر عليه القلق:
-عز.
تخطاها "عاصم" إلى الداخل دون أن يطلب الإذن، راكضا بخطوات مشتتة لعدم علمه بمعالم البيت، وموضع تواجد "داليا" بالأخص، وحينما رآها أثناء بحثه الذي لم يكن محددا له وجهة، منزوية على أحد المقاعد تحمل ابنها المريض بين ذراعيها، خفق قلبه بقوة، ونادها بلهفة تقطر شوقا:
-داليا.
انقبض قلبها من سماعها صوته، رفعت عينيها له بصدمة مذعورة، تناظره بعينين حمراوتين، ظلت لبعض الوقت غير مصدقة أنها تراه نصب عينيها، ولكنها حينما تداركت وجوده اعتلى وجهها البغض على فورها، مما دمغ به من ذكريات مأساوية، شديدة البشاعة، ونهضت عن جلستها، وهتفت فيه:
-ابعد عني.
تجاهل ما قالته كأنما لم يمر عبر سمعه، وتقدم منها بخطوات تقوده لها دون تحكم منه، وهو ينظر لها بتوق شديد، مرددا بتلهف:
-داليا أنا..
بدت منهارة الأعصاب وهي تعود بجسدها للخلف، وتصرخ به بصوت أشد:
-قلتلك ابعد عني، خليك مكانك متقربش مني يا عاصم.
تدخل "عز الدين" حينما رأى حالتها المروعة، ووضع يده فوق كتف أخيه، وطلب منه بنظرة متوسلة:
-خلاص يا عاصم دلوقتي، أجل أي كلام، خلينا نتطمن على رائف الأول.
توجهت "زينة" نحو الأخرى، لتعطي لها الدعم والأمان التي تحتاجه، في حين خنع "عاصم" لطلبه مكرها، حينما تراءى له تدني حالتها أكثر مما مضى، وأومأ له بخفة وهو منكس رأسه لأسفل، ربت وقتئذ "عز الدين" على ظهره، فهو يعلم جيدا العذاب الذي أضناه في بُعدها، واستجابته لطلبه في ذلك الوقت، تعني أنه يكافح نفسه لئلا يثور أمام صدها، بعد كل ما حاق به، وتحمله الآونة الماضية بسبب افتراقها.
منذ أن دلف من باب البيت، وعلى الرغم من رفضها لاقترابه منها، إلا أنه عندما رأى وجهها الذي اشتاق لكافة تقاطيعه، وهو يتجاهل بقدر المستطاع خفقان قلبه، الذي يلح عليه بأن يرتمي بأحضانها، يبكي كطفل صغير وهو بين ذراعيها، يشكو لها مرارة شعوره في بُعدها عنه، ويريح قلبه من عذابه، ولكن خوفه على طفله المريض، يحول دون التعبير عن مشاعره المتلهفة لها، ويحتم عليه أن يصب كامل اهتمامه عليه. أبقى نظراته على أخيه، الذي يقوم بفحص الرضيع، والذي ما إن انتهى، حتى تساءلت "داليا" بصوت مشبع بالارتعاد:
-ماله ابني يا عز؟
أنزل السماعة الطبية عن أذنيه، وقال لها بلهجة مطمئنة:
-اهدي يا داليا، متقلقيش، عنده نزلة برد من تغيير الجو، والسخونية كانت مدوخاه، لإن الظاهر عنده من مدة ومحدش فيكم كان واخد باله.
انهمرت دموعها حينما شعرت بأنها السبب الأكبر فيما آلت إليه حالة ابنها، حيث إنها من غفلت عنه، حتى ازداد مرضه، تقدمت حينئذ "زينة" منها، وربتت على ذراعها، قائلة بنبرة لينة:
-خلاص بقى يا داليا متخافيش، عز طمنك أهو يا حبيبتي، هيبقى كويس.
حينما وجد "عاصم" أن خوف "داليا" لم يخمد، كما أنها لم تكف عن البكاء بعد، أراد أن يلجأ لحل آخر يبث الطمأنية إليها، تدخل في الحديث، وهو يعلو وجهه خوف غريزي تجاه ابنه، متسائلا بثبات مصطنع:
-مش محتاج ناخده المستشفى؟
رد عليه "عز الدين" وهو محافظ على نبرته المطمئنة:
--لا مش محتاج، أنا اديتله خافض للحرارة هينزل السخونية دلوقتي، هو محتاج بس يرضع وياخد الدوا اللي كتبتهوله وهيبقى كويس بعدها إن شاء الله.
أومأت له بهزات متتالية من وجهها وهي تجفف وجنتيها من الدمع المسال، وأردفت بصوت خفيض مشبع بالندم:
-حاضر، هرضعه دلوقتي حالا.
انحنت بجذعها نحو الرضيع، حملته بين ذراعيها، لتقربه من صدرها، اشتمت عبقه مطولا، ثم مسحت بيدها فوق وجنته، تحاول طمأنة نفسها بأنه بخير، ولن يصيبه أي مكروه طالما يوجد بين أحضانها. ناظرهما "عاصم" بنظرة مشبعة بالحنين، يريد ضمهما لصدره حتى يعوض الأيام المنقضية دونهم، ولكن قطع تلك النظرة، وشروده في رغبات قلبه أخوه، الذي حسه على الخروج معه، حتى يترك للأخرى الحيز لترضع طفلها دون ضغط منه. لم يعترض رغم رغبته الملحة في البقاء معها، رفقة وليدهما، وسار معه دون أن ينطق بحرف، حتى أغلق "عز الدين" الباب من خلفهما، حينئذ تذكر "عاصم" أمر الدواء الذي يحتاجه ابنه، وعلى الفور هتف متسائلا:
-إيه اسم الدوا اللي عايزه؟ هنزل اجيبه.
رد عليه ببسمة طيبة:
-هو كزا نوع، تعالى ننزل نجيبهم سوا.
هز رأسه في إيماءة بسيطة، وبدآ في السير معا إلى الخارج، توجها بالسيارة إلى أقرب صيدلية مجاورة، أبقى "عز الدين" أخاه في السيارة، في حين نزل هو لجلب الدواء، أراح "عاصم" رأسه المكدسة بضجيج أفكاره على ظهر الكرسي، على الرغم من انطفاء نيران خوفه المستعر بداخله، إلا أن لهيب الاشتياق لم يخمد بعد، حتى أن لقائه بها الذي كان ينبغي أن يبعث الطمأنينة لقلبه، أشعره بعدم الراحة تجاه أي محاول قادمة منه، لوصل حبال الود بينهما.
فتجاهلها له يثير ريبته، وعدم تلهفها لرؤيته بعد كل تلك المدة التي مضت، تجعله يتوجس خيفة تجاه مشاعرها ناحيته، أغمض عينيه وهو يزفر نفسا ساخنا، نابعا من احتراق صدره، أي مشاعر تلك التي توجد بداخلها له؟ وهي قد هربت في مكان غير معلوم، فقط حتى لا يكن لاحتمالية إيجاده لها وجود، وعند تلك النقطة فتح عينيه على مصراعيهما، فأنّى لأخيه علم بمكانها؟ وكيف كان يعلم عنوان بيتها المجهول عنه، وفي الوقت ذاته كان يشاركه في البحث عنها، والتخفيف عنه بالكلمات المواسية، هل كان يسخر منه الآونة الماضية وهو يتظاهر بمساعدته في محنته، وإظهاره أسفه على ما أصابه؟ في تلك الأثناء عاد إلى السيارة، وفور أن ولجها، ناظره "عاصم" بعينين متهمتين، متسائلا مباشرة بلهجة جامدة:
-انت كنت عارف مكان داليا؟
رمش في توتر من مباغتته بتساؤله الغير متوقع، وتلجلج في رده:
-لأ.. هو..
قاطع محاولته الواهية في التكلم، وتابع في إدانته بصوت منفعل:
-انت كنت عارف مكانها طول الفترة اللي فاتت دي ومتقوليش؟ يعني انت شايف الحالة اللي انا فيها وسايبني عمال ألف حوالين نفسي وانت عارف هي راحت فين يا عز!
فغر عينيه بصدمة من سوء تفكيره حياله، وسارع في النفي مرددا:
-أكيد لأ طبعا يا عاصم.
دون تحكم تمكنت منه عصبيته وهو يعلق بغير تصديق:
-أمال إيه؟ اللي حصل مش بيثبت كده.
قابل عصبيته بهدوء، وشرح له طبيعة الأمر بمصداقية واضحة:
-يا عاصم والله ماكنت اعرف، أنا لسه عارف النهارده الصبح من زينة، دخلت الأوضة عليها بالصدفة وهي بتكلم داليا، وعرفت إنها كانت على تواصل معاها الفترة اللي فاتت، بس كانت وعداها متجيبش سيرة لحد حتى ليا، خصوصا لما عرفت ان انا وانت علاقتنا اتصلحت ببعض.
من شدة انفعاله عجز عن رؤية الصدق في كلامه، وتابع في اتهامه مرددا:
-ومقلتليش ليه النهارده الصبح؟ ليه استنيت إلا لو كنت عايز تخبي؟
استمر في الدفاع عن نفسه باستيضاح أكبر:
-مكنتش عايز اخبي، وقلت لزينة تعرفك، بس زينة قالتلي إن داليا منهارة، وصحتها ضعفت لإنها مبتاكلش كويس، ومش حمل إنها تدخل تاني في حالة انهيار عصبية، وانت عارف إنها حامل وممكن تتعرض لنزيف أو تحاول تئذي نفسها زي ماعملت أول مرة.
بحمئة شديدة عقب على مبرراته بأسلوب فظ:
-انتوا مش هتخافوا عليها اكتر مني، كان لازم تقولي.
لم ينزعج من لهجته الفجة، وقابل كلماته بصدر رحب، حتى يمتص غضبه، قائلا بتريث متفهم:
-عندك حق، وعشان كده قلت لزينة تعرفك، ولو مكانش رائف تعب صدقني كنت هخلي زينة تجيلك تعرفك، أو كنت هجيلك أنا أقولك.
مع أسلوبه اللين، والغير منفعل، تدارك "عاصم" تسرعه في سن الأحكام، ومحاولته إلقاء الذنب عليه، رغم الصدق الذي ينطلق من كلماته، لذا تراجع عن موقفه المهاجم، وكبت غضبه، الذي ليس له يد به، وأومأ له بهزة بسبطة من رأسه، ينهي بها الحديث في تلك النقطة، وأدار محرك السيارة دون كلمة أخرى.
❈-❈-❈
من على بُعد عدة خطوات، وقفت تشاهد مشاعر أبوته تجاه طفليه، التي صنفتها مبتذلة، فالخوف المرسوم على وجهه لم تشعر ناحيته بأي صدق، فأنى له به تجاه "رائف" بالتحديد؟ وهو بلسانه صرح بكرهه له من قبل، لكونه شبيها لوالده. انفرجت شفتاها ببسمة ساخرة، حينما قرب فمه من وجنة الرضيع، الذي يحمله بين ذراعيها، وقبله بمحبة واضحة، انتبه "عاصم" في تلك اللحظة لوجودها في الغرفة، ورفع عينيه لها، حينما صدح صوتها، متسائلة بلهجة متهكمة:
-خايف عليه؟
تعجب من رنة الهزو في تساؤلها، وأجابها بتساؤل يحمل الاستغراب:
-انتي بتسألي؟
ردت عليه وهي تتقدم نحوه، بثبات مصطنع:
-ايوه بسأل.
احتل وجهه الضيق من جمودها معه، ورأى في حديثها تحفزا واضحا، ولكنه رد على كلٍ بلهجة ما تزال مشوبة بالتعجب:
-لو مش هخاف على ابني هخاف على مين؟
لاح التكذيب على تعبيراتها، وأخبرته في تجهم:
-متعملش فيها حنين اوي كده، انت لا بتحبه ولا بتطيقه.
ذُهل من اتهامها الصادم، وهدر مستنكرا سوء تفكيرها:
-انتي بتقولي إيه؟ ده ابني، ازاي تفكري إني مبحبوش؟
اشتدت ملامحها وهي تذكره بما سبق وقاله، مدمدمة في غلظة:
-عشان شبه باباك، ولا نسيت اللي قلتهولي؟
حافظ على وجود الرضيع الغافي في حضنه، ورد عليها بصدق غير مبتذل:
-أنا مش ناسي حاجة، ومش ناسي برضه إن اللي في حضني ده حتة مني، ومحدش لا هيحبه ولا هيخاف عليه قدي.
أصبح في كلامها هجوما شديدا وهي تسأله بأسلوب ناقم:
-بجد؟ ومفكرتش ليه فيه وانت في حضن الهانم؟
فكر مليا قبل أن يرد، حتى لا يتفوه بكلمة تزيد الحديث المستعر من البداية احتراقا، ولكنها رأت في صمته الذي طال، عجزا عن الرد، وأطنبت بصوت بدا منفعلا:
-مبتردش ليه؟ ولا يمكن معندكش رد تبرر بيه خيانتك ليا وأنا أم ولدين منك وحامل في التالت.
كظم غيظه من تصميمها على تحميله ذنب لم يرتكبه في حقها، أنزل الرضيع ووضعه بجانب أخيه النائم، وسار نحوها حتى لا يفزع أحدا منهما بصوته القريب من سمعهما، وقال بعدما أصبح أمامها مباشرة باستهجان مشوب بالهدوء الظاهري:
-انتي شوفتيها وهي بتحضني، صدقتي وقتها إني بخونك، واتطلقنا بعد ما طلبتي الطلاق وانتي بتهدديني بيكي، وخدتي الولاد من ورايا وبعدتي بيهم شهرين عني، مستنية مني بعد كل ده ارد أقولك إيه؟ ولا انتي مستنية إني احاول ابرأ نفسي قدامك وانتي تكدبيني ونعيده من تاني.
شعرت بغليان الدماء في عروقها، مما رأته مراوغة أخرى منه، ليجعلها تشعر بالذنب نحوه، وتندم عما بدر منها، في اتخاذ موقف جدي، نحو خيانته التي شهدتها بأم عينيها، مما جعلها ترى أن طباعه الخبيثة لن تتغير ابدًا، لذا وجدت أن الحديث لن يفيد معه، وقالت له بحدة:
-أنا مش مستنية منك حاجة، لا أنا ولا ولادي، وامشي من هنا يا عاصم.
ما كادت تلتفت لتترك لها الغرفة ريثما يغادر، حتى حال دون تحركها قائلا بجدية صارمة:
-ولادك دول ولادي أنا كمان، ولو انتي مش محتاجاني دي حاجة ترجعلك، لكن هم محتاجين لابوهم.
عادت بجسدها له ثانية، واشتاطت نظراتها وهي تعلق بحرقة:
-لما أبوهم يختار يبقى مع الست اللي بمنتهى البجاحة بصت في عين أمهم وهي بتقوله بحبك وتتجرأ وتبوسه، يبقى مش محتاجينه يا عاصم.
توسعت عيناه في صدمة جلية، وتساءل بتفاجؤ بالغ:
-مي كانت شيفاكي وهي بتقول كده؟
اهتاجت أعصابها من نطقه لاسم تلك الساقطة على مسامعها، وصرخت بنبرة مشبعة بالكراهية:
-متقولش اسمها قدامي.
اشتد وجهه من عدم حصوله على الإجابة المنشودة، واخشوشن صوته وهو يعيد السؤال عليها:
-ردي على سؤالي، كانت شيفاكي؟
تشنج جسدها من انتعاش ذاكرتها بذلك المشهد المثير للاشمئزاز، وأجابته صارخة:
-أيوه كانت شيفاني، كنت واقفة وشوفتكوا بعيني وانتو بتبوسوا بعض.
لم يتحمل ظلمها له بإصرارها على نسب تلك التهمة به، وهدر مدافعا عن نفسه بعصبية عارمة:
-أنا مبوستهاش افهمي بقى، مقربتش منها، ولا حتى من غيرها، انا من وقت ماتجوزنا ملمستش غيرك، ولا قلبي كان مع حد غيرك.
لم تعبأ باغضابه، وتابعت في تكذيبها المليء بالإدانة بتهكم معبأ بالغليل:
-وطبعا انت فاكرني داليا الهبلة بتاعة زمان اللي هتصدق الكلمتين دول وهتفرح بيهم وتاخدك بالحضن مش كده؟
بمزيد من العصبية، هتف أمام وجهها:
-انتي لازم تصدقي لإن ده اللي حصل، وهي دي الحقيقة، لا مي ولا مليون واحدة زيها تفرق معايا، لإني مش عايز أي حد غيرك.
تجاهلت رجفة جسدها، حينما عبرت جملته الأخيرة قلبها الرهيف، الذي يفتقد إلى سماع مثل تلك الكلمات المحتضنة لآلامها، ولكن خيانته المشهودة، جعلتها تراه محض كذب، يتلاعب عن طريقه بها، وتظاهرت بالجمود وهي تقول له:
-وأنا مش عايزاك.
نظر بعينين واثقتين بداخل عينيها اللتين يتطاير منهما الشرر، وهو يكذب ادعائها بثقة منقطعة النظير:
-كدابة يا داليا، انتي كل حاجة فيكي عايزاني.
خفت حدة نظراتها إلى حد بالغ، وعجز لسانها عن الاعتراض على حقيقة إلى الآن ما تزال واضحة، مما جعله يغرق بنظراته بخضراوتيها الساهمة، وتابع بصوت خبت منه العصبية:
-حتى عينيكي من ساعة ماجيت مابعدوش لحظة عني، لإني وحشتهم زي مانتي وحشتيني.
دنا منها بشكل بالغ مع نهاية كلماته التي تحمل اعترافا كان له تأثيره عليها، مما جعلها تشعر بخوار حصونها المنيعة، التي شيدتها بدموعها الأيام الماضية، لذلك حاولت إخماد ثورتها الداخليه، حتى تظل على ثباتها الذي بات مهزوزا، وأخبرته بغضب زائف:
-ابعد عني يا عاصم.
لم يتحرك قيد أنملة من أمامها، فقد تمكن منه اشتياقه المحموم لها، وأكمل بعاطفة باتت أقوى بهمس مُعذَب أمام وجهها:
-مش قادر يا داليا، مش قادر ومبقاش بإيدي.
عجزت عن الحركة أمام مرادفاته الآسرة، وتعلقت عيناها بعينيه وهو يتابع بنفس النبرة الخفيضة المؤثرة على دواخلها:
-انتي مش عارفة الفترة اللي فاتت عدت عليا ازاي من غيرك.
كان يتحرق لوعةً للتنعم بحضنها، والشعور بدفء أنفاسها، خلال تلامس شفاههما، بقبلة كان يتخيلها في أحلامه الفترة الماضية، اقترب خطوة أخرى، حتى صار لا يفصل بينهما مسافة تذكر، وأكمل بتوسل هامس:
-متبعدنيش عنك، بلاش تعذبي قلبي أكتر من كده.
تهدجت أنفاسها مع حُر أنفاسه التي تجول فوق وجهها، وترتطم بقوة فوق شفتيها المرتجفتين، الذي انتقل بنظره نحوهما، وهو يعترف لها لأول مرة في هيام واله:
-أنا بحبك يا داليا.
للحظة تاهت مع اعترافه الحصري الذي ضاعف من خفقان قلبها، ذائبة بنعومة مغرية أمام عينية المتخدرة من قربها المُسكر، مما جعله يظن أنها أعطت له الإشارة البيضاء لالتهام شفتيها، ولكن في تلك اللحظة تجسد أمام عينيها صورته رفقة الأخرى، في الوضع الحميمي الذي أتى بنهاية كل ما بينهما، وعند تلك النقطة تنبهت مداركها إلى أنها لم تعد تحل له، وانتابها النقم حيال محاولته لاستمالتها بنفس الطرق الملتوية ثانية، للانغماس في طريق الموبقات معه، وقبل أن يلامس فمه شفتيها، رفعت يدها وقامت بصفعه بكامل عزمها، ولم تمهله الفرصة لاستيعاب ما فعلته للتو، وابتعدت عنه كالملسوعة بصاعق كهربائي، وصرخت في وجهه وهي تشير بيدها نحو باب الغرفة:
-امشي اطلع برا.
برزت عيناه في محجريهما، بعدم استيعاب لتجرأها على الاقدام على تلك الفعلة المتجاوزة، وراح يمسك ساعدها وهو يهتف بها بصدمة قوية:
-انتي..
حالت دون تفوهه بكلمة زائدة، حينما ابتعدت بجسدها مجددا قبل أن تمسها يده، وهي تصيح في نفور جم:
-اوعي ايدك عني.
حملق بها بعينين متسعتين بشدة، ووقف يناظرها من موضعه، وهي تضيف بنفس اللهجة الصارخة:
-انت مش من حقك تلمسني، احنا اتطلقنا، يعني مبقتش احللك يا عاصم.
عجز عقله عن تصديق موقفها المهاجم، وظل ينظر له بنظرات مشدوهة، في حين أكملت محذرة إياه بطريقة غير متساهلة:
-وانسى إني ارجع معاك زي زمان تاني، انا نضفت من القرف ده، ولو انت عايز تفضل على وساختك، يبقى مع غيري مش معايا، سامعنى، مش معايا.
بقساوة شديدة ألقت كلماتها الغير متهاونة، والناهية لأي محاولة تودد منه لإنهاء ما بينهما من خلاف ومشاحنة، والتفت مغادرة الغرفة، باقيًا هو محله، مشدوهًا من كرهها الواضح له، مدركا للوهلة الأولى أن كل ما بدر منه معها، على مدار أكثر من ثلاث سنوات، تظهر نتائجه الهجومية الآن على كافة أفعالها، وكذلك ردود أفعالها.