-->

رواية جديدة مشاعر مهشمة 2 لشيماء مجدي - الفصل 40

 

قراءة رواية مشاعر مهشمة الجزء الثاني كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى




رواية مشاعر مهشمة الجزء الثاني 
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات 
الكاتبة شيماء مجدي 

الفصل الأربعون



إن كان من أمامها في تلك اللحظة هو "عاصم" القديم، بكل ما يحمله من شرورٍ، وبغاضة أسلوب، لكان نهرها، وعنفها على طريقتها الفجة معه في الحديث، خاصة أمام شخصٍ غريب، ولكنه قابل عبارتها النافرة، والمحتدة، بتعبيرات وجه هادئة، وكل ما فعله هو الإشارة بعينيه للطبيب، بنظرة يدعوه بها للانصراف، فهمها "سامح" على الفور، ونهض عن المقعد دون أن يفوه بشيء آخر، تاركًا الزوجين، ليحلا مشاكلهما الشخصية، دون تدخل من طرف ثالث، ولكنه قبل الخروج ناظر "عاصم" بنظرة، تناشده بالتريث معها، حتى لا يسوء وضعها، لأن العامل النفسي له تأثيراته على المرأة الحامل، حينئذ أومأ له "عاصم" بانصياع، وانتظر لحين خروجه، حتى يتعامل مع تمرد الأخرى، بالطريقة التي تعلَّمها خلال الفترة المنصرمة، من الجلسات المكثفة لعلاجه السلوكي، والنفسي، لا بطريقته الغليظة، والمخيفة التي كرهته إثرًا لها. وبعدما استمع إلى غلقه الباب، نظر لها بنظرة عادية، لا تحمل أي غضب، أو حتى نوع من أنواع الضيق، بوجهٍ مرتخٍ تمامًا، عاتبها بهدوء جاد: 


-المفروض تتكلمي معايا بإسلوب أحسن من كده.


حدجته بنظرة مستنكرة، وقد التوت شفتاها بحركة ساخرة، ثم علقت:


-انت آخر واحد تتكلم عن الإسلوب في الكلام.


مواصلة الحديث في تلك النقطة وهي مستمرة على نفس النهج الفظ، غير متوقعة التبعات، وفي نفس الوقت لا يضمن بقاءه على طور هدوئه، لذلك رأى أن يستسلم أمام أسلوبها الغريب، والمتحفز، وردد في خنوع:


-ماشي يا داليا، اللي انتي شايفاه.


رغم عدم تفوها بشيء خاطئ، إلا أنها راودها شعور خانق لإحراجه، وحتى تواري ما اختلج صدرها بغتةً، تنهدت مطولًا، ثم أخبرته بفتور وهي متحاشية النظر له:


-تمام يا عاصم، اتفضل يلا.


بغير فهم مصطنع، سألها:


-اتفضل فين؟


حولت نظرها له من جديد، وقالت له بجدية وهي تشير نحو باب الغرفة:


-اتفضل امشي.


مط شفتيه بحركة مفتعلة، مزيفًا تلقائيتها، وعاود إخبارها ببساطة:


-قلت هبات معاكي.


اشتد وجهها، وعقبت بانزعاج من طريقته المستفزة:


-وانا سألتك بصفتك إيه؟


انفرج ثغره ببسمة مصطنعة، وسألها بنبرة متهكمة:


-أنا مليش صفة في حياتك ولا إيه؟


تعمدت مضايقته، وهي تتشدق:


-هتبات معايا في الاوضة بصفتك ابن خالتي!


رفع حاجبيه بحركة مستنكرة، وعقب باستهجان غير منفعل:


-ابن خالتك بس؟ وابو ولادك دي مجيتش في بالك؟ ولا يكون بعد طلاقنا نويتي تنسيبيهم لحد تاني!


اغتاظت من نبرته المشوبة بالاستهزاء، وردت عليه بحدة محتدمة:


-لا متخافش مانويتش انسيبهم لحد، أنا مش زيك مكنتش ناوية اعترف بيهم أصلا.


زم شفتيه وهو يسحب نفسًا عميقًا، مثبطً به احتراق أعصابه، لفظه دفعة واحدة، قائلًا بصوت ثقيل:


-طب بما إنك بتحاولي تستفزيني..


وقف عن الإكمال متعمدًا حتى يسترعي كامل انتباهها، ثم تابع بهدوء وهو يتفرس بملامحها بنظرة ضيقة، متفحصة:


-فلعلمك بقى احنا لسه متجوزين.


فغرت عينيها بغير فهم لمَ فاه به، وتساءلت بعدم استيعاب:


-ده اللي هو إزاي!


حرك كتفيه بحركة بسيطة، وأجابها باستيضاح مستمتع، وكأنه يحقق انتصارًا، باستعادتها ثانيةً دون بذل مجهود:


-طلاقنا موقعش، لإني مكنتش عايز اطلقك، ده غير إن أنا مطلقتكيش رسمي أصلا، يعني شرعا وقانونا لسه مراتي.


انتابها الصدمة من تصريحه الذي لم يكن متوقعًا، ومن هول المفاجأة، وشعورها بالاختناق من استمراره على إجبارها على ما لا تريد، وكأنها كالبيدق يحركه كيفما يشاء، صاحت فيه بانفعال:


-ده مش بمزاجك يا عاصم، انا عمري ماهبقى مراتك تاني، اللي بينا خلاص خلص لحد كده.


بغير اكتراث لعصبيتها، وكأنما كان يتوقع مثل رد الفعل، قال لها بنفس البرود الهادئ:


-ده بالنسبالك، لكن اللي بينا لسه زي ماهو، مفيش حاجة اتغيرت..


قطع تكملة حديثه قصدًا، حتى اقترب بوجهه من وجهها، ونظر بداخل حدقتيها المتلألأة بغضب واضح، وهو يطنب بكلمات موحية:


-غير إني سايبك على راحتك، لحد ما اشوف أخرك.


دفعته بيديها من صدره، لتبعد عنها نظراته المهددة لثباتها، وهدرت به بعناد يرفض الخضوع له:


-وانا مش هرجعلك يا عاصم، متفكرش إنك هترجع تفرض عليا حاجة تاني، فالأحسن تطلقني.


بقى هادئًا مع كل ردات فعلها المتمادية، التي تستثير الأعصاب، ومع ذلك لم يستطع موارة اختناقه من إخفاقه في استرضائها، وباستغراب لتضخيمها تلك المشكلة خاصة بهذا الشكل المبالغ فيه، علق متسائلًا بذهول:


-كل ده عشان إيه؟


اعتلى وجهها القهر من كثرة الدوافع والأسباب التي أوصلتها إلى تلك الحالة الهجومية، وردت عليه بصوت يملأه الشجن:


-عشان حاجات كتير، لو انت مش فاكر انت عملت فيا إيه طول التلت سنين اللي فاتوا، فانا فاكرة، وبعد خيانتك ليا رغم كل حاجة عملتها معاك، وانت عارف كويس أوي أنا اتحملت إيه، وقد إيه، مش هقدر أسامحك وانسى وارجع معاك تاني..


نكس نظراته التي ملأها الندم لأسفل، فهي محقة في أكثر قولها، حيث إنه يعلم جيدًا ما تحملته، وعانته لأجله، وبسببه، ولكن الجزء الخاص بخيانته له، بريء من ذنبه في حقها، في حين تابعت هي بتصميم مشوب بالأسى، بعدما أبعدت عينيها الدامعتين عنه:


-وعشان كده احنا مينفعش نكمل مع بعض.


لم يحاول أن يبرئ نفسه ثانيةً أمامها، فما بدر منه معاها أفقدها الثقة به، ولن تصدق مهما فعل أي يكلمة يفوه بها، لذلك لجأ إلى محاولة أخرى لجعلها تعدل عن قرارها، واستطرد متسائلًا بإيحاء مقصود:


-هتقدري تبعدي وتعيشي حياتك من غيري؟


كادت ترد عليه بدون تفكير، توقع منه تأكيدها القاسي، لذلك قبل أن تتفوه بكلمة، استوقفها واضعا سبابته فوق شفتيها، وتمتم بصوت خفيض لتقارب وجهيهما:


-لو قلتي آه تبقي بتكدبي على نفسك قبل مايكون عليا، لإني متأكد إنك متقدريش تعيشي من غيري، عشان انتي بتحبيني..


ضغطت على أسنانها، حتى تخفي رجفة شفتيها من لمسته، وأنفاسه التي تلفح وجهها، وبهمسه الرخيم، الذي اقتحم حصونها المنيعة، تابع بوجد ثائر، وصادق:


-زي مانا بحبك ومش قادر اعيش من غيرك.


حتى لا يظهر تهدج أنفاسها المتأثرة من عاطفتها الخائنة، أبعدت يده عن وجهها، وأدارت رأسها للجهة الأخرى متظاهرة بالغضب من إلحاحه، بينما هو كان مترائيًا له التخبط الذي أحدثته كلماته، ولكنه لم يضِف كلمة أخرى، حتى لا تصنف حديثه إجبارًا متزايدًا، وتنفيذًا لرغبتها، قال لها بجدية:


-أنا همشي زي مانتي عايزه، وهسيبك على راحتك، بس مش معنى كده إني قابل بالوضع ده.


من بعد ذلك نهض من موضعه، وأخذ خطواته نحو باب الغرفة، قام بفتحه، وعبر من خلاله، وقبل أن يغلقه من خلفه، توقف محله، وثبت عينيه المشتاقتين عليها، كأنه يعيد حفر ملامحها في رأسه، وحينما طال وقوفه رفعت نظرها له، ولكنها عندما وجدت عينيه منصبتين عليها، بتلك النظرة التي نفذت دون مجهود إلى شغاف قلبها، حادت بعينيها سريعًا عنه، وداخلها أصبح متزعزعًا، بين الثبات على موقفها، وإعطاء فرصة أخرى لزواجها، بينما هو تنهد بتعب، من إصرارها على هدم ما سعيا بكل طاقتهما، لتشيده في علاقتهما الفترة الماضية، وبكتفين متهدلين نظر لأسفل بأسى، ثم أغلق الباب باستسلام تام.



❈-❈-❈


ارتكن بظهره على الحائط بجوار باب غرفتها من الخارج، وأعاد رأسه للخلف وهو مغمضَ العينين، منهكًا تمامًا، مليئًا بالهموم، فحتى لقياها أذاد ثقلَ قلبه، وحمله أعباءً فوق أعبائه، وأصبح خوفه من المجهول، ليس مختزلًا فقط على مستقبلهما معًا، الذي لا يتضح له ملامح، وإنما شاركه فيه حملها الذي جعل حياتها على المحك، فإن تركت نفسها لدوامة أحزانها، وأهملت في صحتها ثانيةً، ستصبح من دون شك على شفير الموت، ولن يقتصر الأمر على افتراق أحبه يسبب الشقاء، وإنما في تلك الحالة سيكون الفراق دون لقاء. عندما انتبه أخيه، الذي كان يقف رفقة زوجته، في بداية الردهة، إلى كونه خرج من الغرفة، حث "زينة" على التحرك نحوه، عندما أصبح على مقربة منه تركها هي للدخول إلى "داليا"، بينما توجه هو نحوه، وضع يده فوق كتفه، وسأله باهتمام نابع من رغبته في الاطمئنان عليه:


-انت كويس؟


فتح عينيه ونظر نحوه، وبعد زفرة مطولة، هز رأسه بإيماءة مؤكدة، ولكن تعبيراته وضحت النقيض تمامًا، التزم "عز الدين" الصمت، ولكن لم يخفَ الأسى -الذي يشعر به داخليًا على أخيه- من فوق ملامحه. بعد مضي عدة لحظات كسر حالة السكون التي سادت بينهما، تساؤل "عاصم" المشوب بتذكر أمرٍ كان غافلًا عنه:


-نائل ورائف فين؟


أجابه ببساطة بصوت عادي:


-سابوهم في البيت.


توسعت عيناه رهبةً، واستقام في وقفته وهو يسأله بخوف مشوب بالصدمة:


-لواحدهم!


سارع في الرد عليه مطمئنًا إياه:


-لأ طبعا رفيف صاحبة داليا معاهم.


تنفس الصعداء، وقد خفت حدة الخوف تدريجيًا من فوق قسماته، في حين تابع "عز الدين" مخبرًا إياه باستيضاح:


-زينة قالتلي إن داليا خلتها تكلمها في التليفون قبل ما يجوا على هنا، وقالتلها تروح تقعد بيهم لحد ما داليا ترجع من المستشفى.


مع ذلك لم يختفِ القلق من داخله، وتحدث بتحفز وهو يشرع في التحرك:


-هي أكيد مش هتبات معاهم، انا لازم اروح اجيبهم.


هز رأسه في استحسان، وقال له بلهجة ودودة:


-خلاص نروح نجيبهم سوا، ونكلم الناني بتاعتهم كمان تيجي تقعد معاهم النهارده، لحد مانشوف هتعمل إيه مع داليا.


حرك وجهه بهزة بسيطة، وكاد يتحرك، إلا أن "عز الدين" استوقفه مجددًا وهو يردف:


-استنى عرفني الأول انت هترجع لداليا هنا تاني، ولا أخلي زينة تبات معاها؟


ضم فمه للحظة وهو يلفظ نفسًا يعبر عن ضيقه، ثم رد عليه بوجوم:


-خلي زينة تبات معاها.


فطن من الانزعاج الذي لاح فوق وجهه، عدم تقبل الأخرى لوجوده معها، حيث إن الطبيب حينما خرج لهما، أخبره بمكوث الأخرى تلك الليلة، ورغبة "عاصم" في البقاء معها، وسأله باستشفاف:


-موافقتش تفضل معاها مش كده؟


ازداد الضيق المعتري وجهه، وهو يخبره بما يشبه التأكيد حاملًا توضيحًا لموقفه:


-بحاول اعملها اللي هي عايزاه، خايف اشد معاها وهي تعبانة بالمنظر ده تتعب اكتر.


ربت فوق ذراعه بخفة وعلق ببسمة بسيطة، مستحسنًا فعله:


-كويس، ربنا يهديك.


تجهم وجه "عاصم" من قوله، الذي آساء فهمه، وعقب باستنكار:


-انت شايفني مجنون؟


رفع حاجبيه بذهول من ترجمته الخاطئة لدعوته التلقائية، وعاجله في الرد موضحًا له حسن نواياه بمصداقية:


-أنا بدعيلك، بدعيلك يا عاصم.


زم فمه في عبوس، وندم على سرعة رده، كما أنه خشى أن تقوده مزاجيته السيئة إلى الدخول مع أخيه في نزاع، لذا رأى أن يبدأ في التحرك من أمامه، وأخبره بفتور بعدما بدأ في السير:


-هستناك في العربية.


رد عليه "عز الدين" بصوت ارتفع قليلًا لابتعاد الآخر عدة خطوات عنه:


-ماشي، وانا هعرف زينة واحصلك.


حرك رأسه في استنكار لأفعاله المتناقضة، إلا أنه في نفس الآن كان يتوقع حالة التخبط تلك، خاصة وأنه قد حدث تغير جذري في شتى أمور حياته، كما أنه يخضع لجلد ذات شديد، ومستمر من قبل ضميره، على كل ما اقترفه في سنوات حياته الماضية، ولهذا مهما بدر منه، سيكون متفهما لوضعه المشتت، بين ماضية المشين، وحاضره المستنزف، ومستقبله المجهول.


❈-❈-❈

 


حانت منها نظرة تعسة، نحو مهد رضيعيها، اللذين غفيا، بعدما أطعمتهما المربية، الطعام المسلوق الخاص بهما، مساء اليوم التالي، تحديدًا التاسعة مساءً، قد عادت إلى بيتها قبل ثلاث ساعات تقريبًا، وما جعلها تفقد أعصابها حينذاك، هو عدم وجود الولدين، ظنًا منها أنه قد أخذهما "عاصم" ليساومها بهما حتى تعود إليه، وقتها صححت لها "زينة" ظنها، وأخبرتها بأخذه لهما ليلة البارحة، كون صديقتها لن تبيت معهما، وحتى إن قررت أخذهما إلى بيتها، لن يطمئن "عاصم" عليهما، طالما لا يتواجد رفقتهما إي منهما، لذلك السبب رأى أنه من الأفضل تواجدهما في بيته، وجلب المربية كذلك للاعتناء بهما، ريثما تخرج هي من المشفى.


رغم أنها قد تخللتها الراحة من تفكيره في أمرهما بتلك الطريقة -مما طمأنها قليلا حيال حياتهما معه، إن وافتها المنية أثتاء ولادتها- إلا أنها صممت على إعادتهما في الوقت الحالي لأحضانها، آنئذ خابرت "زينة" زوجها عبر الهاتف، وأبلغته برغبتها، وبعد ما يقرب من الساعة، أتى "عاصم" حاملًا أحد الرضيعين، والآخر كانت تحمله المربية، التي تعجبت قليلًا من إتيانها رفقته، عندها أخبرها بأهمية تواجدها معها، لتهتم هي بما يخص الطفلين، كونها تحتاج إلى الراحة التامة، ومهمة الاعتناء بالطفلين، ستتسبب بمشقة كبيرة عليها، خاصة وأنها بمفردها، كما أن "زينة" لن يكون في مقدورها البقاء معها، حيث إنها تتقدمها في الحمل بشهرين، لتكون في شهرها السابع، وحملها ليس على ما يرام كذلك، بسبب الحادثة التي تعرضت لها قبل ثلاثة أشهر.


بعدما أبدى أسبابه المقنعة، بتلك الطريقة المجردة من الإجبار، وافقت "داليا" على تواجدها، فهي بالأساس كانت تحمل هم رعايتهما بمفردها دون معين، ولكن ما جعلها ترتبك، ويحل محل صمودها الواهي في حضوره، اهتزاز واضح سرى في جسدها -عبرت عنه نظراتها التي اضطربت، ويدها التي ارتجقت، من مسكته المباغتة لساعدها حينما كادت تلتفت لتدلف إلى غرفة الرضيعين- تساؤله بلهجة مستعطفة:


-مش عايزه ترجعي برضه؟


ابتلعت وقتئذ بتلبك، وأخفضت عينيها، اللتين حملتا نوعًا من الحنين، ولكنها في تلك اللحظة لم تستمع إلى صوت قلبها المشتاق، وإنما انصاعت إلى صوت العقل والمنطق، الذي دفعها من البداية إلى التغلب على تعلقها المرضي به، ورهابها من فقده، لما كانت تضمنه حياتها معه، من مساويء، ومشاكل متكررة، كانت تتغافل عنها، وتتحملها، أملًا في تبدل الحال، إلى حال أفضل، ولكنها عندما تيقنت من ثبات الوضع على ما هو عليه، حتى أن وعوده الذي قطعها عليها لأكثر من مرة بشأن التغيير، كان ينقضها مع أول مشكلة، كانت تدفعه بها عصبيته للاعتداء عليها بالضرب، والسب، والإهانة، وما أتى بالنهاية الحتمية هو خيانته لها مع حبيبته السابقة، رغم ادعائه بعدم وجود علاقة جامعة بينهما، وتظاهره بوفائه الكامل لها، رأت أن الانفصال عنه هو القرار الصائب، حتى وإن كان مناوئًا لرغبات قلبها.


ولكنها بتلك الطريقة سيتسنى لها الحفاظ على ما تبقى من كرامتها، ولملمة ما تحطم في نفسها. فما الذي يجبرها على تحمل كل ذلك التعسف، والاستبداد؟ ما الدافع الذي يبقيها في زواج تتجرع به مرارة المذلة، والمهانة على الدوام؟ أكان عليها أن تنتظر حتى يصل بها المطاف، لتتلقى نفس المعاملة الدونية، والمجردة من الإنسانية، أمام مرأى ومسمع من أطفالها، وتفقد حينها احترامها لنفسها؟ بعد تفكير طويل، في أبعاد عدة، وعرض ذكرياتهما معًا كالشريط على صفحة ذهنها، لم تتردد حيال قرارها، بل عقدت العزم على الاستمرار فيما بدأته، وهو الانفصال النهائي عنه، ورغم ذلك لم تستطع منع عينيها عن ذرف الدموع، وهي تردد بضغف بين جنبات نفسها، على ما آل إليه حبها:


-معدتش هقدر اعيش معاه، كفاية اللي شوفته منه.


انهمرت مزيدًا من الدموع الحارقة من عينها وهي تتابع، ولكن تلك المرة بصوت مسموع، منتحب:


-معدتش هقدر اعيش في تعب الأعصاب ده تاني.


احتضنت جسدها بيديها، كأنما تزود عن نفسها، من شعور الوجع الذي يداهمها، كلما تذكرت بطشه معها، وفي ظل انهيارها الكسير، وجهت عينيها نحو الرضيعين، أطالت النظر لهما، بتفكير بأمرهما، وبحياتهما التي تفككت قبل حتى أن يشتد بنيانهما، وقالت بتحسر:


-ذنبهم إيه يعيشوا حياة زي دي.


استحضرت في رأسها في التو، صور مستقبلية، متوقعة لهما، مليئة بالهواجس، والأفكار السوداوية، لما ستكون عليه شكل حياتهما، إن حافظت على زواجها المعقد، وجعلت نشأتهما بين شجاراتها مع "عاصم" المستمرة، كأنما يردعها عقلها عن التراجع، ويزيد من إصرارها في إبقاء طفليها، والطفل الآخر إن كُتب له الحياة، بعيدًا عن محيط والدهم، أو بالأحرى بعيدًا عن المشاكل التي من الأكيد إن شاهدوها، وترعرعوا بداخلها، سيكون تأثيرها السلبي مضنيًا على نفسيتهم، ومسار حياتهم، كنسخة مؤسفة من والدهم بالتأكيد، وبعد سحبها لنفسٍ مطولٍ، تمتمت بارتضاء لقرارها المصيري:


-كده أحسن ليهم، أنا كده بحميهم من الدمار اللي كانوا هعيشوا فيه بينا، ومعاه.



❈-❈-❈



تنهيدات الأسى، والندم، دائما ما يصحبها شعور الاختناق، الذي يجثم فوق الروح، حتى يود الشخص الصراخ، لإخراج كل ما يختلج الصدر. تنهد "عاصم" مطولًا، بعدما أفرغ بعض المكنونات لأخيه، التي لم يفصح عنها من قبل، ساردًا بعض التفاصيل المقتضبة، عن معاملته ل"داليا" قبل الزواج، بما تتضمن قساوته المتعسفة، نبذها المتعمد، هجرها المتكرر، وإساءة معاملتها، كالعادة لم يبدِ "عز الدين" أي تعبير محتقر، أو حتى تفوه بتعليق مهاجم، بل اكتفى بالصمت، خلال إنصاته المهتم، وبعدما انتهى، مد يده له بطبق المقرمشات الذي يتناول منه، منذ جلسا إلى جوار بعضهما البعض، في حديقة الفيلا، مردفًا بهدوء:


-تاخد؟


أدار "عاصم" رأسه له، يناظره بنظراته الحاملة للاستغراب، فقد توقع ردًا زاجرًا، أو حتى نظرة مزعوجة من سوء سجيته السابقة، إلا أنه دائما ما يفاجئه بردات فعله، أومأ له بالنفي، وعاد بنظره للأمام، أراد "عز الدين" أن يضفي نوعًا من أنواع المرح على الجو المحيط، وهتف بعدما ابتلع ما بفمه:


-بقولك إيه.


همهم وهو على نفس وضعيته البائسة، ليتابع "عز الدين" بنبرة ممازحة:


-الواد يونس بقى خايف منك، ماتحلق دقنك دي بدل مابقيت عامل شبه رجل الكهف كده.


اعتلى وجهه تعبيرًا ضائقًا، غير مستساغًا لأي نوع من أنواع المزاح في ذلك الوقت، وعقب بتأفف:


-حاكم انت فايق ورايق.


وضع طبق المقرمشات -الذي اكتفى من الأكل منه- أمامه على الطاولة الخشبية الصغيرة، وأراح ظهره للخلف، موسدًا أ ذراعيه خلف رأسه، وعلق بإسلوب مغيظ متعمدًا:


-مابقاش فايق ورايق ليه، مراتي بعاملها كويس ومبفارقهاش لحظة وابني بدلع فيه في الراحة والجاية، والحمد لله في حضني ومش بيبعد عن عيني أبدا، واستحالة استغنى عنهم ولا هما يقدروا يستغنوا عني، بذمتك مايبقاش ليا حق ابقى فايق ورايق؟


سأله بالأخير من قوله، بنظرة عابثة، حينئذ تحفز "عاصم" فب جلسته، من ذهولة باستفزازه، بدلًا من أن يهون عليه، تعت ملامحه وسأله باستهجان:


-هو انت جاي تخفف عني ولا تزود عليا؟


اعتدل "عز الدين" في جلسته، ولاح فوق قسماته الجدية وهو يخبره:


-لأ انا جاي احرق دمك الحقيقة، ما على كلامك ده داليا اتأخرت أوي في الخطوة اللي خديتها، يا أخي ده انت لو شاريها والله ماهيبقى ليا عين أقولها ارجعي لاخويا، ده احتمال اساعدها كمان في اللي بتعمله فيك وأقف معاها ضدك.


استثارت كلماته الزاجرة إزعاجه، حتى وإن كانت غير حاملة لأي هجوم، أو احتقار، وبنظرات امتلأت بالضيق، وبوجه ملأه العبوس، قال له:


-تصدق، والله أنا الغلطان.


ربت فوق كتفه بطريقة ساخرة، وعلق بهزل، وكأن لا يكترث لانفعاله الحانق:


-مصدق والله من غير حلفان.


اشتاطت نظراته من لهجته الباردة، وأخبره بنفس النبرة المنزعجة، المشوب بالضجر وهو متأهب في النهوض من جواره: 


-أنا قايم.


حال دون وثوبه صوت "أمل" التي أتت لتوها، حاملة طبقين من الكعك البيتي، الذي أعدته منذ برهة، مرددة بمحبة أمومية:


-خدوا يا ولاد، عملتلكم الكيك ده بإيدي، دوقوه بقى وقولولي رأيكم.


قابلها "عز الدين" ببسمة متسعة، ورائقة، ثم ثنى صنيعها بتملق زائد:


-تسلم إيدك يا أمولة، طعمه يجنن.


ضربته بخفة فوق وجنته، وهي تعلق بنبرة مرحة، متعجبة:


-يا ولا يا بكاش، انت لسه دوقت؟


نهض عن مقعده الخشبي، ووقام بإمساك يديها، قائلًا بنبرته المعسولة:


-وأنا أول مرة أدوقه من إيدكي، ده اي حاجة الإيدين الحلوين دول بيتحطوا فيها بييقوا عسل.


ضحكت ملء شدقيها، من طريقته المرحة المعتادة، في إرضاء الجميع، ثم تكلمت بلين وهي تنتقل بنظرها بينهما على التوالي:


-هتشغلني بكلامك المزوق، وهتخليني انسى اسأل عاصم عن رأيه.


ثبتت بصرها على "عاصم" وما لبثت أن تساءلت باهتمام:


-مش هتقول رأيك يا عاصم؟


سارع "عز الدين" في التكلم، قبل أن يبدي الآخر رأيه، مرددًا بمرح:


-لأ انتي مش محتاجة رأيه في حاجة، ده خلص في الثانيتين دول نص الطبق.


حدجته والدته بنظرة مشدوهة من قوله المجرد من الذوق، وعقبت بغير استحسان:


-الله، ما بالهنا على قلبه، انت هتقر عليه.


ببسمة ماكرة لم تخبُ من فوق فمه، كأنه يتسلى بالعبث معه، قال ببراءة مصطنعة:


-يا ستي انا اتكلمت.


على غير المتوقع لم ينزعج "عاصم" من مزاحه، بالرغم من تلك الحالة المهمومة الذي هو فيها، بل تقبله بصدر رحب، وعلى وجهه بسمة متأثرة من مرحه الذي لا يكف أو يكتفي منه، حيث إنه بات يشعر أنه من يعطي لذلك البيت معنى بعد رحيل زوجته. بعدما ابتلع قضمة الكيك، الذي استلذ بمذاقها، واستمتع برائحتها، التي أعادته إلى زمن بعيد، حيث كان طفلًا صغيرًا، ينتظر على أحد المقاعد المتواجدة بالمطبخ، بالقرب من والدته الراحلة، انتهاء الكعك التي كانت تعده خصيصًا له، وللغرابة كان يحمل نفس الرائحة والطعم المميزين، اعتلى وجهه تعبيرات ذاهلة من ذلك التشابه في الطعم وكذلك الرائحة بين كليهما، وأخبرها بإعجاب شديد:

 

-بصراحة طعمه حلو أوي، أنا ماكلتش كيك حلو كده من ساعة ما ماما ماتت.


تهللت أساريرها من إطرائه الطيب، وسعدت لتلك المقارمة التي عقدها، وأخبرته في تلهف حانٍ:


-ده انا على كده هعملهولك علطول، وأي حاجة نفسك فيها، اطلب انت بس.


لمعت عينا "عاصم" من اهتمامها الشديد به، الذي يلمس جزءً بأعماقه، ويذكره بوالدته الراحلة، بكل ما كانت تحمله له من مشاعر أمومية صادقة، لم تبخل يومًا في التغدق عليه بها، وتفاعل معها في الحديث، رادفًا بتلقائية:


-طب على كده بقى أنا نفسي في رز بلبن.


حاوطت وجنته بيدها بحنان غريزي، وجاء ردها مصحوبًا بحنان مضاعف:


-من عيني يا حبيبي، هعملهولك دلوقتي.


من هيئة "عاصم" المتأثرة بحنان والدة "عز الدين"، جعلت الثاني يتوقع انهيار قناع الثبات المتزعزع الذي يرتديه أخوه في أي لحظة، وبنفس الطريقة المعتادة منه، الذي يلجأ إليها للتجفيف من حدة الأجواء، تدخل في الحديث، متظاهرًا بالضيق، وردد بغيرة زائفة:


-هو أنا مش موجود ولا إيه؟


أشارت "أمل" ل"عاصم" بحاجبيها نحو ابنها بحركة ممازحة، وقالت له بوجه بشوش:


-هيغير اهو.


ضحك كل من الأخوين بخفوت متفاوت، وكان الأسبق "عز الدين" في التعليق ببسمة محبة:


-ابسط يا عم، موله كده راضية عنك.


أخفض "عاصم" عينيه الشجيتين لأسفل، وردد بامتنان بائس، بعدما نهض ليقف قبالتهما:


-أنا مش عارف أقولكم إيه.


حينئذ هتف "عز الدين" على عجالة، على نفس المنوال المخفف من وطأة الموقف، عسى من خلاله أن يزيل ذلك التكليف بينهم:


-هنبدأ بقى في جو الدراما بتاعك.


تقدمت منه "أمل" ومسدت فوق ذراعه برفق، وهي تقول له بعاطفة غريزية:


-متقولش حاجة يا عاصم، احنا أهلك، مش محتاج تقول أي حاجة عشان تلاقينا جنبك.


نفذت عبارتها إلى قلبه، لتجعل جسده يرتجف إثرًا لكم المشاعر الطيبة، التي تقطر من صوتها، أحس بلسعة الدموع في عينيه، رفع نظراته المنكسرة لها، وبحاجة ملحة طلب منها بصوت ضعيف:


-هو ينفع تحضنيني؟


أدمعت عيناها من طلبه المشوب بكل ذلك الحزن، وعلى فورها لبت حاجته، وضمته بذراعيه بعاطفة أمومية عارمة، مرددة بأسى على حاله المؤسف:


-يا حبيبي يابني.


مسدت ظهره بيديها برفق، وهي تتابع برجاوات نابعة من قلب طيب، حانٍ:


-ربنا يزيح عنك يا رب، ويردلك مراتك وولادك لحضنك تاني.


ترك العنان في تلك اللحظة لدموعه، وقد أراح رأسه فوق كتفها، وتشبث بذراعيه بثيابها، كأنه طفل صغير ضائع، يبحث عن حنان والدته الفاقد له، ولروحها، ابتلع غصة البكاء المتكونة في حلقه، وهسهس بنشيج باكٍ:


-ماما كان حضنها دافي زي حضنك، وأنا اللي كنت بمنع نفسي عنه.


سحب شهيقًا مطولًا يثبط به أنفاسه، وتابع بندم حقيقي:


-يارتني كنت سمعت كلامها من الأول، ياريتني ماسبت دماغي لبابا.


انهمرت دموع "أمل" حزنًا على ما أصابه، وأدركت لتوها حكمة المولى، ورحمته بابنها في إبعاده عن والده، الذي لم ينجُ ذلك الابن المُدمَر -الذي فضله عن ابنها، وخصه بأبوته- من شروره، وبطشه، بينما تقدم "عز الدين" وربت فوق كتف أخيه، وقد ترقرقت دموعه هو الآخر، وقال بلهجة يظهر بها كبحه للبكاء:


-مش بقول هيقلبها دراما.


في تلك اللحظة ابتعد "عاصم" بتمهل عن حضن طليقة أبيه، وحول بصره الذي يحمل العرفان بالجميل نحو "عز الدين"، معترفًا له بحقيقة ما يكنه له داخله:


-أنا بجد محظوظ إن ليا أخ زيك يا عز، حقيقي انت أخ متتعوضش، وأنا ندمان على اللي كنت عملته..


حينما استشعر إقباله على رفع السياج عما ارتكبه في حقه في السابق، من فعل يندى له الجبين، والذي لم يفصح عنه "عز الدين" لأي من والدته أو زوجته، سارع في التغطية على حديثه، قائلًا ببسمة مفتعلة:


-إيه يعني اللي عملته، مش خناقتين تلاتة اللي يخلوك كده، لا ارجع خشبلنا وشك تاني أحسن ماتبقى خرع بالشكل ده..


لم يأخذ وقتًا كبيرًا في فهم مدلول كلماته، الذي تفقه منها مواراته أمر الحادثة الذي قد دبرها لأخيه، حتى يتخلص عن طريقها من نسبه لعائلته، لذلك التزم الصمت المليء بالخزي، ولم يقاطعه، في حين تابع الآخر بتسلية:


-وبعدين يا عم انا اللي كنت بعديلك وبسيب حقي بمزاجي.


سعدت "أمل" للغاية، من اشتداد أواصر الأخوة بين الاثنين بتلك الدرجة الواضحة، ودعت لهما وهي تمسح فوق ذراعيهما بحنو:


-ربنا مايحرمكم من بعض أبدا.


ابتسم لها "عز الدين" ببسمة مشرقة، بينما لم يعلق "عاصم"، وقد أطرق رأسه لأسفل، كأنه يتحرج من النظر في عيني أخيه، من تسامحه، ونقاء قلبه، حتى أنه لم يفصح عن مساوئه الماضية، التي ارتكبها في حقه. ولم تلبث "أمل" أن أضافت بتحفز للتحرك عودةً إلى الداخل:


-أنا هروح اجيبلكم الشاي بقى عشان تاكلوا معاه الكيك، وبعدها اعملك الرز بلبن يا عاصم.


بعدما تأكد "عاصم" من ابتعادها عن محيطهما، وجه نظره لأخيه، وشكره بخزي شديد:


-شكرا يا عز إنك موحشتش صورتي في عينيهم.


ناظره بنظرات طيبة، وعلق بنبرة متسامحة:


-صورتك من صورتي يا عاصم، وانت اخويا الكبير، واللي فات مات خلاص..


لم يكَد "عاصم" يتأثر بمحبته الصادقة، إلا وأضاف الآخر بمزاح كان ثقيلًا تلك المرة، وفي غير موضعه:


-واحنا ولاد النهارده على رأي الست آمال ماهر.


فغر عينيه من تحويله لتلك اللحظات الاستثانئية بينهما، إلى هزل واهٍ، وعلق باستياء وهو يبدأ في السير من أمامه:


-انت مش طبيعي، أنا ماشي.


كركر "عز الدين" ضاحكًا، ولم يلبث أن لحق به إلى الداخل، ويعلو وجهه، سعادة غامرة، لم ترتسم على وجهه من قبل مثل الحين، وكأنه كان ينتظر تلك الأيام التي تجمعه بأخيه، حتى يجد معه روح العائلة، بما تتضمنه من ألفة، ودفء.



❈-❈-❈



زادته أفكاره في أمر "داليا" تخبطًا، وضيقًا، كونه لا يملك الجرأة للتقرب منها، مما يجعله غير قادرٍ على أخذ قرار جدي في الافتراق عن خطيبته، والتضحية بكل ما رسمه في مخيلته، بشأن حياة أخرى مرفهة، ومركز اجتماعي مرموق، وكل ذلك لأجل أوهامًا، وآمالًا لم تحقق على أرض الواقع بعد، ولا حتى توجد إشارة واحدة لاحتمالية حدوثها، ورغم ذلك كان عقله لا ينفك في التفكير في شأنها، حتى أهمل خطيبته إهمالًا واضحًا، وشعرت هي بذلك الجفاء الذي ساد بينهما من ناحيته، وعندما انتبه هو إلى ذلك، قرر أن يصطحبها في نزهة يوم عطلته الأسوبعية، حتى لا يضيع مجهوده طوال الفترة الماضية سدى، وهو على كلٍ لم يرتكز بعد على قرار محدد، ولكن المريب في الأمر أنه لا يريد بعث الحزن في نفس "سما"، وإشعارها بانتقاص اهتمامه بها، فالفترة الماضة تقوت صداقتهما، مما جعله لا يمل من مرافقتها، ولا الحديث معها لساعات متواصلة. أثناء شرود نظراته الموجهة نحوها، وهي على بُعد مسافة قليلة منه، تحادث بعضَ رفيقاتها، وتجلجل ضحكاتها، التي تملك صدى مميز، تبتسم له شفتاه بمجرد وقعه على سمعه، انتبه إلى الصوت الأنثوي المألوف، الذي هتف باسمه جواره بغتةً:


-كرم.


التفت برأسه نحو مصدر الصوت، وسريعًا ما توسعت عيناه تفاجؤً، وهتف على الفور باسمًا:


-مي! ازيك، انتي جيتي مصر امتى؟


انشقت شفتاها ببسمة واسعة، وعاتبته بأسلوبها المتغطرس المعهود:


-مانت لو بتسأل كنت عرفت.


اعتذر منها بلباقة وهو محافظ على بسمته الودودة:


-معلش، مشغول في كزا حاجة.


أشارت له بطرف عينيها نحو موضع وقوف "سما"، وسألته بمكر يندلع من عينيها الجريئتين:


-ودي حاجة من ضمن الحاجات اللي مشغول فيها.


ضم ما بين حاجبيه وهو يسألها باستشفاف للمقصود من إشارتها:


-قصدك على سما؟


ردت عليه بتساؤل لئيم:


-هي مش دي تبقى بنت توفيق العاصي؟


أومأ له بالإيجاب، مؤكدًا بإيجاز، رغم ما انتابه من عدم راحة تجاه سؤالها:


-أيوه بنته.


عاجلته بتساؤل مستفسر، وجريء كونها تجهل بأمر خطبته:


-وإيه علاقتك بيها؟


وضح لها طبيعة علاقتهما بنبرة عادية:


-أنا وسما مخطوبين.


اتسعت عيناها في تفاحؤ ملحوظ، وأتبع ذلك سؤالها الغير مصدق:


-بجد؟


تعجب من ردة فعلها المبالغ بها، وسألها بتوجس مستغرب:


-أيوه، في حاجة ولا إيه؟


عاد المكر للظهور في عينيها الكحيلتين ثانيةً، وهي تعلق بإيحاء مقصود:


-غريبة، أصلك شغال مع عاصم.


ضيق عينيه عليها كأنه يحاول سبر أغوارها، فقد ازداد شكه حيال تساؤلاتها من البداية عما يخص علاقته بابنة "توفيق العاصي" بالتحديد، وسألها بجدية:


-انتي عارفة إيه بالظبط؟


انفرجت شفتاها ببسمة خبيثة وهي تجيبه بغموض مثير للتساؤلات:


-نفس اللي انت عارفه.


انزوى ما بين حاجبيه باسترابة، ولكن قاطع حديثهما، وشروع "كرم" في التعليق على ما قالته الأخرى، قدوم "سما" التي هتفت باسمه بعدما أضحت بجانبه:


-كرم.


حول نظره تجاهه، ووضع بتلقائية ذراعه خلف ظهرها، سائلًا إياها باهتمام لا يخلو من التخبط الذي أصابه من حديث الأخرى:


-إيه يا حبيبتي؟ 


سألته بهدوء وهي تختطف النظر إلى "مي" بطرف عينيها:


-مش واقف معانا ليه؟


انتبه إلى نظراتها، التي توضح غيرتها، من وقفته المنزوية مع تلك الغريبة، لذلك عرف عن صلته بها على الفور، حتى لا يسمح للأفكار الخاطئة، بأن تجول في رأسها:


-أعرفك، مي شاهين، والدها رجل الأعمال المعروف شاهين الدسوقي، يبقى ابن خالة بابا الله يرحمه.


ببسمة صغيرة، رحبت بها باقتضاب:


-آه، تشرفنا.


تابع بعد ذلك بطريقة رسمية، كأنه لم يسبق وقد صرح عن صلته به منذ قليل:


-سما العاصي، خطيبتي.


بعجرفتها الشديدة، وصوتها ذات الرنة الأنثوية المعبأة بالزهو، قالت لها ببسمة مفتعلة:


-هاي يا سما، فرحانة اني اتعرفت عليكي.


بادلتها بسمتها بأخرى باهتة، وأخبرتها ذوقيًا:


-أنا أكتر.


لم تجد "مي" بدًا، من متابعة ذلك الحديث العقيم، مع تلك الفتاة التي صنفتها ساذجة، وحولت حديثها نحو "كرم"، متشدقة بقصد ذات مغزى لم يفهمه سواه:


-أوكي يا كرم، هروح أنا لصحابي، بس اعمل حسابك إننا هنتقابل تاني، المرة دي متتحسبش.


مد يده لمصافحتها، وقد حملت نظراته لغة معينة فهمتها هي الأخرى، وهو يؤكد برده الذي يرمي لأشياء عدة، تجهل ماهيتها خطيبته:


-أكيد طبعا، لينا قاعدة تانية مع بعض.


يتبع...


إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة شيماء مجدي من رواية مشاعر مهشمة الجزءالثاني، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية