-->

رواية جديدة في غيابت الجب لنعمة حسن - الفصل 1


 قراءة رواية في غيابت الجب كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى




رواية في غيابت الجب

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة نعمة حسن


الفصل الأول

" دموع وقدح قهوة "



كانت تطرق الباب بقهرٍ ويأس، دمعاتها تتسابق على وجنتيها كشلالٍ جـارف يأبى التوقف، ويداها تدق بوهنٍ تغلغل في أعماق روحها حتى باتت كالجسد الخاوي، بلا روح.


تفقدت بعينيها الباكية المارّة من حولها وهم يرمقونها بتعجب وغرابة كونها تقف أمام ذلك البيت الذي هجرهُ أصحابه منذ أعوامٍ عدة، ولكنها لم تفقه سبب نظراتهم المتعجبة تلك؛ فتراجعت خطوتين للوراء وتقدمت مثلهما نحو ذلك المقهى المجاور للبيت، ثم دلفت وهي تبحث بعيناها عنه علّها تجده يجلس بأحد الزوايا قبل أن يذهب تجاهها ذلك الرجل الثلاثيني والذي كثيرًا ما يراها في تلك المنطقة وخاصةً أمام بيت ذلك المنزل.


تنهد قبل أن يردف بإيجاز:

_ قولتلك قبل كده يا آنسة محدش في البيت ده، البيت ده مهجور من سنين وتقريبا كده والله أعلم أصحابه باعوه.


جففت دمعاتها بيديها سريعًا قبل أن تجيبه بصوتها المتحشرج وتقول:

_ لأ مش مهجور، أنا متأكدة إن صاحب البيت موجود جوه.


زمّ شفتيه بضيق من إصرارها العجيب، وقلّب كفّيه متعجبًا وهو يردد:

_ لا حول ولا قوة إلا بالله، على راحتك يا آنسة، أنا اللي أعرفه قولته، مش عايزة تصدقي بشوقك.


أومأت بهدوء، ثم انصرفت مغادرةً تسير في الطرقات هائمةً على وجهها، لا تدري أيُّ أرضٍ تطأ قدماها، ولا تدري أين قِبلتها، تسير شاردةً وهي تبكي بلوعةٍ وعيناها لا ترى أمامها من كثرة البكاء.


توقفت أمام منزلٍ ما تعرفه جيدّا، حثتها قدماها على الصعود ولكنها بقت مترددة إلى أن حسمت قرارها ودلفت.


صعدت إلى الطابق الثاني، ثم توقفت أمام تلك الشقة وطرقت الباب بأنامل ترتعش خوفًا.


إنفرج الباب وظهر 'حسين' من خلفه وما إن رآها حتى تهلل محياه مبتسمًا ونطقت عيناه بالهيام وهو يقول:

_ دليـلة!! إتفضلي..


دلفت بعد تردد، ولكنها لم يكن لديها خيار آخر؛ فإما أن تدخل وتنفرد به كي تستطيع أن تتحدث بأريحية، وإما أن تقف على الباب ويسترق الجيران السمع إليهما فيدرك الجميع غايتها ومطلبها.


توقفت بمنتصف الردهة فأشار لها بالتقدم قائلًا:

_ اتفضلي ادخلي ، تحبي أعمل لك شاي؟


نظرت إليه بعينين حمراوتين كجمرتين من نار، ثم أردفت بصوتٍ مهزوز:

_ فين جمال يا حسين؟


إنعقد ما بين حاجبيه متعجبًا وقال:

_ جمال؟! إشمعنا؟


= روحت له البيت صاحب القهوة اللي جنب البيت قاللي إنه البيت مهجور واصحابه بطلوا ييجوا..


ازدادت تقطيبة حاجبه؛ فتقدم منها وجلس قبالتها مباشرةً وقال:

_ مش فاهم! بيت إيه ومهجور إيه؟ 


= البيت اللي في حي الكسـار!


زم شفتيه متعجبًا وقال:

_ بس جمال مش ساكن في حي الكسار، وبعدين إنتي كنتي عايزة منه إيه؟!


كانت لا تزال على قيد الصدمة، كيف لا يقطن بذلك الحي؟ كيف لا يمتلك ذلك البيت؟ إذًا كيف اصطحبها إلى هناك مراتٍ عدة!



نظر إليها يستشف السبب وراء صدمتها تلك وقال:

_ طيب إقعدي ونتكلم…


ألقت بجسدها على الأريكة من خلفها وهي تنظر أمامها بشرود والفكر يعصف بها، فكرر حسين سؤاله وقل:

_ مقولتليش عايزة منه ايه؟! 


نظرت إليه وفاض دمع عيناها؛ ماذا ستفعل وبما ستخبره؟ هل تذهب وكأن شيئًا لم يكن؟ أم تقص عليه ما حدث علّه يكون ملاذها ومخرجها من ذلك المأزق.


أما هو؛ فلقد إنتابتهُ الحيرة والريبة من أمرها. علائم وجهها لا توحي بالخير أبدًا، نهض وجلس على المقعد المقابل لها مباشرةً وقال:

_ دليلة، جمال ضايقك؟ في مشكلة بخصوصه؟ لو في حاجه قوليلي وأنا هساعدك صدقيني.


نظرت إليه بشك بينما طالعها هو بنظرات مطمئنة وقال:

_ متقلقيش والله، اللي هتقوليه هيكون سر بيني وبينك… وتأكدي إني مهما حصل هساعدك بس إحكيلي مالك وعلاقة جمال باللي إنتي فيه ده إيه!


إبتلعت لعابها وهي تفرك أصابعها بتوتر وتردد ثم قالت بصوتٍ متهدج:

_ جمال….


أومأ برأسه يحثها على أن تستطرد حديثها لتتابع ما بدأت بقهرٍ وخزي:

_ جمال ضحك عليا ووعدني بالجواز!


جحظت عيناه بدهشة لم يكد يتخطاها إلا وأخبرته:

_ كنا بنتقابل في البيت اللي في حي الكسـار، وقاللي إنه ده البيت اللي هنتجوز فيه، بس أنا روحت له كتير ومش بلاقي حد هناك… 


حاول إستيعاب صدمته بها! ولكن كيف وهي من دق لها قلبه، كيف وهي من سكنت ثنايا قلبه وملكت جميع جوارحه وعلت رايتها بفؤاده منذ أن رآها للوهلة الأولى!


رآها تبكي بإنهيار، تتشبث بيده وتستجديه وتهذي بكلماتٍ لم يعي أيًا منها، قتمت عيناه وهو يسألها:

_ من إمتى الكلام ده حصل؟


أجابت وهي تنظر أرضًا بحرج:

= من فترة طويلة، من قبل ما يسيب المصنع ويمشي، و ليه كام شهر مش ظاهر ولا عارفه أراضيه فين، روحتله البيت اللي كنا بنتقابل فيه وقالولي محدش عاد بييجي هنا من سنين! دلّني والنبي يا حسين، أتصرف إزاي؟!


إنفلتت ضحكة منه… ضحكة ساخرة متهكمة، هل تطلب منه هو مساعدتها؟ وكيف سيتوجب عليه مساعدتها!! أومأ بعد أن زفر بضيق، ثم قال باختصار:

_ هروح له وأتكلم معاه..


قاطعتهُ عندما هبت واقفة وهي تسأل:

_ انت عارف مطرحه؟ دلني عليه يا حسين إعمل معروف.


هنا شرد حسين قبل أن يتفوه بصوت يكاد يُسمع وقال بحدة:

_ هروح له أنا الأول، جمال مبيتحطش قدام الأمر الواقع، لو روحتي له هيعند معاكي ومش هتاخدي منه حق ولا باطل، لازم أتكلم معاه الاول وبعدين نشوف.


هزت رأسها بإذعان لرغبته، ثم قالت:

_ جميلك ده مش هنساه عمري يا حسين، ربنا يسترك زي ما هتسترني..


طالعها بصمت.. لا يدري هل ينهض ويهشم عظامها على فعلتها تلك؟ أم يلتمس لها العذر ويدرك أنها ما أخطأت لولا الحب!


ذلك الحب الذي من الممكن أن يحول أنقى وأتقى البشر إلى مسوخٍ ملوثة تفوح منها رائحة الخطايا أينما غدت وصارت!


تمتم بكلماتٍ مقتضبة وقال:

_ ربنا يسترنا جميعًا يا دليلة.. 


صرف نظرهُ عنها فابتعدت وفتحت الباب مغادرةً وتركتهُ ينعي قلبهُ المكلوم!


❈-❈-❈


بعد أن وصلت دليلة، دخلت منزلها فوجدت والدتها تجلس فوق مقعدها الخاص وبين يديها مسبحتها وفور أن إستمعت إلى صوت الباب تساءلت:

_ دليلـة؟


إقتربت منها دليلة وانحنت قليلًا ثم قبّلت رأسها وقالت:

_ أيوة يا أمي.


ألقت بجسدها المتهالك إلى الأريكة البالية من خلفها وتابعت:

_ الله يحرقه الريس عزيز، ممشيني آخر واحدة من المصنع عشان رايحة متأخر.


تنهدت والدتها بضيق من أجلها وأردفت:

_ ما أنا قولتلك يا دليلة سيبي الشغل في المصنع و ادينا عايشين مستورين بالقرشين اللي بيبعتهم بلال أخوكي كل شهر وانتي مرضيتيش.


=وهي الفلوس اللي بيبعتها بلال هتعمل إيه ولا إيه ياما؟ دول يادوب بيكفونا نص الشهر وبقية الشهر بنشحت! وبعدين أنا لازم أشيل فلوس على جنب، بلال شغله على كف عفريت وممكن في أي لحظة الشركة اللي شغال فيها تصفي ويرجع إيد ورا و إيد قدام.


ربتت والدتها على قدمها وقالت بنبرة حنونة:

_ ربنا يقويكي على حِملك التقيل يا بنتي، شايلة همي و هم علاجي، ده إنتي حتى مش عارفه تشيلي قرش لجهازك.. بس إن شاء الله هتتعدل واول ما يجيلك إبن الحلال هتصرف.


ضحكت دليلة ضحكة ساخرة مقتضبة، ثم رددت بإيجاز:

_إبن الحلال؟! إن شاء الله، هدخل أنا أغير هدومي.


❈-❈-❈


بعد أن ولچت دليلة إلى غرفتها، وقفت أمام مرآتها الدائرية التي تهشم معظمها وتآكل، وظلت تتفحص هيئتها وتطالع بروز بطنها الذي شرَعَ في الظهور واضحًا بحسرة وندم وهي تقول:

_ ليه اخترتني أنا؟ ما في مليون ست يتمنوا يخلفوا وبيعملوا المستحيل عشان يحملوا، ليه أنا؟ أنا واحدة متستاهلش أي حاجه حلوه، أنا مستاهلش غير الحيرة والمذلة اللي انا فيها دلوقتي لأني ارتضيت أفرط في شـرفي عشان واحد مفيهوش ذرة رجولة ولا ضمير..


جففت دمعاتها من فوق وجنتيها، ثم استدارت واستلقت فوق فراشها شاخصةً ببصرها في سقف الغرفة الذي ملأته الشقوق والتصدعات وتذكرت يوم أن رأتهُ للمرة الأولى عندما حالَ بينها وبين تلك الفتاة التي كانت تعمل معها بالمصنع وفضَّ ذلك النزاع الذي نشبَ بينهما.


' إسترجـاع زمنـي '


بالكاد استطاع أن يسحبها بعيدًا عن تلك الفتاة التي كانت تعتليها وتكيّل لها اللكمات بقوةٍ ضارية، بينما تشنجت هي إثر إحكام قبضته على رسغيها فنظرت إليه بعينين متقدتين بالغضب وأردفت:

_ إبعد إيدك دي عني.


طالعها متعجبًا من هجومها الشرس وتساءل:

_ إبعدي عنها، البت فرفرت في إيدك!


ألقت عليها نظرة حانقة من جديد وهي تقول بِغل:

_ تموت ولا تغور في داهية، مبقاش غير كسر الستات دي تتكلم عليا كمان!


أمسك جمال برسغها بإحكام وقال وهو يحثها على السير معه:

_ طيب تعالي كده روقي دمك وسيبك منها.


ونادى بصوتٍ جهور:

_كوبايتين لمون يا هناوة..


تبعتهُ حتى أحضر لها كرسيَّا وأشار لها بالجلوس، ثم جلس على كرسي آخر مقابل له، إنتظر لثوانٍ حتى أسند العامل كأسين الليمون فوق الطاولة المستديرة التي تفصل بين مقعديهما، ثم تنحنح يُجلي حلقه وقال:

_ قوليلي بقا مالك بيها؟ عملتلك إيه نعيمة عشان تعملي فيها ده كله؟


رمقتهُ بحدقتين مشتعلتين مرةٍ أخرى وأردفت:

_ هو أنا لسه عملت فيها حاجه؟ دي لازم تتعلم الأدب عشان تاني مرة متتكلمش عن حد بالباطل.


= طيب قوليلي بس عملتلك إيه وأنا أجيبلك حقك منها تالت ومتلت.


_ الهانم بتقول إني مرافقة الريس عزيز.. أصلها فاكراني زيها وشي مكشوف وسيرتي على كل لسان!


زمّ شفتيه بأسف مردفًا على الفور:

_ لأ ملهاش حق، تستاهل اللي عملتيه فيها وزيادة.


أومأت بتأكيد، ثم إلتقطت كأس العصير وشربتهُ، ثم أسندت الكأس فارغًا وهي تقول:

_ متشكرين على اللمون.. هروح أنا أكمل شغلي عشان أمشي..


غادرت وهي تتمايل بأنوثة مهلكة دون تصنعٍ منها بينما تركت وراءها زوجٍ من الأعين ترصد خطواتها الفتّانة بنهمٍ وجوع، ثم مسح بإصبعيه جانب فمه مردفًا:

_ غـــزال! 


_ عــودة للحـاضر _


سحبت شهيقًا طويلًا وزفرتهُ ببطء مغمضةً عينيها ودموعها تسيل على جانب خديها بهوانٍ ويأس، ثم تمتمت بحسرة:

_ الله لا يسامحك يا جمال.


❈-❈-❈


في صبيحة اليوم التالي.


بداخـل غرفة صغيرة فوق سطح أحد العمارات القديمة التي يرجع تاريخها إلى مئات السنين.


كان جمـال يستلقي فوق فراشه نائمًا قبل أن ينهض فزعًا إثر تلك الطرقات التي ارتفعت فوق الباب فقال:

_ ميـن؟


_ "إفتح يا جمال أنا حسين".


كانت تلك الجملة لصاحبها الذي تشدق بها بصوته الأجش وتابع:

_ بقالي ساعة بخبط عالباب، كان ناقص السكان اللي في البيت يطلعوا يشتموني ويطردوني.


انفرج الباب وظهر جمال من خلفه مشيرًا إلى حسين بالدخول، ثم استلقى فوق فراشه من جديد.


دلف حسين وهو يتفحص أركان الغرفة باشمئزاز ونفور واضح، ثم تقدم نحو النافذة على الفور ودفعها دفعةً واحدة بيده وهو يقول: 

_ إنت طايق المزبلة اللي إنت قاعد فيها دي إزاي؟ وقاعد في العتمة دي ليه؟ ما نور ربنا اهو.. حتى الاوضة يدخلها الهوا بدل ما هي كئيبة كده!!


أفتر الآخر عن ثغره مبتسمًا بخفة وأردف:

_ معلش بقا ما إنت عارف المطرح اللي من غير ست بيبقا شبه القبر بعيد عنك..


ها قد واتتهُ الفرصة على طبقٍ من فضة كي يتجاذبا الحديث بخصوص موضوع دليلة فقال:

= و ليه متتجوزش؟ ناقصك إيد ولا رِجل؟


أجابه جمال متهكمًا:

_ لا ناقصني إيد ولا رِجل، ناقصني العروسـة!


= عروسة؟!


ألقاها حسين متعجبًا وتابع بتهكم مبطن:

= أومال دليلة راحت فين؟


نظر إليه جمال بصدمة وردد بغير تصديق:

_ دليلـة؟!


ثم انفجر ضاحكًا وظل يقهقه لثوانٍ طويلة وقال:

_ إنت بتتكلم جد؟ دليلة مين دي اللي أتجوزها؟


قطب الآخر جبينه بتعجب وقال مستفهمًا:

_ مش فاهم، ومتتجوزهاش ليه؟!


= وأتجوزها ليه؟ واحدة باعت شرفها وسلمتلي نفسها من غير جواز، بذمتك إنت دي تنفع تبقى مراتي ولا أم عيالي؟


طالعهُ حسين مصدومًا وقال:

_ تصدق إنك حيوان ومعدوم الضمير، البت الغلبانة معملتش كده غير لانها بتحبك وكانت فاكراك هتتجوزها، تقوم إنت بعد ما تاخد غرضك منها ترميها الرمية دي؟!


زفر متململًا بضيق، ثم قال:

_ بقولك إيه يا حسين هي كانت وكلتك المحامي بتاعها وانا معرفش؟ سيبك منها محدش كان قالها تفرط في نفسها، وبعدين أنا لا وعدتها بجواز ولا غيره، وغير كده كمان ما إنت عارف الكلام اللي كان داير عليها هي والريس عزيز من أول ما جت المصنع! يعني لا شريفة ولا حاجه!


قلّب حسين كفيه صدمةً لما يسمع، ثم نظر إليه بغيظ وسأله:

_ يعني عايز تفهمني إنك متعرفش إذا كنت إنت أول واحد يقرب منها ولا لأ؟!


ضحك ساخرًا بإقتضاب، ثم قال:

_ مبقاش شرط اللي بالك فيه ده، البنات دلوقتي بقت آخر فُجر، مش انا اللي هفهمك يعني يا حسين، ما إنت من قبلي في المصنع و ورد عليك أشكال من دي كتير.


هز حسين رأسه بخزي وأسف، ثم نهض مشحونًا بالغضب وقال:

_أنا مش لاقي كلام أقوله، ربنا يهديك وتعقل وتعرف إن بنات الناس مش لعبة.


رفع الآخر كفيه داعيًا وقال:

_ يــــا رب، مقولتليش كنت جاي في إيـه؟


أدار حسين مقبض الباب وهو يقول:

_ كنت جاي أقول لك إن دليلة ماشية تدور عليك ونفسها تشوفك، جتلي البيت بعد ما راحتلك المكان اللي كنتوا بتتقابلوا فيه واترجتني أجيلك وأقوللك تقابلها، في كلام ضروري هتتكلموا فيه.. هي قالتلي كده.


= كلام إيه اللي هنتكلم فيه؟ أنا ودليلة مفيش بينا كلام، مكانوش دول مرتين إتقابلنا فيهم هيخلوها تقرفني في عيشتي وتجري ورايا من هنا لهنا.


تقوّس حاجبيّ حسين دهشةً وقال:

_ يعني إيه؟ مش هتقابلها؟


=لا مش هقابل حد، انا مش فاضي لوجع الدماغ ده، ولو جاتلك تاني قوللها جمال بيقوللك مش عاوز يشوف وشك تاني و حلّي عنه.


رمقه حسين بامتعاض و هبّ واقفًا وقال:

_ تصدق إنك واطي وخسيس! أنا غلطان أساسًا إني جيتلك.


تقدم خطوتين للخارج، ثم تراجع مجددًا وسار نحو النافذة المفتوحة، ثم أغلقها بعصبية وهو يقول:

_ خليك بقا في العتمة يا جمال، اللي زيك ميستاهلش يعيش في النور.


ثم غادر مسرعًا بعد أن صفق الباب خلفه بقوة بينما كان جمال يتطلع في أثره باستهجان وهو يتمتم:

_ ماله ده!


ونهض بنشاط ثم دلف وأخذ حمامًا باردًا، ثم بدّل ملابسه وخرج مسرعًا ذاهبًا في طريقه نحو ذلك المطعم الذي يعمل به مؤخرًا.


❈-❈-❈


عاد حسين إلى منزله وهو يشعر بأن رأسه يكاد ينفجرمن فرط الغضب، ولج للداخل وأغلق الباب خلفه، ثم تمدد فوق الأريكة الموضوعة بالمنتصف تمامًا، أسند ذراعيه خلف رأسه وشرد بحديث جمال ليتفاقم غضبه أكثر وظل يطلق السُباب غيظًا.. وما أزاد حنقه أكثر عندما قفزت صورتها بخياله! لم يكن عليه أن يتذكرها الآن.. لم يكن عليه أن يحبها من الأساس!!


طرقات ناعمة على باب الشقة جعلتهُ يفطن هوية القادم قبل أن يراه، تنهد بأسى ولوعةٍ ونهض متجهًا صوب الباب وفتحهُ فرآها تقف على بُعد خطوتين من الباب وتتلفت حولها بحرج.


_ إدخلي يا دليلة.

قالها حسين، ثم ولّاها ظهره متجهًا للداخل مرة أخرى فتبعتهُ وأغلقت الباب خلفها.


جلس على الأريكة وأشار لها بالجلوس قائلًا برسمية:

_ اتفضلي اقعدي.


تجاهلت هي حديثهُ وتساءلت بلهفة:

_شوفت جمال؟


زمّ شفتيه أسفًا لرؤية حالها وأجابها دون إطالة:

_أيوة.


تهللت أساريرها واقتربت منه أكثر، ثم جلست على حافة المقعد المقابل له وسألته بلهفة واضحة:

_ وقولتله زي ما قولتلك؟


أومأ أن نعم بصمت وهو يطالعها مشفقًا؛ مما جعلها تشعر بالريبة فقالت:

_ وقال لك إيه؟


مسح حسين على وجهه بضيق شاعرًا بثقل قد أصاب جميع حواسه ومداركه، ثم نظر إلى الأرض واستجمع كامل قواه وقال:

_ قال إنه مش عايز يشوفك.


وقعت كلماتهُ عليها كوقع الموت؛ فنظرت إليه بعينين باكيتين وتهدل كتفيها بإحباط، وقالت بشفاهٍ مرتجفة:

_ قولتله إني عايزاه في حاجة مهمة؟!


أومأ مؤكدًا؛ فازداد حزنها ويأسها؛ مما جعله يتساءل قائلًا:

_ هي الحاجة دي مهمة أوي كده؟


أسقطت وجهها أرضًا وهزت رأسها بإيجاب؛ فتساءل مجددًا بفضول:

_ إنتي…. إوعي تكوني حملتي منه!!


نظرت إليه وانفجرت باكية فكان بكاؤها بمثابة إجابة صامتة على سؤاله الذي أصابها بالقهر؛ فأصبح يضرب رأسه بكفيه في غضبٍ وضيق وهو يصيح بها متشنجًا بعصبية بالغة:

_ ليــه؟! عملتي في نفسك كده ليه؟ ذنبه إيه العيل اللي في بطنك ده ييجي للدنيا وميعرفلوش أب؟!


نظرت إليه بإستفهامٍ حزين فأجابها قائلًا بحدة:

_ أيوة يا دليلة، جمال مش هيعترف بيه، جمال إستحاله يقبل إن العيل ده يتنسب له، ومش بعيد لو عرف بوجود العيل ده يختفي ومتعرفيش ليه طريق جُره تاني.. ده مش بعيد كمان يحاول يأذيكي لو عرف إنك حامل منه!!


دخلت في نوبة بكاء هستيري وأصبحت تصفع كلتا وجنتيها بكفيها في حسرةٍ ليستوقفها هو قائلًا بغضب:

_ بتلطمي؟ بعد إيه؟ بعد خراب مالطا؟ وكان ليه من الأول يا دليلة؟ ليه تبيعي نفسك بلاش وتمشي في الحرام؟


إبتلعت تلك الغصة التي تشكلت بحلقها ونهضت من مجلسها، ثم جلست أمامه على الأرض وأمسكت بيديه ترجوه وهي تقول:

_ عشان خاطر ربنا يا حسين تساعدني، إعمل فيا معروف ووصلني بيه وأنا هتفاهم معاه.


= مش هيتفاهم يا دليلة، مرواحك عنده لا هيقدم ولا هيأخر، جمال صاحبي وانا عارفه، ندل وخسيس وجبان واستحاله هيدبس نفسه في عيل وحكايات من دي.


_بس ده إبنه!


ألقتها بقهرٍ فقال: 

_إثبِتي! تقدري تثبتي؟؟


قطبت جبينها بدهشة؛ فنهض هو عن مقعده وساعدها كي تنهض بدورها ثم توجه نحو الطاولة المتموضعة بالزاوية والتقط القلم والورقة من فوقها، ثم دوّن بها عنوان جمال وأعطاها إليها وقال:

_ أنا مش عاوزك تزعلي مني يا دليلة بس أنا مفيش بإيديا حاجه أعملهالك… ده عنوان العمارة اللي ساكن فيها جمال، قاعد في الأوضة اللي عالسطوح، روحي له و اتكلمي معاه يمكن تقدري توصلي معاه لحل.


إلتقطت الورقة من بين يديه مسرعةً، ثم شكرته و غادرت على الفور.. بينما تركته ينظر في أثرها بحسرة مردفًا:

_ يا خسارة يا دليلة.. يا خسارة!


❈-❈-❈


كان جمال قد وصل للتو إلى المطعم، دلف وبدّل ملابسه بملابس العمل ثم بدأ بمباشرة عمله على الفور.


_ يا جمال، خد الطلب ده لترابيزة ٦. 


قالها زميله الذي ناداه فأجابه جمال متذمرًا وهو يقول: 

_ مفيش غير جمال هنا ولا إيه؟


إلتقط الصينية الموضوع فوقها قدح القهوة وهو يغمغم بكلمات حانقة، ثم توجه نحو الطاولة التي تحمل الرقم ٦ 


وصل أمام الطاولة، أسند قدح القهوة أمام تلك الجالسة التي تخفي وجهها خلف تلك المجلة وقال:

_ القهوة حضرتِك.


أخفضت المجلة ووضعتها فوق الطاولة فظهر وجهها الملائكي الذي سلب لُبّه وأسر قلبه؛ فظل يحدق بها تحديق البُلَهاء إلى أن إنتبه بغتةً على صوت مالِك المطعم وقد وضع يده فوق كتفه وقال:

_ إزي حالك يا جمال؟ مش جمال بردو؟!


أومأ جمال موافقًا وهو يقول بترحابٍ بالغ:

_ جمال يا فندم.


ثم سحب المقعد كي يجلس الآخر الذي جلس مقابل مقعد إبنته وقال: 

_ شربتي قهوتك من غيري يا بوسي؟


نظرت إليه تلك الحسناء وابتسمت حتى تبينت نواجزها وقالت:

_ هما اللي جابولي القهوة أول ما نزلت.


نظر إلى جمال الذي أسرع قائلًا:

_ والله يا حلمي بيه مانا اللي طلبت القهوة، هما اللي قالولي وديها على ترابيزة ٦ قومت جبتها.


ضحك حلمي عاليًا وقال:

_ وإنت مالك خُفت كده ليه؟ على العموم تسلم إيدك، ممكن بقا تجبلي قهوتي؟


أومأ جمال أن نعم، ثم انصرف من أمامه على الفور وأسرع كي يُحضر له قهوته، بينما نظر حلمي إلى إبنته وقال مبتسمًا:

_ مكملناش كلامنا، عمك كارم مستني الرد، أقولله إيه؟


زفرت بخفه قبل أن تستطرد حديثها وتقول: 

_ مانا قولتلك يا بابا مش عايزة، سعيد ده مش مناسب ليا خالص، ده لا تفكيره شبه تفكيري ولا في بيننا توافق من أي نوع، مقدرش أرتبط بواحد مختلف عني لمجرد إني أرضي عمي وبس!


أردف بعد أن حك أنفه بطرف إصبعه:

_طبعًا محدش يقدر يجبرك على حاجة، وانا رأيي من رأيك، مينفعش توافقي على واحد إنتي مش مقتنعه بيه لأي سبب من الأسباب.


أومأت بتأييد؛ فأردف هو مكملًا:

_ بكرة أنا هتكلم مع عمك واقولله إن الموضوع منتهي بالنسبة لك.


وتابع مبتسمًا:

_أهم حاجة راحتك يا حبيبتي.


منحتهُ إبنته إبتسامة صافية كانت تحمل معها كل الحب والامتنان، ثم رفعت قدح القهوة أمام شفتيها وهي تحيطه بكفيها تستمد منه الدفء، ثم إرتشفت منه رشفةً أخيرة، ثم أسندته فوق الطاولة من جديد قبل أن يحضر جمال وبحوزته القهوة الخاصة بوالدها.


وضع جمال القهوة أمام والدها مردفًا:

_ اتفضل القهوة يا حلمي بيه.


_متشكر يا جمال، إتفضل إنت.


إنصرف جمال كي يتابع عمله سريعًا ولكنه ظل مشغولًا بها.


معالم وجهها الصافي البريء تضطرك إلى الغوص فيها، تُبحر داخل عينيها الواسعتين باحثًا عن مرساك ولكنك لن تجده؛ فتكتشف بعدها أنك قد أُسِرت بجمالها الأخاذ وتبقى غريقًا للأبد.


يُتبع..

إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة نعمة حسن، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية