رواية جديدة مشاعر مهشمة 2 لشيماء مجدي - الفصل 41
قراءة رواية مشاعر مهشمة الجزء الثاني كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
الفصل الواحد والأربعون
منذ اللحظة التي علمت بها بفداحة ذنبها، وقد عكفت على تغيير نهج حياتها، بالابتعاد عن طريق الآثام، بما يتضمن كل ما هو محرم، ويقود إلى اقتراف الذنوب. استمرت في بحثها المهتم في أصول دينها، بمشاهدة التسجيلات الصوتية للدعاة، ورجال الدين، ورغم اضطرابها في بادئ الأمر، وعدم علمها من أين تبدأ بالتحديد، إلا انها همت بعزيمة شديد على تنفيذ ما يدعون إليه، ويرشدون إلى فعله، آملةً أن تنول رضا المولى، وغفرانه على ما مضى من سيئاتها.
كانت "زينة" مرافقة لها في كل خطوة تتخذها، تحفزها وتقوي من عزمها، كما كانت تجيبها على كافة تساؤلاتها، وعندما تعجز عن توضيح بعض الأمور تلجأ إلى أهل العلم، إلى أن تهادت لارتداء الحجاب، حتى وإن كان في البداية مقتصرًا على تغطية شعرها، فطريق الهداية لشخص كان كل ما يأبه به هو ما ينوله من متاع الدنيا، ونعيمها، إرضاءً لهوى نفسه، وميلها، من الطبيعي أن يكون صعبًا، ومتعسرًا في البداية، وحتى يكون مسلكه نابعًا من القلب، يجب أن يُسلك عن قناعة وحب، وليس عن إجبارٍ، أو ترهيب، حتى لا يثقل كاهله، ويجد مشقه في اتباعه.
لذلك لم تظهر لها "زينة" الجانب الغير مقتنع بكونه غطاء رأس أكثر من حجاب شرعي، ورأت أنه من الجيد أن تبدأ في ذلك التغيير، الذي يعد جذريًا بالنسبة لطبيعة ثيابها الأوروبية العارية، فدرجات الهداية كالسلم بالضبط، ومجاهدة النفس في صعوده، أفضل بكثير من الوقوف عند أول درجة، مهزوزًا نحو الإقدام على أول خطوة. ولهذا السبب كان يلوح فوق وجهها السعادة من اتخاذها لتلك الخطوة الفارقة، وتنفيذها بتلك السرعة دون تردد، أو ارتداع.
وقفت "داليا" تتفقد هيئتها الجديدة في المرآة، بذلك الحجاب الملفوف حول وجهها، الذي أعطى لها جمالًا فريدًا، ومتفردًا. وبعدما ظلت لبضعة دقائق تتابع كل زاوية من وجهها، بهذا الشكل الجديد، والمُبهر، على عكس ما ظنته تمامًا، وتخيلته في رأسها قبل ارتدائه، هتفت تسأل الأخرى عن رأيها، بصوت متحمس، وعينين براقتين تحدق في وجهها الذي يظهر انعكاسه في خلفية المرآة:
-إيه رأيك؟
تبسم وجهها، وأثنت بحبور على جمالها الذي ازداد بصورة أخاذة:
-ما شاء الله، زي القمر فيه.
التفت لها وعلى وجهها بسمة مسرورة، ورددت بنفس الحماس:
-أنا فرحانة أوي بالتغيير ده، وإني بقيت حد تاني مكنتش اتوقع في يوم إني اكونه..
اعتلى محياها تعبيرات محبة، وممتنة وهي تضيف:
-وفرحانة اكتر بوجودكم معايا، انتي وعز وطنط امل، لو أهلي كانوا عايشين مكانوش عملوا معايا زي مانتوا مابتعملوا.
نهضت عن جلستها، وتقدمت نحوها، وهي تعلق بودادة:
-ماحنا اهلك يا داليا، وبعدين احنا مش اتفقنا اننا بقينا اخوات.
هزت رأسها في إيماءة مؤكدة، وقد ترقرقت عيناها بالدموع وهي تخبرها بنبرة متأثرة:
-أيوه اتفقنا، بس بجد شكرا يا زينة على كل حاجة.
أمسكت بيدها بحنوٍ، وعاتبتها في رفق:
-في واحدة بتشكر اختها برضه؟
أومأت بالنفي وهي تبتسم لها بسمةً تقطر بمحبة أخوية، حتى وإن لم تكن بالدم، وبينما تمسح بأنامل يدها فوق وجنتها، العبرات التي انسابت رغمًا عنها، وقع على سمعها صوت جرس باب بيتها، توجهت لفتحه على الفور الخادمة، التي أرسلها "عاصم" لتتدبر شئون البيت خلال تلك الفترة العصيبة من حملها، وبعد عدة لحظات استمعتا إلى صوت صديقتها المستفسرة عن تواجدها، حينها تحفزت "داليا" في وقفتها لاستقبالها، وفي اللحظة التي دخلت بها الغرفة إليهما، تساءلت باهتمام:
-رفيف، اتأخرتي ليه؟
وهي تأخذ خطواتها نحوها، قالت بتأفف:
-أوووف، الطريق كان زحمة أوي، لدرجة اني اتخنقت وكنت عايزه انزل من العربية واخدها جري لحد هنا.
ابتسمت باتساع، وعلقت بصوت ضاحك:
-مجنونة وتعمليها.
توقفت "رفيف" أمامها، وجابت بنظراتها المحبة وجهها، وبعد لحظات قليلة من التفحص المنبهر، علقت على هيئتها الجديدة بإعجاب شديد:
-حلو أوي عليكي.
اكتفت برسم بسمة مسرورة على شفتيها، ثم قالت لها وهي تمسك بيدها:
-اعرفك بقى على زينة.
أشارت "داليا" نحو صديقتها باليد الطليقة، وعرفت عنها للأخرى بصوت مشبع بالحب:
-رفيف، صاحبتي من واحنا عندنا أربع سنين تقريبا.
مدت حينئذ "رفيف" يدها لتصافح "زينة"، قائلةً بلهجة طيبة:
-هاي يا زينة، داليا مش بتبطل كلام عنك خالص.
صافحتها "زينة" بأسلوب مهذب، وعلقت ببسمة ودودة:
-ولا عنك برضه، لدرجة إني كنت متحمسة أوي إني اشوفك من كلامها.
تدخلت "داليا" في الحديث، وحاوطت صديقتها بذراعيها، معقبةً بمرح مشوب بالحب:
-معنديش غيرها بقى، صحاب من واحنا عندنا أربع سنين بقولك.
نظرت لها "رفيف" من طرف عينيها بنظرة مكذبة، ثم أخبرت الأخرى بضيق مصطنع:
-مكناش صحاب من وقتها على فكرة، كانت رخمة ومش بتلعب معانا لما كنا بنروح النادي.
وقتئذ ابتعدت عنها "داليا" وعلقت بعبوس:
-يعني انتي اللي كنتي بتيجي تلعبي معايا.
تحفزت "رفيف" في وقفتها، وعقبت باستنكار:
-هلعب معاكي ازاي وانتي علطول كنتي لازقة في ديل واحد رخم زيك، ومش بتتحركي من جنبه.
كانت "زينة تتابعهما بوجه ضاحك، إلى إن استرعى اهتمامها تعليق "داليا" على الأخرى، بوجه اُرتسِم عليه تعبيرات جادة:
-قصدك عاصم.
ارتفع حاجبا "داليا" بتفاجؤ، ورددت بذهول:
-إيه ده كان عاصم بجد! لأ أنا فاكرة إنه كان رفيع، لكن..
بترت "داليا" باقي حديثها حينما قالت بنبرة واثقة:
-متكمليش هو عاصم، مكنتش باجي أصلا مع حد غيره.
انشقت شفتاها ببسمة عابثة، وأشارت ل"زينة" بحاجبها وهي تخبرها بتهكم:
-واضح كده إنها كانت بادئه رحلة المعاناة معاه بدري أوي.
لاحت بسمة صغيرة مشبغة بالحنين فوق وجهها، ثم استطردت:
-كنت متعلقة بعاصم أوي وانا صغيرة، وبشبط فيه، وعشان يريح دماغه من زني كان بياخدني معاه النادي، عشان ابقى اسيبه يخرج من البيت لو رايح حتة تانية.
غامت ملامح "داليا" خلف حزنها الدفين، وأطنبت بندم:
-ياريت حكايتنا فضلت على قد كده.
❈-❈-❈
مرر يديه في خصلات شعره، فاركًا رأسه لأكثر من مرة، كأنه يزيل بتلك الحركة المتكررة، الصداع الذي يداهمه، ويؤرق عليه نومه. لقد تخطت الساعة الثالثة صباحًا، وما زال النوم لم يزور طرفيه، ولم يتبقَ غير أقل من ثلاث ساعات على موعد استيقاظه، حتى يتهيأ للذهاب إلى مقر عمله، وعدم نومه لساعات كافية بدأ تأثيره في الظهور على انتقاص تركيزه، وخموله أثناء مباشرة العمل. لفظ نفسًا مطولًا يظهر به اختناقه، وكمده، فلا هي ترحمه وتعود إليه، ولا هو يرحم جسده الذي أنهكه.
عندما وجد أن كل محاولاته في استحضار النوم باءت بالفشل، قرر أن يعبث بهاتفه قليلًا، عسى أن تؤثر إضاءته على عينيه، بشكل أو بأخر، وتجعله يخلد إلى النوم. مد يده ملتقطًا الهاتف من فوق الكومود، وظل يتنقل من برنامج إلى آخر بغير اكتراث، حتى انتابه الملل من عدم وجود شيء يسترعي اهتمامه، إلى أن قرر إعادته إلى موضعه، خاصة وأن النظر به، والغرفة معتمة، أشعره بحرقة في عينيه، ولكنه قبل أن يعيده، طرق في رأسه أمر، وهو قراءة محادثته الإلكترونية مع "داليا" على أحد مواقع التواصل الاجتماعي.
فقد كان "عاصم" نادرًا ما يحذف أي رسائل تُبعث له، خاصة رسائلها، لذلك أراد أن يشغل وقته في قراءتها، حتى يجافيه النوم. في بادئ الأمر كان يقرأ مقتطفات بدون اهتمام، ولكنه حينما وجد أن بداية المحادثة تعود إلى وقت بعيد، قبل حتى أن ينغمسا في علاقتهما المحرمة، حينها تيقظت حواسه، وتنبهت مدراكه، وراح يقرأ باهتمام شديد، تارة كانت ترتسم فوق وجهه بسمة مشوبة بالشوق، وتارة أخرى كان يضحك بشدة على براءتها، وخفة ظلها آنذاك.
ولكن عندما بدأت المحادثة تستعرض الجزء الذي يتضمن بداية علاقتهما، حتى لاح العبوس فوق وجهه، فقد تغيرت طريقته كثيرًا معها بمرور الوقت، قل اهتمامه، وأصبح أكثر جفاءً، وجمودًا، وبعدما كان يشاركها الحديث، حتى وإن كان مقتضبًا فيه، أصبحت هي من تتوسل رده عليها. توقف عن تمرير إبهامه فوق الشاشة، عند جزء من محادثة قديمة أيضًا، منذ عامين تقريبًا، فقد استرعت اهتمامه، وبعدما اعتصر رأسه، تذكر تفاصيل تلك الفترة، حيث إنه كان حينها متواجدًا في إحدى الدول الأوروبية، رفقة والدته، التي كانت تتلقي دوارات علاج مرضها المستعصي بالخارج
وكانت "داليا" لا تكف عن مهاتفته، وإرسال الرسائل النصية ليطمئنها عن حاله، ويبلغها بموعد عودته، وبعدما أرهقها لعدة أيام متواصلة، وجعلها تنتظره كل ليلة لوقت متأخر، وإما أن يفي بكلمته ويتحدث إليها ببضع كلمات موجزة، وكثيرًا ما كان يتجاهلها، ويتعمد إغلاق هاتفه حتى لا تزعجه رسائلها، إلا أنه كالعادة، أول ما يقوم به عند عودته، يعرج عليها في بيتها، التي انتقلت إليه بعدما ازداد سفره مع والدته، ولم ترِد هي البقاء رفقة والده، لسبب خاص بها، ورفضت الإفصاح عنه، وهو بدوره لم يكن يهتم بأمورها، لذلك لم يزِد في استفساره، وتركها في المكان الأريح لها. وكأول فعل قام به عندما وطأت قدمه أرض الوطن، هو إرساله رسالة نصية لها، كان فقط مضمونها:
-صاحية؟
كانت الساعة حينها متأخرة، يظهر توقيت الرسالة أمامه الآن مقاربًا من الثانية والنصف صباحًا، ومع ذلك جاء ردها المتلهف على وجه السرعة، كأنما لم تأخذ وقتًا في كتابته:
-أيوه يا حبيبي، أنا قاعدة من ساعتها مستنياك تكلمني.
رغم تداركه لتلك اللهفة، أخبرها بإيجاز مقتضب:
-شوية وجايلك.
في التو سألته سؤالًا كان متوقعًا بالنسبة له كيف كانت هيئتها وهي تكتبه:
-جايلي فين؟
ما كان منه إلا أن رد عليها برد متهكم، يسخر به على عدم تصديقها لما قرأته في رسالته المقتضبة:
-بلاش اسئلة ذكية، هجيلك فين يعني غير البيت.
حينئذ أرسلت إليه مستفهمة بغير استيعاب:
-انت في مصر؟!
أكد برد موجز، معبرًا عن ضيقه من استمرارها في تساؤلاتها، الذي سأم من كونها لا تنتهي:
-اه.
مع ذلك لم تكف عن إرسال رسائل مستفسرة، كأنما كانت تفتح مجالًا للحديث معه، حتى يرتوي ظمأ اشتياقها له:
-جيت امتى؟ ومقولتليش ليه امبارح وانت بتكلمني انك جاي؟
كأنما كان يجد متعته في تعذيبها، وعدم إراحتها، لذلك اكتفى حينها بإرساله:
-لما اجيلك.
بعثت له بعد ذلك، بعبارة متلهفة تقطر اشتياقًا:
-انت وحشتني اوي، تعالى بسرعة عشان خاطري.
عندما زادت رسائلها السقيمة، أراد أن ينهي تلك المحادثة، وأرسل لها:
-طيب، سلام دلوقتي.
أنزل الهاتف عن عينيه، وقد غامت ملامحه خلف ندم، لا يزول من فوق وجهه، ولا يختفي من داخل قلبه. ففي بداية علاقتهما، لدناءته، وخسته ظن أن الأمر سيقتصر على مجرد لهو، وتسلية، كغيرها من الفتايات اللاتي كان يضيع معهن وقته، ويفرغ بهن شهواته، وسريعًا ما كن تخرجن من حياته بعدما يأخذ مآربه منهن.
ولكن مع الوقت لاحظ كيف كان يختلف الأمر معها، وكيف كان يتعلق كل مدى بكل ما يحدث بينهما، لذلك كان يتعمد هجرها، وإذلالها، ناهيك عن متعته الذي كان يجدها في كل فعلٍ ساديٍ يبدر منه معها، ومع ذلك كان يجد أن قربه منها يكمن في هروبه، فكلما ابتعد، كلما شعر بانتقاص جزءً هامًا من حياته، وحتي يعوض ذلك النقص، كان يعود إليها، متظاهرًا حينذاك بتعطفه عليها بذلك اللقاء، الذي كان يتضمن أكثر من علاقة حميمية، يتخللها العنف والقسوة، فقد كان الجزء الأهم هو الإذلال.
رغمًا عنه وجد نفسه ينقب في الذاكرة، عن أحداث ذلك اليوم، وكيف كان اللقاء، ومع عزز من تذكره، الحدث الجلل الذي علمه في المقابلة التي تلت تلك المرة، والتي كانت بعد شهر ونصف، حيث إنه قد سافر ثانيةً إلى والدته، وبقى تلك المدة رفقتها، وعندما عاد مجددًا، أخبرته "داليا" بحملها في الجنين الثاني الذي أُجهض تنفيذًا لأمره، مما يعني أن بذرته قد زُرعت في أحشائها في ذلك اليوم، وقد كانت بلا رحمة، أو شفقة، أو حتى أظهر ندم على ما اُقترِف.
فقد تفنن بشتى الطرق في إهانة كرامتها، ودهس مشاعرها، وإجبارها على ما لا تريد، حتى شعرت هي بالاختناق، وضاق صدرها من مطالبه التي كانت متجاوزة تلك المرة عن سابقاتها، وأشعرتها بجرح في أنوثتها، وكبريائها، وما كان منه عندما أبدت رفضها، بطريقة كانت متوسلة، أكثر من كونها معارضة، ألا أن قام بدفعها عنه بقسوة، ونهض عن الفراش بصمت مبهم، وموتر، لفت جسدها وقتئذ بالغطاء، وسألته بقلب واجل:
-رايح فين؟
لم يجِبها، وتوجه نحو موضع ثيابه الملقاه، التقطها واحدًا تلو الآخر، وبدأ في ارتدائها، حينئذ نهضت هي الأخرى، وتقدمت منه وهي تسأله ثانية بريبة:
-عاصم.. بتلبس ليه؟
رد عليها وهو ينظر في عينيها بنظرة مهيبة، مرددًا بجمود:
-همشي.
قبضت على يده، حتى تستوقفه عن ارتداء ملابسه، وسألته بخوف ظاهر:
-ليه؟ أنا ضايقتك؟
انتزع يده منها بحركة عنيفة، وأجابها بإيحاء مقصود:
-انتي عارفة انتي عملتي إيه كويس.
تابعت استمراره فيما يفعل بوجه متقلص، وسارعت في الاعتذار منه بمذلة:
-طب أنا آسفة خلاص، هعمل اللي انت عايزه، ومش هتكلم خالص.
نظر لها بطرف عينيه، ثم حاد بنظره عنها وهو يقول لها بجفاء:
-معادش ليا مزاج.
انتشلت من يده قميصه، وقد أدمعت عيناها وهي تتوسله بصوت بدا متقطعًا:
-عشان خاطري يا عاصم متمشيش.
عصبته فعلتها، وكز على أسنانه وهو يزفر بانزعاج، قبل أن يصيح في ضجر:
-داليا أنا مبحبش كده.
توسلته باستعطاف متزايد وهي تعاود الإمساك بيده:
-عشان خاطري، أنا ماصدقت رجعت من السفر.
حدجها بنظرة ساخطة، ثم سألها بغلظة وكأن ما تفعله معه حقًا مكتسبًا:
-عملتي إيه عشان ترضيني؟
فاض الدمع من عينينها، وهي تسارع في إخباره في خنوع:
-هعمل اللي انت عايزه.
ضاعف من جرعة إذلالها، وهو يهدر بها بازدراء:
-وأنا مبقاليش مزاج فيكي، وعايز امشي، هاتي.
أبعدت يدها الممسكة بقميصه عن ذراعه الممدودة لأخذه، وفي خضم ضغطه على أعصابه، وتهديده بالذهاب، اخفضت جسدها لأسفل، جالسة أرضًا محلها بالقرب من قدميه، مقربة وجهها بمذلة نحو إحداهما، لامسة بشفتيها جلده، كتنفيذ مستسلم لطلب سبق وقد امتنعت عن القيام به، ثم رفعت رأسها له، تنظر له من موضعها المهين، ورجته صاغرة:
-هعملك اللي انت عايزه، بس خليك معايا.
رمقها بنظرة سادية، مستمتعة بذلك الإذلال، وبأنفاس متهدجة أمرها بلهجة مريضة:
-التانية.
حانت منها نظرة منكسرة، قبل أن تنفذ أمره بخضوع قلب يخشى الفقد، ومع تذكره لتلك النظرة الكسيرة، حتى عصفت بقلبه وخزة مؤلمة، كيف تحمل تلك النظرة حينها؟ كيف فعل بها كل ذلك؟ وكيف سمح لنفسه بالأساس؟ تساؤلات مستنكرة، ساخطة، وناقمة، ظل يرددها في نفسه، ويظهر تأثيرها على وجهه الذي تعقدت ملامحه، واعتلاه النفور من شخصه القديم، فلوهلة بغض على نفسه، وبقرف شديد ردد مستهجنًا:
-إيه اللي انا كنت بعمله فيها ده؟
زفر نفسًا ضائقًا، وما لبث أن أردف مؤنبًا حاله:
-أنا ذلتها.
ظهر التقزز على قسماته مما ارتكبه بها، وأطنب بتجهم:
-أنا كنت مقرف أوي معاها.
أغمض عينيه باختناق، وتابع بندم شديد:
-هي بالذات مكانتش تستحق مني كده.
اعتصر عينيه أكثر، كأنما يحاول محو الأطياف المذرية، التي استعادها في مخيلته، عن تلك الذكرى البذيئة، ولكنه راح يسأل نفسه بذهول صادم، كيف كانت تتغاضى عن كل ذلك؟ وكيف تخيل لوهلة أنها بسهولة ستتجاوز ما خاضته؟ هو الآن مدرك لكم الأذى الذي ألحقه بها، وكله ندم على انصياعه لشيطان رأسه معها، ولكن بماذا يفيد الندم، بعدما تحطم كل شيء من حوله وهُدم!
❈-❈-❈
بعدما انتهت من الفحص الدوري، التي التزمت بحضوره، منذ آخر اضطراب تعرضت له في حملها، وأثناء خروجها من البناية، المتواجد بها العيادة الخاصة بالطبيب "سامح"، قاطع سيرها، نحو سيارتها، المصطفة على بُعد عدة خطوات منها، صوت ذكوري مألوف وقعه على سمعها، يهتف باسمها:
-داليا!
توقفت محلها، وحانت منها التفاتة نحو مصدر الصوت، وحينما أبصرت اقتراب صاحبه منها، حتى تعقدت ملامحها في تعجب واضح، حينئذٍ ظن الشخص أنها لم تتعرف عليه، مما جعل الاستغراب يلوح فوق وجهه، وتكلم سريعًا بصوته الرخيم، بعدما صار قبالتها:
-أنا كرم الزيني، مش فكراني ولا إيه؟
تعجبها من رؤيته ألجم لسانها للحظة، ولكنها على كلٍ تتذكره، فكيف تنسى تلك النظرة الغير مريحة، التي كانت تمسك بها وهي تطوف على كل ما بها، حينما كانت تذهب إلى "عاصم" في الشركة. عندما طال صمتها فرقع "كرم" إصبعيه أمام وجهها، مما أفاقها من شرودها، حمحمت وقتئذٍ بخفة، وردت عليه باقتضاب:
-لأ طبعا فكراك.
ألصق بسمة منمقة فوق شفتيه، وسألها بتلقائية:
-عاملة إيه؟ وبتعملي إيه هنا؟
رفعت أحد حاجبيها في ذهول من سؤاله الأخير، الذي رأته متجاوزًا، بينما هو عندما تدارك زلة لسانه، صحح سؤاله، موضحًا قصده بآخر يحمل بعض الحرج:
-قصدي يعني.. شكلك نازلة من عند دكتور، انتي كويسة؟
لانت ملامحها قليلًا، فقد كان السؤال شبه طبيعيًا، كونها خارجة من بناية، يتواجد بجميع شققها، أطباء باختلاف التخصصات. هزت رأسها بإيماءة بسيطة، أتبعها ردها بوجوم:
-آه كويسة، دي متابعة حمل عادية.
لعدم استطاعته رؤية بطنها، من أسفل ثيابها الفضفاضة، والتي آثارت صدمته، مع الحجاب الذي رسم وجهها بصورة خلابة، أسرت عينيه، ولكنه كان بارعًا في إخفاء ما طرأ على ملامحه بشأن طبيعة يابها التي اختلفت منذ الوهلة الأولى، إلا أن صدمته من حملها لم يستطع موارتها وهو يردد بغير استيعاب:
-حمل! انتي حامل؟
عادت تعبيرات التعجب لوجهها من تعليقه المبالغ فيه، وأكدت له بلهجة يظهر بها غرابتها:
-أيوه.
انطفأ الحماس في وجهه، وبهت بشكل غريب، وكأنه تعرض لخيانة غير متوقعة، ولم يقدر على منع نفسه من التفوه بنزق:
-بس أنا كنت سمعت ان انتي وعاصم اتطلقتوا.
اشتدت عضلات وجهها من قوله، وعلى الفور سألته بتجهم:
-سمعت من مين؟
مجددًا انتبه إلى عدم تحكمه في لسانه، مما جعل الربكة تعتري تعبيراته وهو يرد ببعض التلعثم:
-مش فاكر بالظبط، بس ممكن عاصم.
اربد وجهها بضيق واضح، من إعلانه لنبأ طلاقهما بتلك السرعة، في حين أنه يرفض القبول بذلك معها، ويزعم باستمرار زواجهما، وبعد زفرة مزعوجة، قالت له:
-آه، هو في الحقيقة أيوه اتطلقنا.
عندما لمح عبوس ملامحها، وتكشيرتها الواضحة، استنبط أنه السبب، واعتذر بلباقة:
-آسف لو ضايقتك.
حركت رأسها بالسلب وأردفت بنبرة مهتزة يظهر بها كبحها لغضبها:
-لا ابدا مفيش حاجة، ومعلش أنا.. مضطرة امشي عشان متأخرش على ولادي.
رأى أنه من ضيع تلك الفرصة الذي يرتب لها منذ فترة في عبثيات، لذلك استسلم لرغبتها، حتى لا يزيد حنقها، قائلا بأسلوب مهذب:
-أه طبعا اتفضلي، وأنا موجود، لو احتاجتي لأي مساعدة متتردديش إنك تكلميني.
قبل أن تلتفت لتتوجه إلى قتح باب المقعد الخلفي من السيارة، شكرته بغير ابتسام موجزة:
-ميرسي.
دلفت السيارة، وأخبرت السائق بأنفاسٍ مضطربة ليتحرك، فقد كانت بداخلها تشتعل غيظًا، فهي لم تعد تفهمه بتاتًا، من ناحية يشهر طلاقهمها بين الغرباء، ومن ناحية أخرى يخبرها بعدم وقوع الطلاق! ماذا تفهم هي من ذلك التناقض؟ وماذا تصدق بين ذاك وذلك؟
❈-❈-❈
دون أن يفوت يوم أصبح يعرج على بيتها في نهاية دوام عمله، بحجة رغبته في رؤية طفليه، والاطمئنان على أحوالهما، ولكنها كانت تعلم في قرارة نفسها، أن مجيئه نابعًا من شوقه لها، فهو ظاهر في نظراته التي يسترقاها نحوها، وفي حديثه الذي يختلقه معها، سواء عن حملها، أو عن صحة جنينه في رحمها. عندما استمعت إلى صوت جرس الشقة، وهي متأكدة من أنه هو الزائر، قبل أن تفتح العاملة الباب حتى، ارتسمت بسمة مغترة على وجهها، بها بعض الهزو، عندما صدق حدسها، واستمعت إلى صوته يحدث العاملة، مستفسرًا منها عن وجودها من عدمه، حينها تركت المصحف -الذي كانت تقرأ به- من يدها، ونهضت عن مقعدها، واستقبلته بفتور يحمل بعض الضيق الذي لم يزول بعد من داخلها، مما أخبرها به "كرم" صباح اليوم، بشأن تصريح "عاصم" له عن أمر الطلاق، مرددة:
-أهلا يا عاصم.
لم ينتبه إلى تكشيرة وجهها، بسبب تركيزه الذي انصب على حجاب رأسها، الذي زين وجهها بصورة جمالية خلابة، أسرت قلبه قبل عينيه، وجعلته عاجزًا عن إبعاد حدقتيه عن تلك الهالة الناعمة، الملائكية، كأنها حورية نزّلت من السماء بغتةً، ودون سابق إنذار، لتأسره بشكل مضاعف، ولكنه رغم ذلك شعر بالضيق ينخر في صدره، وظن أنها متعمدة وضعه فوق رأسها في حضوره، لذلك ارتدى قناع البرود على فوره، مواريًا لهفته، وإعجابه الواله خلفه، ورد عليها بغيظ مكبوت:
-أهلا يا داليا..
بعدما سار الخطوات الفاصلة بينهما، تابع بنفس النبرة المتهكمة، والغير راضية:
-ولا تحبي أقول يا مدام داليا بما إننا بقينا أغراب ولابسة حجاب في وجودي، فنحافظ على الألقاب بالمرة يعني، ولا انتي شايفة إيه؟
تعجبت من قدرته على إخفاء ما طرأ على ميحاه، من تفاجؤ منبهر، وإبداله بذلك البرود، ومع تلك الطريقة تعمدت إغاظته أكثر، واستمرت على نفس المنوال الفاتر وهي تعلق:
-اللي انت شايفه.
كادت تتحرك من أمامه، ولكنه حال دون ذلك، بقبضه على ساعدها، وقبل أن تظهر بوادر الغضب على وجهها من مسكته المباغتة، هتف بصوته المميز، بإعجاب ثقيل:
-حلوة بيه على فكرة.
رفعت حدقتيها الخضراوتين نحو وجهه الرجولي، الذي ما يزال يحمل نفس البهاء الساحر، أمعنت النظر به، وبملامح وجهه التي اختلفت تمام عمَ سبق، لتصبح أكثر ارتخاءً ولينًا، وكأنها كانت تكتسب حدتها من حدة طباعه. عندما وجد تحفزها خمد تمامًا، ظن أن اطرائه الصادق امتص غضبها، لذلك تابع بنفس اللهجة التي تقطر إعجابًا:
-متخيلتش قبل كده إنك تلبسيه..
بدون أن ينتظر منها ردًا، أكمل بنبرة والهة للغاية، وهو يمسح بعينين مشتاقتين سائر تقاطيع وجهها:
-أو ممكن متخيلتش إنك تبقي بالجمال ده فيه.
وجدت أن كلماته إن ظلت على ذلك النحو الملاطف، ستأخذ منعطفًا آخرًا بينهما، وهي بالأساس لا تضمن أن يصمد ثباتها المتزعزع أمام حنكته الذكورية، واستدراجه اللئيم. تظاهرت بالجمود، رغم دقات قلبها التي ازدادت، لشده اقترابه، وهمسه الدافئ، اجتذبت ذراعها منه، وقالت له بتجهم:
-تقريبا انت جاي عشان تشوف الولدين، مش عشان حاجة تانية.
انفرجت شفتاه ببسمة خبيثة، وازداد في قربه المهلك، مرددًا بلهجة موحية:
-لو جاي عشان حاجة تانية مش هقول الكلام ده.
توصلت إلى مضمون كلماته، وسريعًا ما حادت بعينيها عنه، فس حين هو تابع بنبرة عابثة، ليزيد من ارتباكها المغوي:
-انتي عارفة أنا بقول إيه كويس اوي في الأوقات دي.
عندما لاحظ تلبكها، وحركها عينيها المتوترة، انتقل إلى مستوى أعلى، محاوطًا خصرها دون سابق إنذار، واستطرد متسائلًا بهمس:
-مش كفاية لحد كده بقى وترجعي بيتك.
إن كانت "داليا" القدمية بكل سذاجتها التي أمامه الآن، لكانت استجابت إلى استمالته، ورق قلبها له، ولكنها تماسكت، وتمسكت برفضها، بالأخص حينما عادت كلمات "كرم" تنبجس في رأسها، ولكنها منعت نفسها من الإتيان على ذكر ذلك الأمر، حتى لا يظهر ضيقها، ويظن أنه عدم رغبة صريحة منها في الانفصال. أبعدت يده عن جسدها، وهتفت أمام وجهه بانزعاج جاد:
-عاصم انت ليه مش فاهم إن انا مبقتش عايزه اكمل معاك؟
تحولت تعبيراته في لحظة للحنق، من صدها لكل محاولاته في استرضائها، وبصوت انفعل قليلًا رد عليها:
-عشان مش مصدق يا داليا، مش مصدق إن بعد كل الحب ده سهل عليكي إنك تسيبيني.
لاح الشجن في عينيها، واكتسبت نبرتها بؤسًا وهي تعلق:
-مين قالك إنه سهل عليا!
نظرت بداخل عينيه، اللتين تناشداها بتوسل أن تكف عن عنادها، وتابعت:
-أكيد مش سهل عليا أسيب البني آدم الوحيد اللي محبتش غيره من ساعة ماتولدت.
اقترب منها في نية أن يحاول بالكلمات اللينة، المستعطفة مجددًا، إلا أنها منعته، بحركة من يدها، أتبعها قولها بجزع:
-بس اللي اكتشفته إن علاقتي بيك معقدة ومؤذية، وبتاخد من روحي، وبتموتني بالبطيء، فالأحسن ليا وليك اننا منكلمش فيها.
ظهر الاستنكار على وجهه من اتخاذها لذلك القرار بالنيابة عنه، وسألها مستهجنًا:
-ومين قال إن ده الأحسن ليكي وليا؟
سحبت نفسًا مطولًا، حتى تثبط به ثورة الكلمات المهتاجة داخلها، ثم أخبرته باستياء:
-عاصم أنا معدتش متحملة أعيش في توتر أعصاب تاني، أنا تعبت كتير معاك، ومهما اتحملت، ومهما عملت عشانك مبتقدرش، ومش بتراعي شعوري ولا إحساسي في حاجة بتعملها..
رمقته بنظرة لائمة، بائسة، ثم تابعت مدفوعة بقهرها:
-حتى لما استنيت إنك تبقى وفي ليا بعد ما بقيت مراتك، زي مانا وفيه ليك وبهتم بيك وبولادك، ملقتش ده، يبقى اكمل معاك ليه؟
بندم حقيقي، وعزم صادق، طلب منها في توسل:
-اديني فرصة تانية، واللي انتي عيزاه هيحصل.
لم تعبأ بوجيب قلبها المتأثر بتوسلاته المتذللة، وردت عليه بجمود:
-اديتلك فرص كتير، وولا مرة استغلت فرصة واحدة، انت كنت مصمم تجيب نهاية اللي بينا، وأهو حصل، ليه دلوقتي مش قادر تفهم إن انت دمرت حياتنا بإيديك وبعمايلك؟
بوجه معقود، وعينين شجيتين، علق عليها ببؤس يختلط بالخزي:
-بس انا بتغير.
لم تقتنع بذلك الرد المستهلك، الذي سبق وأقنعها به، وجعلها تتأمل حدوثه، وبرفض قاطع للتصديق قالت له:
-عاصم انت مبتتغيرش.
انعقد لسانه عن الرد، فكل عبارة يحاول عن طريقها إصلاح ما أفسده، تقابلها بالصد، والهجوم. تنفست من بعد قولها نفسًا، عميقًا، ضائقًا، فكثرة الحديث في ذلك الموضوع أصبح بالنسبة لها كالركض في حلقة مغلقة، وهي لم تعد تجد بدًا من الاستمرار في تبادل الردود، التي تنتهي كل مرة نهايات مشابهة، وكي تختتمه، أخبرته بجفاء:
-ممكن ننهي كل الكلام ده في جملة واحدة، إننا مكناش متفاهمين وعشان كده مش هينفع نكمل.
لم تسِر سوى خطوتين من امامه، واستوقفها متسائلا بحدية:
-معنى كلامك إنك عايزانا نتطلق بجد؟
تجاهلت دقات قلبها التي اشتدت، وبدون أن تلتفت له، أجابته بجمود:
-ياريت، لإني مش هرجعلك.
تحرك الخطوتين اللتين قد سبق وابتعدتهما، حتى صار أمامها ثانيةً، وأردف بلهحة معارضة:
-وإن قلتلك مش مطلق؟
لم تتسرع في الرد، وأحكمت عقلها، حتى توصلت إلى قرار حيادي، سيرضي نزعته التملكية، وسيبقي الحال على ما هو عليه بينهما في نفس الآن، قائلة بهدوء:
-لو انت مصمم تخليني على ذمتك، معنديش مشكلة، بس علاقتنا مش هتتخطى القرابة اللي بينا وإنك أبو ولادي.
لاح فوق وجهه تعبيرات مستنكرة، وعقب بغير رضاء:
-وده يبقى جواز؟
اربد وجهها بضيق واضح، وردت عليه بتجهم:
-انت اللي عايزه مش انا، مش عاجبك، تقدر ترجع للخيار الأول، وهو الطلاق، وتبقى ريحت نفسك وريحتني، وتقدر تشوف حياتك وقتها زي ما تحب.
اشتدت ملامحه من قولها الأخير، ظنًا منه أنها تفتح المجال بتلك الطريقة لارتباط آخر بغيره، وسألها بصوت اخشوشن:
-وانتي؟
كأنها فطنت ما جال بخلده، وأجابته نافية شكوكه، مرددة بتعاسة:
-أنا هعيش لولادي، هديلهم كل لحظة في عمري حتى لو كانت نهاية عمري في ولادتي.
زفر باختناق من تلك الطربقة التي تثير ريبته، وقلقه، خاصة حيال ذلك الحمل المحفوف بالمخاطر، ثم قال لها بجزع:
-انتي مصممة تعذبيني.
عبارته الحاملة لكل ذلك الوجع، جعلت إحساسها بالذنب يزأر داخلها، خاصة وأنها الفترة الماضية تتعمد بشتى الطرق تعذيبه بالكلمات، وتذكير بذنوبه التي ارتكبها في حقها، لتزيد من معاناتاه الظاهرة، وكأنها باتت تستلذ برؤيته مقهورًا، وكسيرًا مثلها، وبصوت ظهر منفعلًا صاحت:
-انت اللي خليتني كده..
تعجب للحظة من عبارتها المباغتة، والتي لم تكن متوقعة، حتى أنه لم يفهم ما وراءها، في حين أكملت هي موضحة باختناق:
-انت خليتني واحدة تانية أنا مبقتش عرفاها، أنا بقيت بفرح وانا شيفاك متعذب قدامي، بقيت بحس بشماتة وانا بجرحك بكلامي، بقيت بتبسط وأنا بحسسك بالذنب وإنك قد إيه كنت بني آدم ظالم معايا..
ابتلعت غصة مريرة جرحت حلقها، من كبتها للبكاء، وتابعت بصوت خرج بنشيج:
-الوجع اللي بشوفه في عينيك، وشعور الندم اللي بيخنقك ده بيريحني، تعبك ده راضيني يا عاصم، أنا بقيت مؤذية زيك.
انهمرت دموعها مع آخر كلماتها، وأصبح جسدها يرتج مع شهقاتها، وبالرغم من اعترافها بتشفيها بمعاناتها، إلا أنه لم يتحمل وقع بكاءها على كل من سمعه، وقلبه، واقترب منها على فوره، وضمها له، في بادئ الأمر كانت تعاند، وتحاول إبعاده، إلا أنها في النهاية تركت نفسها لشعور الأمان الذي سحبها، واحتوى وجعها، والمثير للدهشة أنها لأول مرة تشعر بذلك الشعور في حضنه! بينما هو أطبق على ظهرها بذراعيه، بضمة مشتاقة، أكثر من كونها مواسية، ومن بين فيض المشاعر التي غمرته دفعة واحدة، قال لها بصوت أجوف، حنون:
-انتي مش مؤذية، ولا عمرك هتبقي زيي، أنتي أحسن وأنضف مني..
سحب من رائحتها أكبر قدر لرئتيه، كأنه يحاول الحفاظ على أثره بداخله، لتأكده من أن تلك اللحظة لن تكرر بسهولة الفترة المقبلة، ثم تابع بصوت خفيض، مخالط بالاشتياق المحموم:
-وشعور طبيعي إنك تتشفي فيا بعد كل اللي عملته فيكي، وتحسي إن حقك رجعلك، بإن انا دلوقتي بقيت مكانك، وبقيت هتجنن عشان نرجع لبعض، وهموت عشان اشوفك واخدك في حضني..
أزاد في ضمها، حتى كادت تزوي بحضنه، شاعرًا بأن دقات قلبيهما تداخلت، واجتمعت، وبأنفاسٍ تزايدت، وتهدجت، أطنب:
-بس لو كل ده هيثبتلك حاجة، فهيثبت إني فعلا اتغيرت عن الأول بجد.
لم تتوقف دموعها عن الانسياب، فما تراه عليه تلك المرة من تغيير واضح، مغايرًا تمامًا لأي مرة سابقة، مما جعلها مشتتة بين كل من قلبها وعقلها، ولا تدري أي منهما أحق باتباعه، ولكن ما صدمها حقًا، وجعل عينيها تتوسع في تفاجؤ عظيم، قوله بنبرة مهزوزة:
-داليا أنا بتعالج.. عند دكتور نفسي.
رمشت بعينيها بعدم تصديق، وسريعًا ما أبعدت نفسها عنه، ونظرت له بنظرة تتحري بها صدقه من عدمه، حينئذ أخفض نظره عنها، كأنه يتحرج من الاعتراف أمامها، ولكنه في نفس الآن يلتمس أن يكون ذلك شفيعًا له عندها، وأضاف بخفوت:
-ومش من دلوقتي، من قبل ماتسيبي البيت، ومن قبل ما نتطلق حتى، روحتله عشان أنا عايزه ابقى إنسان كويس، عشانك وعشان ولادي، صدقيني المرة دي مش كلام، أنا بتغير فعلا.
رفع عينيه لها مع كلماته الأخيرة، التي تتوسل تصديقها، ثم تابع بضعف:
-أنا هعتبر كل اللي قلتيه ده متقلش، عشان أنا فعلا مش هقدر اكمل من غيرك..
مسح بعينيها ملامحها التي ما تزال مشدوهة من تصريحه الصادم، وقال لها بتصميم عازم:
-أنا مش هيأس وهفضل أحاول معاكي وهتحمل كل اللي هتقوليه وتعمليه، عشان أنا فعلا أذيتك، وعشان أنا استاهل المعاملة دي منك..
رمقها بنظرة دافئة، مشوبة بالأمل، وأضاف ببسمة يملأها الأسى:
-بس رغم كده هيفضل عندي أمل اننا هنرجع، وكل اللي بينا هيتصلح في يوم.
لم يترك لها المجال للتعليق أو لإضافة شيء، لعلمه بأن ما ستتفوه به الآن سيكون بغير تفكير مسبق، بل سيكون مدفوعًا بنزق وتسرع منها، حتى تظهر ثباتها على موقفها، واقترب منها لاثما جبينها بقبلة مطولة، ود للحظة لو يكررها بشوق أكثر، ولهفة شديدة، في مواضع عدة من وجهها، حتى يروي ظمأ اشتياقه لها، إلا أنه منع نفسه بكل طاقته، وحال دون الانصياع خلف رغبة قلبه، وابتعد عنها مكرهًا، وبغير أن ينظر لعينيها، حتى لا يضعف أمام مطلب قلبه الذي يناشده بالبقاء، وتعويض أيام الهجر، والإقصاء، وتحرك مباشرة نحو غرفة طفليه، لتبقى هي على وضعها المصدوم، متخبطة حيال كل شيء في تلك العلاقة المغناطيسية، التي تأسرها، وتأبى إطلاق سراحها، بل كلما جاهدت للانفصال عنها، والانسحاب بما تبقى منها، تُدمَغ أكثر بها، ويشتد التصاقها.
❈-❈-❈
بعدما فعلت بخسة، ودناءة شديدة، ما عقدت العزم على فعله، كانتقامًا مدروسًا على تجاوزه معها، وإهانته له، اكتسبت تعابيرها تشفيًا شديدًا، وراحت تتخيل وجه "عاصم" عندما تصل إليه الأخبار، التي انتشرت بسرعة مهولة، وحققت نسب مشاهدات عالية على كافة وسائل التواصل الاجتماعي، بل ولاقت تفاعل كبير من الناس، التي راحت تعلق بهجوم، وبغض بالغ. ارتسمت بسمة شيطانية على وجهها، أتبعها تحدثها لنفسها ببرود وهي ترفع كتفيها بحركة مصطنعة، قبل أن تغرق في دوامة ضحكاتها المنتشية:
-انت اللي بدأت يا عاصم.