-->

رواية جديدة في غيابت الجب لنعمة حسن - الفصل 4

  قراءة رواية في غيابت الجب كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى




رواية في غيابت الجب

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة نعمة حسن


 الفصل الرابع

~  بإسم الحب  ~



كانت البداية عندما تلقى المقدم حسام رضوان رئيس مباحث قسم شرطة المقطم أول بلاغ من الأهالي يفيد العثور على طفلة حديثة الولادة ملقاة بداخل بئر مهجورة بعمق نحو خمس أمتار.


على الفور انتقل رجال مباحث القسم وتم العثور على طفلة ملفوفة مرتديه كامل ملابسها على قيد الحياة تم نقلها إلى المشفى ليتم فحصها ومن ثَم بدء إتخاذ الإجراءات القانونية.


❈-❈-❈


نزلت بسمة كعادتها كل صباح كي تتناول قهوتها بالمطعم، كانت تبحث عن جمال بعينيها حتى إستمعت إلى صوته وقد أتى من خلفها وقال:

_ لازم نتكلم، أبوكي عاملني معاملة زي الزفت وقالهالي بوضوح إني مش قد المقام.


أسند القهوة أمامها وهو يصطنع الإنشغال بينما كان كل تركيزه معها حيث قالت بصوتٍ خفيض:

_ مش هينفع أقابلك في مكان، لكن هحاول مع بابا تاني لحد ما يقتنع.


_ مش هيقتنع.. أبوكي كان بيكلمني كأني نكرة.. أنا أول مرة حد يكلمني بالتعالي ده كله!


نظرت إليه وقد لمعت عينيها بالدموع وقالت:

_ إنت يئست وإحنا لسه في البداية؟


_ ميئستش يا بسمة، بس لو تشوفي كلام أبوكي معايا كان عامل إزاي تكرهي نفسك مش بس تيأسي.


_ بس إنت كنت متوقع ده، ومع ذلك قولت مش هتخلي رده أيًا كان يحبطك أو يأثر فيك.


تنهد ثم أومأ، ثم إبتسم بهدوء وقال:

_ معاكي حق، وأنا مازلت عند كلامي، هحاول تاني وتالت وعاشر لحد ما يوافق.. كله يهون عشان خاطر عينيكي.


تبسم محياها بسرور مما جعله يبتسم بحب ثم ودعها بعينيه وإنصرف.


❈-❈-❈


كانت دليلة تسير في الشوارع هائمةً على وجهها، صوت صراخ الطفلة قبل أن تلقيها لم يفارق أذنيها أبدًا ويرافقها في كل خطوة وكإنما يتبعها.


شعرت بالوهن الشديد ولكنها لم تعرف إلى أين تذهب كي تستريح؟ فكل الأماكن أُغلقت بوجهها ولم يبقى أمامها الآن سوى أن تفارق تلك الحياة الظالمة.


سارت بذلك الطريق المكتظ بالسيارات عمدًا وراحت تنقل خطواتها بين السيارات وكأنها تقدم روحها إليهم على طبق من فضة، صامّة أذنيها عن أبواق السيارات التي إرتفعت جميعها تحذرها وتُثنيها عن فِعلها المتهور وأكملت سيرها الحثيث وهي مغيبةً بالكامل وصوت صراخ إبنتها يعلو صوت السيارات والضجيج بأذنيها جعلها تغمض عينيها وتصم أذنيها وتوقفت بمنتصف الطريق تمامًا وهي تصرخ قبل أن تصدمها تلك السيارة التي دفعت جسدها بعيدًا وجعلته يرتطم بالأرض بقوة!!


❈-❈-❈


_ آاااااااااااااه.. 


أجفل بلال النائم بغرفته وفَزِع فورًا عندما إستمع إلى صرخة والدته التي شقت سكون الليل..


دخل غرفتها فطالعها وهي ترقد فوق فراشها دون حراك ولكنها كانت تضع يدها موضع قلبها بألم فقال:

_ مالك ياما، فيكي إيه؟


_ أختك يا بلال!.. دليلة فيها حاجة.. قلبي إنقبض فجأة يا بلال وحاسة إن بنتي فيها حاجة ..


جلس بجوارها وضمها إلى صدره مقبلًا رأسها، ثم طفق يردد بضع من آيات من القرآن الكريم علها تهدأ وتستكين.


_ هاتلي بنتي يا بلال، دور على أختك يابني.. دور على أختك يا بلال متسيبهاش!!


هنالك إنفجر بها بغضب وقال:

_ هو أنا ساكت ياما؟ بقالي شهرين مش عارف أشتغل ولا أشوف حياتي.. ليل نهار ماشي أقول محدش شاف دليلة!! أعمل إيه أكتر من كده؟ أسأل عليها مين؟ وفي الآخر مش هتظهر ياما؟ مش هترجع.. إنسيها. إعتبريها ماتت!!


كانت تهز رأسها برفضٍ شديد، تأبى أن تصدق كلماته تلك أو تقر بصدقها! 


_ متقولش كده يا بلال، متقولش على أختك كده .. دليلة عايشة . دليلة هترجع، قلبي بيقوللي إنها هترجع!


_ مش هترجع ياما .. و الأحسن ليها مترجعش! لأنها لو رجعت وحق الله لاكون مخلّص عليها بإيدي!


❈-❈-❈


تقبع بسمة فوق فراشها وهي تضم ركبتيها إليها وتحيطهما بذراعيها، شاردةً تفكر فيمن سلبها عقلها ونسف كل ما تمسكت به من مبادئ وقناعات منذ صغرها وجعلها تهيم به عشقًا.


أطرقت رأسها أرضًا بحزن وأغمضت عينيها وهي تتذكر ما قاله والدها لجمال تقابلا وشعرت بالضيق الشديد لكون والدها قد أحرج جمال وأنقَص من شأنه كما فعل.


إستمعت إلى طرقات والدها فوق الباب فاعتدلت وأذنت له بالدخول:

_ إتفضل يا بابا.


دلف والدها مبتسمًا؛ مما أثار تعجبها، كيف ولِما تبدل حاله فجأة؟ أيعقل أن يكون قد إتبع معها سياسة التجاهل كعادته؟ أم أن هناك أمرًا آخرًا لا تعلمه.


_ منزلتيش ليه؟ اليوم خلص وإنتي قاعدة في أوضتك.


_ مش عايزة أخرج النهارده، مليش نِفس.


هز رأسه وهو يسألها:

_ بتعاقبيني مثلا؟


أجابته على الفور وهي تبكي:

_ العفو يا بابا، بس صدقني أنا مش قادرة أتعامل وكأن مفيش حاجه حصلت..


وتابعت وقد مزقت دمعاتها نياط قلبه:

_ أنا قلبي متعلق بجمال يا بابا.


رق قلبه لحالها؛ فاقترب منها وجلس إلى جوارها، ثم ضمها إليه وظل يمسح على شعرها وقال:

_ وأنا مقدرش أكسر قلبك، مقدرش أشوفك بتنفطري قدامي كل يوم وأعمل مش واخد بالي، بسمة.. أنا معنديش غيرك في الدنيا. تأكدي إني عايزك تتجوزي أحسن واحد في الكون علشان أكون مطمن عليكي، لكن طالما إنتي بتحبي جمال للدرجة دي فانا مش هقدر أغمي عيني عن الحب ده..


دب الأمل بقلبها فإبتعدت عنه قليلًا وسألته:

_ حضرتك تقصد ايه؟


_ أقصد إني موافق، خليه يجي ونتكلم ونتفق.


تهللت أساريرها وراحت تقبله بفرحة وهي تقول:

_ مش قادره أصدق إنك أخيرًا إقتنعت..


فقاطعها هو قائلا:

_ أنا مقولتش إني إقتنعت، أنا وافقت بدون إقتناع من أجل إني أرضيكي وأفرحك.. أنا حكّمت مشاعري لأول مرة عشان كده وافقت، لأني لو كنت حكّمت عقلي إستحالة كنت هوافق أو أقتنع.


_ صدقني يا بابا جمال هيثبتلك إنه فعلا يستاهلني.


هز رأسه بتمهل وقال:

_ هنشوف. ودلوقتي بعد ما وافقت.. عايزك بقا تاكلي وتفرفشي كده.. أديني أهو عملتلك اللي إنتي عايزاه، مش عايز أشوف دموعك دي تاني.


مسح دموعها بيداه، ثم نهض وهو يقول:

_ هستناه بكرة الساعة ٨ ، أي تأخير لأي سبب يعتبر الميعاد لاغي، وياريت ميجيش وتبقا جت من عنده.


أغلق الباب خلفه وتركها تقفز فوق فراشها بفرحة وحماس لا مثيل لهما وراحت تمنّي نفسها بالأيام الحالمة التي تنتظرها.


❈-❈-❈


فرقت دليلة بين أهدابها ببطء وهي تشعر بتعبٍ يحيط بها، جالت بعينيها في زوايا الغرفة تستشف مكان وجودها ولكنها أحست بالدوار يلف رأسها فأغمضت عينيها من جديد.


_ حمدلله على السلامة، إنتي سامعاني؟


نظرت حينها إلى الممرضة التي كانت تتحدث إليها وأومأت أن نعم، ثم تساءلت بتثاقل:

_ إيه اللي حصل؟


_ إنتي عملتي حادثة ونقلوكي على هنا.


تذكرت ما حدث… صراخ الطفلة، أبواق السيارات المرتفعة، الزحام، البئر!!


أجهشت بالبكاء فور أن تذكرت ما حدث مما جعل الممرضة تربت فوق يدها وتقول:

_ الحمد لله قدر ولطف، إنتي إنكتبلك عمر جديد.


عمر جديد!


ومن أخبرهم بأنها كانت تريد أن تحيا عمرًا جديدًا؟! لم تكن ترغب سوى أن تغادر فحسب.


لم يكن عمرًا جديدًا؛ لم يكن سوى ألمًا سيتجدد في كل لحظة تعيشها ويذكرها بما حدث ويدعس فوق جراحها كلما حانت الفرصة.


أتى الطبيب الذي يتابع حالتها وتوقف أمام السرير الذي تستلقي فوقه وقال بعملية:

_ حمدالله على السلامه، الحمدلله إنها جت على قد الكسور والرضوض، هتفضلي معانا هنا تحت الملاحظة الـ٢٤ ساعة الجايين لحد ما تظهر نتيجة الاشعة ونتطمن.


أومأت بموافقة؛ فانصرف الطبيب بعد أن أخبر الممرضة بشيءٍ ما فنظرت إليها وقالت:

_ عايزين بياناتك..


إبتلعت دليلة ريقها بتوتر ملحوظ وقالت:

_  بياناتي؟؟ ليه؟


_ إجراء روتيني، إسمك ثلاثي؟


تاهت دليلة وشردت في خوفها المسيطر عليها كليًا، ماذا إن عرفها أحدهم وأبلغ أخيها! سينتهي أمرها حتمًا.


تفحصتها الممرضة وقالت متهكمةً:

_ إيه؟ إنتي نسيتي إسمك ولا إيه؟ إوعي تكوني فقدتي الذاكرة!!


نظرت إليها دليلة وكأنها أخيرًا وجدت مخرجها من ذلك المأزق الذي ينذرها بالهلاك وقالت:

_ أنا.. أنا فعلا مش فاكرة أي حاجة! آخر حاجة فاكراها الحادثة وإني جيت على هنا، مش فاكرة أي حاجه تانية!


لوت الممرضة شفتيها بتحسر وقالت:

_ طب زي ما إنتي بقا على ما أبلغ الدكتور، إوعي تتحركي من مكانك.


أتى الطبيب بعدما أخبرتهُ الممرضة وجلس بمقابلها وقال:

_ إنتي فعلا مش فاكرة حاجه؟


أومأت بموافقة فأومأ بدوره قائلاً ببسااطة:

_ ده فقدان ذاكره مؤقت بيحصل عادةً نتيجة الحوادث، عالعموم متقلقيش الأشعه ظهر فيها إرتجاج خفيف جدا في المخ و ده اللي سبب فقدان الذاكرة ده لكن مع الوقت هتتحسني وتبدأي تفتكري كل حاجه.


أومأت دليلة فانصرف الطبيب وبقت بجوارها الممرضة تقول:

_ متقلقيش يا حبيبتي هتبقي زي الفل إن شاء الله. بس إنتي هتعملي إيه ولا هتروحي فين؟


نظرت إليها دليلة وانفجرت في البكاء، بالرغم من أنها لم تفقد الذاكرة بالفعل ولكنها بكت آلام الفقد والحاجة.


ربتت الأخرى فوق كتفها وقالت بمواساة واهية:

_ وحدي الله يا حبيبتي، أنا ممكن أكلملك دكتور فاروق عشان تشتغلي هنا في المستشفى على ما ترجعلك الذاكرة وتعرفي فين أهلك وتقدري ترجعيلهم وقتها، أهو على الأقل تقدري بفلوس الشغل تأجري مكان تقعدي فيه.


نظرت إليها دليلة بإمتنان وأردفت وهي تبكي بانهزام:

_ أنا مش عارفه أشكرك إزاي، إنتي ربتا بعتك ليا نجدة من السما.


_ ولا يهمك يا حبيبتي الناس لبعضيها، هروح أنا أمر على بقية الحالات وهكلم دكتور فاروق وأبلغك.


هزت دليلة رأسها بموافقه، فانصرفت الممرضة لتمر على بقية المرضى، بينما أغمضت هي جفنيها وراحت تتسائل في نفسها:

_ ليه يارب؟ إيه الحكمة في إنك تكتبلي النجاة؟ كان نفسي أموت وأرتاح، ليه تحكم عليا أعيش وأتعذب كل لحظة، يا ترى حياتي الجاية فيها حاجه تستاهل إني أعيش عشانها؟! 


وتنهدت بتعب وهي تحاول السيطرة على ذلك الحريق الذي نشب بقلبها وصار يأكله كما تأكل النار الهشيم.


❈-❈-❈


في اليوم التالي..


ترجل حسين من تلك السيارة الأجرة التي أقلته إلى البيت الذي كان يسكن به، دخل المنزل وصعد حيث شقة جارته ودق الباب. ثوانٍ وإنفرج الباب وظهرت من خلفه تلك السيدة البشوشة التي إبتسمت فور رؤيتها له وقالت:

_ حسين، حمدالله على سلامتك يابني .. إتفضل.


دخل حسين وجلس ويادر بالحديث فقال:

_ أخبارك إيه يا أستاذة رجاء؟


_ أنا كويسة يابني الحمدلله.. طولت الغيبة يا حسين، كان فينك كل المدة دي؟ ليك شهرين وزيادة لا جيت ولا إتصلت.. 


تنهد مردفًا:

_ معلش إعذريني، أنا عارف إني وعدتك إني كلها كام يوم وراجع. بس بعد ما مشيت من هنا طوالي بلغني جواب من البلد بيقولولي إن خالي مات.. و ده خالي الوحيد وملوش ولاد فكان لازم أكون موجود لحد الأربعين بتاعه.. نزلت يومها ولسه راجع إمبارح! طمنيني… دليلة جت؟


_ البقاء لله في خالك قبلَ … دليلة جت بعد ما مشيت إنت بيوم أو إتنين.. 


سألها متلهفًا وقال:

_ وإزي حالها، هي كويسه ؟


_ يا حرام كان باين عليها التعب.. لاحظت إنها حامل!


أومأ مؤكدًا وقال: 

_أيوة.. مسابتش عنوانها؟ عطيتيها الجواب؟


إبتسمت متعجبةً لرؤية لهفته الواضحة وقالت:

_ أيوة عطيتها الجواب و لأ مسابتش عنوانها.. هي إيه حكايتها دليلة دي يا حسين؟ حسيت يومها إنها مسكينة أوي ومهمومة.. وبالذات لما عرفت إنك مشيت إتضايقت جدا وكأنها كانت هتبكي!


مسح حسين على وجهه بضيق شديد ثم قال:

_ حكايتها طويلة أوي يا أستاذة رجاء.. عالعموم أنا هقعد دلوقتي عند واحد صاحبي لحد ما أأجر شقة أقعد فيها.. هسيبلك العنوان وأمانة عليكي لو جت تاني تبلغيها إني محتاج أوصللها ضروري .. يا إما تجيلي عالعنوان اللي هسيبهولك ده، يا إما تسيبلي هي عنوانها..


_ حاضر يا حسين، والله لو جت هبلغها .. ثواني بقا أعمللك القهوة..


_ لا لا ملوش داعي.. خليها مرة تانية إن شاء الله. عن إذنك.


❈-❈-❈


في المساء..


يجلس الآن أمامه على عكس المرة الأولى؛ مطمئنًا واثقًا، يستند في ثقته وتريثه إلى ما أخبرته به بسمة من موافقة أبيها ودعوتهُ للإتفاق رسميًا هذا المســاء!


حرر نظراتهُ من على تلك الغرفة عندما رآه يخرج منها ويتقدم منه بخطواتٍ متغطرسة، ثم نهض ليصافحه بحرارةٍ نقيض ذلك البرود الذي أغدقهُ به الآخر.


جلس حلمي، ثم وضع قدمًا فوق الأخرى بغرور، ثم أشعل سيجارتهُ وأخذ يدخنها وينفث دخانها بهدوء متعمدًا إبقاء الآخر في ترقب وإنتظار..


حمحم جمال؛ فكان لابد من أن يبادر هو بالحديث وقال:

_ بسمة بلغتني إن حضرتك وافقت على خطوبتنا.. وأحب أقول لحضرتك إني إن شاء الله هكون قد الثقة دي وأكتر..


طالعهُ حلمي بتفاخر وقال:

_ وهي فين الثقة دي؟ أنا مش واثق فين أبدًا يا جمال .. أنا مُرغم أوافق عشان خاطر بنتي.. بنتي اللي قدرت تعلقها بيك وبوهم الحب بتاعك.. وأنا للأسف مش مستعد أشوفها زعلانه ومهمومة تاني، مش هقدر أشوف وردة عمري بتدبل قدامي. لذلك أنا وافقت إنك تتخطبوا.. بس خد بالك دي مجرد خطوبة! مفيش أي خطوة ناحية الجواز هتتاخد قبل ما تكون نفسك وتاخد ولو شقة صغيرة إيجار جديد في حي راقي.. ولا عاوز تتجوز بسمة في الملحق اللي إنت قاعد فيه؟


_ لا طبعًا حضرتك.. أكيد أنا هشوف مكان يناسبنا ويليق ببسمة، إديني وقت بس حضرتك!


= براحتك إحنا مش مستعجلين أبدًا.. قدامك ست شهور من دلوقتي تكون كونت نفسك وبقيت مستعد للجواز.


أومأ جمال بقلق وريبة من نظراته المملوءة بالعنجهية والغرور، ولكنه تجاوز كل شيء عندما رآها تدنو منه بخطواتٍ تأسر القلوب.. بفستانها الأبيض القصير الذي يصل لأعلى ركبتيها بقليل، فبدت كأميرةٍ جميلة أو أكثر!


نهض يستعد لمصافحتها فمنحتهُ إبتسامةٍ دافئة وقالت:

_ مساء الخير يا جمال..


عانق كفه كفها بحنان وشوق وقال:

_ مساء النور.. 


ذهبت وجلست بجوار أبيها الذي أحاطها بذراعه وقال:

_ شوفي الميعاد اللي يناسبك يا حبيبتي علشان نعمل فيه الخطوبة!


ووجه حديثه نحو جمال وقال:

_ أظن جمال كل الأوقات تناسبه.. مش كده يا جمال؟


_ اللي تشوفه حضرتك..


عاد إلى بسمة بعينيه وقال:

_ الجمعه الجايه مناسب؟


أومأت بسمة بإبتسامة سعيدة وقالت:

_ مناسب يا بابا..


أومأ مؤيدًا وقال:

_ خلاص يبقا الجمعه الجايه إن شاء الله نعمل حفل بسيط كده وتلبسوا الدبل..


نظر جمال وبسمة إلى بعضهما البعض بفرحةٍ غمرتهما لم تلبث أن إنقشعت عنهما عندما قال حلمي موجهًا حديثه نحو جمال:

_ أكيد إنت عارف إنه مبقاش ينفع تشتغل في المطعم هنا يا جمال بعد النهارده ، ميصحش الزباين يعرفوا إن خطيب بسمة بنت حلمي بيه شغال جرسون في المكان! لكن إطمن أنا كلمتلك كذا حد من معارفي على شغل وهنشوف أحسن فرص فيهم إيه وتشتغل، كمان أنصحك إنك متكتفيش بشغلة واحدة.. إنت دلوقتي داخل على جواز وتوضيبات كتيرة محتاجة منك فلوس.. ولا إنت مش معايا؟!


رغم شعوره بالإهانة البالغة ولكن لم يسَعهُ سوى المثول لرغباته وموافقته الرأي فقال:

_ اللي تشوف حضرتك..


_ إتفقنـا، نقـرا الفاتحة!


❈-❈-❈


| بعد مرور أسبوع |



كانت دليلة تمسك بمكنستها وتنظف حجرات المشفى فإذ بزميلتها " نهى " تتحدث إليها وتقول:

_ هناء، معلش إطلعي نضفي الأوضة بتاعة كشف النسا فوق لأن الكشف المسائي قدامه نص ساعه ودكتور جمال على وصول..


أجفلت فور أن إستمعت إلى ذلك الإسم ونظرت إليها بتوتر وقالت:

_ دكتور جمال ده مين؟


طالعتها الأخرى بتعجب وقالت:

_ دكتور جمال الليثي دكتور النسا..


إنتظمت دقات قلبها شيئًا فشيء، ثم أومأت وصعدت إلى الطابق العلوي حيث غرفة كشف النساء.


دخلت وبدأت بتنظيفها وهي شاردةً تتحدث في نفسها وتقول:

_ مالك يا دليلة إتاخدتي كده ليه أول ما سمعتي إسمه! وهو معقول جمال ده شِكل دكاترة.. ده كبيره زبّال.. ولا تكوني لسه بتحني له بعد اللي شوفتيه على إيديه.. منك لله يا جمال، ياما نفسي أعيش لغاية ما ييجي اليوم اللي أشوفك فيه مذلول ومكسور.. هيحصل يا جمال، أقسم بالله هيحصل.. وهكسرك زي ما كسرتني!!


إنتهت من تنظيف الغرفة وخرجت فحانت منها إلتفاتة نحو شابة في عمر العشرين تجلس منتفخة البطن وبجوارها يجلس زوجها يحيطها بحنان وحب!


رمقتهما بتحسرٍ ونزلت للأسفل بعد أن أنهت عملها، ثم دخلت حجرة العاملات لكي تقوم بتبديل ملابسها..


إستندت إلى حافة الطاولة وهي تبكي بمرارةٍ وإلتياع، ذلك المشهد قصير المدى بعث في قلبها الجراح التي ما لبثت أن تجددت وكأنها وليدة اليوم!


إنخرطت في نوبة بكاءٍ حارة وهي تتذكر ذلك اليوم المشؤوم الذي جعلها ساقطة بإسم الحب!


_ إسترجاع زمني قصير _


فتح جمال الباب و دس مفتاحهُ بجيبه وهو يدعوها للتقدم ويقول:

_ تعالي يا دليلة، إدخلي مالك واقفة خايفه كده ليه؟


دخلت بوجل وهي تنقل بصرها يمينًا ويسارًا على زوايا ذلك البيت العتيق تفحصهُ بقلق وبداخلها تتردد الكثير من الأسئلة، ثم أطلقت لسانها وهي تسأله:

_ هو إحنا هنتجوز هنا يا جمال؟ في البيت ده؟


إقترب منها جمال أكثر حتى يتسنى له أن يحيطها بذراعيه وقال:

_ وماله البيت يا حبيبتي! لسه لما يتوضب وياخد وش دهان كده هيبقا أحلى من أحلى عمارة فيكي يا مصر.


نظرت إلى تلك الجدران المتشققة بشك وعادت إليه بعيناها وقالت:

_ بس ده محتاج شغل كتير أوي وفلوس أكتر يا جمال! مش إنت وعدتني إنك هتخلص كل حاجه بدري علشان أول ما ينزل أخويا الأجازة الجاية تطلبني منه!


أومأ دون تردد وقال:

_ وأنا لسه عند وعدي. أنا بس مستني سُلفه جيالي وهاخد عليها قرشين من حسين وأوضب البيت علطول.. طالما الفلوس موجودة إعتبري كل حاجه إتعملت.


أومأت بعدم إقتناع، فاقترب هو منها أكثر ماحيًا تلك المسافة المنعدمة من الأساس. ومال نحوها يقبل جيدها بلطافةٍ أربكتها وهو يقول:

_ وحشتيني.


تملصت من بين يديه بلين وهي تمسك ساعديه بيديها تدفعه عنها برفق وتقول:

_ إنت  كمان.


أحكم قبضته حول خصرها أكثر حتى شل حركتها فأصبحت تحاول الفرار من بين يديه عبثًا وهو يقول:

_ وأنا كمان إيه؟


تنهدت بضيق بيّن وقالت:

_ بطّل يا جمال حركاتك دي..


طاف بشفتيه حول جيدها بخبرتهُ المستترة حتى تمكن من أسرِها وقال:

_ حركات إيه يا دليلة! بقوللك وحشتيني.


_ وإنت كمان وحشتني يا جمال بس مينفعش كده! اصبر لحد ما نتجوز..


_ ودلوقتي إيه وبعدين إيه يعني يا حياتي ما إنتي ليا سواء دلوقتي ولا بعدين..


_ بس بردو.. ميصحش يحصل بيننا حاجه من دي قبل الجواز.


أمسك رأسها يجذبها نحوه وهو يقول بإصرار:

_ سيبك من يصح وميصحش يا دليلة دلوقتي وفكرّي في حاجة واحدة بس.. إنك دلوقتي مع الراجل اللي بتحبيه وبيحبك.. بس كده!


صوّب نظراتهُ صوبها بتمكن؛ فاخترقت قلبها وأسرت حواسها بأكملها. وما كان منها إلا أن إنصاعت لقبلاتهُ الشيطانية وسبحت برفقته بعيدًا في بحورٍ من الوهم والضلال.


| عودة للحاضر |


عادت دليلة من ذكرياتها الأليمة بفعل ذلك الإحساس المميت الذي طغى عليها؛ حيث أحست بأنها ستختنق في الحال وكأنما الهواء قد إنقطع عن رئتيها تمامًا!


أخذت تدلك عنقها بيديها وهي تسعل بشدة قبل أن ينفرج الباب بغتةً ودخلت زميلتها نهى التي ما إن رأتها بتلك الحالة حتى هرولت إليها مسرعةً وهي تقول:

_ هناء، مالك.. يا هناء مالك ردي عليا..


أجابتها دليلة وهي تسعل بقوة:

_ مش قادرة، هتخنق.. 


_ طيب شيلي النقاب اللي على وشك ده وخدي نفس..


وضعت دليلة يدها أسفل ذقنها وهي تثبت نقابها بيدها حتىلا تتمكن الأخرى من رفعه وقالت برفضٍ قاطع:

_ لأ.. هاتيلي بس… عاوزة أشرب..


_ مالك خايفة كده محدش من الرجالة هيشوفك.. إرفعيه عشان تعرفي تتنفسي..


_ هاتيلي أشرب بسرعة.. بسرعة يا نهى..


أسرعت نهى تحضر لها الماء فاستغلت عدم وجودها ورفعت النقاب عن وجهها وأخذت شهيقًا ملأت به رئتيها وزفرتهُ بتمهل وبطء، ثم أسدلت النقاب على وجهها ثانيةً قبل أن تدخل نهى الغرفة وبيدها زجاجة مياه أعطتها لها وهي تقول:

_ إقعدي وإشربي وحاولي تاخدي نفس بالراحة…


فعلت دليلة كما أخبرتها ودمعاتها لا زِلن يتدفقن على جانب خديها، ثم أسندت زجاجة المياه على الطاولة من أمامها وهي تقول:

_ أنا بقيت كويسة، أنا هغير وأمشي..


وهربت من أمامها مسرعةً وعادت إلى السكن الذي تسكن به.

مرت الستة أشهر سريعًا..


كان جمال قد إستطاع تدبير نفقات السكن والمعيشة بعدما إضطر للعمل بوظيفتين كي يتمكن من إنهاء متطلبات الزفاف قبل أن تنقضي المهلة التي أعطاه إياها حلمي..


وجاء اليوم الموعود..

❈-❈-❈


 أُقيم حفل الزفاف في فندق من أفخم وأرقى الفنادق حيث أصرّ حلمي على أن يصنع لإبنته يومًا مميزًا لا يُمحى من ذاكرتها أبدًا، حاملًا على عاتقيه جميع نفقات حفل الزفاف، آخذًا في إعتباره عدم إستطاعة جمال على تحمل كل تلك التكاليف؛ فهو يعلم أنه بالكاد إستطاع تدبير نفقات الإيجار والمعيشة، وفي ذات الوقت لم يكن ليقبل أن تتزوج وحيدتهُ إلا كما تمنى لها دومًا… عرسًا صاخبًا يليق بها ويجعل قريناتها يتمنون مثله، بل ويجعل العاصمة بأكملها تتجاذب الحديث حولهُ لأسابيع عدة!


وجرت الأمور كما خطط لها..


لقد كان حفلًا رائعًا، حضرهُ كبار الشخصيات وأهمهم، حفلًا فاق كل توقعات جمال وجعله يشعر بالدونية وسط ذلك الحشِـد الأرستقراطي..


إنتهى الحفل الذي إمتلأ بالمرح على أشدّه ورسم بذاكرتهما أسعد اللحظات وأجملها!


عادا إلى منزلهما ، دخلا وأغلق الباب خلفهما وتقدم بها نحو غرفة نومهما، وقف أمامها وهو يمسك كتفيها بيديه ويطالعها بتفحص عن قربٍ شديد لأول مرة! 


جال بعيناه في صفحة وجهها ومن ثم إقترب أكثر وطبع أول قبلةً في تاريخهما الحميـ ـمي على جبينها بحبٍ خالص وقال:

_ إزاي أصدق إني فعلًا واقف قدامك دلوقتي؟ إزاي أقنع نفسي وقلبي إنك ملكي خلاص؟ 


مال نحوها ثانيةٍ وقبّل وجنتها بنعومةٍ أذابتها وهو يهمس إليها ويقول:

_ عملتي فيا إيه؟ إزاي خطفتيني من أول مرة شفتك فيها! 


أغمضت عينيها وأحاطتهُ بحبٍ صادق، إختبئت بأحضانه ترجوه ليسبغ عليها من وافر عشقه أكثر؛ فما كان منه إلا أن إستجاب و لبى طلبها حيث إنحنى واضعًا يده خلف ظهرها والأخرى خلف ركبتيها وحملها ضامًّا إياها لصدره، ثم تقدم بها نحو فراشهما ولم يحرر عينيها من قيد نظراته وهو يقول:

_ أوعدك إنك هتعيشي العمر كله الأولى والأخيرة بقلبي!



يُتبع..

إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة نعمة حسن، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية