رواية جديدة في غيابت الجب لنعمة حسن - الفصل 6
قراءة رواية في غيابت الجب كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية في غيابت الجب
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة نعمة حسن
الفصل السادس
~ أشعرُ بكَ ~
بعد مرور أسبوع
عاد جمال إلى المنزل، دلف إلى غرفته باحثًا عن بسمة ولكنه لم يجدها فعلم أنها بتلك الغرفة التي خصصتها لاستقبال الطفلة "لينا".
دخل فوجدها تقف أمام الخزانة الصغيرة وهي تضع الثياب التي إشترتها بداخلها بفرحة وحماس.
إنتبهت إلى وجوده فنظرت إليه مبتسمةً وقالت:
_ تعالى يا جمال شوف الهدوم اللي جبتها للينا..
وسحبته من يده وهي تُطلعه على ما أحضرت وقالت:
_ كل دول جبتهم النهارده، شوف الحاجات طعمه إزاي، هيبقوا حلوين عليها أوي مش كده؟
نظر إليها بعينين يسكنهما الحزن وقال بصوتٍ هادئ:
_ حلوين.
تعجبت حديثه المقتضب وقالت بترقب وچِل:
_ مالك متضايق؟
تنهد وهو يمسح على وجهه بضيق مصطنع وقال:
_ الدار ردوا علينا.
إبتلعت ريقها بتوتر وأومأت كي يستطرد حديثه ولكنه صمت، ثم إستدار وجلس على حافة السرير وهو يولّيها ظهره وقال:
_ كلها تدابير ربنا.
ألقى كلماته الغامضة وإمتنع؛ فذهبت وجلست بجواره وقد وضعت رأسها أرضًا وقالت بحزن عميق:
_ موافقوش مش كده؟ كنت حاسة. بس كان عندي أمل يوافقوا.
نظر إليها وقد تدافعت ضحكاتهُ فانفجر ضاحكًا بقوة مما أثار تعجبها وقالت:
_ بتضحك على إيه؟
أحاطها بذراعيه وهو لا يزال يضحك فقالت بحنقٍ شديد:
_ ممكن أفهم إيه بيضحگك؟
نظر إليها وقد جذب وجنتيها بين إصبعيه يداعبها وهو يقول:
_ مبروك يا روحي، هتكوني أحلى ماما في الدنيا.
نظرت إليه بعينين متسعتين بدهشة وقالت:
_ صحيح؟ وافقوا بجد؟
أومأ أن نعم وهو يخرج ذلك المظروف من جيب سترته الداخلي وقال:
_ أيوة وافقوا، النهارده بعتولي الجواب ده مكتوب فيه إنهم وافقوا على طلبنا وهنروح بكرة إن شاء الله علشان نستلم البنت.
تمتمت وهي تحمد الله أن أجاب دعواتها وحقق ما تمنت طويلًا، ثم نظرت إليه وقد زحف الضيق إلى وجهها وقالت:
_ طب و ليه بكره؟ ليه مش دلوقتي؟
_ مفرقتش يا بسمة النهارده من بكرة، أهم حاجة إنهم وافقوا،مش كده ولا إيه؟
أومأت بموافقة واحتضنته بفرحة عارمة وهي تقول:
_ مبسوطة جدا يا جمال، مبسوطة خالص خالص.
ربت فوق ظهرها وهو يقول:
_ وأنا مبسوط إنك مبسوطة يا حبيبتي، وعارف إنك عايزة تشكريني على الخبر الحلو ده بس مش عارفه تشكريني إزاي مش كده؟
نظرت إليه وقد أدركت ما يرنو إليه فابتسمت بدلال وهي تقول:
_ جمال.
_يا عيون جمال. ياللي سرقتي قلب وعقل جمال وجبتيه على ملى وشه.
تصاعدت ضحكاتها وتصاعد معها وَلَعَهُ وهوسَهُ بها فأخذ يقبلها برغبةٍ دائمًا ما تنجح في إشعالها دون أدنى مجهود.
❈-❈-❈
في الصباح.
نهضت بسمة بحماس قبل أن يوقظها جمال كعادتهما كل يوم، أخذت حمامها وبدلت ملابسها ثم بدأت بإيقاظه بعجلةٍ وهي تقول:
_ جمال، قوم يلا يا حبيبي هنتأخر.
أفاق جمال على الفور ونظر إليها قاطبًا جبينه وقال:
_ إيه ده؟ إنتي جهزتي؟
_ أيوة، قوم يلا إنت كمان وإجهز بسرعه عشان منتأخرش.
أومأ موافقًا ونهض متجهًا نحو دورة المياه وأخذ حمامًا، ثم إرتدى ثيابه وخرجا ليستقلا سيارتهما متجهيْن نحو الدار.
_ متحمسة أوي أشوف لينا.
أخبرتهُ بسمة فابتسم وقال:
_ تخيلي وانا كمان! بس خايف متتقبلناش.. أو متتقبلنيش بمعنى أصح.
_ ليه؟
رفع كتفيه جاهلًا بالإجابة وقال:
_ مش عارف، حاسس كده إنها مش مستلطفاني.
ضحكت ملء فمها وقالت:
_ هي شافتك غير مرة!! لسه يا حبيبي لما تعيش معانا وتتعود علينا هنكون إحنا كل حياتها.
زم شفتيه وأومأ بتأكيد وقال:
_ إن شاء الله، يلا وصلنا.
تضاربت دقات قلبها كطبول الحرب وتصارعت جميع مشاعرها سويًا؛ إنها على بُعد خطوات قليلة من تحقيق حلمها الذي ظنته يومًا مستحيل.
تشابكت أيديهما ودلفا إلى الداخل متجهين صوب غرفة مديرة الدار.
رحبت بهما ببشاشة و دعتهما للجلوس ففعلا ومن ثَم بدأت حديثها قائلة:
_ مبروك يا أستاذ جمال إنت ومدام بسمة، الدار قبلت طلب الكفالة اللي حضراتكوا قدمتوه من أسبوع علشان تكفلوا الطفلة لينا محمد.
أومأت بسمة براحة وسعادة ونظرت إليها وهي تقول:
_ مبدأيًا كان في كذا حاجه لازم تكونوا على عِلم بيها الأول. أولًا، لازم تكونوا عارفين إن من أحد شروط قبول طلب كفالة طفل إنه الأسرة البديلة اللي هتكفله يكون مر على زواجهم تلت سنين أو أكتر. وطبعًا حضراتكوا متزوجين بتاريخ ٦ مارس عام ٢٠٠٠ يعني من سنتين فقط.
نظر جمال وبسمة إلى بعضهما البعض بإستفهام وسرعان ما أردفت بالتفسير حيث قالت:
_ لكن بعد البحث اللي عملته لجنة الأسر البديلة عن حضراتكوا ثبت عدم إمكانية الإنجاب؛ لذلك تجاوزنا عن الشرط السابق.
تنهد كليهما براحة وخاصةً بسمة، ثم تابعت المديرة وقالت:
_ ثانيًا، إسم الطفلة اللي إعتمدته المؤسسة هو " لينا محمد" ولا يجوز تسميتها بإسم حضرتك " لينا جمال" لأنه في الحالة دي يعتبر تبني وطبعًا زي ما حضراتكوا عارفين التبني حرام شرعًا. لكن يُسمح بمنحها لقب العيلة يعني يصبح إسمها " لينا محمد البدري" و ده هيُثبت في ملف الطفلة بحيث ميكونش في أي أثر من آثار التبني.
أومأا بموافقة فتابعت:
_ ثالثًا والأهم، لازم تبلغونا فورًا عن أي تغيير يحصل في حالتكوا الاجتماعية. زي لو قررتوا تنفصلوا لا قدر الله ، أو تنقلوا محل إقامتكوا. وكمان أي تغيير بخصوص الطفلة. زي دخولها المدرسة، أو هروبها منكم، أو زواجها أو وفاتها لا سمح الله..
وأخيرًا. ممنوع منعًا باتًا تسافروا خارج مصر مع الطفل، أو بدونه. إلا بعد إبلاغنا وتقديم إقرار للدار.
أومأا بتفهم فقالت مبتسمة:
_ دي كانت أهم وأبرز الشروط في العقد واللي كان لازم أوضحها لحضراتكوا. وبمجرد ما تمضوا العقد هيكون بإمكانكوا تستلموا الطفلة إن شاء الله.
أسرع جمال يوقع أوراق ذلك العقد ومن بعدهُ زوجته التي بدت متلهفة كثيرًا لرؤية صغيرة قلبها وعند الإنتهاء من إمضاء العقد أسرعا لإستلامها.
❈-❈-❈
دلفا إلى الغرفة الموجودة بها لينا، فكانت تجلس على إحدى الأرجوحات الصغيرة المتموضعة بزاوية الغرفة.
إقتربا منها حتى وقفا أمامها وظلّا يتابعانها وهي تراقب أقرانها وتضحك كلما فعلوا شيئًا يثير الضحك.
كانت تملك عينين عسليتين واسعتين ، فيهما لمعة الشمس عند المغيب وهي تعدك باللقاء مجددًا أسفل حاجبين مرسومين بدقة، والأنف حادٍ صغير ينحدر نحو فمٍ مكتنز وردي، ووجهٍ أبيض مستدير كالبدر المكتمل، بشرة بيضاء صافية ووجنتين مخضبتين بالحُمرة.
لوحة فنية رائعة تأسرك وتضطرك لأن تغتنمها أو تسرقها إن أمكن.
_ لينا.
هكذا نادتها بسمة بترقب فانتبهت لها على الفور وطالعتها بنظرات فارغة ولكنها إخترقت أعماق قلبها.
من تلك التي إمتلكت كامل قسوة قلوب البشر إذ إستطاعت أن تفرط بتلك الحورية الصغيرة!
لم تَرَها سوى مرتين ولكنها أقسمت أن لا تفرط بها أبدًا.
إنحنت لمستواها وجثت على ركبتيها أمامها وعلى وجهها إبتسامةٍ مشرقة وقبل أن تنطق كانت الصغيرة قد إنكمشت على نفسها بخوف وظلت تطالعها برهبة وقلق.
نظرت بسمة حينها إلى جمال وكأنها ترجوه أن يساعدها فإقترب منها وجثا بدوره وقال:
_ إزيك يا لينا؟
طالعتهُ لينا بتفحص، ثم أطالت النظر في وجهه دون إبداء أية رد فعل، ثم فاجئتهُ بأن إنزوت ناحيته وكإنما تلوذ به ومدت يديها الصغيرتين إليه كي يحملها؛ مما أثار تعجب بسمة الشديد كوْن الطفلة إنجذبت نحو جمال ونفرت منها.
نظر جمال إلى بسمة مندهشًا وهو يقول بإستغراب شديد:
_ إيه اللي بيحصل ده؟
إغتبطت بسمة وقالت:
_ مبسوط إنت طبعًا.
تعالت ضحكاتهُ وقال:
_ مش مصدق.. ده أنا سرّي باتع بقا على كده!
نظرت بسمة إلى لينا مجددًا وأخرجت تلك الحلوى التي أحضرتها معها تحسبًا لمثل ذلك الأمر، و مدتها إلى الصغيرة وهي تقول:
_ شوفي جيبالك إيه.
ثم فتحت ذراعيها لتستقبل الطفلة التي مالت عليها لتحملها وعيناها مثبتتان على الحلوى، فحملتها بسمة وهي تضمها إليها بإشتياق، ثم قبّلت وجنتيها وهي تعطيها الحلوى وتقول:
_ حبيبتي يا لينا، حضنك حلو أوي.
سألها جمال:
_ يلا؟
أومأت بموافقة وسارت برفقته إلى الخارج، ثم ركبا سيارتهما وعادا إلى المنزل فرحين بإحتضان الطفلة التي ستنير عتمة وحدتهما من الآن فصاعدًا.
❈-❈-❈
في يوم شديد البرودة..
خرجت دليلة من المشفى بعد أن أنهت عملها، سارت على جانب الطريق وهي تضم طرفي معطفها إليها كي تحتفظ بالقليل الباقي من دفئها؛ إذ تجمدت أطرافها من شدة البرد وأصبحت ترتجف وهي تنظر حولها علّها تجد أي مواصلة بإمكانها أن تقلها إلى مسكنها في أقرب وقت.
بعد رحلة سير إستغرقت حوالي نصف ساعة كانت قد وصلت إلى تلك العمارة التي تسكن بها، صعدت السلم سريعًا حتى وصلت أمام باب غرفتها لتتفاجأ حينما وجدت ذلك الطفل يجلس أمام الباب متكومًا كالقطة حول نفسه وهو يحيط جسده الضئيل بذراعيه الصغيرين محاولًا بث الدفء به.
_ رزق!!
نطقتها دليلة بهلع واردفت وهي تساعده على النهوض من مجلسه:
_ قوم يا حبيبي إيه مقعدك كده! يلا علشان ندخل من البرد ده.
فتحت الباب سريعًا، ثم دلفت ومعها رزق وما إن أغلقت الباب حتى أسرعت بالنظر إليه وقالت:
_ ثواني وهعمل لك حاجه سخنه تشربها علشان تدفى.
بالفعل أحضرت له مشروبًا ساخنًا على الفور وخرجت لتناوله إياه ولكنها تفاجئت به وقد غفا فوق الأريكة التي كان ينتظر عليها.
إمتلأ قلبها حسرةً ووقفت تطالعهُ بشفقة؛ فتقدمت منه وطرحَت فوقه غطاءًا ثقيلًا ثم دلفت إلى فراشها وتدثرت بغطاءها بدورها.
❈-❈-❈
في الصباح.
إستيقظت دليلة من نومها وفور أن نهضت من فراشها توجهت نحو رزق وقد تذكرتهُ للتو، لتجده يجلس أمام التلفاز يتابع فيلمًا، جلست بجواره وقالت:
_ صباح الخير يا رزق.
نظر إليها بابتسامة يشوبها الحرج وقال:
_ صباح الخير.
_ نمت كويس؟
أومأ أن نعم فقالت:
_ طب الحمد لله، هعمل الفطار علشان نفطر سوا وبعدها هنزل أروح شغلي وإنت تستناني هنا لحد ما أخلص وأرجعلك أخدك ونفوت نشتري لك هدوم تلبسها.
نظر تلقائيًا إلى تلك الخرقات المهترئة التي يرتديها، ثم نظر إليها بامتنان وهز رأسه بإستجابه صامتة.
منحتهُ إبتسامةً عذبة، ثم نهضت وبدأت بإعداد الطعام على عجالة، ثم وضعت الصينية فوق الطاولة و دعتهُ للتقدم.
بدأ رزق يتناول فطوره على إستحياء بالرغم من تلك الجلبة التي تحدث بأمعائه الآن من شدة الجوع.
كانت دليلة تراقبه بإبتسامة لم تخبو أو تتراجع وقالت:
_ إمبارح عملتلك كوباية لبن وجيت أديهالك لاقيتك نمت.
أومأ بإيجاب وقال:
_ كنت بنام على روحي، بقالي يومين منمتش.
طالعتهُ بشفقة وقالت متسائلةً:
_ ليه؟ إنت كنت بتنام فين؟
_ بنام في أي خرابة أنا والعيال صحابي، وساعات كان ربنا بيكرمنا ونلاقي عربية قديمة مركونة في الشارع نقعد في قلبها.
وإبتسم وهو يتذكر تلك اللحظات وقال بعينين لامعتين يسكنهما الخذلان:
_ و يوم ما ربنا يفتحها علينا أوي كنا نعوّر بعض ونروح المستشفى. هناك بقا القعدة ملوكي. سرير وغطا نضيف، ده كمان كانوا بيجيبوا لنا أكل تلت مرات في اليوم!
طالعتهُ بصدمة؛ لم تتوقع أن الأمر قد بلغ ذلك السوء، لم تكن لتصدق ما سمعته لولا أنه يصدر من فمه هو.
_ بس الممرضات في المستشفيات حفظونا، عرفوا إننا بنعمل كده عشان ننام في المستشفى. عشان كده بطلوا يراعونا.
وأشاح بيده بلامبالاة وأردف حانقًا:
_ يلا أحسن.
نظرت إليه وهي تحاول التخفيف من وطأة تلك الذكريات المريرة التي تشكلت أمامه الآن وقالت وهي تعبث بخصلات شعرهُ المشعثة:
_ إنسى، المهم إنك معايا دلوقتي وهتفضل هنا على طول. مش كده يا رزق؟
شرب آخر ما تبقى بكأس الحليب خاصته، ثم أسنده فوق الطاولة وقال:
_ هفضل هنا على طول؟
أومأت أن نعم وهي تنظر إليه بتركيز تستشف ردة فعله فقال:
_ مش هتزهقي مني؟
هزت رأسها نافيةً فتساءل بإصرار:
_ ولا هييجي يوم وتقوليلي إمشي زي ما عملت مرات أبويا؟
كانت لتومأ بنفي ولكن فضولها غلبها وتساءلت:
_ مرات أبوك؟!
أومأ مؤكدًا وبدأ يحكي فقال:
_ ماهو بعد موت أمي أبويا الله يجحمه إتجوز، بس إتجوز واحدة استغفر الله العظيم. تقول للقرد قوم وأنا أقعد مطرحك.
إنفلتت ضحكتها وقالت:
_ وبعدين؟
_ بعدها بكام شهر أبويا إتكل، مات يعني.
تقوس حاجبيها دهشةً وأصابها الغم على ما سمعت، بينما إستطرد هو قائلًا:
_ راحت مراته ممشياني من البيت، قالتلي أنا هتجوز ومبقاش ينفع تقعد معايا هنا.
_ وبعدين؟
_ ولا قبلين، مشيت بقا وقعدت في الشارع.
تسائلت بفضول وإستغراب في آن:
_ طيب ليه مروحتش لقرايبك، قرايب أبوك أو أمك. ليه قعدت في الشارع وإنت عندك بيت؟
أجاب ببلاغة لا تتناسب مع سنه الصغير وقال:
_ أول حاجة أنا معرفليش قرايب، أبويا وأمي كانوا عايشين كده بطولهم ملهمش حد. لا أعرف خال ولا عم.. تاني حاجه مرات أبويا دي مفترية، ممكن لو رجعت لها تلبسني داهية وبعدين أنا أصلًا نسيت إحنا ساكنين فين.. مانا بقالي كتير في الشارع.
تساءلت بضيق طفا على سطح مشاعرها:
_ إنت عندك كام سنه يا رزق؟
حك رزق رأسه بتفكير وقال:
_ عندي عشر سنين، أمي ماتت وأنا عندي خمس سنين. سابتني صغير أوي.. أبويا كان دايما بيقول كده! كان بيقوللي سابتك ليا أشيل همك لوحدي..
وتمتم بصوتٍ خفيض ولكنهُ كان واضحًا بالقدر الذي يسمح لها بسماعه وقال:
_ الله يجحمه بقا مطرح ما راح.
كان قلبه يوشك أن ينفجر حزنًا لولا يداها اللتان ربتتا فوق كتفه الصغير وقالت:
_ الله يرحمهم يا حبيبي.
نظر إليها وقد تبدلت الأدوار سريعًا وقالت:
_ إنتي بردو أمك وأبوكي ميتين مش كده؟
أومأت برأسها وقد إنصهر داخلها وغاصت في نوبة شجن، كلما تذكرت أمها صارت تتنفس بصعوبة وتقطعت الكلمات على شفتيها؛ لقد ماتت أمامها.. بين يديها. وكأنها أرادت أن تترك لها ندبة أخرى فوق ندباتها التي لم ولن تشفى.
تجاوزت سؤالهُ عمدًا عندما نظرت بساعة يدها فنهضت فجأة وقالت:
_ الكلام خدنا وإتأخرت خالص، يلا كمل فطارك وأنا هدخل أجهز عشان أمشي.
دلفت إلى الغرفة، إرتدت ثيابها سريعًا وخرجت فمالت عليه وهو يشاهد التلفاز وقالت:
_ رزق حبيبي، أنا هخلص شغلي وهرجعلك بسرعه، إوعى تمشي.
_ متقلقيش مش همشي.
قالها ببراءة لا تعرف المراوغة وأضاف:
_ هترجعي تلاقيني.
إبتسمت إبتسامة مشوبة بالقلق وأومأت وهي تسعل بخفة ثم قالت:
_ في أكل وفاكهة في التلاجة، لو جوعت كُل على ما أرجع،ماشي يا رزق؟
أومأ مبتسمًا وقال:
_ ماشي يا… ألا إنتي إسمك إيه صحيح؟!
إبتسمت ولمعت عيناها بحنان وهي تحيط مؤخرة عنقه الصغير بكفها، همت بالحديث ولكن ذلك السعال المتكرر منعها فتوقفت عن الحديث لبرهه ومن ثم قالت:
_ دليلة. إسمي دليلة.
نهض وأحضر لها كأسًا من الماء ثم عاد و مده إليها فإلتقطته منه وهي تقول
_ متشكرة يا رزق.
سألها بإهتمام واضح:
_ مالك؟ إنتي عيّانه؟
تجرعت كأس الماء كاملًا، ثم أجابتهُ وقالت:
_ تقريبًا خدت لطشة برد من الجو بتاع إمبارح..
_ قوليلي إسم علاج وأنا أروح أجيبهولك من الصيدلية وأرجع أوام.
نظرت إليه بإبتسامة وأردفت:
_ متشغلش بالك يا حبيبي.. أنا كويسة مفيش حاجه. يلا همشي أنا عشان إتأخرت، مع السلامة.
طالعها بحزن وتأثر باديين على صفحة وجههُ البريء وقال:
_ مع السلامة.
❈-❈-❈
كانت بسمة تجلس فوق تلك الأرجوحة الخاصة بها، وفوق قدميها تجلس الصغيرة التي إعتادت الجلوس بتلك الوضعية منذ أن أتت إلى هنا.
تحمل بسمة طبقًا به طعام الصغيرة وتقوم بإطعامها وهي تغني لها وتدللها كي تتناول طعامها.
دلف جمال، إقترب منهما وهو يبتسم إبتسامةٍ واسعة وقال:
_ سيدي يا سيدي، رايقين و بتغنوا وناسيينّي عالآخر.
قبّل جبينها ومن ثم جبين الصغيرة التي فتحت ذراعيها كي يحملها كعادتها فنظرت إليها بسمة بتعجب وضيق مصطنع وقالت:
_ بقا كده!
حينها أردف جمال قاصدًا مشاكستها وقال:
_ زعلانة ليه يا بسوم ما أنا وإنتي واحد بردو..
وقبّل الصغيرة مقربًا إياها من صدرهُ أكثر وهو يخرج من جيبه قالب من الشيكولاتة ويهديه إليها ويقول:
_ حبيبة بابا.
إلتقطت منه لينا قالب الشيكولاتة وهي تحاول فتحهُ قبل أن تنتزعه منها بسمة وهي توجه حديثها إلى جمال بتعنيف طفيف وقالت:
_ يعني مش شايفني والأكل في إيدي يا جمال تقوم توريها الشيكولاته!!
نظر إليها بعدم فهم وقال:
_ هو أنا عملت إيه غلط دلوقتي؟
_ وكمان بتسأل يا جمال؟ أهي دلوقتي مش هترضا تكمل أكلها وهتلتفت للشيكولاته، عاجبك كده؟
رفرف بأهدابه محاولًا إستيعاب الأمر وقال بأحرف متلعثمة:
_ ماهو.. ماهو انا مكنتش أعرف يا بسمة، أعرف منين حاجه زي كده طيب.. عالعموم أنا غلطان حقك عليا خلاص هاخد منها الشيكولاته وإنتي طعميها..
ردت بإستياء:
_ مينفعش طبعًا، إزاي هتاخدها منها بعد ما شافتها ما هي هتفضل تصرخ وبردو مش هترضى تاكل.
_ طيب أتصرف إزاي دلوقتي ؟
_ خلاص يا جمال أنا هفتح لها الشيكولاتة بس أرجوك بعد كده متكررهاش.
أومأ بطاعة وقال:
_ حاضر، خلاص بقا يا بسمة متتضايقيش ماهو أنا معرفش حاجة زي كده، هعرف منين يعني هو أنا كنت أب قبل كده!
_ وأنا يعني اللي كنت أم قبل كده؟ بس دي بديهيات يعني يا جمال.
_ معاكي حق، الواضح كده إن لينا هانم هتعلمني حاجات كتير أوي أنا غافل عنها، بس ميهمش.. كله يهون عشان خاطر عيون لينا. و أم لينا كمان.
إبتسمت حتى بانت نواجذها بحبورٍ شديد كونهُ نسبَ الطفلة إليها هكذا فقال مبتسمًا لرؤية إبتسامتها:
_ أم لينا وحشتني. سهرانة مع لينا طول الليل وسيباني أحترق شوقًا.
تعالت ضحكاتها بشدة على تشبيهه المضحك وقالت:
_ والله يا حبيبي ما باليد حيلة، لولي طول الليل عايزاني جنبها يا إما تعيط لو صحت لقت نفسها لوحدها في الأوضة.
هز رأسه وهو يصطنع التفهم وأردف مازحًا:
_ ولا يهمك يا حبيبتي، ضريبة الأبوّة بقا هنقول إيه!
إبتسمت فكانت أحلى وقالت:
_ طيب تحب أعمل لك الغدا دلوقتي ؟
_ لا، بعدين. أنا طالع دلوقتي أغير هدومي وهروح المطعم. في جماعة جايين يقابلوني بخصوص المطعم اللي هنفتحه في إسكندرية.. إدعي بقا ربنا ييسر الحال.
حينئذ تمتمت بدعاء صادق وقالت:
_ ربنا ييسر لك كل أمورك ويرزقك بكل الخير اللي في الدنيا يا حبيبي.
إلتقط كفها و قبّلهُ مردفًا:
_ أنا أخدت كل الخير اللي في الدنيا يوم ما عرفتك يا بسمة، إنتي أجمل حاجه حصلتلي في عمري كله، إنتي وش السعد والهنا عليا ومن يوم ما شفتك والدنيا راضية عني و مدياني بالباع والدراع.. اللهم لك الحمد.
أحاطت وجنتهُ بكفها وإبهامها يتحرك بلطف على خده وهي تقول بإبتسامة:
_ وأنا ربنا راضي عني لأنه رزقني بواحد زيك. حنين وطيب ومخلص.. و بتحبني!
أمسك كفها الذي كان يطوف فوق وجنته وقبّله بإمتنان حقيقي وقال:
_ و مش هحبك إزاي وإنتي واقفة جمبي وفي ضهري من يوم ما عرفنا بعض، أنا كبرت بسببك يا بسمة و دي حاجه عمري ما هنساها لك.. خلتيني من مجرد واحد شغال جرسون في مطعم لراجل ليا مكانتي وسط الناس و بملك بدل المطعم إتنين دلوقتي!
_ إنت كبرت بمجهودك يا جمال، أنا ساعدتك بس.. لكن إنت كافحت وإشتغلت لحد ما وصلت للي إنت فيه دلوقتي.
زم شفتيه ممتنًا كعادتهُ بعد كل حوار يدور بينهما وقال:
_ والله ما عارف أقولك إيه، كل الكلام اللي في الدنيا لا يمكن هيوفيكي حقك .. إنتي كتير عليا يا بسمة.
_ أبدًا يا حبيبي ، أرجوك بلاش تقول كده تاني.. لو جينا للحق بقا إنت اللي كتير عليا.. كنت فين هلاقي واحد يحبني زي ما بتحبني إنت!
ضمها إلى صدرهُ وقبل جبينها، ثم قبّل جبين إبنتهُ وأردف:
_ ربنا يخليكوا ليا، ويديني الصحه وأعيش و أحبكوا وأفديكوا بروحي كمان.
❈-❈-❈
كانت دليلة تعمل وهي تشعر بالإعياء الشديد، لم يتوقف سعالها الذي أصبح ملازمًا لها بشكل متكرر..
تركت تلك المِكنسة من يدها وجلست على أحد المقاعد كي تستريح قليلًا ولكنها شعرت بأنها تختنق أكثر،مدت يدها من أسفل ذلك النقاب تدلك عنقها ولكنها لم تشعر بالراحة قط! وما كان هناك مؤشر يشير لأنها ستتعافى بعد قليل، حيث إن الأمر يزداد سوءًا وأصبحت تلتقط أنفاسها بصعوبة بالغة.
_ هناء.. هناء.. مالك حاسة بإيه؟
كانت هذه هي زميلة دليلة التي لاحظت تعبها وتدهور حالتها فصاحت تنادي رئيسة العاملات وهي تقول:
_ مدام علية، سماح شكلها تعبان قوي ومش بترد عليا.
إقتربت منها عليّة وهي تفحصها وتقول:
_ دي أكيد جاتلها كرشة نفس بسبب التراب والعفره اللي بتشمهم طول اليوم، إخلعوا النقاب ده وإتنين يسندوها تطلع للدكتور عيسى فوق يكشف عليها ويكتبلها علاج، يلا.
ساعدتها زميلتها حتى صعدت إلى غرفة الكشف وهي تشعر بأنها ستختنق حقًا، حيث كانت تسعل بشدة وأنفاسها المتلاحقة تكاد تنقطع من شدة اللهاث.
_ سكه كده يا جماعه والنبي معانا مريضة مش قادرة تاخد نفسها.
قالتها زميلتها وهي تفسح مجالاً لها كي تتمكن من إقناع المرضى الذين يتكدسون أمام غرفة الكشف بأن تدخل هي للكشف أولًا.
أسندتها وهي تقف بجوارها أمام الباب وتطالعها من فينةٍ لأخرى بقلق وترقب في إنتظار أن ينتهي الكشف الحالي كي تدخل بعده مباشرةً.
وما إن إنفرج الباب وخرج المريض حتى إتسعت عينا دليلة بصدمة ودهشة وهي تردد:
_ حسين!!
يُتبع..