-->

رواية جديدة في غيابت الجب لنعمة حسن - الفصل 7

   قراءة رواية في غيابت الجب كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى




رواية في غيابت الجب

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة نعمة حسن


 الفصل السابع

~ أيفيضُ الخاوي؟ ~



يجلسان الآن مقابل بعضهما البعض وحالة من الترقب تسود الأجواء..


كان حسين يطالعها مشتاقًا، لم يشعر بالعامين اللذين مرّا سوى الآن! لقد تركا آثارهما باديةً عليها!


_ بقيتي أحسن دلوقتي يا دليلة؟


 تسائل فطمأنته قائلة:

_ الحمد لله.. مين كان يصدق إننا نتقابل بعد المدة دي كلها؟ لأ وفي المكان اللي هربت منه من الكل! يااه على الدنيا.. صغيرة أوي يا حسين مش كدة؟


أومأ مؤكدًا حديثها وقال:

_ حاسس من كلامك إنك بتعاتبيني يا دليلة.. ليكي حق تزعلي مني، أنا سيبتك في أكتر وقت كنتي محتاجة لي فيه.. لكن والله…


قاطعته قائلة:

_ متكملش يا حسين، أنا مش زعلانة منك أبدا بالعكس.. إنت الوحيد اللي وقفت جمبي.. على العمـوم خلاص.. الكلام ده متأخر أوي.


رمقها بفضول، كان يود أن يتسائل عن أشياء كثيرة ولكنه أبى أن يصيبها بالضيق إثر حديثه معها، تنهد وسألها بطريقة غير مباشرة وقال:

_ عاملة إيه يا دليلة؟ عاملة إيه في حياتك؟ السنتين اللي فاتوا دول مروا عليكي إزاي؟


مسحت على وجهها بيأس وأردفت وقد أخفضت عيناها عنه:

_ ماشية يا حسين، أهي الدنيا يوم تلطش فيا ويوم ألطش فيها وأديني عايشة..


_ و… موضوعك كنتي عملتي فيه إيه؟


أشاحت بوجهها جانبًا وأزالت تلك العَبَرة التي خانتها وقالت محاولةً التظاهر بالقوة:

_ موضوعي خلصته.. بعد ما انت إختفيت الدنيا ضاقت في وشي، مكانش ينفع أفضل بالبيت لأن بلال أخويا نزل مصر وكان هيعرف كل حاجة، إضطريت أهرب!


طالعها مصدومًا بادئ الأمر.. ولكن ما أخبرتهُ به لاحقًا كان ذلك هو ما يستدعي أن يتدلى فكه من فرط الصدمة.


_ إتصرفت في قرشين ومشيت، أجرت أوضة صغيرة قعدت فيها لحد ما ولدت، وبعدها… وبعدها الطفلة ماتت!!


أغمض عينيه أسفًا ظنًا منه بأنها قد أنهت حديثها عند ذلك الحد ولكن سرعان ما جحظت عيناه بصدمة عندما تلت على مسامعه ما يلي..


_ رميتها في البير!


ألقتها وامتنعت عن الحديث، ثم أطرقت رأسها أرضًا وهي تجاهد ألا تنفجر بالبكاء..


_ بتقولي إيه؟!! رميتيها في البير!!!

هُنالِك صاح حسين مستنكرًا وهو يحاول إستيعاب قسوة تلك الجملة التي ألقتها لتوّها على مسامعه.


أما هي. إهتز جسدها وإنتفضت وهي تبكي بشدة وتحاول كتم نحيبها بعد أن عادت بذاكرتها لذلك اليوم.


طالعها هو بإحتقار چم، لم يجد بها ما يدعو للشفقة أبدًا. كل ما شعر به الآن هو أنه يريد لو أزهق روحها بيديه كما فعلت هي بإبنتها. زم شفتيه ممتعضًا من بكاءها وعويلها وقال بصوتٍ قاسٍ:

_ بتعيطي؟ بتعيطي ليه؟ دلوقتي تعيطي؟ إنتي… إنتي بشعة!


أحاطت وجهها بكفيها، بدأا كتفيها في الإرتعاش بفعل تلك الشهقات وهي تحاول أن تكتم نشيجها لئلا يصله، بينما ازداد في حدته معها وقال:

_ إنتي إستحالة تكوني أم! والله إستحالة تكوني أم، مهو مفيش أم تعمل كده في ضناها!! يا شيخة ده الحيوان… الحيوان اللي معندوش عقل مبيعملش كده في إبنه! 


ونظر حوله وكأنه يتلمس الخلاص من ذلك العبث وقال:

_ أنا مش مصدق، والله ما مصدق! هو جرى إيه في الدنيا!!


نظرت إليه بعينين محتقنتين من شدة البكاء وصرخت بكل ما تحمله من قهر وقالت:

_ بتسألني؟ بتسألني جرى إيه في الدنيا!! طب كنت أولى إسأل صاحبك اللي ضحك عليا وعشمني بالجواز وهرب.. كنت عاوزني أعمل إيه وأنا هربانه من أهلي وقاعده في مكان معرفش حد فيه ولا ليا حد أستنجد بيه، حتى إنت وقتها غيرت عنوانك ومبقيتش عارفه أوصل لك.. كنت عاوزني أعمل إيه وأنا كنت في حالة محدش غير ربنا وحده اللي كان عالم بيها.. كنت حاسة إني مش طبيعية، كنت حاسة إني مش أنا، كنت ضعيفة ومكسورة ووحيدة ومكتئبة.. عاوزني أعمل إيه وأنا بمر بكل ده لوحدي؟ قبل ما تحكم عليا شوف أنا حصللي إيه…


قاطعها ناظرًا إليها بإحتقار ونفور أشد مردفًا:

_ والنبي بلاش الاسطوانة المشروخة بتاعتكوا دي ، مكانش حد ضربك على إيدك ولا قاللك تصدقيه وتسلمي له نفسك.. طالما وافقتي يبقا تستحملي نتيجة أفعالك!


تقوس حاجبيها في خذلانٍ شديد!


كان هو الوحيد الذي ظنتهُ يعذرها. ولكنها أدركت الآن أنها المُلام الأوحد ومهما حدث لن يلتمس لها أحد الأعذار مهما بلغت خسارتها أو مهما كانت مبرراتها.


أطرقت رأسها أرضًا بخزي وقالت في إقرارٍ منها:

_ معاك حق.


حتى إنكسارها هذا لم يحرك به شعرة! ناظرها بإزدراء وسألها بحدة:

_ وبعد ما عملتي عملتك السودا دي إيه اللي حصل؟


أجابت وهي تنزح دمعاتها من أسفل محجريها:

_ معرفش حصل إيه بعدها، أنا عملت كده ومشيت من المنطقة كلها.. مش هتصدقني لو قولتلك إني رميت نفسي قدام عربية يومها عشان أموت وأرتاح أنا كمان لكن إرادة ربنا فوق كل شئ.

 حصللي كسور بسيطة في جسمي وإضطريت إني أمثل عليهم إني فاقدة الذاكرة عشان مضطرش أجاوب على أسئلتهم اللي مكُنتش هخلص منها، ومن وقتها إشتغلت في المستشفى بإسم هناء، ولبست النقاب عشان محدش يعرفني. وأخدت أوضة فوق سطوح عمارة ' الموجـي ' اللي جنب المستشفى وقاعدة فيها دلوقتي.


هز رأسه ونظره لا يحيد عنها وهو لا يزال يطالعها متقززًا. حتى أنها لم تقوَ على النظر إليه من فرط شعورها بالخزي.


_ وعايشة حياتك إزاي دلوقتي ولا بتعملي إيه؟


_ عادي، بشتغل طول اليوم وأرجع عالنوم…


وقطعت كلامها وقد تذكرت شيئًا للتو فوقفت تقول:

_ رزق! انا إتأخرت عليه أوي.. 


وهمت بإلتقاط حقيبتها وهي تقول إستعدادًا للرحيل:

_ يا رب ميكونش خرج.


نظر إليها ساخرًا وقال:

_ ومين رزق ده كمان؟ الزبون الجديد ولا إيه!


طالعتهُ بصدمة! حتى أنه شعر بالضيق والندم عندما رأى إتساع عينيها وهي تستنكر سؤاله.


إبتلع لعابه بتوتر وأشاح بوجهه للجانب بعد أن أقرّ بداخله أنها حتى لا تستحق الإعتذار، لكنها قالت بنبرة مهزوزة مهزومة:

_ رزق ده طفل صغير من أطفال الشوارع، قاعد معايا لأنه….


وقبل أن تستطرد كان هو قد قال متهكمًا:

_ بتعطفي على طفل من أطفال الشوارع؟! طب لما إنتي قلبك فيه الرحمة كده رميتي بنتك في البير ليه؟ موتتيها بإيديكي ليه؟!!


وضعت حقيبتها فوق الطاولة بقوة أجفلتهُ وقد تخلت عن إنهزامها وقهرها وأجابت بقوة تضاهي تلك الآلام التي حملتها وخبئتها بصدرها طيلة العامين الماضيين فقالت:

_ عايز تعرف موتتها ليه؟! لأني مكانش عندي إستعداد أسيبها تكبر وأتعلق بيها وتتعلق بيا وأرجع أنكوي بنارها كل يوم وأنا بشوفها مكروهه ومنبوذه من الناس لأنها بنت حرام! لأني مكنتش هعرف أعيش وهي معايا.. كان لازم حد فينا يموت.. يا ريت كنت أقدر أموّت نفسي وأسيبها هي تعيش.. بس قلبي مطاوعنيش.. والله العظيم خوفت عليها أسيبها لوحدها في الدنيا دي! أنا موّتتها لأني خفت عليها.. صدقني يا حسين. ورحمة أمي اللي ماتت بين إيديا .. أنا عملت كده لأني خفت عليها.. الدنيا دي وحشة أوي يا حسين، كلها غدر وناس غدارة.. خفت أسيبها لوحدها يكون مصيرها نفس مصيري.. أنا رحمتها، صدقني أنا كده رحمتها.


برغم حجم الألم الذي إنتقل إليه من خلالها، وبرغم تلك الشفقة التي دبت بقلبه صوبها إلا أنه لم يتخلى عن تعبير وجهه المفعم بالإحتقار والإستنكار.


_ مهما قُلتي يا دليلة. مفيش مبرر ممكن يشفعلك في إنك تعملي كده في حته منك.


إبتلعت غصة قلبها وقد إمتنعت عن البكاء، و أنّي لها البكاء و قد جفّت عيناها، أيفيضُ الخاوي؟!


أومأت مرات متتالية حتى أنه تعجب منها. رآها تقف وتلتقط حقيبتها مرةً أخرى وقالت:

_ أنا همشي. بس عاوزة أقوللك حاجه قبل ما أمشي. 


هز رأسه بإستفهام فقالت وهي تبكي بقهرٍ مميت:

_ أنا مليش غيرك ولا أعرف غيرك في الدنيا. إبقا إسأل عليا من وقت للتاني حتى لو من بعيد.. جايز في يوم تلاقيني مُت. وصيتي ليك وقتها تخلي بالك من رزق. أنا عارفه إنك مستغرب كلامي.  بس والله العظيم رزق ده ولد غلبان ومسكين وما صدق لقا حد يرعاه.. لو أنا مت متتخلاش عنه .. ده طلبي الوحيد منك. وحاجة أخيرة.. ربنا ما يوقعك في ضيقه أبدًا ولا يحكم عليك بكسرة القلب والنفس. 


حملت حقيبتها و فرّت من أمامه وتركته مهمومًا حزينًا، يتمنى لو أنه لم يرَها مجددًا ولم يعرف بفعلتها النكراء تلك، تمنى لو أنه لم يرَها ولم تبلغه بتلك الوصية التي أوصتهُ بها فازداد همًا فوق همومه.


أراح ظهره على المقعد وأطلق تنهيدةً متعبةً وهو يعود بذاكرته لما حدث منذ عامٍ ونصف تقريبًا.


~ عودة للماضي ~


كانا يجلسان مقابل بعضهما البعض على تلك الطاولة، بعد أن إلتقيا صدفة في ذلك المطعم الذي لم يكن يعلم حسين بأن من يملكهُ هو جمال البدري!


_ مين كان يصدق إن إحنا نتقابل بعد الأيام دي كلها، دي صدفة ولا كل الصدف يا حسين!


قالها جمال مبتسمًا بإتساع، على عكس حسين الذين كان يطالعه بهدوء وغموض.


نظر إليه جمال متعجبًا وقال: 

_ مالك يا حسين بتبص لي كده ليه؟ لتكون بتشبه عليا ولا حاجه!


قال جملته ممازحًا ليقول الآخر بجدية مخلوطة بالحدة:

_ أنا فعلًا بشبه عليك، أصل أنا معرفتكش للوهلة الأولى.. صدق اللي قال.. ياما البِدل بتداري يا…. يا جمال بيه!


حك جمال أنفهُ بضيق بسيط ولكنه تجاوز الأمر سريعًا وقال:

_ ماشي يا صاحبي،مقبولة منك بردو. أنا مش هزعل منك لإني عارف إن مفيش أطيب من قلبك.


_ وإنت مفيش أسود من قلبك يا جمال.


ألقاها حسين بغتةً دون تفكير؛ فانكمش وجه جمال وقال مستاءًا:

_ ليه كده يا حسين؟ هو أنا أذيتك قبل كده إنت ولا غيرك؟


إبتسم حسين إبتسامةً مقتضبة ساخرة وقال:

_ هه، مأذتنيش أنا صحيح .. إنما أذيت غيري كتير.. أولهم دليلة.. فاكر دليلة يا جمال بيه ولا نسيتها؟ دليلة البنت الغلبانة اللي ضحكت عليها وعشمتها بالجواز وهربت بعد ما عملت عملتك.


قلب الآخر عينيه بملل وقال بنفاذ صبر:

_ بردو دليلة؟!! أنا مش قادر أفهم مالك مهتم بيها للدرجة دي؟ وبعدين دليلة دي كانت غلطة يا حسين.. ما أي شاب طايش بيغلط وإنت عارف كده كويس.. وبعدين أنا مغلطتش لوحدي. ما هي كمان مسئولة زيها زيي.. هي كمان إستسلمت للشيطان اللي غواني و غواها ..


تنهد بحزن ومسح على وجهه بغضب فور تفوهه بالجملة الأخيرة. إنه يشير لنقطة هي أهون ما بالقصة. فماذا لو عرف بما يعرفه هو ويخفيه عنه؟ كيف سيتقبل الأمر؟!


_ القصة مش قصتكم وبس يا جمال..


حينها نظر إليه جمال بإستفهام فأردف حسين وقال:

_ دليلة حملت منك!


قطب الآخر حاجبيه بدهشة ومفاجأة، سرعان ما تحولت إلى شيء مثير للضحك والسخرية وقال:

_ يا راجل قول كلام غير ده! حملت مني أنا؟


وغرق في نوبة ضحك جديدة؛ مما أثار حنق حسين فقال مغتاظًا:

_ أيوة حملت منك إنت! هو مش إنت اللي نمت معاها ولا واحد تاني!


_ وأنا إشعرفني! ما تسألها هي!!


أجابهُ جمال ببساطة تعجُ بالوقاحة التي جعلت حسين يطالعه مشدوهًا وهو يقول:

_ يا شيخ إتقي الله! إنت عارف كويس إنها مش من البنات إياهم.. وعارف كمان إنها عملت كده عشان بتحبك ووثقت فيك!


أخرج جمال واحدةً من سجائرهُ وبدأ بتدخينها بأريحية وهو يقول:

_ والله أنا اللي أعرفه إن اللي تحب واحد تعف نفسها لحد ما يحفي هو ويتجوزها.. مكانش يبقا يغور في داهيه وتتجوز غيره.. إنما الحوارات دي أنا وإنت عارفينها كويس! مفيش واحدة تسلم نفسها لواحد وتبقا شريفة يعني لا مؤاخذه.


طالعه حسين بضيق وتقزز مردفًا:

_ تصدق إنت الكلام خسارة فيك. أنا غلطان إني قعدت معاك من أصله. أنا ماشي. ولو شفت وشك تاني ولو صدفة حتى هعمل نفسي مش شايفك… ربنا يهديك.


هنالِك نفض حسين رأسهُ وهو يعود من أقسى الذكريات وأطلق تنهيدة محملة بالآلام والهموم التي لا تنفك تلازمه كمرضٍ لعين.


……..


عادت دليلة إلى البيت وهي تشعر بالقهر الشديد. وكأنها كان ينقصها صفعة خذلان أخرى! 


إنها لم تكُن مجرد صفعة. بل كانت طعنة! طعنها بها لتنضم إلى الطعنات التي تلقتها طوال حياتها ومازالت تتلقاها بصدرٍ رحب.


فتحت الباب ودلفت لتجد ذلك الصغير نائمًا فوق الأريكة ويبدو أنه إنتظر كثيرًا وعندما يئِس غفا مكانه.


لم تكن أساسًا بالحالة التي تسمح أن تتحدث إلى أحد؛ فبدلت ثيابها سريعًا ودخلت إلى فراشها.


أسندت رأسها ودمعاتها تنحدر على جانب خديها وهي تتذكر ما قاله حسين ونظراتهُ التي لم تنُم عن شيء سوى عن التقزز والضيق؛ مما أدمى جُرحها أكثر وجعلها تتمنى لو أنها إختفت من تلك الحياة كي لا تضطر لتحمل تلك المعاناة أكثر.


أغمضت عينيها وهي تدعو الله بداخلها أن تكون تلك هي آخر مرة تغمضهما بها..


قُرِع الباب بغتةً فانتفضت وأخذت تتطلع نحو الباب بتوتر چم.


من سيكون الطارق؟ من سيقوم بزيارتها وهي لا تعرف أحدًا في المكان بأكمله؟!


إرتفعت الطرقات فوق الباب من جديد ولكن بقوة أكبر إستيقظ رزق من نومه على إثرها ونظر إليها بعينين ناعستين وهو يقول:

_ مين بيخبط؟


رفعت كتفيها كعلامة على عدم معرفتها، ثم تقدمت من الباب وأدارت المقبض بحذر لتتفاجأ بحسين الذي كان يقف أمام الباب مترقبًا.


فتحت الباب بإطمئنان أكثر وهي تقول:

_ حسين!


نظر إليها حسين بتفحص لم يَدُم طويلًا وقال:

_ أنا آسف لو جيت في وقت متأخر أو وقت مش مناسب..


فتحت الباب على آخرهِ وهي تدعوه للدخول قائلة:

_ لا أبدًا إتفضل.


دخل حسين فوقعت عيناه فورًا على ذلك الفتى الذي كان يرمقهُ بتفحص وتقييم ليقول:

_ إنت رزق!


إزداد تعجب رزق وقال:

_ إنت تعرفني؟


أومأ حسين برأسهِ بهدوء وجلس على ذلك المقعد فجلست دليلة أمامهُ على المقعد المقابل وهي تنظر إلى رزق وتقول:

_ رزق، ممكن تسيبنا لوحدنا معلش؟


أومأ رزق وعيناه لا تزال مثبتتان على حسين الذي يرمقه بتفحص لا ينضب، ثم دخل إلى الغرفة ومكث بها بينما كانا هما بالخارج ينظران إلى بعضهما البعض بترقب وكلًا منهما ينتظر أن يبادر الآخر بالحديث إلى أن تحدث حسين بعد أن حمحم وقال:

_ دليلة، من غير أي مقدمات.. أنا آسف.


أجهشت دليلة فورًا بالبكاء وكأنها كانت تتحيّن تلك الفرصة لتنفجر؛ مما أشعر حسين بالضيق و مد يدهُ بتردد وربت على كتفها وقال:

_ خلاص متزعليش.


وتنهد بحيرة من ذلك الموقف وقال:

_ أنا عارف إني كنت قاسي في كلامي معاكي النهاردة بس صدقيني أنا إتصدمت من اللي حكيتيهولي! أنا جالي ذهول! مكنتش أتوقع إن ده يحصل.. علشان كده رد فعلي كان قاسي معاكي..


مسحت دموعها وتوقفت عن البكاء وهي تقول بصوت مهزوز:

_ رد فعلك مكانش أقسى من الأيام يا حسين!


خرجت جملتها بإنهزام شديد وهي تخبره قائلة:

_ أنا شفت كتير يا حسين.. غلطة واحدة عملتها بدفع تمنها بقالي سنين، خسرت كل حاجه.. كل حاجه!! ولسه بتحاسب على غلطة مكنتش أنا السبب فيها لوحدي.. في الوقت اللي فيه جمال عايش حياته أكيد ونسي إن كان في حياته واحدة إسمها دليلة من الأساس.. 


_ جمال إتجوز!


لا يعرف لما أخبرها؟ ربما خرجت منه الجملة بعفوية غير مقصودة ولكنه أدرك بعدها أنه قد أخطأ .. ولكن قد سبق السيف العزَل. لقد قالها وإنتهى.


نظرت إليه دليلة بلهفة ممزوجة بالدهشة وقالت:

_ إنت شُفته؟


أومأ قائلًا بتحفظ:

_ شُفته بالصدفة.


_ إمتا؟ وفين وإزاي؟ 


بعد أن أطلق تنهيدةً حارة، قال:

_ كنت عازم جماعه صحابي على غدا في مطعم وطلع بالصدفة المطعم ده بتاعه..


علَت وجهها أمارات الدهشة ورددت كلماته بتعجب:

_ المطعم بتاعه؟!!


أومأ مؤكدـًا فتسائلت بذهول:

_ منين؟ إيه اللي حصل خلاه إتنقل النقلة العلّيوي دي؟ 


مط شفتيه بجهل وقال:

_ مش عارف. المقابلة دي كانت من حوالي سنة ونص، ومن يومها أنا معرفش عنه حاجه..


تسائلت مجددًا وقالت: 

_ طيب قولتله حاجة عني؟


إنتابتهُ الحيرة والتردد الظاهر على معالم وجهه جليًا فقالت:

_ قول يا حسين متترددش. قولتله عني إيه؟


أجابها حسين بكلمات حاول أن تكون تلك هي الأخف وقعًا عليها فقال وهو يحيد عنها بنظراته:

_ قولتله إنك جيتيلي وسألتيني عن عنوانه…


وأكمل وهو ينظر إليها بنظرات تملؤها الريبة والترقب:

_ وقولتله إنك كنتي حامل منه!


نظرت إليه بتلهف لتعرف ما يخفيه عنها، بينما إستأنف هو حديثه وقال:

_ مصدقنيش.


تهدل كتفيها بإحباط وحزن كما لو أن ذلك الأمر سيغير ما حدث بالماضي، أما هو فقد إبتلع ريقه بتوتر وبداخله يمتن كثيرًا لحسن تصرفه الذي هداه لأن يخفى عنها ما قاله صاحبه ويبدّل كلامهُ القاسي بتلك الكلمة المقتضبة؛ والتي على الرغم من بساطة معناها لكن المقصود من وراءها كان قد صبّ أقسى الآلام بقلبها.


تحدثت دليلة وهي تفرك أصابعها بتوتر وتحاول أن تخفي حزنها وغمها وقالت:

_ هو حر، يصدق أو ميصدقش مش فارقة.. كده ولا كده الموضوع إنتهى وجمال ده كان صفحة في حياتي و قفلتها..


جالَ حسين بنظراته التي إستقرت على ذلك الطفل الهزيل ومنحهُ إبتسامةً خاطفة، ثم نهض واقفًا وهو يلتقط تلك الورقة من فوق المنضدة، ثم أخرج القلم من جيب قميصه و دوّن فوقهُ رقمه الخاص وقال:

_ ده رقمي يا دليلة، لو إحتاجتي مساعدة في أي وقت أنا تحت أمرك.


نظرت إليه دليلة بثبات تبحث بعينيه عن تلك النظرات المتشحة بالشفقة أو الاستعطاف ولكنها وجدتها نظرات صافية للغاية، لا يوجد بها سوى الود والتقدير.


نظرت إليه وترقرق الدمع بعينيها وهي تود قول الكثير، لكنها لم يكن بوسعها سوى أن تشكرهُ فقالت :

_ أنا متشكرة جدًا يا حسين، إنت وقفت معايا كتير. وانا مستاهلش ده!


ربت حسين فوق كتفها بحنوٍ وقال:

_ تستاهلي كل خير يا دليلة. زي ما قولتلك لو إحتاجتي أي حاجة في أي وقت أنا موجود.


_ شكرًا يا حسين. طول عمرك راجل وصاحب واجب.


إستأذن حسين وانصرف، ثم دلفت هي فراشها دون أن تنطق حرف..


تسطحت فوق سريرها وهي تتذكر ما أخبرها به حسين.. لقد تزوج جمال! بعد أن سلبها حياتها كاملةً ها هو الآن يغفو ويفيق بين أحضان إمرأة أخرى! ومن تلك التي تزوجها؟ بالطبع واحدةً من اللواتي يدّعين الشرف والأخلاق الحميدة، واحدة من اللواتي لا يُخدعن بوهمٍ إسمه الحب!


سالت دمعاتها الساخنات على جانب خديها وهي تشهق بقهرٍ وتتحدث إلى نفسها وتقول:

_ محدش عليه اللوم غيرك يا دليلة، ذنبه إيه جمال؟ أينعم هو شيطان! بس الشيطان بيغوينا مش بيجبرنا! .. إنتي السبب.. إنتي وبس!


❈-❈-❈


عاد حسين إلى منزله وهو يشعر بالاستياء الشديد.. تمنى لو أنه لم يرها مجددًا، لقد جاهد نفسه كي ينتزع عشقها المسموم من داخله وكان قد فلح أخيرًا بذلك، ولكن رؤيته لها اليوم بعثت الآلام الساكنة بقلبه وجعلتها تعيث فسادًا به من جديد!


تهاوى على فراشه، واضعًا ساعديه خلف رأسه، شاردًا بها وبحالها الذي وصلت إليه.. لم تكن تلك دليلة التي عشقها! أصبحت مجرد مسخ.. واحدة أخرى تشبه الموتى في شحوبهم، ذهب جمالها وحُسنها الذي تسبب لها بالهلاك، ذهب شبابها كما ذهب كل شيء!


آهٍ محمومة أطلقها وقال:

_ يا ريتني ما قابلتك يا دليلة ولا شفتك تاني.. كنت ما صدقت نسيتك ولعنة حبك حلت عني.. رجعتيني للصفر تاني ليه!!


أفاق من شروده عندما رن جرس الهاتف فأسرع ليجيب:

_ ألو..


_ إنت عم حسين؟؟ أبلة دليلة تعبانة أوي وزي ما بتكون بتتخنق..


أخذ الأمر منه لحظات حتى تدارك الوضع وقال بلهفة:

_ أنا جاي حالا يا رزق.. خلي بالك منها وهجيلها حالا..


كان لم يبدل ملابسه من الأساس، أسرع مغادرًا منزله متوجهًا نحو بيت دليلة على الفور.


وصل بعد حوالي نصف ساعة، طرق الباب فأسرع رزق يفتح له متلهفًا وقد إصفر لونه بقلق وهو يقول:

_ إلحقها والنبي يا عم حسين ألا تموت..


أسرع حسين نحوها فوجدها تستلقي فوق الفراش وهي تسعل بشدة وتدلك عنقها بيديها وهي تحاول التنفس ولكنها أحست وكأن الهواء قد إختفى من حولها..


_ دليلـة، مالك فيكي إيه؟


نظرت إليه بعينين باكيتين وقالت وهي تتنفس بصعوبة قاتلة:

_ حاسه إني هموت يا حسين.. مش قادرة أخد نفسي..


أمسك بيدها وقال مطمئنًا:

_ متقلقيش هتبقي زي الفل والله.. أنا هوصل لحد الصيدلية أجيبلك علاج وراجع فورًا..


هنا نطق رزق الذي كان يتابعهما بإهتمام وقال:

_ أنا هروح أجيبلها العلاج وخليك إنت معاها..


إنصرف رزق، بينما ظل حسين يجلس بجوارها وهو يحاول تهدئتها ويقول:

_ هتبقي كويسة يا دليلة، والله هتبقي كويسة..


حاولت تنظيم أنفاسها اللاهثة وتحدثت بأسف على ما آلت إليه حالتها فقالت:

_ مش عاوزة أبقى كويسه يا حسين، خلاص زهدت الدنيا وكرهت كل حاجة.. يارب أموت.. الموت راحة يا حسين، ياريت أرتاح..


تشبث بيدها وقال بألم صادق:

_ بعد الشر عليكي يا دليلة..


_ شر؟ وهو لسه في شر ممكن يحصللي أكتر من اللي حصل؟ أنا حبيت واحد شيطان.. ضحك عليا وغواني وخلاني عصيت ربنا وفي الآخر سابني وإتجوز .. هربت من أهلي، سرقت أخويا اللي مربيني، أمي ماتت بين إيديا معرفتش حتى أخد عزاها!!  موتت ضنايا بإيديا دوول.. لسه في شر بعد كل ده ممكن يحصللي يا حسين؟


لم يعرف كيف يواسيها؛ فبالنسبة لأي إنسان عاقل هي لا تستحق المواساة أو حتى الشفقة، هي من فعلت ذلك بحالها وتستحق ما هي عليه الآن، أما بالنسبة لإنسان عاشق.. يحكمه ويوجهه قلبه فقط.. فهي لم تكن سوى مجني عليها من الجميع!


لا يعرف لما رَغب الآن في معانقتها؟ هل لأنها في حاجة ماسة لأن يحتويها أحدهم؟ أم لأنه هو من بحاجة لمثل هذا العناق!


ربت على ظهرها وهو يحتضنها، بينما إنفجرت هي وأخذت تبكي وتنتحب بصوتٍ مرتفع للغاية، ما حدث معها طيلة العامين الماضيين لم يكن هينًا أبدًا. طالما تاقت لعناقٍ كهذا حتى يتسنى لها الحصول على فرصة كي تشارك أحدهما همومها ولو لمرة .. وها هو حسين المخلص، الذي يعطي دائمًا بلا حدود ولا شرود قد منحها إياها.


أما عن حالهُ هو.. لقد كان أتعس إنسان على وجه الأرض بتلك اللحظة؛ من يهواها بين يديه ولكنها مستنزفة لأبعد حد، حطام أنثى ليس إلا.. بقايا إمرأة سلبتها الحياة كل ألوانها ولم تترك لها سوى اللون الأسـود!


إبتعد عنها قليلًا ونظر إليها مشفقًا وهي تبكي وقال:

_ تتجوزيني يا دليلة؟

يُتبع..

إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة نعمة حسن، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية