رواية جديدة في غيابت الجب لنعمة حسن - الفصل 9
قراءة رواية في غيابت الجب كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية في غيابت الجب
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة نعمة حسن
الفصل التاسع
عادت لتنتقم
مرت الأشهر الأخيرة عليها كمر الدهر، لم يفلح شيء في إنتشالها من تلك الحالة التي إبتلعتها وسيطرت عليها بالكامل.
لقد تحولت في غضون أيام من إمرأة مشرقة تبحث عن الحياة لإمرأة منطفئة سلبتها الحياة أغلى ما إمتلكت يومًا.
جلست تبكي على ما فقدته، لم تكن تلك خسارتها الأولى.. وتعرف كذلك أنها لن تكون الأخيرة، ولكنها كانت القشة التي قصمت ظهر البعيـر كما يُقال.
لقد إعتادت البكاء والعويل الذي لا يُجدي أبدًا، ولكن الآن بكاؤها كان مختلفا عن ذي قبل؛ كان بكاءًا مغمورًا بالتمرد!
ربما حان وقت أن تُعلن دليلة تمردها على هذه الحياة الظالمـة.
ربما ما فعل بها كل ذلك هو سذاجتها اللامتناهية، وربما لو تبدل حالها ستصبح أكثر قوة وتستطيع وقتها أن تثأر لنفسها المكلومة!
ولكنه ليس أمرّ هين، الأمر أشبه بأن تنسلخ من نسختك القديمه ذات القالب الهش في محاولة منك للتأقلم على ارتداء الطابع الجمودي؛ ذلك الطابع الذي علمك إياه أحدهم يومًا ما بفعل خذلانه لقلبك!
سحبت دليلة شهيقًا وهي تمسح دمعاتها اللواتي لم يتوقفن يومًا منذ رحيله، لقد رحل عنها فجأة كما دخل حياتها فجأة؛ فكان رحيله أسوء ما صنعهُ معها.
إقترب منها رزق وجلس بجوارها، مد يده وربت على يدها وقال:
_ لحد إمتا هتفضلي تعيطي؟ كده هتتعبي تاني.. وأنا خايف تتعبي وانتي لوحدك..
نظرت إليه وقالت ببكاء:
_ متقلقش عليا يا رزق، أنا طول عمري تعبانة.. وطول عمري لوحدي.
تنهد وتهدل كتفيه بيأس وأسى ثم قال:
_ أنا هشتغل مع الأسطى حامد جارنا، كان بيعز عم حسين الله يرحمه ومش هيرفضلي طلب.
_ مش هينفع، إنت هتكمل في مدرستك وتنتبه لتعليمك..
_ أنا مش هروح المدرسة تاني، كفاية كده .
نظرت إليه بضيقٍ بيّن ولكنها لم تكن بتلك الحالة التي تسمح لها بالمجادلة أكثر فقالت:
_ اللي تحبه يا رزق.
أومأ بارتياح وأضاف:
_ وهشتغل مع الاسطى حامد..
_ ليه الشغل؟ معاش حسين الله يرحمه أهو مكفينا.
نظر إليها مستنكرًا قولها وأضاف:
_ الفلوس دي تخصك إنتي وبس، أنا لازم أشتغل وأصرف على نفسي.
تنهدت بتعب وقالت:
_ إعمل اللي إنت عاوزه يا رزق.
أومأ بموافقة وقال:
_ من بكره هتكلم معاه.
_ إن شاء الله.
_ أخدتي علاجك؟
_ أخدته.
_ كويس. أنا هدخل أنام عشان تصحيني بدري أجي معاكي مشوار القبض.
أومأت بموافقة فقال:
_ مينفعش أروح أنا وإنتي تفضلي؟
_ مينفعش يا رزق، لازم أنا اللي أروح أقبض
_ ليه مينفعش؟ ما انا جيت معاكي كذا مرة وعارف المكان كويس.. هركب تاكسي من هنا لحد الميدان، وهنزل ألاقي المبنى في وشي.. بالأمارة جمب المبنى مطعـم كبيـر.
تنهدت بنفاذ صبر وقالت:
_ المشكلة مش في المكان يا رزق، إنت مش هيرضوا يصرفوا لك المعاش.. لازم أنا أروح بنفسي.
أومأ وقال:
_ مكنتش عارف كده. عالعموم أنا هاجي معاكي، إوعي تمشي وتسيبيني نايم.
_ حاضر.
_ تصبحي على خير.
_ وإنت من أهله.
إنصرف رزق بينما ظلت هي بمكانها وقد أسندت رأسها على ظهر المقعد من خلفها وشردت بنقطةٍ فارغة.
❈-❈-❈
في الصباح. أفاق جمال من نومه على إثر تلك الغوغاء التي صنعتها لينا بالقرب منه، حيث كانت تجلس بجواره وهي تحاول إفاقته عمدًا.
إبتسم ما إن وقعت عيناه عليها وقال:
_ صباح الفـل يا فله.
_ بابـا.. كانت تلك أولى كلماتها التي إنطلق بها لسانها مما جعله يهيم بها أكثر وأكثر.
_ حبيبة بابا وروح بابا وقلب قلب قلب بابا.
أمسك بها وأجلسها فوق قدميه وأخذ يغدقها بالكثير من القبلات ويقول:
_ فين ماما؟
أشاحت الطفلة بوجهها جانبًا فنظر جمال حيث تنظر ليتفاجأ ببسمة التي تجلس بجواره وهي تعقد ذراعيها أمام صدرها وتنظر لهما بحنقٍ بالغ.
_ بسمة! إنتي هنا؟
إرتفع حاجبيها بنزق وقالت:
_ تخيـل!
_ صباح الخير يا حبيبتي.
_ إنت لسه فاكر؟
_ ما أنا لسه شايفـك.
_ طبعا.. وهتشوفني إزاي وإنت مش شايف غير لينا هانم؟
_ ميبقاش عقلك صغير.. هتغيري من بنتك؟
_ أيوة طبعًا لازم أغير لما تاخدك مني بالشكل ده يبقا أغير وأغير ونص كمان.
_ ملكيش حق، هي لينا فطرت ولا لسه؟
طالعته بشرر متطاير وقالت بغيظ:
_ أكيد يعنـي، الساعه ٢ ونص يا أستاذ.
طالعها مذهولًا وقال:
_ معقول! وإزاي تسيبيني نايم كل ده؟
_ أعمل لك إيه ما إنت نايم وش الفجر..
أجابها وهو يحتضن طفلته مبتسمًا وقال:
_ أيوة، لولو كان جاي لها مزاج تسهر.
تأففت بضيق حقيقي وقالت:
_ أيوة مانا عارفة، لولو كان جاي لها مزاج تسهر فسهرت معاها وسيبتني أنا أتفلق لوحدي.
نظر إليها متعجبًا وقال:
_ مانا قولتلك تعالي اقعدي معانا بره رفضتي وقولتي مصدعة.
تنهدت بملل وقالت:
_ يا جمال أنا ببقى عاوزة أسهر معاك لوحدنا زي زمان، نخرج نتعشى بره.. نرقص، نتمشى، نتجنن.. إنت وقتك كله بقا للينا وبس!
بدأ الضيق يكتسح صفحة وجهه وقال:
_ معلش طفلة صغيرة ومحتاجة رعاية..
_ وأنا يا جمال؟
_ إنتي إيه يا بسمة؟
_ أنا فين من ده كله؟
طالعها باستنكار وقال:
_ مالك يا بسمة الأيام دي بقيتي غريبة ليه؟ مش دي لينا اللي كنتي هتتجنني وتتبنيها؟ حالك إتبدل ليه وبقيتي مش طايقاني أقرب منها!
صُعقت تمامًا، إنه يدفع بها إلى هاوية ظنونه غير آبهٍ بمكنونات قلبها ولا ما تشعر به. لقد كان ظالمًا للغاية!
تهاوت دمعاتها مما جعله يشعر بالذنب كونه أبكاها، تنهد ومد يده ليمسح دمعاتها ولكنها أشاحت بوجهها بعيدًا عنه ونهضت منصرفةً للخارج.
تنهد هو بنفاذ صبر وقال وهو يحدث طفلته:
_ مش عارف أعمل معاها إيه؟ قوليلي كده إنتي أعمل معاها إيه؟
إبتسمت وأصدرت غمغمات لطيفة فاعتصرها بين ذراعيه وهو يقول:
_ يعني عاوزاني أسيب العسل ده لوحده؟ ينفع بذمتك؟
أومأت الطفلة برأسها أن لا فضحك وقال:
_ أنا قولت كده بردو.
ونهض عن الفراش وهو يحملها متقدمًا بها نحو غرفتها،ثم نادى زهور قائلًا:
_ زهور، جهزي لينا علشان هاخدها معايا المطعـم.
هنا برز صوت بسمة التي إعترضت بشدة وهي تقول:
_ لأ طبعًا .
نظر إليها متعجبًا وقال:
_ لأ ليه؟
_ أهو كده.
تعجب تذمرها الغير مبرر وقال:
_ هو عِند وخلاص ولا إيه؟
_ أيوة عِند وخلاص.
تجاهلها ونظر إلى زهور مجددا وقال:
_ بسرعة يا زهور.
أخذت زهور الطفلة ودخلت، بينما تقدم جمال نحو غرفته تتبعهُ بسمة التي قالت:
_ هو أنا للدرجادي كلامي ملوش أي أهمية عندك؟
أجابها وهو لازال ثابتًا لم يلتفت وقال:
_ ليه؟
_ قولت لينا مش هتنزل وإنت قلت لزهور لبسيها.. مش مدّي كلامي أي أهميه ولا كأني بتكلم من أصله..
إستدار وطالعها بثبات، وسرعان ما إنحنى وحملها فوق ذراعيه وقال:
_ عاوز أفهم بقا مالك بالظبط؟
إتسعت إبتسامتها فورًا وقالت:
_ زعلانه منك لأنك متجاهلني..
مال عليها وقبّلها وهو يقول:
_ مقدرش، ده إنتي الهوا اللي بتنفسه، حد يقدر يعيش من غير هوا؟
أومأت أن لا فقال:
_ غيورة ومجنناني..
طوقت عنقه بيديها وهي تطالعه بحب وقالت:
_ بحبك أعمل إيه؟
_ أنا أقوللك تعملي إيه..
وتقدم بها نحو سريرهما وهو يقول:
_ أول حاجه يا ستي عاوزك تحبيني أكتر، إفضلي حبيني حبيني لحد ما أشبع من حبك ولو إني أشك إني ممكن أشبع من حبك في يوم من الايام.
إبتسمت بدلال وقالت:
_ وتاني حاجه؟
_ تاني حاجه بقا تـ…
إرتفعت طرقات زهور على الباب وهي تقول:
_ لينا جاهزة يا جمال بيه.
نظر إلى بسمة وأكمل حديثه وقال:
_ تاني حاجه بقا تقومي تجهزي وتيجي معايا المطعم إنتي وفله نتغدا هناك وبعدها نروح مكان مفتوح عشان لينا تلعب شوية.. إيه رأيك؟
_ جميل خالـص.
داعب خصرها متمتمًا:
_ ده إنت اللي جميل خالص وبحبك خالص وبموت فيك خالص..
وكما جرت العادة ؛ لا يطول خصامهما مهما بلغ بها الغضب وتمكن من قلبها الحزن.. إنها مِلكٌ لرجل عاشـق، متمكن، يستخدم في عشقه كل الأساليب المباحة، يعرف جيدًا كيف يروض أنثاه ويجعلها تحلّق بعشقه نحو السماء السابعة.
❈-❈-❈
بعد مرور ساعتين كانت دليلة قد خرجت لتوها من مبنى الشئون وبرفقتها رزق الذي قال:
_ تعالي نقعد نستريح، شكلك تعبانه.
_ أنا كويسة متقلقش، الزحمة هي اللي تعبتني.
_ طيب في إستراحة أهي تعالي نقعد عليها شويه.
أمسكت بيده وعبرا الطريق سويًا لينتقلا إلى الجانب الآخر ، ثم جلسا ليستريحا فوق تلك المقاعد المتموضعة بجانب الطريق وأغمضت عينيها بألم مكتوم وما إن فتحتهما حتى جحظتا بصدمة وهي ترى جمال يترجل من سيارة فارهة وهو يحمل طفلة صغيرة تتبعهُ إمرأة شابة. على ما يبدو أنها زوجته!
توقف قلبها عن المبض لثوان من فرط الصدمة وأخذت تحملق بهم لتتأكد من أنها تراه بأم عينيها فعلًا!
كان هو قد دخل إلى المطعم وإختفى من أمامه بينما كانت لاتزال تنظر تجاههم مما أثار تعجب رزق فقال:
_ مالك فيكي إيه؟
_ جمـال!!! نطقتها بذهول لا يضاهيه ذهول وتابعت:
_ معقول هو؟
_ مين ده؟
لم تُجِب سؤاله،تهاوت على المقعد من خلفها وهي تنظر بشرود إلى الطريق والمارة من أمامها وتتذكر الأعوام الماضية وما حدث بها.
كان رزق ينظر إليها باستغراب وريبة وقال:
_ مالك؟
_ لازم نمشي يا رزق، يلا.
أمسكت بكفه الصغير وأسرعت تستوقف سيارة أجرة تقلها إلى المنزل.
توقفت السيارة فركبت يتبعها رزق وأخبرته بالعنوان فانطلق مسرعًا.
كانت شاردةً طوال الطريق، تلك الصورة لم ولن تُمحى من ذاكرتها أبد ما حَيَت!
عادت إلى بيتها وهي تشعر بأن أحدهم قد غرس نصل سكين حاد بقلبها للتو، دلفت غرفتها وأغلقت الباب من خلفها وارتمت على فراشها وطفقت تبكي بحزن شديد.
طرق رزق فوق الباب طرقات متتالية وهو يقول بقلق:
_ أبلة دليلـة.. إنتي كويسه؟
أجابته وهي تنتحب:
_ كويسة يا رزق.
_ إنتي بتعيطي؟
_ أنا كويسة يا رزق..
قال بإصرار:
_ لأ بتعيطي.
صرخت به بقوة قاسية وقالت:
_ قولتلك كويسة يا رزق، خلاااااص..
إنقطع صوته فورًا، تراجعت خطواته وذهب ليجلس على الأريكة ووضع قبضته أسفل خده بخذلان؛ لقد أصرّ على سؤاله كي يطمئن عليها وليس إلحاحًا منه.
إنفرج الباب، وخرجت وهي تمسح وجهها المحتقن من فرط البكاء، ثم جلست إلى جواره وقالت:
_ أنا آسفة يا رزق، متاخدش على خاطرك مني.
نظر إليها بثبات، ثم نهض ووقف قبالتها مباشرةً، ثم ضمها إلى صدره بحنان غير مشروط. تشبثت بذراعيه الصغيرين وإنفجرت في البكاء والعويل المُلتاع وهي تقول:
_ ليه أنا؟ إشمعنا أنا اللي بيحصل معايا كل ده؟ إشمعنا أنا خسرت كل حاجه وهو لأ؟ ليه أنا أتظلم وهو يعيش حياته!! ده ظلم.. ده ظلم!
بالرغم من أنه لم يعي أغلب كلماتها لكنه كان قادرًا على احتوائها بالقدر الذي تحتاجه.
ربت على كتفها وقال:
_ تقصدي مين؟
أجابت بانهيار:
_ أقصده هو! جمـال.. الشيطان اللي متجسد في صورة بني آدم..
_ عمل إيه جمال ده؟
نظرت إليه بألم وقوة خائرة وقالت:
_ عمل كل حاجه وحشه، أذاني وسرق مني عمري.. سرق مني فرحتي وشبابي.. ربنا ينتقم منك يا جمال.. ربنا ينتقم منك ويكسر قلبك زي ما كسرتني..
أسند ذقنه فوق رأسها رابتًا عليها بحنوٍ بالغ فقالت وهي تمسك بذراعيه لكي ينظر إليها بانتباه وقالت وقد أعماها الحقد والكره:
_ رزق، أنا مبقاش ينفع أعيـش في الدنيا دي ملطشه كده! أنا لازم أخد حقي.. أيوة، لازم أخد حقي من جمال.. هو السبب في كل حاجه حصلتلي، هو اللي دمر لي حياتي وخلاها سواد.. لازم أشفي غليلي منه.. مش عدل إنه يفضل عايش ومتهني وأنا حياتي تبوظ وأخسر كل حاجة!
_ وأنا معـاكي.. أي واحد ظلمك أنا هاخد لك حقك منه.
رَمَتهُ بنظرات يتطاير منها العجب؛ ماذا يقول ذلك الصبي وبماذا يتوعد؟ هل هو مدرك لما تتفوه به حقًا ويعدها بأن يثأر لها ممن ظلمها؟
حتى وإن لم يكن مدرك لما تقوله.. عليها أن تصنعهُ على ذلك! لا بد أن ترى جمال بأم عينيها وهو يحترق حزنًا ولوعةً على أغلى ما يملك! والوحيد الذي سيساعدها في ذلك هو رزق!
❈-❈-❈
واليـــوم..
وقد مر عشـــرون عامًــــا..
ترعرع فيهما حال جمـال أكثر وأكثر وأصبح يمتلك عوضًا عن المطعم سلسلة مطـاعم منتشرة في كافة أنحاء العاصـمة، بالإضافة إلى الأفرع الموجودة في مختلف المحافظات؛ فانتشر إسمه كالنار في الهشيـم وأصبح واحدًا من أثرى أثرياء المدينة.
كل ذلك وهو غافل عن تلك المسكينـة التي لم تتوانى يومًا عن مراقبته وملاحقة أخباره وكل ما يخصه لحاجةٍ في نفسها لا يعلمها إلا الله!
خرجت كعادتها كل شهر بعد أن أنهت حاجتها بمبنى الشئـون وجلست على نفس المقعـد الذي لم يتغير منذ عشرون عامًا في إنتظار رؤية جمال!
لا تعلم لما أتت الـيـوم! ولا المرة الماضية، ولا المرة التي سبقتها.
لا تعلم لما تترصد خطواته أساسًا!
إنها لا تجني من ملاحقته ومراقبته سوى الخيبة والقهر في كل مرة؛ فكان داخلها يحترق ألمًا كلما رأتهُ مترفًا منعمًا غارقًا في النعيم بينما هي تعيش حياةً بائسة لا قيمة لها.
وفي نفس المـوعد رأته يتوقف بسيارته أمـام المطعم ويترجل منها، ثم يغلق الباب وهو يتحدث بهاتفه مبتسمًا وإبتسامته تصل أذناه.
أصاابها القهر لرؤيته وهو يضحك ملء فمه، من المفترض أن يكون على نفس حالها الآن أو أسوء! لما لا وقد أخطأا سويًا وإرتكبا نفس الذنب معًا! لما نال من الدنيا جميع ما تمنى وما فاق أمنياته يومًا بينما هي خسرت كل ما تملك!
_ وجلالة الله يا جمال ما هسيبك غير لما تخسر كل اللي أنا خسرته وزيادة! لازم تبكي بدل الدموع دم وأشوفك قدامي مكسور ومذلول ووقتها هشمت فيك وأبرد ناري..
رأتهُ ينظر صوبها!
إنه يحدق بها حقًا!!
تلاقت أعينهم لأول مرة بعد أكثر من عشرون عامًا!
لا تعرف لما إختل توازنها وكادت تفقد صوابها؟! أحست بالقشعريرة تسري في جسدها كاملًا حتى أنها إنتفضت بقوة وحثت قدماها على التحرك سريعًا.. كانت تشعر كما لو أن قلبها سيتوقف من سرعة خفقانه، صدرها يعلو ويهبط بقوة حتى كادت تشعر بأنه سيتوقف من هول الموقف.
إستوقفت سيارة أجرة ودخلت سريعًا، فتحركت بها السيارة وهي لازالت تنظر صوبهُ من خلف الزجاج.
كأن مشاعرها وحواسها جميعًا قد أصيبت بالخدر، وربما ماتت! تعطلت أحاسيسها تمامًا الآن فكانت كالموتى لا تشعر ولا تفقه شيء.
❈-❈-❈
عادت إلى المنزل، دخلت وهي في حالة إعياء شديدة.. كانت تتنفس بثقل وتشعر بأنها ستختنق..
تهاوت على المقعد من خلفها وأخذت تشهق بقوة في محاولة منها كي يصل الهواء رئتيها.
إنفرج الباب ودخل رزق الذي أسرع نحوها بلهفة وجلس على ركبتيها أمام المقعد الذي تجلس عليه وهو يقول:
_ مالك يما..
لم يتلقى منها رد؛ فأسرع يحضر لها البخاخ الخاص بها ووضعه أمام فمها وضغط عليه حتى يتسرب الدواء إلى حلقها.. حينها بدأت تهدأ قليلًا واستطاعت تنظيم أنفاسها شيئا فشيئا..
نظر إليها بعينين مذعورتين وقال:
_ بقيتي كويسه؟
أومأت أن نعم وهي تقاوم كي لا تنفجر في البكاء مما أثار قلقه أكثر فقال:
_ مالك؟ فيكي إيه؟
هزت رأسها قائلة باقتضاب:
_ مفيش.
_ مفيش إزاي؟ ما كنتي خارجه كويسة جرالك إيه؟
سالت دمعاتها على خديها فتوقف عن التساؤل وقال مدركًا حقيقة ما صار:
_ إنتي شوفتيه مش كده؟
أجهشت بالبكاء المرير فقال بحدة وصوت مرتفع:
_ قولتلك متروحيش.. قولتلك هروح أنا.. قولتلك إقبضي من مكان تاني مش لازم تروحي لحد هناك! قولتلك على حلول كتير أوي بس إنتي بردو بتمشي اللي في دماغك! لييييييه!!!!! غاوية تعذبي نفسك ليه؟ غاوية تتعبي روحك وتتعبيني معاكي ليـــه!! بقالك عشرين سنه بتراقبيه!! عشريـــن سنه ماتت فيهم ناس و حيت ناس وإنتي مصممة تشوفيه كل مرة وتقهري روحك..
صرخت به قائلة:
_ معرفش! معرفش ليه براقبه ولا بروح عشان أشوفه.. يمكن فضول.. يمكن عشان أملي قلبي بالكره أكتر كل ما أحس إني نسيت.. أنا مش عاوزة أنسى يا رزق! مش عاوزة أنسى اللي عمله فيا جمال ..
_ وأنا قولتلك مية مره حقك أنا هجيبهولك ولو مر مية سنه مش بس عشرين! هو إنتي للدرجه دي مفيش عندك ثقه فيا؟
وقف متخصرًا وتنهد بغضبٍ چم ثم طالعها عن قرب أكثر وقال:
_ أنا وعدتك من عشريــــن سنه .. وعدتك أجيبلك حقك منه ومازلت عند وعدي.. جمال أنا كفيل بيه! وحق الله.. وحق الله جمال هيشوف اللي عمره ما شافه .. و على إيديا.
كان كلامه بمثابة ملطف لجروحها، مسكن لآلامها، مهدئ يجعلها تصبر وتستكين ريثما تحين ساعة الإنتقام!
تقدم منها بطوله الفارع، ثم جثا على ركبتيه فكان في مستوى جلستها ووضع كفه فوق كفها وقال:
_ إنتي ربتيني وعارفاني كويس.. طالما قلت هنفذ. وهنفذ! الليلة أنا متفق مع ناس أعرفها هيفتحولي سكة مع بنت البدري..
كان كلامه مبهمًا بالنسبة لها فعقدت حاجبيها متعجبة وقالت:
_ مش فاهمه تقصد إيه؟ جماعة مين دول؟ وهيفتحولك سكة مع بنت جمال إزاي؟
_ متشغليش بالك إنتي بالحاجات دي، الجد إبتدا.. أنا عارف إنك صبرتي سنين طويلة بس ميهمش.. إصبري الكام شهر الجايين دول بس وهكسرهولك كسرة صح!
تنفست الصعداء وإسترخت بمكانها، بينما هو قبّل يدها وربت فوقها وانصرف.
❈-❈-❈
عاد جمال إلى البيت، دخل غرفته فورًا حتى أنه لم يمر على غرفة لينا كعادته كل يوم.
دخل وأغلق الباب خلقه ، جلس على طرف فراشه وظل يفرك أصابعه بتوتر وهو يتذكر ما حدث قبل عشرون عامًا!
أغمض عينيه ينفض عن رأسه تلك الذكريات وتنهد بضيق، ثم مسح على وجهه بغضب وهو يتحدث إلى نفسه بضيق ويقول:
_ أكيد بيتهيأ لي.. مش معقول تكون دليلة فعلا! بس إزاي؟ أنا مش هتوه عنها! هي دليلة.. بس إيه اللي خلاها تظهر تاني بعد السنين دي كلها!! راجعة ليه ؟؟ يا ترى ناوية على إيه يا دليلة!!!
إستل هاتفه من جيبه وقام بالإتصال برقم لن يتحرى الحقائق سوى صاحبه!
❈-❈-❈
وقفت أمام مرآتها وهي تضع اللمسات الأخيرة من مساحيق التجميل البسيطة، ثم طالعت مظهرها النهائي بتقييـم وخرجت من الغرفـة متجهه صوب غرفة والدها كي تتفقده.
همت بفتح الباب ولكنها تراجعت عندما إستمعت إلى ما قاله والدها حيث كان يتحدث بهاتفه بصوتٍ خفيض ولكنهُ كان واضحًا للحد الذي سمح لها بسماعه.
_ هاا يا مرتضى عملت إيه؟ يعني إيه مش عارف توصل لحاجة يا بني آدم! ما هي يا عايشة يا غارت في داهية ماتت! إيه الصعب في الموضوع ؟ بقوللك إيه.. يومين بالكتير ويكون عندي الخبر اليقين.. يا إما عايشة يا إما ميتة. ولو عايشة عايزك تجيبلي قرارها. إتجوزت، خلفت، إتجوزت مين، ساكنة فين.. عاوز أعرف عنها كل حاجة.. يلا إقفل.
لم تستطِع أن تفهم المقصود من تلك الكلمات؛ مما أثار حيرتها وريبتها وجعلها تغوص بداخل حالة من الشرود المُهلك.. ما لبثت أن أفاقت منها عندما إنتبهت على صوت خطوات والدها يتقدم من الباب فأسرعت للخارج واستقلت سيارتها وانطلقت نحو وجهتها المنشودة.
❈-❈-❈
" يا لوعتي يا شقايا يا ضنى حالي
ضاع الامل من هوايا وانشغل بالي
جاد الزمن بالتلاقي من بعد طول البين
لقيت حبيبي رعاني والعين تناغي العين
بين الجناين قابلته وكنت حيران عليه
وحن قلبي طاوعته ورحت مايل اليه
وكان سلام التلاقي أصبح سلام الوداع
يا لوعتي يا شقايا ضاع الامل من هوايا "
كانت لينا قد إنتهت لتوّها من غناء تلك الأغنية مع فرقتها الغنائية والتي تتميز بغناء الروك باللهجة المصرية.
إلتفوا حولها جميعًا يُثنون على صوتها الدافئ المفعم بالحيوية كما هو الحال في كل مرة ولكنهم لاحظوا شرودها ليبدأوا تساؤلاتهم:
_ مالك يا لينا، إنتي كويسه؟
أومأت وهي تحاول الانسلاخ من تلك الحالة السيئة التي إجتاحت مزاجها وقالت:
_ أنا كويسة. بس في مشوار ضروري لازم أروحه وبعدها هرجع عالبيت.
تساءل ' وسيم ' أحد أصدقائها وأعضاء فرقتها وقال:
_ طيب والبروڤا؟ الحفلة خلاص مش باقي عليها غير يومين!
أجابتهُ لينا وهي تستعد للمغادرة وقالت:
_ بكرة نكمل.. لازم أمشي دلوقتي.
نظروا أصدقائها الأربعة لبعضهم البعض بتعجب من إجابتها المغلفة بالغموض وتسائلت صديقتها المقربة ' فرح ' فقالت:
_ مشوار إيه ده اللي هتروحيه دلوقتي؟ مش بعادتك يعني تخبي عننا حاجة.
ولأنها لم تكن في حالة تسمح بالإطناب أكثر فقالت بإقتضاب:
_ سوري يا شباب، القليل من الخصوصية لا يضر.
عادوا ينظرون إلى بعضهم البعض بتعجب أكبر ما إنفك أن ازداد وازداد وهي تنهض من مقعدها وتلتقط حقيبة ظهرها وتنسلت من بينهم بهدوء.
غادرت ذلك الكراچ الذي يجتمعون فيه، ثم إستقلت سيارتها الفارهة ودعست المكابح منطلقةً في طريقها وعقلها لا يتوقف عن ترديد تلك الكلمات التي إستمعت إليها صدفةً .
إرتفع بوق السيارة المقابلة لها لينتشلها من ذلك الشرود عنوة، ثم إنحرفت بسيارتها قليلًا لتتوقف بمكانٍ خالٍ و صفّتها ثم أسندت رأسها إلى طارة القيادة وهي تحاول فك شفرة ما قالهُ والدها لتتفاجأ بتلك السيارة التي توقفت بجانب سيارتها محدثةً صريرًا عاليًا.
إستقامت وهي تنظر حولها بهلع تحاول فهم ما يحدث، رأت شابين ملثمين وقد نزلا من السيارة، ثم فتح أحدهم باب السيارة المجاور له واقتحمها بينما كان الآخر قد إستدار ليفتح الباب المجاور لها وهو يردد بصوتهُ الأجش الكريه:
_ إنزلي!
فَزِعت وشحب وجهها وشعرت بأنها ستفقد وعيها في الحال، كانت مسلوبة القوى وهي تردد:
_ إنتوا مين وعاوزين مني إيه؟
جذبها أحدهما من معصمها فحاولت التشبث بباب سيارتها وهي تصرخ بإستغاثة:
_ سيبوني، إنتوا مين؟!!!
كان الآخر يحاول دفعها عنوةً إلى داخل السيارة لتعلو صرخاتها وهي تتلفت يمينًا ويسارًا وتصرخ
_ إلحقووني!!!
إلى هنا وظهرت تلك الدراجة النارية التي كانت تتقدم منها مباشرةً فدب الأمل بقلبها المذعور وراحت تصرخ بأعلى صوتها:
_ أرجوك إلحقني…
نظر الشابان الملثمان تجاه صاحب تلك الدراجة وعندما رأوْهُ وهو يدنو منهما مصوبًا مسدسه صوبهما حتى أرخوْا قبضتهما من حول يديها وإستقلا سيارتهما و فرّا هاربيْن.
_ إنتي كويسة، حد فيهم عمل لك حاجة؟
نظرت لينا إلى ذلك الشاب طويل القامة وطفقت تبكي بذعر وهي تحيط نفسها بذراعيها بخوف فقال:
_ طيب تحبي أوصلك؟
حاولت الإفراج عن صوتها المُعتقل بفعل الخوف والفزع ولكنها لم تقوَ.
طالعها الآخر متفحصًا وقال وهو يشير إلى سيارتها:
_ دي عربيتك؟
أدارت زاوية رأسها وهي لا تزال تبكي ونظرت إلى سيارتها فأومأت بموافقة فقال:
_ طيب اركبي على ما أجيبلك إزازة ميا تشربي..
أومأت بنفي وهي تنظر حولها بخوف هيستيري وقالت:
_ لأ، أرجوك متسيبنيش هنا لوحدي.. أنا عاوزة أمشي من هنا.
أومأ قائلًا بحسم:
_ طيب اركبي وأنا هوصلك، أكيد مش هتقدري تسوقي.
لم ينتظر ردها، فتح لها الباب فصعدت بينما استدار هو فركب خلف المقود وأدار محرك السيارة متسائلًا:
_ ساكنة فين؟
_ الشيخ زايد..
تحرك بالسيارة وهو يختلس النظر إليها من بين فينةٍ والأخرى ليجدها لازالت تبكي بصمت وهي تمسد ذراعيها مغمضةً عينيها والفزع يرسم أسوأ لوحاته على صفحة وجهها فقال:
_ وإيه اللي جايبك وسط البلد وفي الوقت ده لوحدك!
فتحت عيناها، نظرت إليه بأعين مذعورة كمن فرت من الموت وأجابتهُ:
_ كان عندي بروڤا أنا وصحابي..
ضيق بين حاجبيه مستغربًا ولكنهُ لم يود أن يقتحم خصوصيتها أكثر حتى لا يبدو الأمر بالنسبة إليها غريبًا واكتفى بذلك القدر.
توقف أمام أحد المحال ونزل ليبتاع لها زجاجة مياه وأعطاها لها فشكرته..
قاد السيارة مما يقرب من نصف الساعة وأكثر في صمت لم يقطعهُ أيًا منهما إلى أن رن هاتفها فأجابتهُ على الفور وهي تقول بانهيار:
_ أيوة يا بابي..
سألها جمال بصوتٍ مهموم:
_ فينك يا لينا لحد دلوقتي!
حاولت أن يبدو صوتها عاديًا قدر المستطاع فقالت:
_ أنا قدامي عشر دقايق أو ربع ساعة بس..
_ تمام ي حبيبتي، توصلي بالسلامة.
أنهت المكالمة وتنهدت بتعب، أحاطت وجهها بيداها وهي تتذكر تلك اللحظات القليلة المروّعة التي عاشتها منذ قليل وأخذ قلبها يدب بعنف كلما تخيلت أنها لولا قدوم هذا الشاب كانت ستخوض أصعب تجربة في حياتها على الإطلاق.
_ إنتي كويسة يا آنسة؟
تساءل مجددًا لما رآها إستكانت فقالت:
_ كويسة، أنا متشكرة جدًا. مش عارفه من غيرك كان هيجرالي إيه!
_ الحمدلله قدر ولطف.
هكذا هدأها وأضاف:
_ إنتي بس حاولي متكونيش لوحدك في وقت زي ده تاني، يستحسن يكون معاكي سواق.
أومأت بتأييد وما لبثت أن تفاجئت بالسيارة وهي تقف أمام البوابة الرئيسية للڤيلا؛ فنظرت إليه متعجبةً وقالت:
_ إنت إزاي عرفت أنا ساكنة فين!
نظر أمامهُ وعاد بنظره إليها وقد أحس بالإرتباك قليلًا ثم قال بثبات مزعوم:
_ ماهو إنتي قولتيلي العنوان!
_ أيوة قولتلك ساكنة في الشيخ زايد بس! مقولتش عنوان ولا رقم الڤيلا!!
تحرك ذلك البروز بعنقه بتوتر وقال وهو يحاول ضبط أعصابه ضاحكًا بخفة:
_ إزاي بس يا آنسة! أومال أنا بشم على ضهر إيدي مثلًا؟ إنتي قولتيلي العنوان بالتفصيل. إنتي بس أكيد من الخوف والتوتر مش مركزة.
غارقةً في همومها، مشتتة الذهن أومأت بإقتناع ثم قالت:
_ جايز، على العموم أنا بشكرك مرة تانية.. جِميلك ده مش هنساه أبدًا.
_ تشكريني على إيه بس أنا معملتش غير الأصول، عالعموم حمدالله على سلامتك وياريت تاخدي بالك بعد كده ومتمشيش في الطرق دي متأخر لوحدك.
أومأت بموافقة وترجلت من السيارة وما إن غابت عن أنظاره حتى ضرب المقود بقبضته لاعنًا تحت أنفاسه وهو يقول:
_ غبي!!
ظل واقفًا يتفحص المكان بدقة وهو يتمتم:
_ ناس عايشة علّيوي أوي وناس متداس عليها بالأوي.
إرتفع رنين هاتفه فأجاب:
_ أيوة ياما..
_ أيوة يا رزق إنت فين؟
_ أنا واقف قدام ڤيلا جمال البدري.
تسائلت بدهشة وغير تصديق:
_ بتقول مين؟!!!
تنهد وكرر إجابته قائلًا:
_ بقولك واقــف قــدام بيـــت جمــال البدري!
_ وبتعمل إيه عندك؟ رزق إنت ناوي على إيه بالظبط؟ قبل ما تعمل أي حاجة لازم تفهمني.
_ متقلقيش مش هخلص عليه.. انا مش هوسخ إيدي بدم واحد زي ده!
_ أومال واقف قدام بيته تعمل إيه؟
_ هحكيلك لما أرجع، مع السلامة.
أنهى المكالمة ووضع الهاتف بجيبه، ثم ألقى نظرة أخيرة على عالم جمال البدري الخاص به وقال:
_ نهايتك قربت يا جمال يا بدري.. وعلى إيد العبد لله.
يُتبع..