-->

رواية جديدة لا يليق بك إلا العشق الجزء الثاني لسماح نجيب الفصل 23 - 2

   رواية جديدة لا يليق بك إلا العشق الجزء الثاني

من قصص وروايات الكاتبة سماح نجيب



الجزء الثاني من رواية لا يليق بك إلا العشق

رواية لا يليق بك إلا العشق الجزء الثاني

الكاتبة سماح نجيب


الفصل الثالث والعشرون

الجزء الثاني


العودة للصفحة السابقة

❈-❈-❈

ثلاثة أيام مضت وهما مازالا حبيسان بين جدران غرفتهما الواسعة ، والتى رغم فساحتها إلا أنها بدت كأنها تطبق بجدرانها على صدر تلك التى لا تبرح مجلسها من على ساقىّ زوجها واضعة رأسها على صدره وعيناها تحدق فى الفراغ ، فتلك الساعات القليلة التى قضتها برفقة شقيقها ديفيد أثناء إعتناقه الإسلام ، هى التى قضتها خارج تلك الغرفة منذ ماحدث تلك الليلة فى المقصورة على الشاطئ وإخبار راسل لها بالحقيقة كاملة ، إذ بعد عودتهما للبيت وصعودهما لغرفتهما ، عادت تبكى وتنوح ولم تفعل شئ أخر غير ذلك ، ولكن راسل تلك المرة لم يتردد فى التخفيف عنها ، إذ ظل جالساً بجوارها على الأرض وكلما حاول أن ينهى وصلة بكاءها المستمر ، تعود وتبكى من جديد ، فما أن يأس من أن يردعها عن بكاءها ونحيبها المتواصل ، حملها وذهب بها للمرحاض وجلسا سوياً أسفل تلك المياة التى تساقطت على رأسيهما ، فلعل الماء يساهم بتهدئة أنفعالاتها الآخذة فى طور الزيادة ، وما أن شعر بتحسنها النسبى الذى تمثل فى أنها كفت عن بكاءها ، أمرها بخلع ثيابها المبتلة وأن تذهب للفراش لعلها تنال قسط من الراحة ، ولم تمنع مساعدته لها بعد أن خذلتها أطرافها المرتجفة ، إذ كأن البكاء استهلك قوتها وأرهقها أشد الإرهاق ، شدت رباط مأزرها بأصابع مرتعشة ، وحاولت أن تأمر قدميها بالسير فلم تفلح ، بل جلست على حافة المغطس ، لعله بعد أن ينتهى من إستبدال ثيابه المبتلة هو الآخر يعيدها إلى الغرفة ، ولم يجد مشقة فى حملها ونقلها من المرحاض إلى الغرفة ، بل إستلقى بجوارها وجذبها إليه وظل يربت عليها حتى غفت بنومها ، وفى اليوم التالى اخبرته انها ذاهبة لشقيقها ولن تتأخر فى العودة ، وعندما عادت وجدته فى إنتظارها جالساً بالشرفة ومنذ ذلك الحين وهى ملتصقة به رغم أنهما لم يتحدثان بشأن أى أمر من الأمور الخاصة بهما ، أو الإتيان على ذكر ما قررته بشأن علاقتهما 


– حبيبتى أنتى نمتى


قالها راسل وهو يتحسس وجهها برفق ويده الأخرى يمسد بها على شعرها 


فأجابته حياء بصوت خافت :

– لاء منمتش لسه صاحية 


نسمة هواء رطبة صفعت وجنتها بنعومة وهى تفتح عينيها وتغلقهما تزامناً مع الحركة الرتيبة للمقعد المتأرجح الجالس عليه راسل وهى جالسة بأحضانه تنظر للخارج عبر النافذة العريضة فى الغرفة ، فتلقائياً وضعت يدها على بطنها تتحسس ذلك الخواء بها ، والذى لم ينتج عن عدم تناولها الكميات الكافية من الطعام ، ولكن من ذلك الشعور بأنها ربما لن يحالفها الحظ وتشعر بطفلها يركلها بحركته المفرطة كما رأت وسمعت عن حركة الأجنة فى بطون الأمهات  


وجدته يرفع يدها التى كانت واضعة إياها على بطنها ، ومن ثم قبل باطنها وهو يقول مقترحاً بعض الحلول التى ربما تساهم فى خروجها من تلك الحالة من الإكتئاب والعزلة التى فرضتها عليهما سوياً :


– حياء مش هينفع تفضلى قاعدة فى الأوضة كده ومبتخرجيش ، تحبى نروح أى مكان تانى ، أو حتى تروحى الشركة يمكن الشغل يقدر يخرجك من الحالة اللى أنتى فيها دى 


رفعت عينيها له وتساءلت :

– أنت زهقت منى ؟


ظل يقبل رأسها وهو يردد بثقة ويقين :

– أنا عمرى ما أزهق منك أبدًا يا روحى ، بس صعبان عليا أنك بقيتى زى الوردة اللى دبلت من كتر الحزن وعينيكى مش مبطلة عياط ودموع


تنهدت بخفوت وأغلقت عيناها أمام تلك العاصفة الجديدة من البكاء ، فحاولت أن تعاتبه على هجره لها ، إذ لم يصح لها عتابه بذلك اليوم :


– ما أنا كنت بعيط وأنت بعيد عنى مفكرتش فيها دى ، أو فكرت ايه اللى ممكن يكون حصلى وقتها يا أبو قلب زى الحجر ، ضيعت من عمرنا سنتين بحالهم 


زفر راسل أنفاسه الحائرة ومن ثم رد قائلاً بإرهاق :

– أنا كمان كنت تعبان وموجوع ومضغوط ومش قادر أفكر ، وجايز كان البعد فى الوقت ده حل كويس مش علشان بس كنت بفكر اخليكى تكرهينى وتبعدى عنى ، لأن يمكن كنت اتجننت وقتلت اخوكى بعد ما عرفت إن هو اللى عذبنى وكنت المرة دى دخلت السجن فى جريمة قتل عملتها فعلاً مش مظلوم زى المرتين اللى حصلوا قبل كده 


رفعت حياء رأسها عن صدره ورمقته بشك من أنه قادراً على أن يقدم على قتل أحد ، إلا أنه حرك رأسه مستطرداً:


– اه يا حياء كان ممكن أقتل ديفيد أخوكى ، أنتى متتخيليش كان بيعمل فيا إيه ، ولا الكابوس اللى عيشنى فيه وتعذيبه اللى بصماته لسه على جسمى ، أنا بس كنت أتمنى اقابل اللى عمل فيا كده علشان ادوقه من نفس الكاس ، بس حظه انه طلع أخوكى يا حياء ومن سوء حظى إن مقدرش اعمل فيه حاجة علشان خاطرك 


عاد وجذب رأسها إلى صدره ، لعلها تغفو بنومها تلك المرة ، وما أن سكنت وهدأت حركتها ، سمع صوت إنتظام أنفاسها ، فقام بنقلها إلى الفراش وإستلقى بجوارها ولكن جاءه إتصال هاتفى يفيد بأنه يريدونه على وجه السرعة لإجراء جراحة عاجلة فى الغد بأحد المستشفيات فى القاهرة ، فوجدها راسل فرصة سانحة لتعيد ترتيب أفكارها ، خاصة أنه شعر بأن وجوده أمامها طوال الوقت  زاد فى شقاءها وحيرتها 


فبعد مرور يومان ، خرجت حياء من غرفتها بعدما أبدلت ثياب العمل بثياب بيتية ، اذ وجدت أن الحل الأنسب لها بعد سفر زوجها أن تعود لعملها ، لعلها تكون قادرة على الخروج من متاهة أفكارها ، وضعت يداها فى جيبى ثوبها الواسع ، وسارت فى الردهة الخاصة بالغرف ، وهى تنظر للوحات المعلقة على الجدران 


وجدت سجود تخرج من الغرفة الخاصة بها ، وتهلل وجهها وأقتربت منها تحتضنها ، فجلست حياء القرفصاء أمامها ، وهى تمعن النظر في وجه تلك الجميلة ، التى كانت أحد أسباب عشقها لراسل ، طوقت سجود عنق حياء وظلتا هكذا متعانقتان بصمت ، كأن حياء فى حاجة لأن تشعر بالأمان ، فزوجها منذ سفره فضل تركها بحريتها لأخذ قرارها ، بل أنه أخذ إحتياطه فى عدم رؤيتها له حتى لا يؤثر ذلك فى قرارتها ، وأخبرهم فى المنزل أنه مسافراً لعدة أيام من أجل عمل طارئ ، ولم يتعجب أحد لكونهم لا يعلمون أسبابه الحقيقية لتفضيله ترك المنزل فى تلك الأونة 


شددت من إحتضانها للصغيرة ، حتى شعرت سجود بألم طفيف ، ولكن أنتبهت حياء على ما تفعله ، فأرخت ذراعيها عن الصغيرة ، وإبتعدت عنها قليلاً ورفعت يدها تربت على وجنتها وهى دامعة العينين ، فمدت سجود يدها ومسحت دمعاتها التى أغرقت وجنتيها رغماً عنها 


أنكمشت ملامح سجود لرؤيتها لها تبكى هكذا ، فتساءلت وهى مازالت تجفف عبراتها :

– مالك يا مامى بتعيطى ليه كده ؟ فى حد زعلك ؟ هو بابى فين ؟


أجابتها حياء وهى تحاول الإبتسام :

– مفيش حاجة يا قلب مامى ، أنا بس بحبك أوى أوى يا سجود وبابا مسافر عنده شغل وإن شاء الله هيرجع قريب 


هزت الصغيرة رأسها وسرعان ما جذبت ذراع حياء وترجتها بأن تذهبان لحظيرة الخيول وتجعلها تمتطى جوادها الخاص فوافقت حياء ، لعلها تصرف تفكيرها عن سبب تأخره هكذا ، ألا يعلم بأن محاولته تلك فاشلة ولن تفيده أو تفيدها يشئ ، كون أنها أخذت قرارها منذ ما علمت الحقيقة 


ولكن قبل هبوطهما الدرج ، سمعت سجود صوت هاتفها ، فأخرجته من جيبها وهى تقفز بسعادة قائلة بحماس :

– ده بابى يا مامى 


فتحت سجود الهاتف ولم تكتفى بذلك ، بل عملت على فتح مكبر الصوت ، ليصلهما صوته بوضوح ، وما أن هتفت الصغيرة قائلة بإبتسامة وحب لأبيها :


– بابى أنت فين ؟ أنت وحشتنى أوى هترجع أمتى 


رد راسل قائلاً بحنان :

– هرجع البيت قريب يا قلب بابى ، أنتى عاملة ايه ومامى عاملة إيه يا سيجو


سمعت نبرة صوته اللحوحة فى السؤال عنها ، فرفعت سجود وجهها عن الهاتف ونظرت إليها قائلة بحزن طفيف :

– مامى كانت بتعيط يا بابى ومش عارفة هى بتعيط ليه 


ما أن سمع بأمر بكاءها ، سأل طفلته بإلحاح ولم تخفى نبرة صوته قلقه الشديد من أن يكون حدث لها خطب ما جعلها تبكى ثانية :


– بتعيط ليه يا سجود ماما مالها حصل حاجة ؟


أنتظر أن تجيب إبنته على سؤاله ، إلا أنه سمع صوت حياء وكم بدا صوتها بتلك اللحظة مختنقاً ، كأنها وجدت مشقة فى نطق حروف إسمه:

– راسل 


رن صوتها فى أذنه وهى تهتف بإسمه ، كصدى لحن حزين ، فحاول التخفيف عنها قدر إمكانه ، فرد قائلاً بحب صادق :

– نعم يا روح راسل 


كأنه نسى فجأة وعده لنفسه بأن يمهلها وقتها دون تدخل منه أو أن يحاول فرض حبه ، حتى لا يجعلها ترزح تحت ضغط هائل ، ولكنه فشل كالعادة ، فما أن علم بأمر بكاءها وسمع نداءها له ، عاد ذلك العاشق المحب والمغرم بها 


إبتلعت حياء ما أمكنها من لعابها ، الذى شعرت بمرارته العائدة لتجمع الدمعات فى عينيها ، فقالت بما يشبه الرجاء تلك المرة:

– أرجع يا راسل مفيش فايدة من اللى أنت بتعمله ده ، أرجع وهقولك على قرارى النهائى 


– حياء أنا ....

لم يكمل حديثه إذ سمعها تهتف به بحدة غير واعية بما تقوله  :

– قولتلك أرجع خلاص ، أنت ليه عنيد كده ، عايزنى أعمل إيه يعنى أستحايل عليك علشان ترجع ، بتبقى مبسوط كده يعنى 


أدركها الندم ما أن وعت على حدتها فى الحديث معه ، رغم أنه لم يفه بكلمة تجعلها تحتد عليه هكذا دون مبرر ، فعادت تقول ولكنها لم تفلح فى كبح إنسكاب دموعها وخروج صوتها متحشرجاً:

– أرجع بقى أنا مش هفضل طول عمرى أستناك ، أنا اللى بقولك تعال يا راسل ، أنا محتجالك فاهم يعنى إيه محتجالك 


وصله صوت بكاءها بوضوح ، فأجابها بصوت حانى :

– إهدى يا حبيبتى وبطلى عياط ، هرجع يا حياء بس بلاش تبكى بالشكل ده ، هرجع البيت بكرة إن شاء الله


حاول أن يطمئنها بحديثه ، حتى يعود إليها ، ويبدو أن عودته لن تقتصر على تهدئة إنفعالاتها ، والتى يعلم أنها ناتجة عن عدم أخذها قرار تريح به كلا الطرفين ، فهو يعلم أى شعور هذا الذى يتقاذفها الآن من أنها تريد الحفاظ على حبها ولكن عليها أن لا تأمل ولا تطمح فى أن تنال أمنيتها وأن تمارس غريزة الأمومة لأطفال تحملهم بأحشاءها ويأتون لهذا العالم وتعمل على تربيتهم وغرس تلك الصفات الحميدة بهم 


كفت حياء عن البكاء وسمعها تقول بهدوء قدر إستطاعتها :

– تمام يا راسل ، بس لما ترجع عايزة أقابلك فى بيتنا القديم ، هتلاقينى مستنياك هناك ، لأن لازم أتكلم أنا وأنت لوحدنا من غير ما يكون حد معانا ، وهنبقى نرجع قصر النعمانى لما نخلص كلامنا 


– ماشى يا حبيبتى هجيلك على بيتنا القديم ، ودلوقتى أرتاحى يا حياء وكفياكى ضغط على أعصابك 


ترجاها راسل أن تحاول أخذ قسط من الراحة ، لعل النوم يساعدها فى التفكير بروية ، إلا أنها أجابته وهى تمسد على رأس سجود :

– أنا هاخد سجود وهروح أزور بيرى ، عايزة أشوفها ، هقعد معاها شوية وبعدين هنرجع على طول 


بعد أخذها إذنه بالموافقة على الذهاب لإبنة عمها ، أنتهت المكالمة بينهما ، وأخبرت الصغيرة بأنهما عوضاً عن الذهاب لحظيرة الخيول ، سيذهبان لزيارة بيرى ، فلم ينطفئ حماس سجود رغم رغبتها الشديدة فى إمتطاء جوادها ، ولكن ربما النزهة البديلة ستمكنها من رؤية إناس أخرون ، وربما ستمارس دلالاها على حياء وتجعلها تبتاع لها ما تريد من الثياب ، التى تهوى شراءها بكثرة ، واعتادت هذا الأمر منذ نعومة أظافرها ، إذ كان يعمل أبيها على شراء ما يفيض عن حاجتها من الثياب محاولاً بذلك تعويض تقصيره عن عدم رؤيتها له أوقات طويلة 


وصلت حياء لذلك المبنى السكنى ، الذى تقطن به بيرى ، ويتبعها سيارة الحراسة ، فداعبت وجنة سجود وهى تقول بإبتسامة هادئة:

– يلا يا سيجو وصلنا ، إحنا هنزور طنط بيرى وبعد كده هروح أشتريلك كل الفساتين اللى أنتى عيزاها ماشى يا روحى 


أماءت الصغيرة برأسها وإستمعت لما قالته وخرجت من السيارة ، صعدتا الدرج حتى وصلتا إلى الشقة ودقت حياء الجرس ، وسرعان ما فتحت لها بيرى وهى تصيح باسمة :

– إيه المفاجئة الحلوة دى ، أهلا يا حبيبتى منورين 


بعدما رحبت بيرى بإبنة عمها ، أنحنت وقبلت الصغيرة ودعتهما للدخول ، ولجت حياء وهى تنظر فى الصالة بحذر ومن ثم تساءلت بصوت خافت :

– هو جوزك هنا ولا برا ؟


اجابتها بيرى بنبرة حزينة :

– لاء برا ، بيخرج من الصبح ومبيرجعش إلا بالليل وساعات بنام ومبعرفش بيرجع أمتى 


إستدارت إليها حياء ووضعت يدها أسفل ذقنها ، لعلها تنظر إليها بتمعن ، فما تراه على وجهها وسمعته بصوتها الشجى الحزين، جعلها تعلم أى مأساة حقيقية تعيشها هى الآن ، زفرت بخفوت ومن ثم قالت :

– مش أنتى اللى كنتى بتقولى أن الحياة معاه مش هتبقى سهلة ، وأنك لازم تعافرى علشان حبكم 


أنسكبت دمعة كبيرة حارة من عينيها ، وإبتسمت قائلة بمرارة :

– مكنتش عارفة أن دماغه بقت ناشفة أوى كده ، بس ولا يهمك أنا وراه وراه لحد ما يسلم 


حاولت إضفاء نبرة مرحة على حديثها ، فرفعت يديها ومسحت وجهها ، وطلبت منها الجلوس لحين أن تأتى لهما بالمشروبات المرطبة ، ذهبت بيرى للمطبخ وتبعتها حياء ، التى إستندت بظهرها على أحد الجدران ومن ثم قالت بدون تمهيد :

– بيرى أنا عرفت ايه اللى كان راسل مخبية عليا 


وضعت بيرى الأكواب من يدها ، وإستدارت إليها تحثها على قول ما لديها ، فأخبرتها حياء القصة كاملة منذ تصريح راسل لها بأسباب تفكيره فى أن يجعلها تشعر بالكره نحوه ، مروراً بتلك المشكلة التى ستواجههما فى الإنجاب ، حتى عرضه لها بأن تأخذ الوقت الكافى فى التفكير ، وبعد إنتهاءها من الحديث ، عقدت بيرى حاجبيها وسألتها بصدق :


– وأنتى قررتى إيه يا حياء 


أغمضت عيـنيها وتنهدت بعمق ومن ثم ردت قائلة كأن ليس هناك سبيل للإختيار :

– تفتكرى هيكون قرارى إيه يا بيرى ، طبعاً هختار راسل 


أطرقت بيرى برأسها وغمغمت بخفوت:

– فكرى كويس يا حياء ، لأن الحزن اللى شيفاه فى عينيكى ، بيقول أن رغم أنك واخدة قرارك ، إلا أنك حاسة بضغط ، والقرارات اللى بتتاخد تحت ضغوطات ، ممكن تخليكى تندمى بعدين 


لم تشأ حياء التفكير فيما قالته بيرى ، لذلك أرادت إغلاق باب النقاش فى ذلك الأمر ، وحاولت أن تتحدث عن أى شئ أخر ، وبعد قضاء ما يقارب من الساعة ، أخذت سجود وفى نيتها الذهاب إلى أحد المتاجر الخاصة بثياب الأطفال لتبتاع لها ما تريد


بعد ذهاب حياء والصغيرة ، وجدت بيرى نفسها وحيدة كما كانت قبل مجيئهما ، فذهبت للمطبخ لإعداد شطيرة لها لشعورها المفاجئ بالجوع ، ولكنها وجدت أنها بحاجة لبعض الأغراض المنزلية من المتجر المجاور ، فأخذت الهاتف وطلبت ما تريد ومن ثم أعدت لها كوب من مشروبها المفضل " القهوة بالحليب " 


فلا شئ يؤنسها بليالها ، سوى كوب من مشروبها المفضل ، وجلوسها قريباً من النافذة ، حدقت بالساعة المعلقة على الجدار ، فوجدت الوقت تخطى التاسعة مساءً ، فلما تأخر هكذا بالعودة للمنزل ، خاصة اليوم ، ولكن عادت و تذكرت منذ متى وهو ويعود إليها باكراً  ؟ فهو يرحل مع أول خيوط النهار ، ويعود بعد أن يدركها النعاس وهى جالسة بإنتظاره ، فإنتظارها له يشبه إنتظار المطر بموسم الصيف الحار ، والذى تأبى شمسه الرحيل ، فبكت وبدت دمعاتها  كسقوط قطرات المطر ، فكلاهما يتشابهان فى الصدق والنقاء ، وكلاهما قادم من الأعماق


سمعت صوت جرس الباب ، أزالت عبراتها وتركت مكانها لترى من القادم ، لعله عامل توصيل الطلبات للمنازل ، قد أتى لها بما سبق وأوصت به إحدى المتاجر المجاورة الخاصة ببيع المستلزمات المنزلية من خضراوات وفاكهة وما شابه 


فتحت الباب ولكن أصابتها الدهشة من رؤية صاحب المتجر يحمل لها أغراضها ، فهتفت به بشعور طفيف بالخجل :

– هو حضرتك اللى جايب الطلبات بنفسك


مدت يدها لتأخذ منه الأكياس البلاستيكية ، فأبى أن تحملها وأصر هو على وضعها بالداخل ، فوجدته يقتحم الصالة وهو يقول بصوته القوى :

– لاء عنك أنتى دا الأكياس تقيلة عليكى 


رغم شعورها بالإستياء من فعلته ، إلا أنها ذهبت لتجلب له النقود ، فولجت غرفة نومها تبحث عن حقيبتها ، وجدت الحقيبة على منضدة الزينة ، فتحتها وسحبت النقود ، ولكن ما أن رفعت وجهها ونظرت بالمرآة وجدته يقف خلفها قريباً منها 


فدارت على عقبيها صارخة به :

– إيه ده أنت إزاى تدخل هنا أنت أتجننت أتفضل أطلع برا


لم يؤثر به صياحها وعلامات الحنق التى أعتلت قسمات وجهها ، فقطع المسافة الفاصلة بينهما وطوقها بذراعيه قائلاً برغبة مجنونة :

– أنتى حلوة أوى وتجننى كمان ، دا أنتى خسارة فى جوزك ده ، صدقينى أنا حبيتك من أول دقيقة شوفتك فيها ، أنا هقدر أسعدك أكتر منه ، أطلقى منه وأنا هتجوزك ، أنا كل ما أشوفك معاه بتجنن


ماذا يقول ؟ وماذا يفعل ؟ فهى تنظر إليه بفزع وخوف، فهو كأنه عاشق مصاب بالهذيان ، وضعت يديها على صدره ودفعته عنها قائلة بحدة :

– أنت إيه اللى بتعمله وبتقوله ده أنت مجنون


إستطاعت التخلص من ذراعيه ، فأطلقت لساقيها الريح لتركض خارج الغرفة ، ولكن ما أن وصلت للباب أصطدمت بزوجها ينظر إليها بعينين قاسيتين ووجه كأنه قد من حجر ، أرتعشت شفتيها وهى تحدق به حائرة مذعورة ، ووقفت أمامه دون حراك وغير قادرة على أن تفه بكلمة واحدة ، ضاعت الكلمات وعقدت الدهشة لسانها وحبست الصدمة كلماتها فى حلقها 


إلا أنها سمعت صوت يأتى من خلفها وهو يقول بلامبالاة :

– أنا مش عايزك تفهم الموضوع غلط 


حدق بهما بقسوة ومرارة ، فيما غابت الدماء من وجهه ، ثم وثب عليه صارخاً به بعدما طرحه أرضاً وجثى فوق صدره :

– عايزنى أفهم إيه لما ألاقيك مع مراتى وفى بيتى وفى وقت زى ده ، أنا هقتلك هقتلك 


حاولت هى فض العراك بينهما ، فتشبثت بذراع زوجها وحاولت جذبه إليها ليتركه قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة ، فدفعها عنه بقسوة وحدة وأرتطم رأسها بحافة الكومود ، فتأوهت بألم وسقطت مغشياً عليها والدماء تسيل من رأسها بغزارة ، وعى عبد الرحمن على ما فعله بزوجته ، بعدما سمع صيحة ذلك الملقى أسفله ومازال هو جاثماً على صدره ، وما جعله يعى على فداحة فعلته ، أن ذلك الرجل والذى من المفترض أنه صديقه ، أخبره أن ربما بيرى قد لقت حتفها ودل على ذلك غزارة الدماء النازفة من رأسها ، فعند هذا الحد ، كان عبد الرحمن يقفز على قدميه مبتعداً عنه ، وما أن سنحت الفرصة لذلك الخبيث ، هب واقفاً ولاذ بالفرار من الغرفة بل من الشقة بأكملها ، فجثى عبد الرحمن بجوار جسد بيرى الهامد ، ومد يده يربت على وجهها لعلها تهمس له بأى كلمة ، تجعله يتيقن من أنها مازالت على قيد الحياة ، ولكن دماءها التى غطت يده وظل محملقاً بها ، خلقت لديه حالة من الصدمة التى أدت لحالة من البلادة دامت لعدة ثوانٍ ، ولكن عاد يهز جسدها وهو يبكى ويصيح منادياً بإسمها ، ولكن لم يكن هناك إستجابة منها ، فخشى أن تكون تحققت ظنونه ، خاصة بعد أن لمس تلك البرودة التى إجتاحت جسدها وتركتها شاحبة كأن دماءها لم تعد تسرى فى أوردتها

❈-❈-❈

ما أن أنتهى من إرتداء سترته السوداء ، التى تضارب لونها مع قميصه الأبيض المفتوح قليلاً ، أخذ قنينة عطره الفاخر ونثر منها على ثيابه التى توحى بمدى أناقته وثراءه اللامحدود ، وذوقه الراقى فى إنتقاء الثياب ، التى يحرص دائماً على أن تناسب جسده الرياضى ووسامته الفجة الظاهرة للعيان خاصة بملامحه الأوروبية الصرفة ، فلو تحدث بالإيطالية أو أى من تلك اللغات الأجنبية التى يتحدث بها ، لن يشك أحد فى أمر أنه غربى الأصل والمنشأ ، ولكن الحقيقة خلاف ذلك ، فرغم قضاء سنوات طفولته ومراهقته وشبابه فى صقلية ، إلا أنه ما أن يتفوه بكلمة باللغة العربية وخاصة اللهجة المصرية العامية ، يجعل المستمع له يشك فى أمره ، ولطالما أثار ذلك الأمر حباً لديه ، كأنه مستمتعاً بجعل من يقف أمامه فى حيرة من أمره ، إلا أنه ما أن تذكر معشوقته ، التى بصدد الذهاب الى منزل أسرتها الآن لإتمام خطبتهما ، تمنى لو كان نشأ وترعرع هنا فى إسكندرية وأن يكون ألتقى بها منذ نعومة أظافرها ، لعل ذلك كان سيساهم بتغيير الكثير من الأمور فى حياته 


دقائق معدودة ويراها أمامه وستظل له ما تبقى منه عمره ، وعند هذا الحد من التفكير ، شعر بأنه يحلق فى الهواء ، وأن قدميه لا تلامسان الأرض ، قضم سبابته ما أن تذكر تلك الطقوس الخاصة بالخطبة ، والتى لابد أن يكون على علم ودراية بها ، فحتما سيتوجب عليه أولاً قراءة الفاتحة قبل البدء فى مناقشة أمور الزواج ، وهو لم يحفظ شيئاّ من القرآن، الذى من المفترض أن يكون على  علم به حتى ولو اليسير منه بحكم أنه شاب مسلم ، ولكنه وجد الحل سريعاً ، إذ أخرج هاتفه وبحث عن فاتحة الكتاب وبدأ بحفظها وربما ساهمت سرعة بديهته فى أن يحفظ الأيات الكريمة 


خرج من غرفته بأحد الفنادق الفاخرة ، لكونه لم يشأ أن يظل فى المنزل وتعلم حياء أو بيرى أنه لم يسافر كما سبق وزعم أنه سيسافر لأجل أمر هام ، قاد سيارته وهو مازال يردد أيات سورة الفاتحة ، ولكن كلما أمعن فى معنى الكلمات تنتابه حالة من الفضول لفهم معناها


وصل لذلك الحى الذى تقطن به محبوبته ، فخرج من السيارة وحمل الهدايا التى إبتاعها من أجلها هى وأسرتها ، ومن ثم ولج لداخل المنزل وضغط زر الجرس 


فتح له والدها الباب قائلاً بإبتسامة بشوشة :

– أهلاً وسهلاً يا إبنى أتفضل نورتنا


أنبسطت أساريره ما أن رآى إستقبال والد عروسه الودود له ، فإطمئن وولج للداخل ووضع ما بيده قائلاً بإبتسامة عريضة :

– دا نورك يا عمى 


إستقبله بلال هو الآخر مرحباً بقدومه ، ودعاه للجلوس ، فجلس على يساره بينما جلس أباه على يمينه ، فتمنى ديفيد أن تنتهى تلك الليلة بسلام خاصة وأنه صار جالساً بين والد ياسمين وشقيقها ، كأنه يجلس بين إثنان من المحققان ، واللذان يبدو عليهما أنهما لن يتركانه حتى يحصلان على ما يريدان من معلومات بشأنه وشأن عائلته وعمله وكل ما يمت له بصلة 


حك بلال ذقنه ومن ثم قال متسائلاً بتعجب لم يستطع إخفاءه بنبرة صوته :

– استاذ تميم أنت بتقول إنك غنى ورجل أعمال ، بس أنا لما سألت عليك ملقتش أى معلومات خالص ، حتى أنا تقريباً عارف معظم رجال الأعمال فى إسكندرية لأن بشتغل مع عاصم النعمانى ، حتى لما سألته أنه يعرف حد بالاسم ده قالى لاء


هذا ما كان يخشاه ديفيد ، فأى أحمق هو إن ظن أن أسرتها ستوافق على زواجه منها دون أن يحصلوا على المعلومات الكافية عن زوج إبنتهم المستقبلى ، ولم يكن ذكر إسم عاصم النعمانى يثير به الدهشة ، فهو سبق له معرفة ما يخص عائلتها سواء أبيها أو شقيقها أو والدتها 


إبتسم ديفيد إبتسامة هادئة أبعد ما تكون عن تلك الفوضى التى ثارت بداخله من قول بلال ، فرد قائلاً بثقة أجاد إستخدامها :

– استاذ بلال أنا قولتلكم أنا فعلاً غنى ورجل أعمال بس مش هنا فى إسكندرية ، لاء فى صقلية - إيطاليا ، وإن انا عشت عمري كله هناك لما أهلى اتوفوا فى حادثة ، لأن جدتى أم بابا كانت من صقلية ، ولما كنت هنا فى اجازة مرة وشوفت الانسة ياسمين عجبتنى ، بس لما عرفت انها اتخطبت سافرت ورجعت تانى وكان ليا نصيب اشوفها تانى ، انا مكنتش برجع إسكندرية إلا اجازات كام يوم وبس ، بس دلوقتى قررت انقل شغلى كله هنا لو اتجوزت انا وياسمين ، لأن قولت كفاية غربة لحد كده ودلوقتى هيبقى عندى سبب أن استقر هنا ، بعد مكنتش طايق البلد علشان اهلى مش فيها ، حتى فى صقلية بدير شركة بإسم " ديفيد دانيال " وده إسم أخو جدتى والشركة كانت بتاعته وملوش ورثة غيرها واتنقلت الشركة ليا بحكم إن وريث جدتى ، ودى بطاقتى الشخصية أهى بإسم تميم 


حاول إدماغ كذباته بدليل واضح وصريح من أنه لم يخبرهما سوى الحقيقة ، فأخرج هويته الشخصية وهاتفه من جيب سترته ، ناول الهوية لوالد ياسمين ، وبحث فى هاتفه عن إسم تلك الشركة التى يمتكلها ، وناول الهاتف لبلال ليستطلع على كافة المعلومات حول إمتلاكه لشركة خاصة بالإستيراد والتصدير 


– بس متأخذنيش ده مش دليل كافى إن يخلينى أتأكد من كلامك 


قال بلال بصراحة متناهية ، فشقيقته أغلى ما يملك بعد أبويه ، لذلك لن يوافق على زواجها من أول رجل يطرق بابهم دون أن يتحرى كافة المعلومات عنه 


ضيقا عليه الخناق بأسئلتهما التى لم يكفان عن طرحها ،  وحاول هو قدر إمكانه أن يتحلى بالصبر حتى لا يقوم من مكانه ويصرخ فى وجهيهما ، بأنه لا يريد منهما سوى معشوقته ، حتى لو اضطره الأمر بأن يعطيهما كافة الضمانات القانونية اللازمة بأن يطمئنان على أنها ستحيا سعيدة ومدللة ومترفة بثراء لا حد له 


ولم يلجم لسانه الذى أوشك على أن ينفلت عقاله ، سوى رؤيتها قادمة إليهم تحمل صينية المشروبات ، وتبدو وهى تسير كالعازفة على أوتار قلبه بألحان جعلته يأخذ أنفاسه بصعوبة ، وكأن ليس هناك سبيل من تفادى ذلك الشعور بالإشتياق ، والذى جعل عليه من العسير أن يتنفس براحة ، فكيف له أن يعثر على الراحة وهى باتت على بعد عدة خطوات منه ، ولا يفصلهما سوى منضدة صغيرة ولكن هناك عوائق أخرى ، لم يرد التفكير بشأنها الآن


أتت والدتها من خلفها وهى تقول باسمة :

– أهلاً وسهلاً بيك يا إبنى ، أتفضل 


أشارت إليه بأن يأخذ كوب المشروب ، بعدما وضعت ياسمين الصينية على المنضدة وجلست بالقرب من أبيها ، تفرك يديها بقماش ثوبها وتتفادى النظر إليه ، ولكن إستطاعت تمييز رائحة عطره الفواحة ، خاصة أنها تعلم أى من العطور يستخدمها أبيها وشقيقها ، فزاد إضطرابها أكثر ، خاصة بعد تلك اللمحة الخاطفة التى ألقتها عليه ومن ثم عادت تطرق برأسها أرضاً ، ولكن كانت النظرة كفيلة بأن تجعل حواسها تستيقظ فجأة وتعى على مدى وسامته وأناقته 


فهمست بقرارة نفسها :

– إهدى يا ياسمين ، هو أه حلو ووسيم بس الحلاوة والوسامة مش كل حاجة ، بس إيه الاحساس الغريب اللى أنا حساه ده 


يبدو أنها شردت بأفكارها وحديثها الصامت ، ولم تنتبه إلا على رنين جرس الباب ، فنهضت والدتها لترى من الزائر لهم فى هذا الوقت ، فتحت الباب بإبتسامة سرعان ما تلاشت شيئاً فشيئاً بعد رؤية من يقف أمامها ، حملقت فى وجهه مشدوهة ومن ثم نظرت إلى غرفة المعيشة،لتطمئن أن لا أحد بإمكانه رؤيته 


فعادت ببصرها إليه ورمقته بنظرة حادة ، وتساءلت بصوت خافت ملأه الجفاء والضيق والرغبة الشديدة فى أن ينصرف :

– أنت إيه اللى جابك هنا دلوقتى وعايز إيه ؟

 يتبع..


إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة سماح نجيب من رواية لا يليق بك إلا العشق، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية و حكاية


رواياتنا الحصرية كاملة