رواية جديدة مشاعر مهشمة 2 لشيماء مجدي - الفصل 43
قراءة رواية مشاعر مهشمة الجزء الثاني كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
الفصل الثالث والأربعون
زفرت "زينة" بإنهاك وهي تجاور زوجها في الفراش، استلقت بجسدها عليه بروية، وتمددت بوضع مريح لها، وبيديها راحت تمسح فوق بطنها المتكور، حتى ترخيها وتثبط من اشتدادها، في تلك الأثناء كان "عز الدين" منشغلًا في الإجابة على رسائل والدة مريض، هو المسئول عن حالته، وبعد مضي عدة لحظات، كان هو قد انتهي من إرسال بعض الإرشادات لها، لضمان تعافي الطفل بشكل سريع، هتفت "زينة" بعد زفرة أخرى متعبة:
-بطني شادة أوي.
أطفأ شاشة الهاتف، ثم وضعه جنبًا وهو يعلق بغير استحسان:
-ماطبيعي تشد، هو انتي بتريحي نفسك.
ضمت ما بين حاجبيها، وناظرته بنظرة غير راضية وهي تعقب بغير استساغة لرنة الضيق في قوله:
-يعني انت عايزني اسيب داليا في الظروف دي؟
التفت قليلًا بجسده نحوها، حتى يطالعها بأريحية من موضعه، ثم تكلم بهدوء:
-مقولتلكيش تسيبيها طبعًا، بس مش هيحصل حاجة لو حاولتي تريحي نفسك شوية، خصوصًا إن كلام الدكتور ليكي هو إنك ترتاحي، واحنا مصدقنا عدينا مرحلة القلق بعد ما البيبي نزل.
زمت شفتيها ولم تفوه بشيء، خاصة وإنه محق فيمَ يقول، عندما لاحظ "عز الدين" صمتها، ظن إنه حزنًا راجعًا إلى إتيانه على سيرة الجنين الذي فقداه، وحتى يزيل معالم البؤس من فوق وجهها، مد يده ممسكًا بكفها، مسح بإبهامه فوق جلدها برفق، حينئذٍ رفعت عينيها عليه، ناظرها بنظرة دافئة، وبسمة محبة، ثم تابع بنبرة عقلانية:
-داليا لو مروحتيلهاش كل يوم مش هيحصلها حاجة، خصوصا إن رفيف عندها علطول، ابقي كلميها يا ستي في التليفون كل يوم زي ماتحبي، ولو حسيتي إنها محتاجاكي وقتها أبقي روحيلها.
سحبت نفسًا مطولًا لرئتيها، زفرته وهي توميء بموافقة، ثم قالت له بود صادق:
-أنا والله حبيتها أوي، وببقى عايزه افضل معاها عشان متحسش إنها لواحدها، وبجد نفسي أرجع اشوفها فرحانة زي الاول والاكتر.
لم يكن لديه أدنى شك فيمَ تضمره في قلبها نحو الأخرى، ف"زينة" لطالما كانت كالكتاب المفتوح بالنسبة له، يستطيع رؤية كل ما بها فقط من نظرة واحدة لعينيها، وما جذبه لها من البداية، منذ كانا جارين في نفس البناية، يتشاركان نفس الطابق، هو نقاء روحها، وصفاء قلبها، ولسانها الطيب مع الجميع، وهذا ما جعله يرى جمالها الخارجي الهادئ، والذي يشعره بالراحة فقط من التحديق بوجهها الناعم، بملامحها الرقيقة، وابتسامتها الفاتنة. أراد مناغشتها، في تلك اللحظة الخاصة، حتى يرى تلك البسمة المحببة لقلبه، زين ثغره بسمة واسعة، واقترب منها مداعبًا إياها من خصرها، واستطرد في مرح عابث:
-حبيبي أبو قلب حنين.
لم تتحكم في بسمتها التي ملأت شدقيها من نبرته الممازحة، ومداعبته المضحكة، إلا أنها سريعًا ما أخفتها وهي تسأله بضيق زائف:
-انت بتتريق؟
رسم براءة مصطنعة في عينيه وهو ينظر لها، وسألها:
-انتي تعرفي عني كده؟
هزت رأسها بتأكيد، وردت باغتياظ:
-ايوه اعرف، انت مبتعملش حاجة في حياتك قد التريقة عليا.
أراد إثارة غيظها بشكل مضاعف، عاد بظهره على عارضة الفراش، ووسد ساعده خلف رأسه، وتشدق بتسلية:
-والله لو شايفة كده يبقى انتي اللي فيكي حاجة غلط.
رفعت حاجبيها باستنكار مليء بالتفاجؤ، حينها منع بسمته المتأثرة من الظهور، وتابع ببرود بنفس النبرة المثيرة للاستفزاز:
-ماهو مفيش حد هيفضل يتريق على حد إلا إذا كان هو اللي فيه مشكلة.
بنفس التعبيرات المتفاجئة، هتفت بذهول:
-والله؟
تظاهر بالتلقائية، وسألها بصوت عادي به لمحة ماكرة:
-انتي شايفة حاجة تانية ولا إيه؟
أشارت على نفسها بيدها، وسألته بلهجة تغيرت، وحملت غموضًا واضحًا:
-يعني انا فيا مشكلة؟
وهو يحاول فهم تلك النظرة التي تشكلت بعينيها، رد عليها بنزق:
-مش عارف بقى، يعني..
لم تمهله الفرصة لإضافة أي تراهات زائدة، وانقضت على جانب ذراعة، وقامت بعضه بأسنانها بغل عارم، مما جعله يتأوه بتوجع حقيقي، ابتعدت بعدما نفست عن غيظها، وناظرت تألمه بنظرة انتقامية مصطنعة، بينما هتف هو بضيق وهو ينظر إلى العلامة التي شكلتها على جلده:
-إيه ده يا زينة، متجوز واحدة مصعورة؟
اعتلت النشوة ملامحها وهي ترد عليه ببسمة منتصرة:
-أيوه، وخلي بالك بعد كده بقى أحسنلك.
لمس بأنامل يده جلده الذي ظهرت الدماء من أسفله، وبنفس النبرة المنزعجة هتف مذهولًا:
-إيه يا شيخة ده! ده انا محتاج واحد وعشرين حقنة بعد العضة دي.
على قوله الأخير، والذي يحمل سخرية واضحة، علقت بغيظ مكتوم:
-حاكم أنا الأيام دي عندي طاقة رهيبة للعض ومكنتش عارفة اطلعها في مين، فانت حر بقى، زود كمان وانا مش مسئولة.
لم يكن من طباعه أن يثور عليها، أو يقابل مزاحها الثقيل بانفعال زاجر، ولكنه مع ذلك لا يفوت أي فرصة في العبث معها بالطرق التي يفضلها، وتستهويه إلى الحد البالغ. حانت منه نظرة نحوها، وفي لحظة اعتلى عينيه مكر خالص، تباعًا مع انفراجة شفتيه ببسمة ظهر بها لؤم ذكوري، ثم دنا منها وهو يقول بعبثية:
-خلي بالك أنا كمان بعرف اعض..
من نظرته، ونبرته الغير بريئتين، فهمت لما يرمي، حينها ارتسمت بسمة رغمًا عنها فوق شفتيها، واكتفت بالنظر له بنظراتها التي تلمع مع كل قرب بينهما، وهو يتابع على نفس الشاكلة التي تحمل إيحاءً مقصودًا:
-بس محدد هدفي من البداية، ومستني بس يتقالي يلا.
مع نهاية قوله غمز لها بعينيه، مما جعل ضحكتها تجلجل في أنحاء الغرفة، تاركة تأثيرًا شديدَ الخطورة على كينونته الذكورية، وبصوت ما يزال يحمل آثار الضحك، قالت له:
-انت رهيب.
قابل كلماتها بضحكة متسعة يصحبها قوله المشاكس:
-بس متنكريش إني بضحكك.
هزت رأسها بالإيجاب ووجهها ما يزال يعلوه البسمة الضاحكة، وأكدت على ما قاله مرددة بصوتها الناعم:
-أيوه انت بتضحكني فعلًا.
اقترب أكثر منها بجذعه، حتى جعل جسدها يصبح أسفله، وغمز لها ثانيةً بعينه، وهو يقول لها بنبرة لعوب:
-طب ما يلا بقى.
نظرت له بنظرات شقية، وعلقت بنبرة تجمع ما ببن الامتناع والرغبة:
-مش قلت مستني يتقالك يلا؟ يعني الدور ده مش دورك.
بأنفاس ساخنة غمغم ووجهه مقابل لوجهها:
-لا مانا معنديش صبر الحقيقة، وفي الحالات دي تلاقيني بقوم بالدورين ومش بستنى كلام من حد.
تواترت أنفاسها في ازدياد ملحوظ مع حر أنفاسه، التي تلفح بشرة وجهها، وبصوت بات مهزوزًا سألته برقة غنجة:
-طب وانا دوري إيه في الليلة دي؟
انشقت شفتاه ببسمة عابثة، ساحرة، ومغوية، ودنا منها أكثر بوجهه، لاثمًا جانب وجهها برقه، ثم قال بالقرب من أذنها بهمس مثير:
-هتعرفي دلوقتي.
ذابت بين يديه بطريقة مغرية، محفزة على الإنغاس في تلاحم حميمي، مليء بالتلاطف النهم، والعواطف المثارة، اللذين يزيدا من لهيب الأشواق، ويؤججا الرغبة حتى تصل بهما إلى ما بعد الآفاق، وبعد مضي الوقت، الذي ينتهي بالشعور بلذة الاجتماع، المصحوب بتخلل الراحة المنشودة في الأبدان، تظل الأجساد متعانقة، والأرواح متناغمة، بالشكل الذي يجعل الاختلافات تختفي، والخلافات تنمحق، مما ينشأ في الأخير حالة من الألفة، والسكينة بين الزوجين، يجتمع عن طريقها الروحين اجتماعًا وثيقًا، ومشددًا موثقًا.
❈-❈-❈
أثناء بقائه بالسيارة، بنظرة متفقدة نظر في ساعة يده، متعجبًا من تأخرها الغريب، فقد أخبرته منذ بضعة دقائق أنها قد خرجت من غرفتها، فهل كل تلك المدة استغرقتها نزولًا على الدرج الداهلي الذي يفضي ببهو الفيلا! لم يكد يزفر نفسًا ضائقًا، حتى حرك وجهه بنظرة منتبهة نحو باب السيارة للكرسي المجاور له، الذي أتبعه دخولها، وأغلقت الباب من خلفها بصمت وعبوس، دون أن تلتفت له، أو حتى تلقي عليه أي تحية مرحبة، حتى أن وجهها كان واجمًا بشكل بالغ، حينئذٍ قضب جبينه بتعجب من حالتها المغايرة تمامًا لمرحها عبر الهاتف منذ قليل، وبعدما أدار محرك السيارة، سألها باهتمام:
-متضايقة كده ليه؟
التفتت "سما" برأسها له، وتعبيرات وجهها تعبر عن انزعاجٍ واضحٍ ، وبصوت لا يقل انزعاجًا أجابته:
-هيبقى إيه السبب يعني غير إن مامي علقت على لبسي، وبأعجوبة خرجت قبل ما تصمم إني اغيره، وكانت هتبقى خناقة كبيرة ومش هنخلص النهارده.
تفاقمت عقدة حاجبيه، فقد تعجب من تضخيم والدتها للأمر، خاصة وأن ما ترتديه يبدو منمقًا، ومناسبًا لتلك الأجواء المسائية، وأثناء خروجه بالسيارة من البوابة الحديدية الكبيرة لفيلا "توفيق العاصي"، سألها مستغربًا:
-ليه يعني كل ده؟ أنا شايف إن لبسك عادي، ومناسب للخروجة اللي خارجينها.
زفرت بتأفف من تحكمات والدتها المخنقة، فهي دائمًا ما تودها أن تظهر بالصورة التي تريدها هي، وترتدي ما تستهويه، ويلائمها، وليس ما يريح ابنتها، وتراها مناسبًا لشخصيتها، وذوقها، وقالت بتجهم:
-انت مش عارف خنقتني ازاي بتحكماتها في لبسي، أنا حاسة إني لو فكرت اتحجب هتوئدني.
عند إتيانها على ذكر الحجاب، حتى أتى في ذهنه صورة "داليا" الأخيرة بحجابها، وعقد داخله نفس المقارنة السقيمة بين الاثنتين، وتساءل ما إن كانت خطيبته ستكون بنفس الطلة الخاطفة عند ارتدائها للحجاب، ولكن ما استرعى اهتمامه أكثر هو تفكيرها في ذلك الشأن هي الأخرى. تقوست شفتاه ببسمة بسيطة وهو يسألها بلهجة مكترثة:
-انتي بتفكري تتحجبي؟
سعدت داخليًا لاهتمامه بتفاصيلها، بما تتضمن العابرة منها، ارتخى وجهها عن ذي قبل، وردت عليه بهدوء:
-في فترة جت عليا كنت بفكر بشكل جَدي في الموضوع، بس كل اما احاول اخد خطوة مامي تهز ثقتي في نفسي، وتحسسني إني الكل هيشوفني وحشة.
مع قولها الأخير حتى أخذ البؤس يعلو وجهها شيئًا فشيء، وعندما لاحظ هو انطفاء ملامحها، سألها بجدية مشوبة ببعض الانزعاج من سلبيتها الواضحة:
-طب وانتي مالكيش رأي؟
حاولت التحكم في بؤسها، وردت عليه بتريث:
-لما الكل بيعترض على حاجة بتعملها، وأراءهم بتكون معارضة لرأيك، غصب عنك هتحس إن رأيك غلط، وثقتك هتتهز.
حتى يزيح عنها ذلك الحزن، تبسم في وجهها، وطلب منها:
-طب ماتبقي تلبسي الحجاب في مرة وتوريهوني عليكي.
اعترضت بعقلانية على طلبه، مرددة:
-مش هعرف اعمل كده، لإن مش لعبة يعني البسه عشان اوريهولك وأقلعه تاني..
شعر بالإحباط لوهلة، فقد انتابته رغبة مباغتة في رؤيتها في تلك الهالة الناعمة، وقبل أن يعبس وجهه، تابعت ببسمة ناعمة:
-بس ممكن أصور نفسي بيه وأوريك الصور.
عاد الابتهاج يلوح في وجهه من جديد، وبتحمس غريب أخبرها:
-خلاص اتفقنا.
حينئذٍ طلبت منه بنبرة مهتمة:
-هتقول رأيك بصراحة من غير مجاملة.
هز رأسه وهو ينظر إلى الطريق أمامه، وأكد على طلبها بموافقة موجزة:
-أكيد.
تنهدت بعد ذلك مطولًا، وقد شعرت بزوال ذلك الشعور الخانق، الذي داهم صدرها منذ قليل أثناء تناحرها مع والدتها، وسريعًا ما سألته بتحمس:
-رايحين فين؟
حول وجهه نحوها، وتراقصت بسمة ساحرة على ثغره، أتبعها قوله بصوته الرخيمة:
-خليها مفاجأة.
اتسعت بسمتها، وازداد وهج عينيها، وامتلأ وجهها في لحظة حيوية وإشراقة، فهو يعرف جيدًا كيفية إخراجها من كآبتها، وبعث السعادة والسرور في نفسها، مما أصبح بلا أدنى شك الشخص الأفضل، والأول في حياتها.
❈-❈-❈
اللعب على جميع الأوتار دائما ما يأتي بنتائجه المرجوة، فإن عجز وتر واحد عن القيام بالمعزوفة المنشودة، فوتر آخر معه سيساعد، وآخر معهما سيفي بالغرض. وهذا ما كان يفكر به "توفيق" من البداية، ولهذا أرسل ل"مي" خبرًا -في المقابلة المدبرة من قِبله بخطيب ابنته- برغبته في اللقاء بها، تعجبت بدورها في بادئ الأمر، وتحيرت، كما أنها استرابت من سببه المبهم وراء ذلك، ولكن فضولها منعها عن الرفض، واتفقت مع "كرم" على الزمان والمكان المناسبين، حسب تفرغها هي لا حسب جدول مواعيد الآخر المزدحم، ولأفكار "توفيق" الخبيثة، ونواياه الماكرة خنع لرغبتها، وحضر في الموعد المتفق عليه. نفث دخان سيجارته الكوبي بكل غطرسة، وزهو، وهي كانت لا تقل عنه كبرًا وهي تتفرس في وجهه، بنظراتها الجريئة، وكأنها تحاول قراءة ما يدور في رأسه، ودفينًا داخل نفسه الدنيئة. بعدما وجدت أنظاره هو الآخر انصبت فوقها، حتى هتفت بنبرتها المتعجرفة:
-استغربت لما عرفت إنك عايز تقابلني.
تقوست زاوية فمه ببسمة فاترة، وعلق باستنكار:
-وليه تستغربي؟ واحنا هدفنا واحد.
انفرجت شفتاها من الجانب بابتسامة هازئة، وعقبت بكلمات ذات مغزى:
-بس احنا هدفنا مش واحد.
تفهم مضمون عبارتها، التي تشير إلى أعماله المشبوهة، تجاهل ما ترمي إليه عمدًا، وهتف ببرود:
-ازاي بس؟ واحنا الاتنين يهمنا أذية عاصم.
أكثر سمة تثير اعتدادها بنفسها، هي حدسها الذي يصيب دائمًا، لذا اعتلى نوعًا من الزهو بسمتها، وعينيها الجريئتين، ولكنها في نفس الآن تعجبت من تفكيره، وأخبرته بتهكم صريح:
-أكيد مش طالب تقابلني عشان اساعدك!
بنفس النبرة المتبادلة في الحوار بينهما، سألها وهو محافظ على بسمته اللزجة:
-مهمة كبيرة عليكي؟
بدأ نفاذ الصبر في الظهور على وجهها، من مماطلته الواضحة، وعدم تكلمه بشيء بعينه، زفرت نفسًا متأففًا، أتبعه سؤالها الضاجر:
-انت عايز إيه بالظبط؟
من السهل عليه قراءة التعبيرات، وهي تبدو من النساء المدللات، اللاتي يضيقن ذرعًا من التلاعب معهن في الحديث، لهذا رأى أن الدخول في صلب الموضوع سيفيد الجبهتين، وسيوفر الوقت الزائد في الثرثرة فيمَ لا يفيد، وبعدما لفظ دخان سيجارته، هتف بجدية:
-بما إنك عارفة باللي ورا كمال، واللي طبعا عارفة إني شريك فيه، فأكيد عارفة بالورق اللي مع عاصم.
ضيقت عينيها عليه، وهي تحاول استشفاف ما يريد، سألته بتأكد:
-ورق صفقاتكم الشمال؟
التوى جانب ثغره، وناظرها بنظرة مشبعة بلؤم بالغ، وقال بفخر في أفكاره الشيطانية، التي قادته إلى اللجوء إليها:
-الظاهر كان عندي حق من البداية لما قلت إن مفتاح مشكلتي بين إيديكي.
❈-❈-❈
منذ حادثة طلاق صديقتها، وقد تشابهت الأيام بالنسبة ل"جاسم" في مرورها البطيء، والخانق، فمعظم اليوم أصبحت "رفيف" تقضيه رفقة صديقتها البائسة، فيومها في العادة يقتصر على تنقلاتها بين الشركة، النادي، وأحيانًا الزيارات العائلية، سواء كانت اللقاءات داخلية، أم خارجية، والآن أضيف لجدول يومها "داليا" بما تضمنها كافة مشكلاتها، وهو بين كل ذلك أصبح مهشمًا، لا تخصص له أي جزءً من يومها، حتى الاختلاء بها ليلًا، ليبث لها أشواقه الملتهبة، ويروي ظمأ جسده العطش لقربها، محظور عليه، بسبب إرهاقها، وتعبها المرئي الذي يحتم عليه كبت رغباته، وإقصاء احتياجاته، ولكن إلى متى سيظل الحال على ما هو عليه؟ وإلى متى سيظل مغمضَ الطرف عن إهمالها؟ في السابق كانت تعتني به اعتناءًا ملموسًا، وإذا تغافلت عنه لبعض الوقت، تعوضه فيما بعد بطريقة مشوقة تجعله يتناسى تقصيرها، ولكنها الحين أضحت متناسية حقوقه، وواجباتها نحوه، حتى إنها أصبحت كل ما تأبه به هو مشكلة صديقتها، وكيفية التهوين عليها في محنتها، هل ينبغي أن يؤثر الصمت عن ذلك؟ وعن تصميمها في إشراكهما في شئون "عاصم" وابنة خالته كذلك؟
زفر دفعة من الهواء الساخن من رئتيه، وهو يتابع تقدمها نحو الفراش بنظرات يتضح بها الضيق، وعندما جلست على الطرف الآخر من السرير، متهيئة لمشاركته في التمدد عليه، هتف بغتةً بنبرة مليئة بالانزعاج:
-انتي مش شايفة إن حوارات ست داليا دي كترت.
تركت طرف الغطاء من يدها، بعدما سحبته إلى ما بعد منتصف جذعها، رمقته بنظرة متعجبه مما نطقه بشكل مفاجئ، وسألته متعجبة:
-كترت ازاي؟
لم يستطع إخفاء ضيقه وهو يرد عليها بتجهم شديد:
-علطول عندها، ولما تعبت نروحلها نقعد بعيالها كأننا بقينا البيبي سيتر بتاعهم..
افترت شفتاه عن ابتسامة ساخرة وهو يتابع بنقم ساخط:
-لا وإيه، عاصم كمان ييجي ياخدهم مننا، ما خلاص بقينا أهل، والمفروض نعزمه بقى المرحلة الجاية مع صاحبتك هنا في بيتنا ونلم شملهم ببعض.
لم تتفاجأ من تعليقه على الأمر، حتى أنها رأت أنه قد تأخر في إظهار ضيقه، فقد كان متوقعًا لديها احتجاجه، خاصة من بعد تلك المرة التي ذكرها، عن ذهابه رفقتها ليلًا، وقتما مرضت صديقتها، ولم تجد غيرها تستبقي طفليها معه، وهو حينها بدوره ذهب معها، حتى لا تمون بمفردها في مكان لربما يجمعها بذلك البغيض، وقد أصاب في شكه تلك المرة، وأتى "عاصم" لأخذ طفليه منهما، ولكن ماذا تفعل هي؟ أتترك صديقتها بمفردها في محنتها دون معين؟ حاولت ألا تقابل كلماته برد منفعل، أو محتج، خاصة وأنه معه كامل الحق في الجزء الخاص ب"عاصم"، وبعد لحظتين من الصمت، ضبطت فيهما تنفسها، أردفت في محاولة لتبرير موقفها:
-يا جاسم..
منعها من التكلم، بكلمات مستهلكة، سبق وقد ألقتها على سمعه، بشأن واجبها نحو صديقتها، ورفع يده أمام وجهها، وقال لها بلهجة جادة:
-رفيف، أنا مش عاجبني كل اللي بيحصل ده، ياريت تخفي مرواح عندها طالما الكائن ده بينط هناك كل شوية.
تعجبت من رنة التأكد في نبرته بشأن ذهاب "عاصم" المتكرر للأخرى، والذي لا يدل على شيء غير أنه يفوه بأي سبب لجعلها تتوقف عن زياراتها لها، وتشدقت مستنكرة:
-وانت عرفت منين إنه بينط هناك كل شوية؟
لاح الاستخفاف فوق وجهه من تساؤلها الذي اعتبره سذاجة منها، وأردف متهكمًا:
-انتي فاكرة إن طالما الجو هِدى من ناحيته ومش بيعمل أي حركة غدر من حركاته انا هتكل على كده وهقول إن كل حاجة خلاص خلصت على كده وهتطمن من ناحيته!
ضمت ما بين حاحبيها في غير فهم حقيقي، وسألته مستفسرة عن مضمون ما قاله:
-قصدك إيه مش فاهمة؟
ولكنها حينما مررت كلماته في رأسها، سريعا ما رفعت حاجبيها مما تطرق لفكرها، وسألته:
-انت بتراقبه؟
لم ينفِ الأمر، أو حتى يؤكد، ولكن صمته ونظره الذي ظل ثابتًا عليها، كان خير إجابة مؤكدة على ما جاس في ذهنها، وفي تلك اللحظة هتفت بنبرة تعبر عن عدم استحسانها:
-جاسم انت لازم تصدق إن هو طلعنا من دماغه.
رفع حاجبيه في تعجب من رغبتها في إلزامه بوضع الثقة في غير محلها، وعقب مستهجنًا:
-ليه لازم؟ إيه اللي يخليني اصدق كده؟
وجهت كامل جسدها له في جلستها، وردت عليه بمنطقية نابعة مما تراه الآونة الماضية:
-عشان هو مش شاغله ولا فارق معاه أي حاجة دلوقتي غير إن داليا تصدق إنه مخانهاش وترجعله.
على ذكرها للسبب الذي تراه كافيًا لجعل شكوكه تختفي نحو الآخر، ذهب فكره لأمر آخر، يخص السبب في حد ذاته، ألا وهو خيانة "عاصم"، وموقف "داليا" الغير متساهل تلك المرة حيال الأمر، ومط شفتيه بطريقة متعجبة، مُردفًا باستغراب:
-أنا مش فاهم، اشمعنا صاحبتك اخدت موقف المرادي على خيانته؟ ماهو الكل عارف إنه بتاع نسوان، وهي عارفة كده وكانت معاه وقابلة، إيه اللي اتغير بقى؟
انتابها قليل من التعجب لتغييره مجرى الحديث، ولكنها أجابته على كلٍ باستيضاح:
-الكلام ده كان قبل الجواز، لكن دلوقتي العلاقة اتغيرت، وداليا متقدرش تقبل ده على كرامتها، بصفتها مراته وأم ولاده، شكلها قدام الناس إيه؟ ده غير شكلها قدام نفسها.
اعتلى وجهه أمارات السخرية وهو يريح جسده على الفراش، متمتمًا بتعجب:
-غريبة، جاية تدور على شكلها وتاخد موقف في المرة الوحيدة اللي هو فعلا مخانهاش فيها.
كلماته التي خرجت بشكل تلقائي، جعلت تعبيرات الدهشة في لحظتها تنبجس فوق وجه "رفيف"، وعلى الفور صدح صوتها متسائلة:
-انت بتقول إيه؟
لتوه انتبه إلى ما غادر فمه سهوًا، مما جعل وجهه يتجهم وهو يقول بإيجاز:
-مبقولش.
من رده المقتضب، علمت أن هناك ما يخفيه عنها، لذا قالت له بإلحاح:
-لأ قلت.
ارتكز بعينيه اللتين تفيضان بنوع من الغموض عليها، في حين أطنبت هي متسائلة بنظرات متفقدة:
-انت عرفت منين إن عاصم مخانش داليا المرادي؟
سحب نفسًا مطولًا لرئيها، وهو يتمط بجسده على الفراش، وأجابها بخمول:
-هسيبك تفكري فيها، وانا عارف إنك شطورة وهتوصليلها.
هرب النوم من عينيها، على عكسه تمامًا، بدأت معالم النعاس تنبجس من عينيه، لم تتركه يستسلم لخدر النوم، وسألته بشك بما طاف في ذهنها:
-انت عارف باللي حصل يومها؟
من نظرته التي لم تهتز، شعرت بصدق حدسها حيال مواراته لأمور شتى عنها، وما عزز ذلك الإحساس هو بسمته الماكرة التي ارتسمت فوق وجهه، حينها توسعت عينيها في جحوظ واضح، وذلك عندما تطرق لفكرها أمر بعينه، سريعًا ما سألته عنه بصدمة غريبة:
-كنت مراقبه وقتها برضه؟
تجاهل تعبيرات الصدمة التي تندلع من وجهها، ومد يده قارصًا وجنتها، وغمغم مؤكدًا بطريقة ممازحة:
-بيعحبني فيكي إنك لماحة وبتفهميها وهي طايرة يا رفروفتي.
أتبع تلك العبارة تقلبه على الجانب الآخر، متهربًا من تساؤلاتها، لرغبته الشديدة في النوم، ولكنها لن تدعه يغفو قبل أن يقص عليها أحداث تلك الليلة بالتحديد، وما كاد يغمض عينيه حتى صاحت به على الفور:
-انت هتعمل إيه؟ لأ استنى هنا، انت مش هتنام إلا لما تحكيلي اللي حصل يومها بالتفصيل.
عاد للاستلقاء على ظهره، بفعل يديها الجاذبتين لذراعه، نظر لها في بادئ الأمر بنظرات متذمرة، ولكنه بالأخير رضخ لإلحاحها، وسرد لها ما قد علمه مسبقًا، من أحد رجاله، المُكلف بمراقبة "عاصم"، منذ وقت كبير، تحديدًا منذ ليلة عيد ميلاد "داليا"، حينما هدده "عاصم" بطريقة مبطنة، بقدرته على فعل الكثير، غير آبهًا بما يدينه في حوزتهم، ففي تلك الأثناء خشى أن يطول زوجته إيذاءً آخرًا عن طريقه، كما أن هدوئه لم يريحه، لذلك أوصى بعضًا من رجاله بمراقبة رجال الآخر، كونهم من ينفذون مخططاته، واقتصرت المراقبة عليه فقط أثناء خروجه ليلًا، حيث إن تحركاته الصباحية تقتصر فقط على الذهاب إلى مقر عمله، ولهذا فخطوات "عاصم" الأخيرة برمتها على علم بها، بما في ذلك لقائه بتلك المرأة، التي علم صلتها به، عندما حكت له زوجته تفاصيل شجار صديقتها مع زوجها البغيض تلك الليلة، وقد اكتملت عنده الصورة. بعدما انتهى من استرسال تفاصيل ذلك اللقاء السقيم، حتى برز اللوم في عيني "رفيف"، وسألته بلهجة معاتبة:
-ليه معرفتنيش من وقتها يا جاسم؟ أو على الأقل لما عرفت بخناقتهم وإن داليا سابتله البيت؟
بغير أن ينتابه أي شفقة على الآخر، رد عليها بازدراء:
-عشان عاصم ميستاهلش إني ادافع عنه واظهر براءته.
قبل أن يظهر تأثير رده على تعبيراتها، تابع بكراهية بيّنة:
-حتى يحس شوية بشعور الظلم اللي حسسه لناس كتير، ومن ضمنهم انا وانتي، ولا شكلك نسيتي؟
هنا وقد لاح فوق وجهها الاستنكار من موقفه الانتقامي، وردت عليه بغير رضاء:
-أنا منسيتش، بس كان ممكن تقولي عشان خاطر داليا مش عاصم، انت عارف ان حالتها النفسية كانت سيئة جدا الفترة اللي فاتت بسبب الموضوع ده.
لم يكن منه ردًا مبررًا، خاصة وأنه لأكثر من مرة ود أن يصارحها بذلك الأمر، رأفة بالأخرى، ولكنه سريعًا ما كان يسكت صوت ضميره، لإن في التصريح عما يعلمه رحمة للآخر، وهذا ما جعله يؤثر الصمت من البداية. ضم شفتيه في صمت، في حين باغتته هي بقولها المعبأ بالضيق:
-فرقت إيه انت كده عن عاصم؟
ناظرها بحدقتيه المشدوهتين، من تشبيها له بذلك الوغد، وسألها لائمًا:
-أنا زي عاصم يا رفيف؟
اشتدت ملامح وجهها، معبرة عن تجهم واضح، وتمسكت برأيها وهي تضيف بغير تساهل:
-لما يبقى في إيدك إنك تقف جنب حد، وترحمه من عذابه ومتعملش كده، تسمي ده إيه؟
أخفض نظره لأسفل بقليل من الخزي، بينما ناظرته هي بنظرات يندلع منها الخيبة، وكان على وشك قول شيء، لكنها بادرت مخبرة إياه بجزع وهي متهيأة لترك الفراش:
-حقيقي يا جاسم مكنتش اتوقع منك كده.
فور ذهابها عاد بجسده على الفراش، واضعًا كلتا يديه أعلى رأسه، يضغط بهما عليها وهو ينظر إلى اللا شيء بعينين يتأرجح بهما الندم والضيق، فقد كان يحاول أن يشعرها منذ لحظات بالذنب حيال تقصيرها في واجباتها، أشعرته هي بتأنيب الضمير حيال موارته الحقيقة الغير مرئية لصديقتها عن زوجها، مما جعله مشاركًا في تعذيبها.
❈-❈-❈
منذ الليلة التي صرحت بها "داليا" عن مكنوناتها حيال "عاصم"، وقد امتنع عن الذهاب المتكرر لها كل ليلة، واقتصر اطمئنانه على طفليه بمهاتفة المربية، وكان بشكل مبطن خلال ذلك يستفسر منها عن أحوال زوجته، كما أن "زينة" كانت تأتي له بكافة أخبارها الحصرية. ولكن اليوم لكونه يحمل ذكرى مميزة، رغب بزيارتها، فاليوم هو عيد ميلاده، وشيء في أعماقه ظن أنها تذكره، كما كانت تذكره في الماضي عن ظهر قلب. رغب في رؤية تعبيرات وجهها التي تحمل الحماس عندما تكون أول من يعايده، الوميض الذي كان ينبجس من عينيها، وابتسامتها الساحرة، وهي تلقي عباراتها المحبة، والدافئة، احتفاءً بتلك المناسبة السنوية الخاصة به، لتجعله يجزم أنها الشخص الوحيد الذي يعبأ بكل ما يتعلق به.
بعد ترحيب مقتضب، اصطحبته إلى غرفة الطفلين، وخلال ذلك أخبرته بعض العبارات الموجزة، التي في العادة يتساءل عنها، تتضمن أحوال الطفلين، وحالة الجنين، هيئتها كانت عادية، ومقابلتها كانت فاترة، مما جعله يغرق في دوامة بؤسه، مما اتضح له من نسيانها للذكرى المرتبطة بتاريخ اليوم. وقفا متجاورين، وملاصقين لسرير الرضيعين، اللذين كانا مستيقظين، ويهمهمان بكلمات غير مفهومة، ران الصمت بينهما في تلك الأثناء، وبينما تنظر هي نحو الولدين، وتلاعب أحدهما بهدوء بيدها، نظر هو لها بنظرات شاردة، لا يصدق أنها لا تذكر عيد ميلاده، فهي لم يسبق لها أن نسته، حتى من قبل أن تصرح بعشقها له، بل وكل مرة كانت تحتفل به -إن أُتيح لها الفرصة- على طريقتها الشيقة. لم يستطع أن يتحكم في رغبته في محادثتها عن الأمر، وبلل شفتيه، ثم أردف بشكل تلقائي بصوت اعتراه الأسى:
-غريبة إنك ناسية.
حولت ناظريها له، وسألته بلهجة مستفهمة، ومستغربة:
-ناسية إيه؟
تساؤلها الغير مصطنع، أكد له شكه، حينها تضاعف بؤسه، وأجابها بصوت مبهوت:
-النهارده اتنين وعشرين، عيد ميلادي.
لم يظهر أي علامات تذكر على وجهها، أو حتى تفاحؤ بنسيانها للأمر، كانت تعبيرات وجهها عادية، فهناك فرق كبير بين النسيان والتجاهل، واكتفت بعد عبارته بقولها بنبرة فاترة:
-كل سنة وانت طيب.
تعجب من جفائها في ذلك الأمر بالتحديد، فهل يعقل أن كل مضى بينهما تناثر في الهواء؟ ألا يغلبها الشوق! وبملامح حافظ على ثباتها، سألها باستنكار:
-بس كده؟
لم تكلف وسعها وتنظر له، فهي تعلم أنه جيدًا في قراءة الأعين، وحينها سيعلم أنها لم تنسَ، ولكن ألا يحق لها أن تذيقه من نفس الكأس؟ أبقت نظراتها موجهة نحو طفليها، بل وتظاهرت بملاعبتهما وهي تعلق بهدوء:
-في حاجة تانية المفروض أقولها؟
أخبرها بصوته الرخيم والحنين لما سبق وقد عايشاه لاح فوق وجهه:
-كان نفسي أوي تكوني معايا في بيتنا ونحتفل بيه سوا زي زمان.
كان مخفيًا عنه ازدياد نبضها، وارتباكها الذي اعترى سائر قسماتها، وفي حين لم يجد منها رد، أراد أن يحفظ ما تبقى من كبريائه وقال لها بصوت ظهر جامدًا:
-على العموم وانتي طيبة.
بقاءها في ذلك الوقت معه، لن يأتي بنتائج طيبة، خاصة وأن ما بداخل صدرهل أصبح يقرع كالطبول، ولا تعلم أهو من طريقتها الجافية معه ورنة البؤس في صوته، أم من شدة قربه وطول هامته، لذا تحفزت في وقفتها، وشيعته بنظرة كانت مرتبكة بعض الشيء، وقد لاحت ابتسامة صغيرة على زاوية فمها، قبل أن تترك له الغرفة، ليبقى مع الطفلين الوقت الذي يوده.
أحساسه بنفورها منه، وضيقها من وجوده، أصبح يلازمه كلما جاء إليها، ولكن ماذا هو بفاعل مع قلبه الذي يرفض القبول بخسارتها؟ لمعة الحماس التي كانت بعينيه انطفأت، وتحولت إلى خيبة أمل، وإحباط بالغ تفشيا به، وحتى يتجاوز ذلك الشعور الذي داهمه، مد ذراعيه ليحمل أحد صغيريه، ضمه إلى صدره، واشتم عبقه، وراح يلاعبه بيده، التي قبض عليها الصغير بكلتا يديه، وبنظراته الطفولية كان يتفقدها، ويديرها أمام مرمى بصره، حتى ارتسمت بسمة ضاحكة على وجه "عاصم"، اختفت تدريجيًا حينما شعر بيد تتلمس كتفه من الخلف، حينئذ استدار برأسه، وأمسكت عيناه ببسمة محبة، وعينين تفيضان عشقًا، قد ساورته الشكوك حول وجوده بداخل قلبها، وبعد لحظات من الصمت، أتاه صوتها الناعم، الرقيق:
-عاصم أنا استحالة انسى عيد ميلادك.
نبض قلبه أصبح يتلاحق بقوة، وامتلأت نظراته في ذلك الوقت بالشوق، والحنين، وبصوت هامس سألها:
-فاكر أول مرة احتفلنا بيه سوا؟
توسعت بسمتها، وازداد وهج عينيها، بتلك النظرة الهائمة التي اعتاد أن تناظره بها، بينما هو تابع مصرحًا لأول مرة عن مكنوناته:
-يمكن مقولتلكيش يوميها، بس دي اكتر مرة في حياتي فرحت بيها بجد بعيد ميلادي.
فاجأته بيدها التي قبضت على كفه، مسدت بإبهامها بنعومة فوق جلده، ثم أخبرته ببسمة شغوفة:
-كان نفسي أوي اعمل اكتر من اللي عملته، بس لا الوقت ولا المكان كانوا مساعدني، لكن اللي عمري منساه هو تفاصيل اليوم ده، وقربنا من بعض وقتها.
سحب نفسًا طويلًا، يحاول عن طريقه التحكم بفرط تأثره الفرح، ونظر بداخل حدقتيها الخضراوتين اللامعتين، متسائلًا بطريقة تشبه الرجاء:
-انتي لسه بتحبيني، مش كده؟
اقتربت منه، حتى باتت لصيقة به، وبنفس درجة الهمس، أخبرته بتوله وتَيم:
-لسه بحبك يا عاصم، بحبك أوي، ووحشتني أوي أوي.
غمره موجات من الدفء، كما أن عبارتها أحدثت صخب من المشاعر الثائرة داخل قلبه، حتى أن اقترابها المهلك جعل جسده يرتج في اضطراب عظيم، وبتغيب عن الواقع اقترب بوجهه لالتقام شفتيها، وهي كانت مستسلمة بأغواء لذيذ أمام عينيه، ولكن ما قطع تلك اللحظة التي تاق لحدوثها طوال الفترة الماضية، شعوره بأصابع يد تربت فوق ذراعه، تنبهت مداركه في نفس اللحظة إلى صوت بكاء وليده الذي يحمله على ذراعه، وفي الأخير أتت الحقيقة التي لم يكن يود الانتباه لها، أن كل ما شعر به، وتغلغل في أعماقه، وتجسد أمام عينيه، كان محض تخيل، من ذهنه البائس، والمشتاق، ليجعله كالمراهق يتهافت للحصول من معشوقته على قبلة أو عناق. أتبع تلك اللمسات من الأصابع التي اتضح أنها لها، صوتها الهاتف:
-عاصم.
حينئذ قد فاق بشكل كامل من شروده، ووجه نظره لها، وهي تسأله بتعجب:
-سرحت ولا إيه؟
رفرف بأهدابه، وبدا التوتر ظاهرًا عليه، وقال بصوت ثقيل، متأثرًا مما دار في خلده:
-لا ابدًا.
تجاهلت ما رأته عليه من اشتياق محموم، يندلع من نظرات الراغبة، وتنفسه التي بات مسموعًا، ومدت يديها ممسكة برضيعها وهي تخبره بهدوء:
-طب هات نائل عشان بيعيط من ساعتها، شكله جعان.
رفع حاجبيه بحركة متوترة وهو يترك لها الرضيع، الذي لم يكن منتبهًا لبوادر بكائه، وحاول تنظيم أنفاسه الثائرة وهو يؤكد على آخر قولها بربكة ظاهرة:
-آه، باين كده.
عيناه في تلك اللحظة كانتا تحملان تأثيرًا من نوع آخر، وعن كثب شعرت كأنما هامت في البريق السائد بهما، وبدون أن يتحرك من موضعه، فقط بنظرة واحدة عميقة، ومطولة، قرأت ما يدور بهما، ويرغب هو به، حتى شعرت بذلك حسيًا، بيديه تطبقان على جسدها، بشفتيه تلثم خاصتيها بنعومة استشعرتها، حتى سرت القشعريرة في بدنها، كما أن رائحة عطره المثيرة مع اقترابها الخطير منه، زكمت أنفها بقوة، حتى أثارت مواطنها الأنثوية، التي اتضح أنها تتوق للاقتراب الشديد، مما جعلها تشعر بأن الوضع سيخرج عن السيطرة أن ظلت محلها تطالعه عن ذلك القرب، وبنبرة تلجلجت هتفت سريعًا وهي تتأهب في وقفتها:
-هروح اوديه للناني بتاعته عشان تأكله.
هز رأسه في إيماءة بسيطة، وعيناه لم تنزاح عن وجهها، حينها فرت سريعًا من أمامه، وكأنها تصارع رغبة وجدانها، الذي قد خانها، واستسلم استلامًا شنيعًا أمام نظرات عينيه الساهمة، فماذا ستفعل إذن مع لمسة من يديه على جسدها؟ بعدما تركت الرضيع للمربية، توجهت على الفور إلى غرفتها، تنأى بها من هيمنته الذكوري، الذي يفرضها عليها بدون أن يبذل مجهود، أغلقت الباب، واستندت عليه بظهرها، وهي تستشعر خفقات قلبها الثائرة، والمتلاحقة، وبينما تحاول تنظيم أنفاسها التي تهدجت، تساءلت باستغراب بين جنبات نفسها:
-أنا مالي، إيه اللي بيحصلي؟
اعتلى عينيها التحير من فهم السبب الوجيه في اضطراب مشاعرها إلى ذلك الحد الغريب، وغمغمت في نفسها:
-مش أول مرة أقرب منه، قلبي ليه بيدق جامد كده؟
وضعت يده فوق صدرها، تحديدًا عند موضع قلبها، تضغط عليه بقوة، عسى أن تُهدئ من نبضه السريع، والزائد عن الحد، وخلال ذلك طفا في مخيلتها، وتجسد أمام مرمى بصرها أطيافًا ماضية له، تشمل ضمته الشغوفة لجسدها، قبلاته الحسية الناعمة، ولحظاتهما الحميمية الأخيرة، الذي غلب عليها الحنان، والرأفة، وكل ما تستهويه نفسها، حتى بزخت الصدمة في داخلها، وراحت تردد بصوت خفيض:
-معقولة وحشني ابقى معاه؟
بعينين توسعتا، ووجه لاح فوقه الصدمة، من تقهقرها عن موقفها، وتزعزع ثباتها الذي اتضح أنه واهٍ، أمام نظرات صامتة، تناشدها، وتتوسلها بأن تترك نفسها لسلطان الهوى، وتكف عن عنادها الذي حرق القلب بنيران الجوى، هسهست بنبرة تماوجت بين الدهشة، والشوق:
-وحشني!