-->

رواية جديدة مشاعر مهشمة 2 لشيماء مجدي - الفصل 44

 

قراءة رواية مشاعر مهشمة الجزء الثاني كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى




رواية مشاعر مهشمة الجزء الثاني 
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات 
الكاتبة شيماء مجدي 

الفصل الرابع والأربعون



أنْ يبدر الظلم من شخص، سبق له تجربة شعوره القاسي، وقد تجرع مرارته من قبل، فهذا يعني أنه أضحى ظالمًا، شبيهًا في تعسفه للذي ظلمه، وتحمل ذلك الشعور، ورؤية النفس من ذات المنظور -لروح نقية، غير مدنسة بالشرور- لن يكون هينًا نهائيا، حتى وإن كان ظلمه هذا لنفس الشخص؛ الذي قد أذاقه من صنوف الظلم؛ ألوانًا وأنواعًا. شعور الذنب، راح ينهش بصدرها دون هوادة، عندما نفذ عبر سمعها، كلمات صديقتها، المبرئة ل"عاصم" من اتهامها المجحف، بخيانته له. فقد سردت لها "رفيف" كل ما استرسله عليها زوجها الليلة الماضية، والمطابق لادعاءات "عاصم" السابقة، المتمثلة في عدم اقترابه تلك الليلة الغبراء من "مي"، بل وردعها عن تجاوزها حينما اقتربت هي منه بشكل حميمي فج. شعرت بتأنيب الضمير في لحظتها، خاصة مع استعادتها لكل مرة أقسم بها على ما يقول، وتوسل تصديقها، غامت ملامحها، وبهتت بهوتًا واضحًا، وغمغمت:


-يعني أنا ظلمته؟


تقدمت منها "رفيف"، واقفةً خلفها مباشرة، وأخبرتها بجدية تحمل الأسف:


-هو كان صادق يا داليا في كل كلمة قالها، انتي فعلا المرادي ظلمتيه.


استدارت لها على فور عبارتها الأخيرة، التي تحملها الذنب، وكأنه هو الشخص المظلوم في حكايتهما، وهتفت باختناق طغى في صوتها:


-هو السبب.


ضمت شفتيها في تفهم، كونه هو المتسبب من البداية بأفعاله المشينة في فقدها الثقة به، ولكنه لم يعد هناك بدًا من إلقاء الذنب عليه، أو حتى اعترافها بخطأها في عدم تصديقه. وضعت يدها فوق ذراعها، بلمسة مؤازرة، وعلقت بعقلانية:


-مش هنفضل نعيد في نفس الكلام يا داليا، وكل واحد فيكم يرمي الذنب على التاني، ياما بيحصل بين أي اتنين بيحبوا بعض والمتجوزين، حاولي تساميحه وانسي اللي فات، وأدي لجوازكم فرصة تانية.


لاح الندم في نظراتها، واختفى بريق عينيها خلف سحابة من الدموع العالقة فوق طرفيها، وقالت لها بصوت قارب على البكاء:


-بس أنا وجعته بكلامي طول الفترة اللي فاتت، ازاي هنرجع لبعض تاني؟ ازاي هنقدر ننسى؟


نظرت "رفيف" لسائر أحداث الفترة المنصرمة من منظور آخر، راجعًا لما رأته منه منذ هجرها له، من ندم حقيقي، وتغييرًا غير مبتذل في نمط حياته، وقالت بلهجة متفائلة:


-كل اللي حصل الفترة اللي فاتت أكدلك قد إيه عاصم بيحبك، وأنا متأكدة إنك لو رجعتيله واديتيله فرصة هيستغلها صح المرادي، وهتنسوا كل اللي فات، وحياتكم هتبقى أحسن من الأول.


انتابها حالة من الرهبة، الممزوجة بالتشتت، قلبها يدفعها للعودة إليه، ولكن عقلها يرفض ذلك بشدة، خوفًا من عودة الأمور بينهما إلى سابق عهدها، وبصوت اهتز رددت:


-بس أنا خايفة.


رمقتها "رفيف" بنظرة متحيرة، في حين أكملت "داليا" موضحة سبب خوفها المُبرر:


-خايفة ارجعله، ونرجع أسوأ من الأول.


زمت صديقتها شفتيها في أسى، ولسانها لا يجد ما يُقال ليبدد مخاوفها، فهي نفسها لا تضمن بقائه على نفس النهج إن عادت، وأكملت حياتها معه، حينها لاذت بالصمت، واكتف بالانصات إلى متابعة "داليا" وهي تغمغم بنشيج باكٍ، وصوت ضعف للغاية:


-وقتها هكرهه.


انهمرت دموعها تزامنًا مع وضعها ليدها فوق صدرها، فالوجع يعتصر قلبها، الذي ما يزال حبه كائنًا به، فرغم كل ما مضى بينهما، لم تستطع نزعه من بين شغافه، ولن تتحمل أن يتحول لكره يُدمر العلاقة الودية الباقية بينهما، وأكملت بقهرة شديدة:


-وأنا مش عايزه الحب اللي جوايا ليه يتحول لكره بعد كل ده.



❈-❈-❈


بعد انقضاء عمله، خلال قيادته المتهادية لازدحام الطريق من حوله، رأى مصادفةً إنارة شاشة هاتفه، الموضوع على الكرسي المجاور له، معبرًا عن اتصال أحدهم به، لم يعطِ بالًا له، وتجاهله الرد على المكالمة، مختزلًا تركيزه على القيادة في ذلك الطريق المكتظ بالسيارات، وبعد مضي بضعة دقائق، وبعدما هدأت عجأة السير، لمح بطرف عينه الضوء المنبعث من هاتفه مجددًا، مما يعني تلقيه لاتصالًا جديدًا، لربما يكون من نفس الشخص، حينها هدأ من سرعة السيارة، ومد يده ملتقطًا الهاتف من جواره، وفي لحظة وقوع بصره على اسم "توفيق" الذي ظهر على شاشته، حتى تحولت قسمات وجهه المرتخية، إلى تجهم بالغ، وتردد لولهلة في الرد عليه، خاصةً وأنه ليس ببالٍ رائق لتحمل سماجته، ولكنه قبل أن تنتهي مدة الاتصال، قرر أن يستقبل المكالمة، ليرى ما عنده، فهو في جميع الأحوال لا يهاتفه إلا لأهدافه البغيضة، الذي يجب أن يكون بحنكته، وعدم تغافله عما يصدر منه، على دراية كافية بها، حتى لا يستغل جهله بخفايا ناوياه ضده، وقام بتفعيل وضعية مكبر الصوت، كأنه نافرًا من سماع صوته بداخل سمعه، إن وضع الهاتف فوق أذنه، ثم وضعه على تابلوه السيارة أمامه، وعاد ببصره إلى الطريق، وهو يكلمه بفتور:


-خير، بتكلمني ليه؟


أتاه صوته البارد المطعم بخبثه مرددًا:


-ازيك يا عاصم، عامل إيه بعد موت كمال؟


ازداد تجهم وجهه، فصوته قادرًا على تعكير صفوه في لحظة، ناهيك على أنه متكدر بدونه، وخاطبه بلهجة اشتدت  وعبرت عن نفاذ صبره من مراوغته الذي ابتدأ به الحديث:


-عايز إيه؟ هات من الآخر أنا مش فايق.


بصوت بدا أخبث من ذي قبل قال له:


-مش هرغي معاك كتير المرادي، هدخل في الموضوع علطول.


بنفس النبرة المنزعجة رد عليه "عاصم": 


-ياريت، هات يلا اللي عندك.


أردف دون مقدمات بنبرة مشوبة بالغموض:


-الورق اللي معاك.


ضم ما بين حاجبيه، وتعقدت تعبيراته وهو يسأله بتوجس:


-ماله؟


جاءه رده يظهر به ثقة مثيرة للريبة:


-خلاص عرفت مكانه..


على فور تفوهه بتلك العبارة حتى ضغط "عاصم" على مكابح السيارة، موقفًا إياها عن التحرك، اتسعت عيناه بصدمة، وهو يستمع إلى تتمة كلماته الماكرة:


-وقريب أوي هيبقى عندي.


أنهى المكالمة، دون حتى أن يدع ل"عاصم" مجالًا للرد، أو الاستفسار على ما فاه به، والذي ألقاه على سمعه، كقنبلة موقوتة، دوت في رأسه زوبعة من التساؤلات الكثيرة.



❈-❈-❈


ظلت التساؤلات الحيرة، تجوب في رأسه، بشأن صحة ما قاله، فإن صدق في قوله، أنَّى له بعلم عن مكان تلك الأوراق؟ فهو لم يخبر جنس مخلوق عن الموضع السري، الذي يواري به أوراقه الهامة، والتي من بينهم تلك الأوراق اللعينة، ولكن ثقته وهو يفوه بتلك الكلمات، جعلته يتوجس خيفة، من صدق ادعائه، ورغم يقينه من استحالة وصول أحد إلى ذلك المكان المجهول، إلا أنه لا يعلم مدى قدراته الشيطانية، التي تجعل له سلطة نافذة، على من هم أقل منه نفوذًا.


لم يترك التساؤلات، والتكهنات تستبد برأسه أكثر من ذلك، فلن يضيع الوقت وهو باقٍ محله، إلى أن يضع الآخر يده على الأوراق، التي تضمن له حياته إلى الآن، كونه على علم بأمور تدينه هو وجماعته، ولأن تلك الأوراق ما تزال بحوزته، هذا ما يمنعه من الغدر به. أدار محرك سيارته، وغير مسار طريقه إلى الطريق المغاير، متوجهًا إلى أحد البنوك، قاصدًا واحدًا بعينه، حيث إنه منذ زمن بعيد، مذ كان في المرحلة الجامعية، وقد اعتاد أن يضع مقنياته الثمينة، وما كان يخشى فقده، في خزينة باسمه، وحينما أعطاه والده تلك الأوراق، أخفاها حتى عنه في تلك الخزينة، وبعد سنوات من وضعها، ستكون تلك المرة الأولى لإخراجها.


استقل ثانية سيارته، بعد أن أخرج الأوراق المنشودة، وأدارها آخذًا مجازه نحو وجهة أخرى، لجعلها المكمن البديل، للأولى التي باتت تحاوطها الشكوك، وأثناء قيادته استرعى انتباهه سيارة خلفه، انتبه لكونها تسير ورائه منذ خرج من البنك، ومن هنا بدأت الشكوك تساوره بشأن تتبعها له، وحتى يقطع الشك باليقين، انعطف بسيارته في طريق جانبي، وارتكز ببصره عليها من المرآة الجانبية، حينها أخذت السيارة نفس الطريق الذي سلكه، مما أكد له حدسه، وسريعًا ما اتضحت له الصورة، التي أوضحت مدى غباءه، ونجاح الآخر في إيهامه بمعرفته لمكان الورق، وإثارة شكوكه، حتى يعرف عن طريقه بالمكان المجهول، وما جعل الآن حصوله على تلك الأوراق أمرا ميسورًا، هو إخراجه لها، خاصة وإنه بدون حراسته، وهؤلاء الأوغاد المتتبعين له مؤكدًا مكلفون بجلبها له، وهو لن يقدر بمفرده -مهما بلغت قوته- عن ردعهم عنه، ومنعهم من أخذها.


أزاد سرعة السيارة، عندما وجد خلو الطريق من حوله، إلا من بعض السيارات، التي تسير بسرعة كبيرة، خشيةً من قطعهم لطريقه، وذلك الهاجس طرأ برأسه، بالأخص حينما لمح الرجال الملثمين، ضخام الجثة، المتواجدين بداخل السيارة، حينئذٍ أزادت السيارة الأخرى سرعتها، وأصبح هدفها في المرور من جواره واضحًا له، حاول بقصارى جهده عدم السماح لها باجتيازه، ولكن بسبب توتره، وعجز فكره عن التصدي لحركاتها المفاجئة، استطاع سائق السيارة، بحرفية منه تخطيه، والوقوف أمام سيارته، ساددًا عليه الطريق، مما أجبره على التوقف قصرًا، حتى لا يصطدم بهم.


كز على أسنانه، وضب عجلة القيادة وهي يفوه بسبة نابية، وبينما يشاهد خروج اثنين من السيارة، حاول الرجوع بسيارته إلى الخلف، إلا أنهما كانوا الأسبق في رفع السلاح، وإشهاره نحوه، حينئذ ثبت موضعه، يحدجهم بنظرات غاضبة خالية الوفاض وهما يتوجهان نحوه، تقدم أحدهما من ناحيته، وثبت فوهة سلاحه عليه، وهو يقول للآخر بلهجة آمرة:


-هات الشنطة من العربية.


نفذ الرجل على الفور أمره، وفتح الباب الآخر، آخذًا الحقيبة الجلدية من فوق المقعد، ثم توجه نحو الأول، فتحها له، لينظر إلى محتوياتها، وعندكا تأكد من وجود الأوراق المنشودة، أشار له برأسه ليعود إلى السيارة، تزامنًا مع مجيء رجل آخر من السيارة، ممسكًا بهاتفه، ضغط على شاشته حينما أصبح في مواجهة "عاصم"، وقربه منه، حينها صدح صوت "توفيق" البغيض، وهو يقول:


-برافو يا عاصم، كنت واثق إنك هتعمل كده وتروح تجيبهم ومخيبتش ظني.


ازداد "عاصم" في ضغطه على أسنانه، كابحًا غضبه، في حين تابع الآخر بنفش النبرة المستفزة:


-انتظر مني تليفون تاني بقى لما الورق يجي لحد عندي وألقي عليه نظرة وأتاكد إنه مش ناقص..


انتظر لثانية، قبل أن يضيف ببرود مثير للأعصاب:


-سلام يابن يا كمال.


وضع الرجل الهاتف بعد ذلك في جيب بنطاله، ثم عاد إلى السيارة بخطوات سريعة، والآخر ظل موجهًا سلاحه نحو "عاصم" وهو يلحق بزميله، عائدًا بظهره، خوفًا من أن يقوم "عاصم" بأي فعل غادر، إن أدار وجهه، وبعد أن أصبح بالقرب من سيارته، دلفها على الفور، وسريعًا ما أدارها سائقها، ورحلوا من أمامه في غمضة عين، حينئذ نفس "عاصم" عن غضبه المكبوت، بضربه بيده عدة مرات على عجلة القيادة، وهو يصرخ بعصبية شديدة.



❈-❈-❈



ضربة حظ، أو لربما القدر هو من ساعده تلك المرة، فطوال الفترة الماضية وهو يظن أن "عاصم" مواريًا الأوراق في خزانة متوارية عن الأنظار، بداخل عقر بيته، أو بموضع مجهول في شركته، وكلا المكانان مأمنان بحراسة قوية، وأي هجوم على أي منهما سينتج عنه مشاكل لا متناهية، ناهيك عن الفشل المحتوم في الحصول على مبتغاه، ولهذا كان يحاول أن يحصل على تلك الأوراق، بأسلوب ودي، وأحيانًا بالتهديد، الذي كان يعلم أنه لن يأتي بنتائجة، طالما يستحوذ "عاصم" على ما يدينه.


رفع "مي" السيتار عما تعلمه عن صفقاته، وعلى الرغم من ذكرها لاسمه في المنشور الإلكتروني، على قدر الضرر الذي وقع عليه، إلا أنه أفاده، فقد صدق توقعه، ووجد عندها ضالته، فعندما استفسر منها على علمه بمكان وضعه لتلك الأوراق، في بادئ الأمر أظهرت جهلها الغير مزيف بالمكان، إلا أنها بغتة تذكرت أمر الخزينة، التي كانت باسمه في أحد البنوك، وقد ذكرت كذلك اسمه، والتي يضع بها "عاصم" أشيائه المهمة. ولكونه شخص يتمسك بأي خيط يصل به إلى غايته، أرجح الظن إلى احتمالية وضعه لتلك الأوراق هناك، ولكي يتأكد من شكه، هاتف "عاصم" وأخبره بعلمه عن المكان، وكان في قرارة نفسه متأكدًا من إنه سيذهب إلى الموضع المجهول ليطمئن بنفسه من وجودها، وإذا كان خارج إطار حراسته، حينها من الممكن أن يسهل عليه الحصول عليها.


ولكن ما لم يخطر بباله، أن يقوم "عاصم" بإخراج الأوراق من مكمنها، وهذا ما علمه من مراقبته له، ودخول أحد رجاله البنك خلفه في الخفاء، وعندما أبلغه عبر الهاتف، أمره بالاستمرار في تتبعه، وإحضار تلك الأوراق له. أنزل الهاتق عن أذنه، وقد تهللت أساريره عندما علم بنجاح رجاله في الحصول على الملفات، افترت شفتيه عن بسمة عريضة، والتفت بجسده نحو "مي"، التي كانت واقفة جواره، متشكلًا بسمة، مماثلة لبسمة الآخر الشيطانية، فقد شعرت بالتشفي ب"عاصم"، ناظرها "توفيق" من موضعه بنظرات لئيمة، بادلته النظرات الحاملة لنفس درجة اللؤم، وهو يهتف لها بطريقته المتملقة:


-اعتقد شكرا مش كفاية.


بأسلوبها المتعجرف، ردت عليه بهدوء مشبع بالمكر:


-انا مش مستنية شكر، انت ناسي إن كان هدفنا واحد.


توسعت بسمته الخبيثة، وعلق متفقًا معها:


-صح، انتي عندك حق.


ران الصمت بينهما، كان يرتشف "توفيق" من كأس شرابه، في حين شردت هي في انتقامها من "عاصم"، وشعرت بأنها لم تصل إلى غايتها المنشودة، في رؤيته ذليلًا، كما تعمد إذلالها، ولهذا لم تكتفِ عند ذلك الحد، بل شعرت برغبتها في اقحامه في قدر أكبر من المشاكل، وسريعًا ما قطعت الصمت، متسائلة بلهجتها التي تقطر كبرًا:


-بعد الورق ما بقى معاك، ناوي على إيه معاه؟


رأى في نظراتها رغبة متزايدة في إيذاء "عاصم"، حينها همهم بخبث، وردد بلهجة تجمع ما بين التسلية والجَد:


-عايز اقتله.


برقت عيناها على فور نطقه، وانقبض قلبها، وحينما لاحظ هو ما طرأ على محياها، حتى هتف ببسمة غير مريحة:


-بس الورق خدته خلاص، معادش ليه لازمة اقتله مش كده؟


ابتسمت له بسمة مهزوزة، وحاولت الثبات أمامه، وهو يتكلم بكلمات بدت غير مسموعة في أذنيها، لشرود ذهنها فيما قاله بمنتهى البساطة، وكأن قتله له كقتل لطير يحلق في السماء لن تفرق روحه مع أحد، وبعدما كانت متحمسة إلى الانضمام له في الخطوة التالية، تراجعت عن عزمها، فمن داخلها أضحت عير مستريحة نهائيًا لنوايا ذلك الرجل.



❈-❈-❈



إن كانت زوجته بقربه لكان ذهب إليها في ذلك الوقت ليشكو حاله، ولكنها استئثرت عليه بحنانها، ونبذته من حياتها، ولهذا لا يوجد غير أخيه، ليلجأ له في تلك المحنة، والكارثة التي حلت على رأسه. عندما لم يجِب "عز الدين" على مكالماته، اتصل بوالدته، استفسر منها عن وجود أخيه بالفيلا، حينها أخبرته بتوجهه رفقة زوجته وابنه إلى منزل "داليا"، أنهى معها المكالمة ببضعة كلمات مقتضبة، وغير مساره في نفس الوقت نحو طريق بيت زوجته. بعد مضي بضعة دقائق، صف السيارة أمام بيتها، ذات الطراز الأمريكي، وترجل منها دالفًا من البوابة الصغيرة الخارجية، توقف أمام باب البيت، بعدما قرع الجرس، منتظرًا أن تفتح له العاملة، ثوان معدودات وفُتح الباب، وظهرت من خلفه "داليا"، التي ظهر على وجهها بعض القلق من هيئته المتوترة، حتى أنه لم يرسم بسمة على وجهه، بل ظل وجهه مشدودًا وسألها على الفور دون مقدمات:


-عز هنا؟


تفاقم القلق بداخلها، ولكنها على كلٍ أجابته:


-لأ مش هنا.


عندما تراءى لها الضيق الذي اعتلى وجهه، عاجلته بقولها:


-بس هو جاي هو زينة في السكة.


هز رأسه بإيماءة صغيرة، ولأنه كل مرة يستشعر منها الانزعاج من وجوده، لذا قال بوجوم وهو يشرع في الاستدارة بجسده:


-طيب هستناه برا.


شيء بداخلها دفعها لإيقافه، وسريعًا ما استجابت له، وهتفت باسمه قبل أن يبدأ في التحرك:


-عاصم.


التفت إليها يناظرها بنظرة مستفهمة، حينئذ تلبكت قليلًا وهي تخبره بحذر:


-ادخل استناه جوا، ليه تستنى برا؟


عندما نظر لعينيها، تراءى له ترحيبها بوجوده، لذلك انصاع لدعوتها، وولج إلى الداخل، سار حتى الغرفة المخصصة لاستقبال الضيوف، لم يجلس على أي مقعد، وظل واقفًا في المنتصف، بفكر مليء بالضغوطات المرهقة، رفع يديه وفرك وجهه، مما جعلها تتأكد من وجود خطب ما به، ولم تمنع نفسها عن سؤاله بنبرة مهتمة:


-مالك؟


أبعد يديه عن وجهه، وناظره بنظرة متعبة، تداركت من النظر بداخل عينيه الحمراوتين، من وقوعه في ورطة، أو مأزق ما، ومع صمته المهيب أطنبت بريبة:


-شكلك متغير، حاسة إن فيك حاجة.


أطال النظر لها، وكأنه يؤكد لنفسه أن ما يراه عليها، ويستشعره من صوتها، خوف حقيقي عليه. وبعد لحظات استطرد بلهجة بائسة:


-لسه بتفهميني، وبتحسي بيا؟


استسلمت لصوت قلبها، الذي يحثها على التعاطف معه، وردت عليه بلين:


-انا اتربيت معاك في بيت واحد، واقدر اعرف انت كويس ولا لأ من نظرة عينك.


ابتلع غصة البكاء المتكونة في حلقه، وقال لها بصوت مليء بالشجن قبل أن يزفر نفسًا مختنقًا:


-طب أنا مش كويس يا داليا، مش كويس خالص، حسيتي بده؟


انتابها قلق مضاعف من قوله، وشخصت بصرها عليه وهو يضيف بصوت مختنق:


-الدنيا بتتهد فوق دماغي، وكل حاجة بتضيع من إيدي.


أدمعت عيناه الناظرة بداخل خضراوتيها وهو يتابع بانكسار:


-حتى الحضن اللي كنت بترمي فيه مبقاش معايا.


لم يستطع كبح بكائه، وانهمرت الدموع من عينيه، حينها لم تقدر على الوقوف موضعها، تشاهده وهو في أوج ضعفه، وعلى الفور دنت منه واحتضنته، وكأنه كان بانتظار ضمتها، واشتد بذراعيه على جسدها، وترك العنان لنفسه في إخراج ما يجيش به صدره، من هموم متراكمة، وبنشيج شديد ردد:


-أنا استاهل كل ده، واستاهل يحصلي اكتر من كده، بس اللي مستاهلوش هو بعد الشخص الوحيد اللي كان بيحضني في عز تعبي.


أحكم محاوطتها، وأزاد في التصاق جسده بها وهو يطلب منها بتوسل يعج بالاحتياج:


-احضنيني يا داليا، أنا محتاج حضنك أوي.


كالمغيبة امتثلت لطلبه، ولبت حاجته باحتوائها لتعبه، قبل جسده، وبعد قليل من الوقت، كان قد انهار، وأخرج ما بداخله من دمار، على هيئة بكاء مرير، فصلت "داليا" العناق ببطء، رفعت يديها نحو وجهه، احتوت وجنته وبإبهاميها جفف دموعه، وقالت له بصوت هامس، دافء، ومطمئن:


-أنا معاك يا عاصم، معاك في أي وقت محتاجني فيه.


في تلك اللحظة، ومع كلماتها الدافئة، بأنفاسها القريبة، شعر بحاجته لأكثر من عناق، سقطت عيناه على شفتيها، وقبل أن تفسر رغبته، وتبتعد عنه، أخفض رأسه نحو وجهها، وفي لحظة التقم ثغرها، بطريقة أظهرت كم احتياجه، وتوقه لقربها. لم تتفاجئ من فعلته، كأنما كانت متوقَعة، وفي نفس الوقت صعب عليها إبعاده، بل أن مشاعرها المرهفة حثتها على ترك نفسها له. طالت قبلته، وامتلأت بأحاسيس مختلفة، ومتنوعة، حتى أنه احتضن وجهها بكفيه، كأنما يخشى ابتعادها في لحظة عنه. وبعد مدة، ظنت خلالها لوهلة بأنه لن يتركها، فصل هو القبلة من تلقاء نفسه، لحاجة كليهما للهواء، لهث بأنفاس مرتفعة، وأسند جبينه فوق جبهتها، وبهمس متهدج، قال لها باشياق شديد:


-وحشتيني أوي.


ابتعد قليلًا حتى يتيح لعينيه النظر لخاصتيها، وعندما وجدها ساكنة، غير متحفزة، أو نافرة، بل تطالعه بنظرات يملأها الحنين، رغب في تكرار القبلة، بكل العاطفة الثائرة داخله، وقبل أن يدنو ثانية منها، هسهس لها بحرارة بالغة:


-بحبك يا داليا.


مع ترديده لتلك العبارة التي لطالما تاقت لسماعها منه، حتى ازداد نبضها، وبدأت في التجاوب معه، حيث إنها رفعت وجهها إليه، مع اقترابه منها، ولكن قبل أن تُدمغ الشفاه ببعضها البعض، قطع تلك اللحظة الفارقة، صوت الصغير "يونس"، يهتف بغتةً من خلفهما:


-أونكل عاصم.


انتفاضة بسيطة سرت في جسدها، استشعرها "عاصم" وهي تبتعد عنه، نظر كليهما إلى مصدر صوت الصغير، الواقف بين كلا والديه بالقرب من باب الحجرة، فقد أتوا لتوهم، وعندما وجد "عز الدين" باب البيت غير موصدًا، دلف على الفور، خوفًا من أن يكون قد أصاب أيًا من "داليا" أو ابني أخيه مكروه. نظر كل من "زينة" وزوجها لبعضهما البعض في تحرج، بينما ترك الصغير يد أبيه وركض نحو عمه، الذي أخفض جسده له لحمله، وبعدما أضحى فوق ذراعه، أخبره الصغير بنبرة طفولية: 


-بابا قالي أقول أونكل عاصم، عشان عيب أقول عاصم.


لاحت بسمة صغيرة على ثغر "عاصم"، الذي حول نظره نحو زوجته، التي يظهر عليها بعض الخجل، عاد ببصره نحو الصغير وقبل وجنته، في تلك الأثناء اقترب "عز الدين" من أخيه، وعندما لاحظ العبرات العالقة بأهدابه، حتى سأله بقلق:


-في إيه يا عاصم مالك؟


أنزل الصغير أرضًا، وتنهد مطولًا وهو يستقيم بجسده، ثم أخبره بفتور:


-رجالة توفيق قطعوا عليا طريقي وأخده الورق اللي معايا ليه.


شهقت "داليا" بارتعاد، ووضعت يدها فوق فمها، وراحت تتفحصه بنظراتها. عندما استشعر رهبته، نظر لها نظر مطمئنة، ووضع يده فوق جانب ذراعها، ضغط عليه ضغطة صغيرة مهدئة، بينما سأله أخوه خلال ذلك مستفهمًا:


-انت كويس؟ حد عمل فيك حاجة؟


انتقل ببصره نحوه، وأجابه بعد زفرة منهكة:


-لأ محدش قربلي، أخده مني الورق بس.


قطب "عز الدين" جبينه، وسأله بتعجب:


-والورق كان بيعمل معاك إيه وقتها! انت مش كنت مخبيه؟


بدأت معالم الضيق في الظهور على وجهه، وردد بربكة بدت غريبة للآخر:


-ماهو..


عجز عن ترتيب الكلمات، فما يزال تأثير الضغط العصبي الذي تعرض له مسيطرًا عليه، وعندما توقف عن التكلم، سأله "عز الدين":


-ماهو إيه؟


ازدادت تعابير الضيق ظهورًا، وبصوت منزعج قال له وهو يشير له نحو الأريكة:


-تعالى نقعد الاول يا عز وانا احكيلك.


توجهوا للجلوس على المقاعد المتواجدة، وبعد أن لفظ "عاصم" نفسًا ضائقًا، استرسل عليهم ما حدث، تفوتت تعابير الصدمة على وجوههم، وعندما انتهى كان "عز الأسبق من بينهم في التكلم، متسائلًا:


-طب وهتعمل إيه دلوقتي؟


نفسًا آخرًا متعبًا زفره، ثم رد عليه سريعًا، كأنما فكر في الأمر مسبقًا:


-مفيش قدامي غير شخص واحد، أتمنى أنه يقبل يساعدني.


ضيق ما بين حاجبية وهو يسأله:


-مين الشخص ده؟


بملامح جادة، أجابه بعد صمت دام للحظة، مرددًا:


-هشام بيه الكيلاني.


يتبع

إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة شيماء مجدي من رواية مشاعر مهشمة الجزءالثاني، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية