رواية جديدة مشاعر مهشمة 2 لشيماء مجدي - الفصل 47
قراءة رواية مشاعر مهشمة الجزء الثاني كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
الفصل السابع والأربعون
تمييز الحقيقة من الكذب، تعذر عليها تمامًا، خاصة مع كل ما يبدر منه مؤخرًا، والمنافي لما علمته، أو شهدته بعينيها مسبقًا، ولكن ما هي متأكدة منه، أن ثقتها به مهزوزة بشكل بالغ، وهذا سبب كافٍ لجعلها متزعزعة حيال العودة إليه، فأي علاقة منتزع منها الثقة، لا يوجد أي ضمان لاكتمالها على خط مستقيم، فمتوقع أن تكثر المشاكل بها، التي من الممكن أن تؤول إلى انتهائها.
خرجت للتو من البناية، التي تتواجد بها عيادة الطبيب "سامح"، بعد أن انتهت من حضور المتابعة الدورية، بوجه مهموم، وعينين حزينتين، تظهران مدى بؤسها، وأثناء سيرها، ونظراتها التي كانت تبحث عن وجود سيارتها بجوار أحد الأرصفة المحيطة، التي تصطف عندها السيارات، ظهر "كرم" من العدم بغتة، تفاجأت به جوارها، على وجهه بسمة جذابة، بهيئة مشابهة للمرة السابقة، بخلاف وضعه تلك المرة لنظارة شمس فوق تحجب عينيه عنها، لم تستطع موارة تفاجؤها بحضوره وهي تهتف باسمه:
-كرم!
كاد يرفع يده لمصافحتها، ولكن عينيها المدهوشتين، واللتين يمتزج بهما قليل من الانزعاج المحسوس، منعه من رفعها، واكتفى بالتساؤل الروتيني:
-ازيك يا داليا عاملة إيه؟
بدأ الانزعاج من ظهوره للمرة الثانية في نفس المكان بالظهور على قسماتها، ولكنها أجابته على كل باقتضاب، علّه يشعر بعدم ترحيبها بوجوده في محيطها:
-كويسة.
من ملاحظته لما طرأ على محياها، بل ويتضح في نبرة صوتها، وأرجح الظن في ذلك ظهوره المفاجئ، لذلك تعجل في التوضيح لها بمراوغة:
-أنا كنت معدي بعربيتي من هنا ولقيتك واقفة، فقولت انزل اسلم عليكي، وبالمرة اشوفك لو محتاجة حاجة.
ابعدت نظرها عنه، مستمرة في بحثها عن سيارتها في أي بقعة في الجوار، وردت عليه بإيجاز:
-لا مش محتاجة، شكرا ليك.
عندما تأكدت من عدم وجود السيارة في أي مكان التقطه مرمى بصرها، أخرجت الهاتف من حقيبتها لتهاتفه، حينئذ استنبط "كرم" انتظارها لأحدهم، وخشى للحظة أن يكون "عاصم"، لذلك سألها على الفور:
-مستنية حد؟
بغير أن تنظر له، أخبرته بنفس النبرة التي يشيع بها اللا مبالاة لوجوده:
-السواق بتاعي.
قبل أن يعلق على ما قالته، تكلمت هي للطرف الآخر عبر الهاتف:
-أيوه يا عم محمود، أنا خلاص نزلت، انت فين؟
ظلت عيناه مثبتة على وجهها، الذي تعقدت تعبيراته قليلًا، إلا أنه كان ملحوظًا له، واستنبط أن السبب في ذلك الرد الغير مسموع للسائق، والذي يتضمن اعتذاره عن عدم وجوده، كونه قد ذهب لإرسال المشتريات ااتي طلبتها المربية، ولازدحام الطريق صعب عليه العودة في الوقت المتفق عليه، ولذلك سيتأخر لبعض الوقت، حينئذ لم تجد بدًا من انتظاره في الشارع لحين رجوعه، وبعدما زفرت زفرة منهكة، قالت له بهدوء:
-خلاص مفيش مشكلة يا عم محمود طالما الطريق زحمة، ارجع انت وأنا هطلب أوبر.
لم تكد تنزل الهاتف عن أذنها، حتى انتشلها من تفكيرها في أمر العودة صوته الرجولي المتسائل:
-في مشكلة ولا إيه؟
التفت إليه بنظرات مستغربة، وسألته مستنكرة:
-انت لسه واقف؟
انتابه قليل من الحرج، إلا أنه أجابه بتملق ليغطي على حرجه:
-محبيتش امشي إلا بعد ما اتطمن إنك ركبتي عربيتك، هو السواق مش هيجيلك ولا إيه؟
زمت شفتيها لحظيًا بضيق، ثم ردت على سراله بتأكيد:
-أيوه.
لم يمنع نفسه من استغلال الفرصة لصالحه، وعرض عليها سريعًا:
-طيب أنا ممكن اروحك لو تحبي.
بأسلوب مهذب، رفضت عرضه:
-شكرا مش حابة اتعبك معايا.
سارع في التعليق مرددًا:
-مفيش تعب ولا حاجة، متقوليش كده، ومش معقول يعني هسيبك تركبي أوبر وعربيتي موجودة.
ظهر التردد على محياها، خاصة وأنها ليس في مقدورها البقاء لانتظار سيارة أجرة، عن طريق أوبر أو مارة مصادفًة، لخلو المكان من تلك النوعيات من سيارات المواصلات، ولكنها مع ذلك شعرت بالحرج من الأمر، وأبدت اعتراضها المتذبذب وهي تقول:
-بس..
قاطع محاولتها في إبداء رفضها، وهتف في تصميم:
-مش مقبول أي رفض.
ضمت شفتاها في حركة تظهر خنوعها لإصراره، عندما أبصرها هو تهللت أساريره لنجاحه في تلك الخطوة، وببسمة معتدة أخبرها وهو يشير نحو موضع سيارته:
-اتفضلي من هنا.
دعاها تتقدمه سيرًا، ولكن قبل أن تفتح باب السيارة، للمقعد المجاور لمقعد السائق، سبقها في فتحه كلفتة مهذبة منه، وقتئذ اكتفت برسم بسمة صغيرة، ودلفت بصمت إلى الداخل، أغلق الباب من خلفها، والتفت ليحتل مكانه خلف عجلة القيادة، وقد شاع في عينه السرور لنجاح مخططه تلك المرة في أخذ خطوة نحوها، والفضل الكبير في ذلك عدم مجيء السائق، وإن اكتمل على نفس الشاكلة، سيتهيأ له الطريق في تشييد نوع من الصداقة بينهما، ولكن يجب ألا يدع لمخيلته التحكم به، بالأخص مع كأسي المشروب الذي تجرعهما أثناء الاجتماع الذي كان قائمًا في فيلا "توفيق"، قبل توجهه للقائها مباشرة، والذي يلعب في تلك الأثناء بغريزته الذكورية، ولكنه حاول أن يصرف أن أفكار جامحة، ورفع يده ليثبت وضع النظارة فوق عينيه الحمراوتين، ليحافظ على هيئته المتزنة قدر المستطاع، حتى لا يظهر لها ما هو مخفٍ عنها إلى الحين، وهو سُكره الذي لا يصل إلى مرحلة الثمالة وإذهاب العقل.
❈-❈-❈
منذ الليلة الماضية، وهو لم يغشِه النوم، لا يستوعب نهائيًا أن من استأمنه على أمور شركاته، ولم يكن حتى يراجع من خلفه كثير من بنود صفقاته، هو الخائن المجهول، هو حتى لم يترك لسوء الظن أن يبث الشكوك برأسه حياله، عند علمه بخطبته من ابنة عدوه، وقابل ادعائته بحسن ظن بالغ، وبالرغم من كونه شخص كثير الشك فيمن حوله، ولا يثق بسهولة بأي كائن من كان، إلا أنه على ما يبدو قد خانه حدسه تلك المرة، وأعطى الثقة لمن لا يستحقها، ولكن ما هو الفعل الصائب والرادع الحين، للرد على خيانته، وتحالفه مع أعدائه؟
فرك رأسه عدة مرات متتالية، محاولًا التفكير بتروٍ، حتى لا يقوده تفكيره الانتقامي، الذي ما يزال يميل ميلًا بسيطًا إلى الأفعال السادية، كونه لم ينتهي من تلقي جلسات علاجه النفسي، والسلوكي، وذلك لكيلا يترك شيطان نفسه يتحكم به، ويعيده إلى سابق عهده، بما يتضمن من تصرفات مرضية، وتفكير إجرامي، وخلال ذلك صدح صوت هاتفه، يعلن عن تلقيه مكالمة هاتفية، تنهد بإنهاك وهو يمد يده لالتقاطه، وعندما أبصره اسم أحد رجاله، المكلف بحراسة زوجته، استقبل المكالنة على الفور، ورد عليه بنبرة مترقبة:
-ايوه.
جاءه في لحظتها صوت الرجل، مردفًا باحترام:
-ايوه يا عاصم باشا، حصل حاجة دلوقتي حبيت ابلغ حضرتك بيها.
زوى ما بين حاجبيه، وتساءل بتوجس:
-مع داليا؟
أكد له حدسه مرددًا:
-ايوه يا باشا.
اعتلى وجهه القلق، وعلى الفور سأله:
-إيه اللي حصل؟ اتكلم.
أبلغه باسترسال مسهب:
-كرم الزيني وقف مع الهانم شوية قدام العمارة اللي فيها عيادة الدكتور سامح، وبعدها ركبت معاه عربيته، ولسه مشيين حالا.
تعقدت ملامحه، وعلق بشيء من الحدة:
-يعني إيه الكلام ده؟ وهو فين السواق بتاعها؟
رد عليه بتوضيح يشوبه عدم العلم:
-مشى بعد ما وصلها العيادة ومرجعش تاني.
عندما لم يأخذ منه الرد المناسب عن مكان السائق، أخبره ببعض الانفعال:
-طب اقفل دلوقتي، وخلي عينك عليهم.
أنهى مخابرته برده المنصاع:
-تمام يا باشا.
أبعد الهاتف عن أذنه، وهو يكز على أسنانه بغل شديد، فما المخطط الدنيء تلك المرة، الذي يريدون إشراك زوجته به، ازدادت أنفاسه من والهواجس التي راحت تجوس في ذهنه، وضع الهاتف ثانية فوق أذنه، بعدما أجرى اتصالًا بسائق زوجته، وما إن أتاه رده، حتى سأله بصوت قوي:
-ايوه يا عم محمود، مرجعتش الهانم ليه؟
وضح له السائق الأسباب الذي سبق وقد أخبر بها الأخرى، مضيفًا إليها ردها عليه، حينئذ سأله باشتفاف قلة به قوة صوته، لما لاحظة من بعض التوتر الذي لمسه في صوته:
-يعني هي دلوقتي راجعة على البيت؟
أكد له الأمر، مما جعل "عاصم" ينهض على الفور من مقعده، وهو ينهي معه المكالمة:
-تمام، اقفل انت.
على الفور التقط متعلقاته، وغادر غرفة مكتبه، وتلك المرة لا يضمن قدرته على التحكم في أعصابه، فاحتمالية المساس بزوجته، ستقوده إلى ارتكاب جريمة قتل لا محالة.
❈-❈-❈
ظلت صامتة، لم تنبس ببنت شفة طوال الطريق، حتى أنها استبقت نظراتها متباعدة عنه، فهي رغم قبولها بأن يقلها إلى البيت، إلا أنها لا تتجاهل عدم الارتياح الذي ينتابها في وجوده، لهذا لم تكن لتفتح نهائيًا مجالًا للتعامل بأريحية من ناحيته معها نهائيًا. بمنتهى السهولة لاحظ إبعادها لنظرها عنه، ولكنه فسر الأمر بأنه خجل من تواجدها بقربه، وحتى يظفر بمتغاه، في توطيد علاقتهما، قرر أن يزيل حاجز الخجل بينهما، ويفتح بابًا للحديث، وكان على مقربة من التحدث بشيء يجعلها تلتفت إليه، إلا أن رنين هاتفها منعه، استمر على صمته، ولكنه في ذات الوقت انصت إلى ردودها لمن يخابرها عبر الهاتف، وبعد عدة عبارات مسموعة منها، استنبط أنها مربية طفليها، أخبرتها بشيء مبهم عنه، كان ردها عليه تساؤلها المستشف:
-يعني هما نايمين؟
لم يحتَج للتفكير في ماهية المقصودين من عبارتها، وظل متابعًا في إنصاته لمَ تقول بغير اهتمام، إلى أن استرعى اهتمامه ردها عليها وهي تختتم معها المكالمة:
-طب خلاص يا هنا، روحي لمامتك انتي وانا خلاص داخلة على الشارع أهو، وألف سلامة عليها.
عندما أنهت المكالمة فضوله لم يمنعه عن التساؤل:
-في حاجة حصلت؟
أجابته بعد زفرة مطولة بصوت هادئ:
-المربية بتعرفني إنها هتمشي عشان مامتها تعبت ونقلوها المستشفى.
ناظره بنظرة سريعة، قبل أن يسأل بتأكد نزق:
-يعني مفيش حد في البيت؟
بسبب الإرهاق الذي تمكن من جسدها، لم تنتبه إلى سؤاله الماكر، وأكدت له بغير حيطة أو حذر:
-أيوه والولدين لواحدهم، سرع شوية لوسمحت، عشان اروحلهم قبل مايصحوا.
تسللت لرأسه أفكار شيطانية، تحفز جسده لها مع تأثير الخمر على حواسه، إلى أن بات متحكم بتفكيره، ولم يدع للعقلانية أن ترجعه عمً انتوى على فعله، من أفعال متهورة، ظن للحظة أن تسجيب لها، كاستجابتها للانجراف في العلاقة المحرمة، التي كانت قائمة بينها وبين ابن خالتها لشهور طويلة في الخفاء. أوقف السيارة بالقرب من مدخل بيتها، وثبت نظره عليها وهي تترجل من السيارة، لم يكن غافلًا عن تعبها بات ملحوظًا، وهذا ما قرر أن يستغله في الوقت الاؤهن ليصل إلى مبتغاه، تبعها في الترجل من السيارة، وسألها باطمئنان مصطنع:
-شكلك تعبانة؟
رفع يدها نحو رأسها، واضحة أصابعها فوق جبهتها، فقد داهمه الدوار فور نزولها من السيارة، وأجابته بصوت منهك:
-حاسة إني دايخة شوية.
قال لها وهو يغلق باب السيارة:
-طب استني.
سارع في خطواته نحوها، وأخبرها بعدما تجرأ وأمسك بكل من معصمها وكفها، تحت بند المساعدة:
-اسندي عليا.
لم تنتبه إلى مسكته المتجاوزة، ورفض بصوتها الذي ضعفت نبرته:
-خلاص مش مشكلة أنا..
منعها من المتابعة في إظهار رفضها، وقال لها بإصرار لئيم:
-اسمعي الكلام يا داليا، انتي دايخة وممكن تقعي.
استجابت لطريقته المحنكة، في اقناعها باصطحابه إلى بيتها، خوفًا من سقوطها، أو تعرقلها أثناء سيرها، بسبب عدم اتزانها، وتشوش الرؤية الذي داهم عينيها، وتضرر جنينها حينها، غير منتبهة نهائيًا، لتأثير تفكيره الشهواني البادي عليه، وانتشاءه الذي يتزايد مع كل خطوة يخطوها نحو المكمن الذي سيختلي بها داخله.
❈-❈-❈
ارتفع تدفق الأدرينالين داخله، كلما اقتراب من بيت زوجته، وداخل رأسه ألف سيناريو يتخيل حدوثه، فرجل مثل "توفيق" لديه من الدناءة ما يكفي ليجعله يخنث وعوده بمنتهى الخسة، وهو من البداية لم يكن واثقًا من صدق عهده، الذي قطعه بسرعة لم تكن متوقعة، ولكنه لم يتوقع أن يحاول لوي ذراعه مجددًا عن طريق زوجته. ازداد تهدج أنفاسه كلما تقلصت المسافة مع كل متر يسلكه، انحرف بسيارته من الطريق الدولي، نحو طريقٍ آخر جانبي، في منتصفة بوابة المجمع السكني، الذي توجد به فيلا زوجته، وخلال عبوره من البوابة استمع إلى رنين هاتفه، الذي صدح في أرجاء السيارة، التقطه من فوق التابلوه، وعندما التقطت عيماه اسم أحد رجال الحراسة، اساقبل المكالمة، ووضع الهاتف فوق أذنه، ورد عليه متسائلًا بتلهف مشوب بالقلق:
-في إيه؟
أجابه الرجل بما هاتفه لأجل تبليغه به مباشرة:
-كرم دخل مع الهانم البيت.
جحظت عيناه وهو ينظر إلى الطريق أمامه، وسأله بقوة، بأعصاب أضحت مستثارة:
-ازاي يعني؟
سرد عليه ما حدث نصب عيناه، مسترسلًا:
-تقريبا الهانم تعبانة شوية، لإنه سندها لما نزلت من العربية، وفضل ساندها لحد جوا.
سبة نابية غادرت فمه، على فورها هتف الرجل سائلًا إياه:
-تحب ندخله نطلعه يا باشا؟
ضغط بأصابع متشنجة على عجلة القيادة، وقال له بانفعال لا ينبأ بخير:
-لا محدش يدخل، أنا جاي في الطريق.
ألقى الهاتف على المقعد المجاور له، ومن شدة غضبه المكتوم بات صدره يعلو ويهبط في هرجلة شديد، وفي الوقت الراهن ليس أمامه ما يفرغ به شحنته العصبية، ظل يضغط على شفته السفلى إلى أن راح بكل عزمة يضرب عجلة القيادة، ولسانه يتوعد الآخر بشر الجزاء.
❈-❈-❈
انتباهها كان معدومًا، لدرجة أنها لم تلحظ إغلاقه لباب البيت بعد دخولهما، كان البيت هادئًا تمامًا، لتستنتج عدم استيقاظ الطفلين خلال الدقائق الفاصلة بين مغادرة المربية ومجيئها، رافقها وهي ما تزال متكئة على ذراعه، حتى غرفة المعيشة، أجلسها بتؤدةٍ على الأريكة، وجلس إلى جوارها في غفلة منها، ثم سألها بلهجة تظاهر بها بالاهتمام:
-بقيتي كويسة؟
لم تكن في أحسن حال، ولكنها تحاول أن تستعيد اتزانها، هزت رأسها بإيماءة صغيرة مؤكدة، والتفت برأسها لتشكره، ليغادر بعد ذلك، وتتمكن من أخذ أدويتها، وفي تلك اللحظة التي تقابلت فيها وجهاهما، انتبهت إلى اقترابه الشديد منها، والتصاقه الوشيك، حتى قد زكم أنفها رائحة أنفاسه، والصادم في ذلك أنها وجدتها محملة برائحة الخمر، نظرت له باسترابة، وتراجعت بجسدها للخلف، حتى تخلق حيزًا بينمها، ثم أخبرته بفتور مقتضب:
-ايوه، شكرا لمساعدتك، اتفضل انت.
بسبب خلعه لنظارته، اتضح لها ضيق عينيه بخمول، بل واحمرارهما، إثرًا لمفعول المشروب المسكر، تزايد عدم الارتياح داخلها من وجوده، ولكن ما ضاعف من ريبتها، هو تشبثه بوجوده، وقال زاعمًا:
-مش عايز امشي إلا اما اتطمن عليكي.
نظراته انتقلت إلى شفتيها، مما أكد لها حدسها بشأن نواياه الغير طيبة، حاولت التظاهر بالثبات بالرغم من الرعشة التي تسري بجسدها، وهتفت بجدية:
-قلتلك بقيت كويسة، ياريت تتفضل عشان محتاجة ارتاح.
غامت عيناه بالإثارة، وشفتاه بدأت ترتجف من شدة الرغبة المؤججة، تجاهل ما قالته، ورفع يده بجراءة منه، ممررًا إياها فوق وجنتها وهو يهسهس بأنفاس تضطرم بالحرارة المنبعثة من مكامنه التي اهتاجت وزأرت داخله:
-أنا كنت..
ضربت يده بكفها، مبعده إياها عن وجهها، وبرنة صوت منفعلة يظهر بها التعب صاحت به:
-ابعد ايدك دي انت بتعمل إيه؟
كأن حجرًا كبيرًا حط على مداركه، سد أي سبيل للعودة إلى رشده، مما جعله لا يعبأ بصراخها، وقال لها بصوت يصرخ بالشهوة وهو يقترب بوجهه منها:
-داليا أنا..
اقترب منها للدرجة التي جعلت شفتاه على مقربة من التقاط شفتيها، ولكنها سريعًا ما مالت بوجهها للجانب، وصرخت بعلو صوتها:
-بقولك ابعد، انت غبي مبتفهمش.
أمسك بذراعيها بيديها، حتى يحيل دون دفعها له، ويثبت جسدها موضعه، وهو يشرف عليها بجسده، فوق الأريكة، زادت محاولاته في الوصول إلى شفتيها، وعندما يأس مع حركات وجهها التي تنأى بشفنتيها، عن لمس خاصته لها، حتى أصبح يلثم كل ما يقابلها من بشرة وجهها، ولم يكن منها في تلك الأثناء المفجعة غير أن تصرخ به وهي تحاول بكل طاقتها إبعاده عنها:
-ابعد عنني.
❈-❈-❈
بعدما علم من رجاله، المرابطين أمام بوابة الفيلا، ببقائه إلى الحين بالداخل رفقة زوجته، حتى اندفع من البوابة راكضًا نحو الباب الداخلي لبيتها، عندما توقف أمامه وجده مغلقًا، مما تسبب في ثوران ثائرته، وقبل أن يطرق فوق الباب، أو يضغط على الجرس، استمع إلى صوت صراخها قادمًا من الداخل، فقد عقله في تلك اللحظة، وبدأ في كسر الباب، قام بدفعه بجسده مرتين متتاليتين، حتى بدأت مسامير الكالون في الوقوع، حينئذ ركله بقدمه بشدة، مما تسبب في انفتاح الباب على مصراعيه، وضح صوت زوجته آنذاك، وبسهولة حدد اتجاهه، وعلى الفور دلف حيث يأتي مصدر الصوت، وما إن أبصر المشهد القاتل لكل ذرة تحكم بالنفس داخله، اندفع نحوه وهو يهدر باهتياج:
-ابعد عنها يا (...).
فاق من تأثير الشهوة التي تحكمت به على صوته، وسريعًا ما ارتفع بجذعه عنها وهتف بصدمة وهو يبصر هجومه عليه:
-عاصم.
أمسك به من تلابيبه، ليرفع جسده من جوار زوجته، التي انزوت بخوف على نفسها، ودمدم بزئير غاضب:
-ايوه عاصم يا (...)، ده انا هطلع روحك في ايدي.
اتبع آخر قوله بلكمة قوية في وجهه أطرحته أرضًا، ولم يعطٍ له مجالًا للزود عن نفسه، وانقض فوق، وراح يكيل له لكمات متكررة، جعلت الدماء تسيل من وجهه، قوة اللكمات جعلته على مقربة من فقد وعيه، وقلت قوته في صد ضرباته، صوته فقط ما يمر عبر سمعه، وهو يدمدم بسباب نابٍ:
-بتحط إيدك القذرة على مراتي، يا (...) يا (...).
هيئته كانت باعثة على العرب في نفسها، فقد ملأ وجهه الدماء، حتى أنه لم يعد يبدر منه أي دفاعات لحماية نفسه من بطشه، خشيت للحظة أن يتسبب زوجها في موته، ومن موضعها صاحت بارتياع:
-خلاص يا عاصم كفاية.
لم يستمع لها، فقد هاجت الدماء في عروقه، وظلت صورة اعتداء ذلك الدنيء عليها متجسدة أمام بصره، ممَ صعب عليه التحكم في ثورته. استمراره في ضرباته القاسية جعلتها تزداد هلعًا، وعندما لم يلتفت لها، صرخت مجددًا بذعر شديد، علّها توقفه عن هياجه الأعمى:
-كفاية يا عاصم، سيبه هيموت.
شيطان رأسه وسوس له لينهي حياته، انتقامًا منه على تعديه على شرفه، وثب عنه وهدر بعدائية من عُلياه:
-انت كده جبت اخرتك بإيدك.
انتزع المسدس من جنبه، وما إن أبصرته "داليا" حتى توسعت عيناها بهلع، وصرخت من خلفه تنهيه عمَ سيقدم على ارتكابه:
-لأ يا عاصم لأ.
صم أذنيه عن صراخها، فصوت الشيطان كان أقوى وأشد، أشهر السلاح نحوه، وبغير أن يرتجع أو يرتد ضغط على الزناد، غادرت صرخة من حلقها مع خروج الطلقة من فوهته، دقات قلبها العنيفة توالت بشدة، حتى كادت تعصف بصدرها، أعصابها استنزفت للدرجة التي جعلتها لا تقوى على فتح عينيها لتبصر المشهد الدامي، وكأن القدر كان في صفها في تلك اللحظة، فقد حطت سحابة سوداء على عينيها، انقذتها من هول الموقف المحيط، وسحبتها من الواقع المرير إلى داخل غياهبها المظلمة.