رواية جديدة مشاعر مهشمة 2 لشيماء مجدي - الفصل 48
قراءة رواية مشاعر مهشمة الجزء الثاني كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
الفصل الثامن والأربعون
فعل متهور كقتل ذلك الوغد المسمى بـ"كرم" كان سيكلفه الكثير، كسجنه بتهمة القتل، عداء أكبر مع "توفيق" كونه خطيب ابنته، وترك زوجته وأولاده لمصير غير معلوم، لذلك في اللحظة الأخيرة، عاد إلى رشده، ووضع في الحسبان نتاج فعله، وبينما يضغط على الزناد، أمال يده قبل أن ترتكز الرصاصة بين منتصف صدره، ولكن في نفس الآن ما يزال الغل كائنًا داخله، وظاهرًا في قسمات وجهه المشدود، وعينيه اللتين يتطاير منهما النيران.
لم يخمد ثورته تعنيفه الجسدي له، ولم يكتفِ بما ألحقه به، ورؤيته له ملقيًا أرضًا دون حراك، بل أراد أن يذيقه صنوفًا متنوعة من العذاب، جراء تعديه كل الحدود معه بمحاولة اعتدائه على زوجته، ونواياه الدنسة حيالها، ولكن ما أنقذه من بين براثن الوحش الذي استخرجه من داخله، هو انتباهه لجسد زوجته الساكن على الأريكة، فقد فقدت وعيها من هول الموقف، ناهيك عن إرهاقها البدني الذي لم يلحظه منذ ولج.
لم يفكر فيمَ أصابها، وركض نحوها متفقدًا إياها، وعندما تأكد من إغمائها، وعجز كذلك عن إفاقتها، حملها وهرع للخارج، وضعها بداخل السيارة، وقبل أن يذهب بها إلى مشفىٍ قريب، أعطى أوامر لرجاله، أن يزجوا بذلك الوغد خارجًا، ويبقى اثنان منهم رفقة طفليه للاعتناء بهما ريثما يعود.
بقى جوارها وهي متمددة على السرير، والقلق يتآكل به، ولكن تخلله قليل من الارتياح، حينما بدأت أهدابها تهتز، معبرة عن استفاقتها، وقتها تنفس الصعداء، ودنا منها أكثر بجذعه، عندما نادته بصوت ضعيف بالكاد التقطته أذنه:
-عاصم.
مسح فوق رأسها الملفوف حوله الحجاب، الذي فسدت هيئته بفعل يدي ذلك القذر، وهتف بجوار أذنه بنبرة هادئة مطمئنة:
-أنا جنبك يا حبيبتي.
في تلك اللحظة، هتف الطبيب من خلفه بتحفز ونبرة عملية عندما وجدها استعادت وعيها:
-هي بقت كويسة دلوقتي يا فندم، المحلول اللي في إيدها يخلص وتقدر تروح مع سعادتك، عن أذنكم.
أومأ له بهزة بسيطة من رأسه، في حين قد فتحت "داليا" عينيها، وانتبهت لوجودها في غرفة غريبة عليها، مما جعلها تسأله بخفوت يحمل الحيرة:
-أنا فين؟
أجابها بنفس الصوت الرخيم اللين:
-في المستشفى.
طافت خيالات في رأسها، ولكنها لم تستعد كامل إدراكها، لذا سألته باستشفاف قلق:
-إيه اللي حصل؟
رد عليها وهو يمسح بكفه فوق يدها الغير موصولٍ بها إبرة المحلول:
-اغمى عليكي ومعرفتش أفوقك فجيبتك على هنا.
ما إن تجمعت كافة الأحداث في رأسها، واستعادت تفاصيل ما جرى، حتى توسعت عيناها في ججوظ، وهتفت بارتياع:
-كرم..
انقلبت سحنته من إتيانها على ذكره، ورنة القلق البائنة في صوتها، وما زاد من ضيقه هو سؤالها المتلهف عنه:
-انت قتلته؟
تفاقم الغل في محياه، وسألها بنقم يحمل اتهام غير منطوق:
-وانتي مالك خايفة عليه أوي كده ليه؟
تجاهلت ما اعتبرته غيرة منه، وانزوى حاجباها وهي تخبره بالتياع:
-أنا مش خايفة عليه مايولع، انا خايفة عليك انت.
توضيحها لسبب خوفها المنبرر، والذي اتضح أنه عليه وليس على الآخر، جعل وجهه يرتخي، وخمد انفعاله الذي كان وشيكًا من الاندلاع، قبض على يدها بلمسة مهدئة، وقال لها باستيضاح لما حدث:
-ماتخافيش الرصاصة ماجيتش فيه، ولما وقعتي في الأرض سيبته وجريت عليكي عشان اشوف إيه اللي حصلك، وقبل ماشيلك عشان اجيبك على هنا خليت الحرس يرموه برا.
تنفست مطولًا بارتياح، وغمغمت شاكرة المولى:
-الحمد لله.
سعد داخليًا لخوفها عليه، والذي يثبت قيمته عندها، ولكنه في نفس الآن ما يزال يشتعل بنيران حمئته الذكورية المستعرة داخله، ودمدم بغضب:
-هو لسه مخادش حسابه مني، اللي حصلك هو اللي رحمه من تحت إيدي، لكن أنا مش هعدي اللي عمله لو فيها موتي.
خفق قلبها بارتعاد من تتمة عبارته، وتلك المرة هي من أمسكت بكفه، ورجته بنفس الوجه المعقود خيفةً:
-متضيعش نفسك يا عاصم، وهو كان شارب اصلا يعني مكانش في وعيه.
بنفس التعبيرات الكارهة، والتي دُمغت بها العدائية نحوه، هتف بتصميم غير قابل للرجوع فيه:
-ده مش هيغفرله عملته.
في نفس اللحظة انتبه إلى ما قالته، ورد عليه هو قبل أن يعرضه في رأسه، لذلك ما لبث أن حدثها بلهجة زاجرة:
-وبعدين تعالي هنا، ده انا لسه محسبتكيش على عملتك السودا، لما انتي عارفة إن هو متنيل شارب، ركبتي معاه العربية ليه ودخلتيه بيتك على أساس إيه؟
آثارت أعصابها طريقته الفظة، والمسيطرة، وصاحت به مستهجنة:
-وانت تحاسبني بتاع إيه؟
اشتدت عضلات وجهه من ردها المعاند، وهدر بها بغير انفعال:
-اتعدلي يا داليا وردي على سؤالي.
تراجعت عن عنادها، فهو في الأخير لديه كامل حق في التعقيب كونه زوجها، وفي جميع الأحوال ما كان ينبغي أن تدخل رجل أجنبي عنها بيتها في عدم وجود محرم، ولكنها كانت في حالة مرضية شتت تركيزها، وبعد صمت دام للحظة، نفخت في انزعاج، ثم بررت له بعبوس:
-انا مخدتش بالي إنه شارب، وأنا كنت تعبانة من ساعة مانزلت من عند الدكتور، والسواق مكانش معايا عشان فيه مشكلة في العربية، وهو عرض عليا يوصلني وقبلت لأن مكانش فيه اي تاكسي في المكان ده، ولما بقيت عند البيت كان ضغطي وطى خالص ودوخت ومقدرتش امشي لما نزلت من العربية ، وهو استغل وضعي ونزل سندني ودخل البيت منغير ماسمحله، وبعدها..
غلت الدماء في عروقه، ولم يتحمل أن تسرد تفاصيل ما شاهده، وقبل أن تكمل أسكتها بصوت منفعل:
-خلاص اسكتي خلاص.
حاول تثبيط هياج أعصابه، وصرف ذلك المشهد عن ذهنه بشكل مؤقت، وبعدما سحب نفسًا عميقًا، لفظه بتروٍ، عود النظر لها، وسألها بجمود:
-انتي مقلتليش ليه قبل كده ان الحيوان ده بيتعرضلك؟
أجابته بتوضيح بوجهها العابس:
-لإنه مكانش بيتعرضلي..
ثم ما لبثت أن تحولت تعبيراتها إلى الضيق وهي تذكره بما قد سبق وأخبرته عنه حياله:
-بس افتكر إني قلتلك كتير قبل مانتجوز إن نظراته مش بتريحني وبحس منها بإحساس وحش، ورغم كده انت مفكرتش توقفه عند حده بل بالعكس، انت كنت بتفكرني أنا اللي عيلة صغيرة مش فاهمة حاجة، وان ازاي شاب كبير في سن كرم هيبص لواحدة لسه في ثانوي، مع إنك أكبر منه وكنت على علاقة بيا.
زفر نفسًا ضائقًا مجددًا، فقد صح رؤيتها له منذ البداية، وهو الذي قد خانه ذكائه نحوه، زم شفتيه لثانيتين، ثم سألها:
-وبعد ماتجوزنا، معرفتنيش ليه؟
ردت على سؤاله بتوضيح آخر:
-عشان مكنتش بشوفه أصلا، هو مبدأش يظهر ليا إلا بعد مانت عرفته بإننا اتطلقنا.
ضعطت على آخر قولها بتعمد، لتشعره بخطأه في الإفصاح عن أمر كذلك، لشخص ليس له أي صلة بهما، ولكنه لم يشعر بأي شيء سوى الذهول، وعلق نافيًا:
-أنا معرفتوش إننا اتطلقنا ولا قلتله حاجة أصلا.
لاح عدم التصديق على محياها، وسألته بتكذيب لمَ يدعيه:
-زي ما مقولتش حاجة لمي برضه؟
هتف بسأم من تصميمها الدائم على تكذيبه:
-يوووه.
ضم شفتيه محاولًا تثبيط أعصابه، التي تحاول بكل الطرق استثارتها، ثم طلب منها بجدية:
-ينفع بعد كده لما يحصل حاجة تانية معاكي تعرفيني، أنا مش هفضل مستني اعرف اخبارك من الحرس ولا من اخويا ومراته عشان سعادتك معاندة معايا ومش عايزه تكلميني ولا ترجعي بيتك.
اشتدت ملامحها، وكادت تعقب برفض على فرض سيطرته عليها، ولكنه حاول دون نطقها بكلمة، مرددًا بصرامة:
-هتقوليلي بصفتك إيه هقولك جوزك..
قبل أن تقابل كلماته باستهجان منها، شدد على تملكه لها بقوله:
-أيوه جوزك ومش هطلقك، واهدي بقى على نفسك عشان انا ساكتلك بقالي كتير ومش راضي اعمل حاجة تزعلك.
لهجته لم تكن قاسية، ولكنها استفزتها، ناظرته بنظرة غير عابئة باغضابه، وهتفت بلا مبالاة بتهديده:
-هتعمل إيه يعني؟
اقترب منها حتى بات وجهه مقابلًا لوجهها، وبكلمات تحمل مغزى بعينه، قال لها:
-أنا اقدر اعمل كتير وانتي عارفة.
توترت من قربه المغري، خاصة عندما فطنت مضمون عبارته الوقحة، وحتى تغطي على تأثرها، دفعته من صدره حتى تبعده عنها، وهتفت بغيظ:
-انت بني آدم مستفز، ومتفتكرش إني هعمل حساب لكل اللي بتقوله ده، وانا وانت خلاص موضوعنا انتهى، وابعد بقى عن وشي عشان انا اتخنقت وعايزه امشي من هنا.
انتابه الضجر من ولدنتها، وصده لأي محاولة تودد لها، يود عن طريقها إذابه حاجز الجليد الفاصل بينهما، ونفخ بحنق قبل أن يغمغم:
-أنا عارف إن انا اللي جبته لنفسي من الأول خالص.
لم تفهم برطمته، ولكنها شعرت أنها تحمل توبيخ لها، مما ضاعف من غيظها، وسألته:
-انت بتقول إيه؟
حدجها بقلة حيلة، وقال باستسلام وهو ينهض من جوارها:
-مبقولش.. انا مستنيكي برا عشان اروحك.
اعتلى تكشيرة واضحة وجهها، وقالت له بعناد:
-هروح لواحدي.
لم يكن لديه طاقة تجعله يتحلى بالمزيد من الصبر أكثر من ذلك، انحنى بجذعه نحوها، وتشدق بنرفزة:
-قولت هتهبب اروحك، متخرجنيش عن شعوري عشان أنا على تكة وممكن اكسر المستشفى على اللي فيها.
تأففت في ضيق، ثم أخبرته بفم ملتوٍ:
-المحلول لسه مخلصش.
ناظرها بنظرة قوية، ثم قال لها بجمود يخالطه الإصرار:
-المحلول يخلص واطلعيلي انا متنيل برا مش رايح في حتة.
تابعت خروجه بوجه مقلوب، ولكن ما إن أغلق الباب خلفه، حتى رفت بسمة فوق شفتيها، مطمئنة بوجوده، وحامدة المولى على مجيئه في اللحظة الأخيرة، وإلا لكان تحطم كل ما بها وانكسر، إن كان ذلك الدنيء قد نجح في انتهاك حرمة جسدها، ناهيك عن احتمالية تعريض حياتها للخطر، بسبب الحالة الحرجة الواصلة لها في حملها، ولكنه أضحى لها السند بالمعنى الحقيقي، وجدته في حمايتها وقتما احتاجت إليه، دارئًا عنها أذًا جسيماً، وهذا وحده كفيل في جعلها تعيد النظر في حكمها عليه، فأنّى تجد مقامًا آمنًا غيره في تلك الحياة القاسية، تقيم فيه بمنأى عن مخاطر الحياة المهلكة؟
❈-❈-❈
تأخيره تلك الليلة في العودة، جعل القلق يراود "عز الدين"، خاصةً بعد علمه بشأن العداوة القائمة بينه وبين ذلك الذي يدعى بـ"توفيق"، لذلك رأى أن يهاتفه، ليطمئن على أحواله، ويستعلم منه عن سبب تأخيره، وبالفعل صدق حدسه، وتأكد من وجود خطب، تسبب في عدم رجوعه في الموعد المعتاد، بسرده عليه تفاصيل الاعتداء الجسدي الذي كادت تتعرض له زوجته، لولا ذهابه في اللحظة المناسبة.
ازداد قلقه بعد علمه، بل وشعر بانتقاص في سرده، وخشى أن يكون هناك تكملة تتضمن مأذق ما أوقع نفسه به، ولكنه طمأنه من تلك الناحية، ولكن "عز الدين" أبى تصديق فكرة أن أخاه مرر تلك الفعلة الشنعاء، بدون أن يثأر لشرفه الذي كاد يدنسه ذلك الوغد، وعرض عليه أن يذهب إليه، إلا أنه رفض، متعللًا بعدم وجود داعٍ في ذلك، كما أن زوحته استعادت عافيتها، ومنتظر فقط ريثما ينتهي المحلول المغذي، وسيقلها إلى البيت، وبعد ذلك سيعود إلى الفيلا.
رضخ حينئذٍ لرغبته، وأنهى معه المكالمة بعد بعض التوصيات المشددة، في تواخي الحذر، وعدم ارتكاب فعل متهور، يندم عليه فيما بعد. لاحظت "زينة" تبدل وجه زوجها، عند ولوجه الغرفة، بعد مهاتفته لأخيه، مما جعلها تستفسر عن السبب، حينها حكى لها بشكل سريع ما أخبره به الآخر، والذي جعل الخوف يتسلل لقلبها على "داليا"، وسألته باهتمام:
-يعني متأكد إن داليا كويسة؟
جلس جوارها على الفراش، وأجابها بصدق على حسب ما علمه من أخيه:
-آه الحمد لله كويسة.
طمأنها رده، ولكنها استبقت نظرها عليه، تنصت إلى باقي حديثه الذي ملأه الريبة:
-بس رينا يستر بقى، أنا متأكد إن عاصم مش هيعدي اللي حصل ده على خير.
انتقل الارتياب لها، ونظرت له بعينين متسعتين من التفكير الذي جال برأسها، والذي صرحت عنه بتساؤلها:
-تفتكر ممكن يقتله بجد؟
هز رأسه بالسلب، دلالة على عدم شكه حيال ذلك الاحتمال، ورد عليها بمنطقية:
-لا مش هتوصل لكده، لإن لو كان عايز يقتله كان قتله وقتها.
مطت شفتها في حيرة، ثم سألته:
-امال انت قلقان من إيه؟
عاد بظهره للخلف، مستندًا على عارضة الفراش، وأخبرها بغير ارتياح:
-مرتاحتش لنبرة صوته، حاسس إنه هيعمل حاجة في الواد ده بس مش واصلها.
من عشرتها الفترة الماضية لـ"عاصم" باتت متيقنة من أن أفعاله غير متوقعه، ولا يسع أحد التنبأ بها، لذلك أوصت زوجها:
-خليك معاه الفترة الجاية، واعرف دماغه فيها إيه، عشان لو فكر في أي تفكير متهور ترجعه عنه.
هز رأسه بآيماءة توافقها الرأي، وردد ببالٍ ما يزال مشغولًا، وهو موجه نظره للفراغ أمامه:
-ربنا يستر.
لم تمر سوى لحظتين وعاود النظر إليها عندما تأوهت بغتة:
-آه.
ضم ما بين حاجبيه، وسألها بتفقد:
-في إيه؟
وضعت يدها على بطنها المتكورة، والتي ازداد بروزها على الأخير، كونها باتت في فترة متقدمة للغاية من حملها، ملست بنعومة فوقها، وأجابته بضيق:
-عمال يلف في بطني من ساعتها، مش عارفة ماله كده.
انشق ثغره ببسمة متسلية، ثم مازحها قائلًا:
-ماتسيبي الواد يلعب.
عبس وجهها، وردت عليه بنفس اللهجة الضائقة، المشوبة بالقليل من التعب:
-ماهو بيلعب بقاله كتير، يريح شوية.
فهم مضمون عبارتها التلقائية من ناحية أخرى، لا تمت لمقصدها بصلة، إثرًا لذلك اتسعت بسمته، وعلق بعبث:
-دماغي بتروح في حتت تانية، اللهم اغزيك يا شيطان.
من نظراته الشقية، فطنت ما ترجمهه له سوء فكره، وسريعًا ما أخبرته بغير رضاءٍ مصطنع:
-كِن شوية، كِن أنا بقيت في آخر التامن ومش حمل فرهدة.
دنا منها، حتى اعتلاه دون ان يلمس جسدها، تظاهر بالعبوس وهو يقول ببراءة زائفة:
-أنا بفرهدك يا زوزا؟ طب ده انا حتى حنين.
تشكلت بسمة على محياها، متأثرة بمراوغته اللذيذة، وعلقت على ما قاله متهكمة:
-حنين اوي يا عز، ده انا حتى اكتر حاجة بحبها فيك هي حنيتك دي.
تغاضى عن سخريتها الواضحة، وبنفس الأسلوب الماكر في استمالتها، قال لها:
-وهي كمان بتحبك اوي.
رفعت حاجبيها، تناظره بغرابة وهي تسأله بوجهها الباسم:
-هي مين دي؟
غمز لها قبل أن يجيبها بإيحاء مقصود:
-حنيتي.
صدر منها ضحكة خافتة، ثم خاطبته بصوت تماوج بين آثار الضحك والتظاهر بالجدية:
-مش هتجيبها لبر النهارده انا عارفة.
قال لها من عُلياه بغير اقتناع:
-طب ماتعمليهمش عليا بقى، عشان انا لو قمت دلوقتي محدش هيتضايق اكتر منك.
رفعت أحد حاجبيها بتهكم، ثم علقت مستنكرة:
-يا سلام! ده إيه الثقة دي؟
تظاهر بالعبوس وسألها بضيق مصطنع:
-أقوم يعني؟
ناظرته بنظرة متدللة، تدعي التفكير وهي تهمهم، ثم ردت عليه بتدلل:
-تؤ.
عادت البسمة في الارتسام على وجهه، وألصق نفسه بها وهو يقول بنبرة معتدة:
-شوفتي بتجيبي ورا ازاي.
حاوطت عنقه وأخبرته بهمس غنج:
-اعمل ايه بقى بحبك.
دنا بوجهه منها مغمغمًا بأنفاسٍ ساخنةٍ قبل أن يلتقم شفتيها:
-وانا بموت فيكي يا زوزا.
لحظات لا توصف يعيشاها الاثنين أثناء تعبير كل طرف منهما بمقدار حبه، واشتياقه للآخر، ولا يملا من تجديد الاعتراف بالسقوط طوعًا في بئر الحب السحيق، الذي لا يوجد أي سبيل للخروج منه، أو انتقاص قطرة من بحر المشاعر العميق الذي غرق كليهما به.
❈-❈-❈
لم يضيع فرصة إعادتها إلى البيت هباءً، بل أنه استغل إرهاقها وتعمد جعلها تتكئ عليه أثناء ترجلها من السيارة، ليستشعر دفئها، وشعور الألفة في قربها. ورغم تحفزها معه في المشفى، إلا أنها تقبلت معاونته، واستندت على ذراعه، فقد أدركت، وتداركت أنه السند الحقيقي، مهما حدث بينهما من مشاحانات ونزاعات لا تنتهي. بعد ولوجهما من باب البيت، التفت برأسه لها، وسألها باهتمام بصوته الحاني:
-ادخلك أوضتك؟
رفعت حدقتيها له، وأومأت برأسها وهي ترد عليه بموافقة:
-أيوه.
توجه بها إلى غرفة النوم بخطوات متهادية، وبعد أن دلف بها إلى الداخل، توقفا في منتصف الغرفة، وظل متسمرًا، لا يدري ماذا يفعل، أيتوقف عند ذلك الحد، أم يساعدها في تبديل ثيابها؟ ولكنه حسم أمره في الأخير، بعدما وجدها سحبت يدها من فوق ذراعه، وقال لها بهدوء وهو يعود بإحدى قديمه خطوة للخلف:
-غيري انتي هدومك، وانا هروح اتطمن على الولاد.
هزت رأسها بإيماءة بسيطة، وظلت موضعها حتى غادر الغرفة، وببسمة يشيع بها الراحة سارت نحو الدولاب، وقامت باستخراج منامة قطنية مريحة، وثطع داخلية ومنشفة من نفس الخامة، وضعت الثياب فوق الفراش، واستبقت معاها المنشفة وهي تتوجه نحو المرحاض الملحق بغرفتها، فلن تستطيع ابنوم دون غمر جسدها المنهك بالمياه الدافئة، لتساعدها على الاسترخاء، وتهدئ أعصابها.
عاد إلى غرفة زوجته بعدما اطمأن على الولدين من المربية، التي قد أبلغها مسبقًا، بما جرى في غيابها من حدث طائ، مكتفيًا بإخبارها بتعب زوجته، والذهاب بها إلى المشفى، وهي بدورها أخبرته بشروعها في العودة للاعتناء بالطفلين، قبل أن يطلب هو منها ذلك، وهذا بعدما اطمأنت على استقرار حالة والدتها بالتأكيد، وكان دخوله أثناء ارتداء "داليا" لثوب نومها، مما جعلها تنفض في وقفتها، والتفت بحركة متلهوجة إليه.
اشتعل وجهها بسخونة رهيبة، ما إن تطرق لفكرها احتمالية رؤيته له وهي عارية، وشعرت بخجل غريب، أو ربما مشاعر كانت قد انطفأت جذوتها داخلها، وعادت لتوها للاتقاد من جديد، لم تستطع رفع عينيها لتناظره وهو يتقدم منها بخطوات المتباطئة، التي تلعب بأدرينالين جسدها، ويجعله يتدفق في عروقها، ولكن وقوفه قبالتها أجبرها على رفع عينيها له، خاصة حينما امتدت يده لبطنها المتكورة، وبدأ في المسح عليها بكفه بنعومة جعلت ارتجافة تسري في طول عمودها الفقري.
وكأن لمسته البسيطة حفزت في وجدانها أحاسيسًا جميلة، ودافئة، ظنت لوهلة أنها قد اختفت من داخلها، عن كثب اختلفت نظراته تمامًا عمَ مضى، وكأنها تنظر في عيني شخصًا آخرًا، يحمل في قلبه حنان ورقة لا يوجد لهما نظير، وهذا بالتحديد ما هي متعطشة له، الشعور بالاحتواء والتدليل، تركته يتلمس بطنها ولم تبعد يده، حتى تكلم هو ليكسر حاجز الصمت، مرددًا ببسمة ساحرة:
-بقيت مستني أشوفها أوي.
تفقهت من عبارته أنه يقصد جنينه الذي برحمه، الذي لم يستطع الطبيب إلى الحين معرفة نوعه، ولكن ثقته في كونها أنثى جعلها تضم ما بين حاجبيه باستغراب، وقد لاحت بسمة رقيقة على محياها ثم سألته بتعجب:
-انت مصمم برضه انها هتكون بنت؟
أنزل يده على بطنها، وحرك كتفيه بحركة تلقائية تزامنًا مع مط شفتيه، قبل أن يرد عليها بتريث:
-عندي إحساس.
جارته في الحديث، الذي وجدته هادئًا، هدوءً محببًا، كانت تتمنى في الماضي أن يتبادلاه وهما يتشاركان الفراش بعد انقضاء يوم متعب لكليهما، وسألته وهي محافظة على بسمتها الناعمة:
-ولو طلع ولد؟
رد عليها بدون أن يستغرق وقتًا في التفكير، فانتقل كلامه من قلبه مباشرة للسانه وهو ينطق:
-هحبه زي أخواته، بس أنا قلبي بيقولي إنها بنت.
توسعت بسمتها بالأخص عندما تابع وهو يغمز لها بإحدى عينيه بحركة مرحة:
-وأنا قلبي مبيكدبش عليا.
تفلتت ضحكة خافتة من بين شفتيها، جعلته يسرح في جمالها لوهلة، فالافتراق حرمه من أجمل شيء كان يبصره، وأبسط ما كانت تقدمه له، وهو ضحكها المبهج، وابتساماتها الرائعة، عيناه وهي تنظر لوجهها، وتمسح كل إنش به بدت ضائعة، أو ربما هائمة، وبغير أن يشعر ارتفعت يده نحو رأسها، تلمس وجنتها بظهر كفه بنعومة، حتى وصل إلى شعرها المبتل، أعاده للخلف، ظاهرًا نحرها المندي، والمغري لتلمسه.
انخفض بيده نحو جيدها، نزولًا لنحرها، بلمسات جعلت عدوى الضياع تنتقل لها، وما زاد الأمر سوءً داخلها، هو استسلام الآخر لضعف قلبه، ولاشتياقه لها، وبدأ يشرك شفتيه في لمساته المحمومة، متنقلًا بين وجهها وجيدها، بفوضاوية ناعمة، إلى أن اجتذبها إلى أحضانه، وهي ذائبة، ومتعبة، ويملأها نفس الحنين، ارتفع ضجيج قلبها، وزاد على الأخير، مع تقبيله لعنقها مرورها لكتفها بقبلات رقيقة لا تنتهي، والمخيف في الأمر أنها لا تود لها الانتهاء، خشيت للحظة من تصاعد الأمور، وتحكم الرغبة بكليهما، خاصة مع استلامها، حينها لن تضمن العواقب، وتبعات ذلك على حملها، وبصوت ضعيف يكاد يسمع حاولت إيقافه:
-مش هينفع.. الدكتور مانع.
التقطت أذناه بصعوبة ما قالته، وسعد لابدائها عذرًا، يوحي بأنها ما كانت استوقفته لولا ذلك العذر، ولكنه لم يحتَج لتذكير بالأمر، ولم يكن هذا ما يسعى له من البداية، رفع وجهه عن ملتقى كتفها، وبأنفاسه التي تهدجت، وتزايدت قال لها بجوار أذنها بشوق شديد:
-مش عايز حاجة اكتر من كده.
شدد من احتضانه لها، مستشعرًا نبض قليها الهائج ، وتابع بنفس النبرة المعبأة بالحنين:
-عايز افضل في حضنك بس.
اغمضت عينيها وهي تشعر بذوبانها بشكل كلي في أحضانه، حتى شعرت برعشة أصابت ساقيها، ولا تدري أهذا تعبًا، أم شوقًا، ولكنها على كلٍ لم يكن في مقدورها التحمل أكثر من ذلك، وأعربت عن ضعفها بصوتها الخافت:
-معدتش قادرة..
أرجع رأسه للخلف حتى يتفقدها بعينيه، حينها أضافت بعينين لا يدري أضاقا من الإرهاق أم الرغبة:
-حاسة إني دماغي بتلف بيا، عايزه ارتاح على السرير.
هز رأسه بالإيجاب مستجيبًا لطلبها، وتوجه بها إلى الفراش، ساعدها في التمدد عليه تحت الغطاء، ناظرته بصمت وهو يتحرك من جوارها، متوجهًا نحو الطرف الآخر من الفراش، وبعد لحظات خرجت عن صمتها حينما وجدته يخلع عنه سترته، ملقيًا إياها على كرسي جانبي بالقرب منه، حينئذ سألته باستشفاف:
-بتعمل إيه؟
انضم لها في الفراش، ودثر جسده تحت الغطاء، وبعدما استلقى على جانبه ليصبح وجهه مقابلًا لوجهها، وطلب منها بصوت دافئ:
-خليني جنبك النهارده، خايف تتعبي وانا مش موجود.
ترددت في الرد عليه للحظة من مباغتته بطلبه، وما كادت تفتح فمها لتعطيه الرد، حتى وضع يده فوق شفتيها، ظنًا منه أنها ستقابل طلبه بالرفض، وتوسلها تلك المرة بعينين بعينين تناشدها بالقبول:
-عشان خاطري يا داليا، أنا محتاج ابقى معاكي.
رفعت يده مبعدة كفه عن فمها، وأخبرته بنبرة هادئة رخيمة وهي ممسكة بكفه:
-كنت هقولك طفي النور.
ارتخى وجهه، وارتسم فوق السرور، قام باطفاء النور، ثم اعتدل في نومته، محافظًا على بقاء وجهه مواجهًا لوجهها، وهي بدورها أنالت جسدها لتصبح نائمة على جانبها، وظل التواصل البصري بينهما قائمًا، بالكاد كل منهما يرى وجه الآخر من خلال الضوء الخافت المتخلل من الشرفة، ولكن المشاعر في تلك اللحظة كانت تنير لهما المكان، حتى رأى كل منهما وجهًا آخرًا للحب، لم يكن يتواجد في تلك العلاقة من قبل، كأن حبهما يتجدد، أو ربما يكتشفان رونقًا جديدًا له، كان قد اختفى من عدم التفاهم، وكثرة المشاكل، ولكنه يظهر الحين بصورة أكثر بهاءً وإشراقة.
سعادته بذلك القرب لم يجد لها وصف، أو مثيل، وتمنى بكل ذرة عشق لها بداخله، أن تكون تلك خطوة حقيقية نحو إصلاح علاقتهما، وألا يحدث أي شيء يفسد زواجهما، ويعرضه للإنهيار من جديد.
بينما هي كانت تنظر له من زاوية جديدة، فمن منظورها بات "عاصم" الحين شخصًا يعرف كيفية التعبير عن مشاعره، والتصريح بها بكاقة أفعاله، وهذا تغييرًا واضحًا، يثبت لها صدقه تلك المرة بالتحديد.
❈-❈-❈
من الصادمة الفاجعة، وبفعل ما تعرض له من ضربات موجعة، زال مفعول الخمر، واستعاد مع اتزانه إدراكه، ونهض من الموضع الذي ألقاه عنده رجال "عاصم"، بالقرب من سيارته، وقبل أن يتعرض له هو أو أحد افراد حراسته استقل سيارته وسريعًا ما أدار محركها، ورحل على الفور، وأثناء قيادته إلى بيته، رن هاتفه الذي كان قد تركه في السيارة، عندما تفقد الرقم المتصل، وجده رقم خطيبته، لم يكن في وقت يسمح له بالحديث معها، بالأخص أنه بما اقترفه، افتعل عداءً صريحًا مع "عاصم"، وإن علم "توفيق" عنه سيكون من ضمن أعدائه كذلد، فالأمر يتعلق بجرح قلب وحيدته. نفخ في ضيق ومد يده ليعيد الهاتف موضعه، ولكنه امتنع في آخر لحظة عن تركه، وقرر أن يجيب، فلفد شعر برغبة في الإفراغ لها عما في جعبته، حتى وإن لم يكن صادقًا في المعظم من قوله، وبالطبع أخبرها بتشاجره مع أحدهم، كان ينوي سرقته، وبسبب تناوله لكأسي مشروب مع والده صباح اليوم، تعذر عليه صد ضرباته بالشكل الذي يدرأ أذاه عنه.
انخلع قلبها فور استماعها لما حل عليه، ورغبت في رؤيته للاطمئنان عليه، وكان هو حينها على مقربة من بيته، وقد أخبرها بالأمر، وهي بتسرع منها أخبرته بمجيئها إليه. ولم يمر كثير من الوقت بعد صعوده إلى شقته، ووجدها تهاتفه من أسفل البناية، تسأله على رقم الطابق، ولحظات تعد وكانت والجة من باب المنزل الذي فتحه لها، تفقدته بنظرات مرتعبة، وعندما وجدت الكدمات الحمراء والتي بدأ يميل بعضها للزرقة، حتى شهقت في التياع، وبدأت الدموع في التكوم في عينيها، رأى خوفها الغير مبتذل جليًا عليها، وهو كان لديه في ذلك الوقت ما يشبه بالجفاف العاطفي، الناتج عن صد الأخرى لتودده المحرم، وعشقه الآثام، ورغب أن يعوض ذلك بالتقارب الحميمي من خطيبته، ولم ينتظر لحظة أخرى وارتمى بحضنها، مظهرًا احتياجه إلى المؤازرة، والاحتواء.
ولكن حركته المباغتة، والتي لا تمت بصلة للأسلوب المتخذ في التعامل بينهما، مما تسبب في جعل عيناها تتوسع في تفاجؤ، بل ألجمتها في موضعها لبعض الوقت، فسر هو سكونه بشكل مغاير، وظن أن ذلك القرب يستهويها، وبدأ في جعل العناق أكثر حميمية، ويديه بدأتا تسير فوق ظهرها بطريقة شهوانية، مما جعلها تنتفض، وتستفيق من صدمتهت، بدا ااضيق على وجهها وهي تحاول دفعه، لكونه لا يستجيب بل تخطى الحدود وشفتيه بجرأة زحفت على عنقها، وهذا ما أوصلها إلى ذروة انزعاجها، وببعض الانفعال نهرتهه لتجاوزه:
-كرم أنا مبحبش كده.
صدمه ردها، بل ورفضها لذلك النوع من التقارب الحسي، الذي ظن أنها ستتجاوب به معه، لوجود مشاعر داخله له، كما أنه كان يحتاج ذلك الاحتواء منها بعد ما تعرض له على يد "عاصم"، وفي تلك اللحظة شيطانه أوهمه بأنها المخطئة، وبغلظة شديدة سألها، كأنه يقتص لكرامته التي هانتها لتوها:
-وأما انتي مبتحبيش جيتي ليه؟
دُهشت من سؤاله، ولم تستوعب المعنى الدنيء منه، وبسلم نية أجابته:
-انت قلتلي إن حصلك حادثة، وانا من خوفي جيت اتطمن عليك.
لسوء ظنه في تلك الأثناء الذي عماه الشيطان تمامًا بها، فسر ما قالته بطريقة قذرة، وبأسلوب فج عقب:
-وانتي أي راجل يقولك عامل حادثة تروحي تطمني عليه في بيته!
ازداد اندهاشها من طريقة حديثه المحيرة، واقتبست مما قاله متشدقة بغير فهم:
-أي راجل! ازاي مش فاهمة؟
ساد وجهه الجمود وهو يوضح لها مقصده الغير بريء:
-يعني لو واحد صاحبك مثلا قالك يا سما انا عامل حادثة، وانتي عايزه تطمني عليه، وبما إنه صاحبك وعارفاه هتروحيله بيته؟
فغرت عينيها وعلى فورها نفت بجدية:
-لأ طبعا أنا مبروحش لحد بيته، انا جيتلك عشان انت خطيبي وقلقت عليك.
انفرحت شفتاه ببسمة ساخرة، قبل أن يعلق بتهكم:
-وخطيبك ده مش راجل يعني ولا إيه؟
تعقد وجهها مع عدم فهمها لمَ يحاول أن يرمي به بكلماته الغريبة، وسألته:
-انت قصدك إيه بكل الكلام ده؟
تجهم وجهه وهو يخبرها بفظاظة:
-قصدي إنك بتعملي شو عليا يا سما، ولو فعلا اللي حصل مبتحبيهوش مكونتيش جيتي.
لاح فوق وجهها الاستنكار من تفسيره الوقح، وسألته باستهجان يعج بالذهول:
-عشان أنا مستأمناك تفهم إني جاية عشان القذارة اللي في دماغك؟
ازداد أمارات الضيق فوق قسماته، من تحقيرها له المنبجس من قولها، وهتف بغلظة:
-متعمليش فيها شريفة أوي كده، عشان اول تعامل بينا كنت سكرانه ولابسة فستان ميتلبسش إلا في أوضة نوم، والله اعلم كنت جاية بيه منين وقتها.
عند ذلك الحد ولم تتقبل تعديه على، بكلمات قذرة، واتهامات دنيئة، وتصيده لأخطاء في أفعالها سبق وقد تفهم أسبابها، وهوت بيدها بانفعال فوق وجنته، ثم سبته بازدراء وهي تلقي بخاتم خطبتهما في وجهه:
-حيوان.
شيعته بعينين مشوبتان بالخيبة، تغيمان خلف سحابة من الدموع، وبكبرياء جريح، وقلب مكلوم غادرت البيت، في حين ظل هو موضعه، ينظر في أثرها باختناق جثم لتوه على مجرى تنفسه، حتى ضاق صدره، من تآكل الندم به، ومن تصاعد الغضب في رأسه، لم يجد أمامه غير طاولة جانبية، نفس عن عضبه بإلقائها بكامل عزمه أرضًا، ولكن مع ذلك لم يخمد ذلك الشعور الذي يستعر داخله، الناجم عن تألمه لرؤية دموعها، فتأنيب الضمير بدأ يمزقه إربًا لتسببه في إحزانها، ومن هنا بدأ يلوم نفسه على ترك الشيطان للتحكم به معها هي بالتحديد، متسببًا في جعله يسن أحكام واهية على أفعالها، وهو المُلام الوحيد لدناءته وسوء تفكيره بها.
❈-❈-❈
بالرغم من عدولها عن فكرة الانضمام لهم في الانتقام من "عاصم"، إلا أنها لم تتوقف عن الذهاب لحضور تجمعاتهم الليلة، التي يغلب عليها التحدث عن رسم مخططاتهم، وتنتهي بتعاقرهم للمشروبات المسكرة، فقد أرادت أن تعلم ما يضمره "توفيق" للآخر، فضولها جعلها تبقى لتتحرى ما يتحدثون فيه، عساها تصل إلى غايتها. عندما وجدت ما يتحدثون به لا يمدها بما تحتاجه، انفصلت عن تجمعهم، فقد شعرت بالملل، وودت أن ترحل، إلا أنها رأت ان تنتظر قليلًا، حتى لا يشك "توفيق" في أمرها، وبينما تسير في الحديقة بغير وجهة معينة، التقطت عيناها أحد رجال "توفيق"، جالسًا بمفرده، يتجرع كأس الخمر دفعة واحدة، تعجبت من عدم جلوسه معهم، ولكنها لم تشغل بالها على كلٍ، ومرت من جواره دون أن تحدثه، ولكنها لم تكَد تتخطاه حتى استوقفها قوله بصوت الذي بدا متحشرجًا من تأثير الكحوليات:
-الجو ده مش جوك، إيه اللي دخلك وسط الناس دي؟
توقفت عن السير، ونظرت في اتجاهه، وكانت متأكدة من أن الحديث موجه لها، وما أثبت ذلك هو نظره الذي ثبت عليها، وكأنه منتظر الإجابة منها، حينئذ ردت عليه "مي" بتساؤل ذكي تتهرب به من الإجابة:
-انت إيه اللي دخلك وسطهم؟
مط شفتيه مطولًا، حتى ظنت أنه لن يجيبها، ولكنه فاجأها حينا قال:
-الشيطان.
ضيقت عينيها عليه، والتعجب أصبح جليًا على قسماتها، وكأنما تراءى له ما طرأ على موجهها، فأضاف موضحًا:
-الشيطان خلاني استسهل، واشوف إن عن طريق شغلي معاهم هلم قرشين كويسين، أأمن بيهم مستقبل بنتي.
بغير أن تستفر منه عن سبب ما يقول، أطنب بنبرة غريبة كما لو كانت تحمل الندم:
-بس انتي عارفة، الحرام بيمنع قبول دعاكي، ومبيباركش في حياتك، بيهدم في ثانية كل اللي تبنيه، وبيدمر الدميا في عينكي.
وضع في كأس مزيدًا من الخمر، وأخبرها بعدما تناوله، بعينين يتحجر بهما الدموع:
-عندك مثلا بنتي اللي كنت بلملها الفلوس عشان أأمن حياتها، جالها المرض الخبيث، والفلوس اللي كنت بعالجها بيها مقدرتش تعالجها وترجعهالي سليمة، اتعذبت قدام عيني وانا مش قادر اعملها حاجة، لحد ما ربنا أراد يرحمها واسترد أمانته.
صدمه قوله، وخفق قلبها بتؤثر، وسريعًا ما هتفت تؤازره:
-ربنا يرحمها ويصبرك.
ساد لبعض الوقت الصمت بينهما، لذا قررت أن تتركه، بالأخص عندما وجدت دمعة تحدرت من إحدى عينيه، ولكنه حال دون رحيلها، عندما قال بنبرة غامضة:
-انا عارف انتي لسه في الصورة ليه لغاية دلوقتي
انزوى ما بين حاحبيها ببعض التوتر، وسألته مستفهمة على الفور:
-قصدك إيه؟
أجابها بنبرة عادية وهو يصب مزيدًا من المشروب فس كأسه:
-عايزه توصلي للي ناوين عليه لحبيب القلب القديم؟
لم تكترث لكونه كشف أمرها بقدر ما اكترثت بقوله الذي يثبت نواياهم السيئة حيال الآخر، وهتفت باشتفاف:
-يعني هما فعلا لسه ناويين يعملوا حاجة فيه؟
لم يتلاعب معها بالحديث، وأجابها بغير مراوغة:
-نويين يغدورا بيه زي ماغدروا بابوه.
توسعت عيناها قليلًا وهي تسأله باهتمام:
-يعني هيعملوا إيه؟
تناول آخر كأس في زجاج المشروب، ثم ارتكز ببصره عليها، وقبل أن تعيد سؤاله، رد عليه بجمود:
-هيقتلوه، والمطلوب إن أنا اللي انفذ.