-->

رواية جديدة كما يحلو لها لبتول طه - الفصل 57

 رواية كما يحلو لها

الجزء الثالث من رواية كما يحلو لي بقلم بتول طه

رواية جديدة كما يحلو لها

تنشر حصريًا على المدونة قبل أي منصة أخرى

من قصص وروايات

الكاتبة بتول طه

النسخة العامية

الفصل السابع والخمسون 



جلست "روان" بصحبة "عنود" و "مها" بغرفة الاستقبال وهي لا تريد سوى رؤية وجه "يزيد" نفسه وترقبت خروجه من مكتبه هو و "عمر" وعقلها يتحرق شوقًا لمعرفة بم يتحدثون وما إن كان كل ما فعلته أجدى معه بالفعل، لحظات الانتظار لطالما كانت الأصعب دائمًا، ولكن بالمقارنة بم ستشعر به وكل من في هذا المنزل يتخلصون من تجبره وتسلطه وهو لا يجد من يُمارس عليه ترهيبه وتحكمه لن يُضاهيه لذة في الحياة.

 

تتمنى فقط أن تستطيع "عنود" أن تفعل ما أخذت تقنعها به، ولعل تلك المرأة الغبية ستطالب ولو لمرة واحدة بحقها في ابنها ولن تجلس بواحدة من الزوايا وتبكي وتعانق ضعفها وسلبيتها، تبًا، كيف استمرت مع رجل كزوجها لسنوات؟ ألم تبكِ؟ ألم تصرخ؟ ألم تحاول أن تلجأ لكل هؤلاء الرجال الذين رأتهم عندما سافرت لبلدتهم؟ ألم تستطع ولو لمرة واحدة أن تكسب "عمر" بصفها ليكون لها عونًا وحماية من بطش زوجها؟ ألم تملك أي من حيل النساء في الفراش أو حتى كان يُمكنها أن تستخدم أنوثتها خصوصًا ببداية زواجها لو كان هذا هو الحل الوحيد أمامها؟ هي بكل ما تفتقره من صحبة للنساء فعلت هذا يومًا ما ولكن ماذا عنها؟ أي عقل تملك هذه المرأة؟

 

تنهدت وعقلها يتمزق تفكيرًا فهو أسوأ الرجال، هل لها العُذر في ذلك؟ ولكن ابنه كاد أن يماثله، لقد تحدثت معه كثيرًا ورفضت الكثير من الأشياء، لن تُنكر بأن هذا آتى بأي ثمار ولكنها حاربت إلى أن وصلت لما أرادته، نعم دفعت الكثير من أجل عشقها لرجل مختل مثله، ولكنها لو كانت أم لثلاثة أبناء لكانت حركت الجبال من أجلهم، تستنكر كونها أم لا تستحق هذا اللقب، فلا منها تعامل أبنائها بود ولا منها الأم القاسية لغايتها في رؤية أبنائها بخير، هي فقط والدة، من أنجبتهم للحياة.. لا ترى لها أي يـ ـد سوى في ذلك.

 

بمجرد سماعها تحرك باب غرفة مكتب والده تأهبت بمقعدها دون أن يتضح عليها ذلك ثم نظرت نحو "عنود" بنظرة ذات مغزى التي اتضح عليها مدى ارتباكها فحذرتها بجدية وهمست لها:

-       معتقدش حد هيرتاح قدك الفترة اللي جاية لو بس كلكم بقيتو مع عمر، وجربتي بنفسك الفرق بين عمر وبين باباكي، أرجوكِ بلاش تبوظي الموضوع..

 

ابتلعت وهي تُفكر بكلماتها لتزفر بارتباك، هي تعرف أنها مُحقة، تعرف جيدًا أن الابتعاد عن والدها هو الراحة الأبدية لها، ولكنها ستشعر بذنبٍ لا نهائي إن فعلت هذا!

هل يُمكن أن "عمر" يومًا ما سيكون الوحيد الذي يستطيع أن يحقق العدل بعائلتهم الظالمة التي لا تقدر حق أي امرأة بها سواء كانت كبيرة السن أم صغيرة؟ ولم لا؟! أليس هو نفسه من ساعدها في هذا الزواج بالرغم من عدم تقبله لـ "يونس" في المطلق، هي تمتلك أعين وأذان وتستطيع رؤية هذا، لم لا؟! قد يكون هو الوحيد الذي يستطيع أن يفاوض والده وأعمامها على إرث والدته! لذا لن تكون مُذنبة، قد تُحقق كلماتها العدل يومًا ما، فلتجرب، لن تخسر هي نفسها ولا والدتها أكثر مما خسرتاه بالفعل.

 

رأت كلاهما يقتربان فنهضت "روان" وهي تزيف ابتسامة ربما لم يبتعها أي منهما بل هو تأكيد قاطع من نظراتهما أنهما لم يصدقا ودها الزائف ولكن هناك شيء تعلمته منه، هناك تلك الكذبة التي تكذبها وتتفوه بها مرارًا إلى أن تصبح حقيقة وجزء من الواقع.. وهي ليس لديها أكثر من الوقت لتضيعه في دفعهما لتصديقها، أو هذا ما تظنه!

 

كادت أن تبادر بالحديث ولكنه فعل هو ولم يدرِ أي منهما أنه يُنقذها من مصير لو كانت لاقته على يد والده لكان اختطافه لأخيها سيكون مزحة على ما قد تراه بأم عينيها!

-       تعالي عايزك!

 

الجدية والاقتضاب أمران لا يبشرا بالخير في كلامه، ولكن ليأتي بما عنده، لقد اغتصـ ـبت، وضُربت، وأُسرت، وجُنت، وباتت لا تعرف من هي ولا حتى تريد العلم، ما أسوأ ما قد يحدث:

-       حاضر يا حبيبي..

 

ضحكة مكتومة بسخرية رأتها تضح بعينيه وملامحه لم تستطع أن تحبطان إصرارها ولكن ما أنقذها هو عدم رؤية والده لما يحدث بينهما ولكنه استمع لهذا واستمع لما سبق منها ومنه ولا يُصدق هذه الدراما السخيفة التي تفتقر للحبكة الجيدة، ولكنه سيكشف عن وجهها الحقيقي في عدة دقائق الآن أمام الجميع، أو هذا ما ظن أنه سيفعله.

 

بمجرد أخذ بعض الخطوات القليلة حتى غاب كلاهما عن أعين الجميع ليتفقدها باستفهام ففعلت هي الأخرى وسألها بهدوء مبتسمًا بتأني:

-       أنتِ بتعملي ايه؟

 

قلبت شـ ـفتاها ثم صممت أن تبالغ في الكذب حتى يُصدقه كما فعل هو معها في يوم من الأيام وراوغته متسائلة باستنكار بحت غير منتظرة لإجابة حقيقية:

-       هو الكويس بيبقا وحِش والحلو بيبقا وحِش؟

 

مرر سبابته فوق هذا الخط الفاصل بين وجنته وذقنه ثم سلط نظراته عليها متفحصًا إياها لمدة وفي البداية ثبتت وبمرور الثواني لن تنكر أنها اهتزت قليلًا بداخلها فزجرت نفسها بشدة إما ما تريده وإما أخيها، عملها، والدتها، هي نفسها، أو حتى قد يغامر "يزيد" بإيذاء هذا الرجل الواقف أمامها، لا تعلم أهي الشفقة أم هو الشعور الكريه بأن تفقد ما عملت لمدة طويلة على إصلاحه، ليست المدة وحدها ولكن قد تكبدت ثمن باهظ حتى ترى هذا الرجل الذي يتفحصها محاولًا أن يتبين كذبها من صدقها!

-       الكدب مش لايق عليكي يا قطتي!

 

ابتسمت له كتلميذة نجيبة تشعر بالفخر أمام مُعلمها البارع وعقبت بهمس جعل دمائه تغلي بداخله:

-       لو مش لايق يبقا أنت فاشل، ولو لايق فأنت هتفشل قدامي، ولو مش مصدق فدي مُشكلتك، ولو مصدقني وده الحل الوحيد قدامك، فأنت غلطت لما قولت إنه ميناسبنيش..

 

حسنًا، هل يُمكنها أن تُعيد الكلمات تلك مرة أخرى؟ من تلك المرأة التي تحولت لها؟ لا، لن تغلبه بالكلمات!

-       روان، كلمة واحدة من غير كلام كتير، هنطلع نسلم ونمشي ولينا بيت نتحاسب فيه.

-       وده ليه بقا؟

 

وقفت لتعقد ذراعيها بمنتهى الثبات ورأت الغضب واضحًا بعينيه لتلاحقه بنظرات حسرة شديدة وحذرته قائلة:

-       إياك تحاول أو تفكر تهددني بأي حاجة ولا تفكرني بأسلوبك القديم بعد كل اللي عملته فيا، وخد بالك مني كويس يا عمر، بلاش أنا بالذات أفكر اؤذيك ازاي بعد كل العِشرة اللي بيني وبينك، خلينا كويسين زي ما احنا وابعد خالص عن اللي أنا بعمله عشان بدل ما تبقا مجرد وسيلة هتبقا هدف زيك زي يزيد الجندي!

 

عقد حاجباه وهو يستمع لنبرتها التحذيرية وهدوئها الشديد ووقفتها الثابتة بأناقة تلك المرأة التي تمتلئ بالأنوثة ولو لم يكن يعرفها جيدًا لأخطأ وظن أن عقلها يفيض دهاء وإصرار!

هل يعرفها حقًا؟ هل والده محق؟ أم هي من تغيرت بشدة؟ تبًا لعقله الذي لم يعد يعمل!

 

صراخ ثم صوت والده الغاضب:

-       أنت اتجننتي يا مها.

 

لقد نجحت "عنود" على ما يبدو، يا تُرى ما الذي قالته؟ لم تتفق كلتاهما على هذا، لقد كانت مترددة للغاية، تشعر بالذنب والذعر مما قد يترتب على ما ستقوله، والآن حان دورها، فلتتظاهر بأنه ليس هنا، ولتتأهب ذاهبة حيث ثلاثتهم وكأنها مندهشة مما يحدث!

 

أوقفها بجذبة قوية وحذرها بغضب كتمه بأعجوبة وهمس محذرًا:

-       بلاش تدخلي هتهدي كل اللي بحاول اعمله وحياتك انتِ اللي هتبوظ. 

-       ما كل حاجة اتهدت فعلًا!

 

ابتسمت له بانتصار وتابعت بنبرة هادئة جعلته يشتعل غيظًا:

-       والدور على يزيد الجندي يدوق ويجرب نفس الرعب اللي عيشني فيه!

 

نفضت يـ ـده التي يعقدها فوق معصمها واتجهت للخارج ليبتلع بخوف مما نوته ولا يعلمه هو. كان على يقين تام كما يعرف اسمه، أن أي ردة فعل لوالده تجاهها هي هو الذي سيُهلك بينهما وبالرغم من خوفه تبعها ظنًا منه أنه سيستطيع إنقاذ الموقف واللحاق بها قبل أن يتمادى الأمر، ولكنها أولى خطواته في أن يُصبح طُعم للإيقاع بـ "يزيد الجندي" في قفص نهايته التي لن تتوقف حتى تدركها وتدرك حياته الكريهة!

 

وقفت متصنعة الارتباك وظهر الارتباك الحقيقي على "عنود" بينما آتى "عمر" ليقف كمثل ذاك الفتى يُراقب من بعيد ثورة والده التي تنفجر كلما تشاجر مع والدته أمامه، لا يعرف ما الذي يحدث كلما وقف بالمنتصف يُشاهد، الأمر ليس بجديد، بل حدث هذا الموقف لمئات المرات، صوت والده الغاضب، صوتها الباكي، رفع ذراعيها وهي تحمي وجهها ورأسها خلفهما، انكماش "عنود" ولا يغيب سوى بكاء "عُدي" طفلًا، ولهاثه صبيًا، وبعض كلمات منه لا تسمن لا تغني من جوع رجلًا، والتي يرد عليها والده بأنه أنثى ذات لحية وعـ ـضو ذكري موضحًا له الفرق بينه وبين النساء..

 

أيعلم أي من المتواجدين حوله ما الذي يؤلمه عندما يرى هذا المشهد؟ رأسه تؤلمه بقسوة كلما وقف مثل ما يقف الآن، عقله يُشل كما تتبعه جوارحه، ولا ينطق لسانه سوى بجملة واحدة:

-       خلاص يا بابا اهدى!

 

تمزق بين تلك النظرة الغاضبة بشدة واحمرار وجه الذي لطالما كان المنقذ له من كل شيء وبين ذلك الصياح من والدته التي لم ير منها سوى عدة كلمات مجاملة في مناسبات قليلة قلما احتفل بها:

-       ده حقي حرام عليك أنت وهم!

-       حقك ايه يا أم حق، عايشة عيشة مليون ست تحلم إنها تعشها، واكلة شاربة قايمة نايمة عندك كتير اوي من اللي الستات تحلم بيه، ده كفايا أنا عليكي!

-       أنت ايه الظلم اللي فيك ده، ده ورثي من ابويا ليه عايز تاخد اكتر من حقك ليه، مش مكفيك كل اللي عندك وفلوسي اللي بتاخدها مني بقالك سنين.

-       عمر.

 

همست وهو بجانبها بعد أن شعرت بانزعاج شديد من هذا الشجار دون تزيف بل كانت حقيقة مرعبة، ولوهلة بداخلها ندمت أنها السبب في كل ما تراه.

 

لا يسمع ولا يرى ورأسه تؤلمه، يكره هذا المشهد، لابد أن ينتهي، أين "عُدي" ليُنهي هذا الشجار؟ لا يستطيع أن يتقدم خطوة ولا يتجرأ على فض هذا النزاع!

 

-       وهو فلوسك دي لو كانت معاكي كنتي هتعملي بيها ايه يا اختي؟ ايه اللي ناقصك وأنا مش جايبهولك عشان عايزة فلوس؟ ولا هو شغل نمردة يا مها!  

-       نمردة يا ظالم عشان عايزة حقي..

-       عمر

 

همس وشجار وجملة وحيدة ينطق بها لسانه أو ربما هي ترهات تفيد نفس ذات المعنى، يريد لهذا أن ينتهي وفقط ينتهي، لا يهم من معه الحق ولا يهم من المظلوم ومن الظالم:

-       خلاص يا بابا!

-       اسكت أنت ومتدخلش ولا فاكرها زي الهانم المتدلعة بتاعتك.

 

إهانة، هذا متوقع بالفعل، لقد استعدت بالفعل لما هو أسوأ من هذا، هي تظن أنها ستتلقى صفعة قوية أو مواجهة شرسة أو تهديد بأمر ما ولكنها حافظت على ذعرها الحقيقي مما تراه، نعم لقد تزوجت رجل سيء وبه مساوئ عِدة ولكنها لم تر نفسها وهو معها بنفس هذا الموقف ولا حتى ذاك الموقف عندما كان معه ببلدته.

-       اسمعي يا مها، ورحمة أبويا، لا ومن غير حلفان كمان، لو سمعتك جبتي سيرة ورثك ده تاني هتندمي ندم عمرك وهتتمني الموت ومتلاقيهوش!

-       هندم عشان بطلب حقي يا مفتري، اتقي الله ده انت محامي يا اخي، مبتفكرش أبدًا في إن ده حقي، في إنك إنسان ظالم واكل حقي وحق ولادي من بعدي..

-       يا بنت الـ .. وهم ولادك دول ناقصهم ايه، والفلوس دي كلها ما بكرة تروح لعمر، ولا ناوية كمان خايب الرجا اللي ربتيه يضيع فلوسي..

-       ايوة بقا ما أنت مالكش غير هم هم الكلمتين بتوعك، ماله عدي، محروق اوي منه ليه، مضايق منه عشان ايه، ولا عمر بس ابنك وعدي ده جبته من راجل تاني؟!

 

ذاك السُباب البشع وتلك الصفعة القوية التي استقرت على وجهها جعلت "روان" تشهق وتتراجع بينما دمعت عينا "عنود" على ما تراه وهشم "عمر" أسنانه بينما صاحت به "مها" باكية قهرًا وهي توزع نظراتها بينهما:

-       هو ده اللي متضايق منه في عدي، إنه حنين مش زيك أنت وابنك جبارين، عادي تضربو وتذلو وتبهدلو الناس وترعبوهم، إنما لأ بقا أنا مبقتش صغيرة على اللي بيحصل ده يا يزيد وبكرة يجيلك يوم وتتهد فيه، وإن شاء الله أول واحد هتلاقيه بِعد عنك هو ابنك ويوم ما جبروتك ده يروح هتتذل وكل اللي كان خايف من بطشك ولا هيسأل فيك!

 

اقبل عليها وهي تحاول أن تحتمي منه وهو يقوم بإبراحها ضربًا وهي تصرخ قهرًا على كل ما يحدث لامرأة قاربت أن تكون جدة بينما تابعهما "عمر" بتخبط شديد وهو يشعر بأن هناك مرارة في حلقه وطوال هذه المُدة أعادت "عنود" رؤيتها في الزواج وجعلتها تود ألا تختبر الأمر أبدًا ولو كانت تذوب عشقًا واحتمت بركن لتبكي أمام ما تراه، أمّا عن "روان" التي لم تتصور مدى جبروته دمعت عيناها وتوسلت هامسة:

-       أنت ازاي سايبها كده وواقف تتفرج، أنت لو متدخلتش عارف ده يثبتلك إنك لا بتتعالج ولا بتفكر ولا حتى بتعرف تحب وفي قلبك شفقة.. بجد لازم تلحقها، دي مامتك يا عمر!

 

لم تكن تكذب بينما تردد هو بين ما يستمع له، وآلم رأسه وانعدام الهواء كالمختنق بفعل سنوات متراصة  في تراكم كريه الرائحة المعبأ بذكريات ينعدم معها الهواء برئتيه ولا أحد يُدرك شلل كل ما به، من ناحية هي تستحق ما يحدث لها من ألم، تحتجزه هذه الرؤية من جانب لا تتركه ليهرب، ومن ناحية أخرى كادت أن تطبق عليه حتى يصرع كمن سقط عليه جبل، الشعور الذي يولده كل ما يراه هو الأسوأ على الإطلاق، لقد اختبره مرة عندما كان طفلًا وذاك الفتى يوسعه ضربًا، يبرحه كلمات مُزعجة وهو ليس له ذنب بهذا، لم عليه أن ينقذها من يدي والده وهو لم يجدها تعانقه لشهور تمنى لو آتت وتفقدته خلالها؟!

 

-       متضربهاش، كفاية كده يا بابا!

 

بمنتصف هذا الاختناق وبتردد عانى منه لسنوات، بين أنها لا تستحق وبين محاولته المستميتة في رؤيتها تُعذب كما تعذب هو وكما لم تكن بجانبه لم يرد قط أن يتواجد من أجلها، لم تكن له الأمان فلم عليه أن يكون؟! بعد تلك النظرات المتوسلة منها وصدق وجهها وغياب عقله تمامًا أنها هي السبب بكل ما يحدث فلقد كانت لتوها معه بعيدة عنهما، وبمنتصف مشهد تكرر كثيرًا بينه وبين والدته استقر تمامًا ليمنعه عنها!

 

نظر لهيئته وهو يخفيها بأكملها خلفه ووقف ينظر لها دون مشاعر، دون أن يوضح هو يدعم من، هو فقط أراده أن يكف، لقد عاهد نفسه يومًا ما بعد أن كاد يترك الحياة بمن فيها أنه سيفعل كل ما يحلو لها، ولو أن هذا ما تريده، ولو لم يرده هو فسيفعله من أجلها، تبًا لذاك العشق الذي يدفع المرء لفعل كل ما لا يؤمن به، سيكفر بكل شيء وسيؤمن بها وحدها، ولو كانت حتى كاذبة!

 

-       أنت بتقف قدامي يا عمر وبتزقني عشان مها؟

 

نبهته كلماته ليرى ما الذي يفعله فوجد نفسه قابضًا على ذراعي والده ولا يدرك متى وكيف حدث هذا فتركه وهو ينظر له كالشارد التائه الذي لا ملجأ له، في مهب الريح، وعاصفة قاسية ستقتله تنبعث من مقلتي والده بغضب لم يره قط:

-       مد ايدك واضربني بالمرة! نسيت نفسك ولا ايه؟!

 

اقتربت "روان" بالرغم من الشعور برعبها وهي تدعي الإصلاح ولكنها على يقين بأنها قد تتلقى صفعة، القاء بشيء ما، ربما سُباب أو كلمات مُهينة، ولكنها أوشكت على تحقيق هدفها:

-       معلش يا أنكل أكيد عمر ميقصدش يـ

-       انتي تخرسي يا بنت الكـ

-       اياك يا بابا!

 

قاطعها "يزيد" ليقاطعه "عمر" بغضب، لا أحد يعتصر قلبه أمام عيناه وينتظر منه أن يقف ويشاهد، قد يتركها تفعل هي ولكن ليس سواها، وسيمنع تلك اليـ ـد التي كادت أن تصفعها، ولو اضطر أن يقطعها سيفعل ولو كانت يـ ـده هو نفسه، ليته فعل يومًا ما عندما أقدم على عذابها، ربما لكان وضعهما أفضل الآن ولو بقليل!

 

-       آه بقا، ده أنت بقيت زيك زي ابن مها

-       وهو ماله ابن مها يا يزيد، مش جبار زيك، ولا انت مبيعجبكش اللي يتقي الله، شوفت، اهو بعد العمر ده كله عمر وقف في وشك، يا خيبتك في تربيتك ليه، اهو طلع لأول مرة عنده دم وبيحس مش زيك!

 

لوهلة شعرت أنها تتنفس وهي تقف خلفه تحتمي وهي تقول تلك الكلمات بصياح بين نحيبها وأقبل مرة ثانية يحاول أن يحصل عليها من خلفه ليذيقها المزيد فمنعه "عمر" عنها لتصيح متابعة:

-       والله أنا ما قعدالك في البيت ده ثانية بعد سنين العذاب دي كلها

-       طب ابقي اعمليها كده يا مها وشوفي مين اللي هيلمك في بيته ويحاول يعصاني

 

احتبست أنفاسها وتوقف بكائها وقالت له وهي تشعر بالانتصار:

-       أنا هروح اقعد مع عمر في بيته، متنساش بقا تبقا تضربه، ولا اقولك، وريني هتعمل معاه ايه!

 

صُدم "عمر" والذهول احتل وجه "يزيد" الذي التقت عيناه بعيني ابنه واستغربت "عنود" ما يحدث لدرجة اوقفتها عن البُكاء أم عن "روان" فلقد أُثلج صـ ـدرها بما تراه لتتجه نحو والدته وهي تربت عليها وتهدئها:

-       خلاص يا طنط متعيطيش، حضرتك تنورينا في أي وقت!!

 

لم تكترث بها وهي تربت عليها وأخبرته من على مسافة بقهر وهي تشعر بكل دمائها تغلي بجـ ـسدها:

-       روح ربنا ينتقم منك ويهدك وياخدلي حقي منك على حياة عيني واشوفك مذلول واتشفى فيك يارب!

--

بعد مرور ثلاث ساعات..

خرجت ترتدي رداء الاستحمام وتلف شعرها بمنشفة صغيرة وتشعر براحة غريبة تريد أن تجعلها تنام حتى عصر يوم غد، الهدف الأول في مرمى "يزيد الجندي" له مذاق رائع، استرخاء وانتصار سيؤهلها لتسديد الهدف الثاني بمنتهى التركيز.

 

استمعت لباب الغرفة وهو يُغلق فأدركت أنه قد آتى لتوه، يا تُرى ما الذي فعله بهذا الوقت؟ هل تحدث لها؟ هل أصبح لديها القليل من العقل لتكسبه في صفها؟ هل أخبرها بأنها لن تتعرض لهذا لطالما كان متواجدًا؟ هل خاضا معًا أي حديث حتى ولو عابر بين أي ابن وأمه؟!

 

منذ سنوات..

دخلت غرفة والدتها لتراها بنفس هيئتها، ذابلة شاحبة وكأنها ستظل هكذا طوال عمرها، لا تفعل أي شيء يدل على الحياة، مجرد رؤيتها بهذه الآونة الأخيرة تجعلها تتذكر كل شيء من جديد، وكأنها لتوها استمعوا لخبر وفاة والدها، لا تتدري هل تتألم أنه لم يعد بجانبهم أم تتألم لألمها هي وكأنها اعتزلت كل شيء له علاقة بالحياة.

 

-       مامي حبيبتي، مش هتيجي تفطري معانا قبل ما أروح الشغل؟

 

رفعت عيناها نحوها بينما جلست "روان" بجانبها على فراشها وحاولت أن تبتسم رغمًا عن كل هذا الحزن الذي بات مسيطر على أيام هذا المنزل الذي ذهب صاحبه بلا رجعة وأمسكت بيدها وهي تلاطفها بإبهامها ثم أخبرتها:

-       عشان خاطري يا مامي أرجوكِ سيبي اوضتك بقا وابتدي اطلعي اقعدي معايا أنا وبسام، هتسبينا كده من غيرك ومن غير بابي؟

 

امتلأت أعين "روان" بالدموع التي لم تسمح لها بالفرار بعد ولكن والدتها لم تتحمل مجرد الكلمة بأنه لم يعد متواجدًا بينهم وتواترت دموعها دون تحكم منها لتتكلم بقهر بين بكائها:

-       عايزاني أشوف آخر مكان شوفته فيه، أنا حاسة إن لسه ريحته حواليا هنا في الأوضة في كل مكان.

 

حاولت كتم دموعها ولكنها لم تستطع فعانقتها لتبادلها الأخرى وكلتاهما تتمسكان ببعضهما البعض بشدة ولم تدرِ ما الذي لو قالته سيخفف عنها ولو قليلًا لتجدها تتابع:

-       أنا حاسة إن الحياة وقفت من غيره، مش عارفة مين اللي هيقدر يخلي للحياة روح غيره، مش عارفة لا أكل ولا اشرب ولا انام ولا اصحى من غير ما أعرف إنه هيبقا موجود، مش عارفة مين هيبقا مكانه في الشغل، مين هيبقا جانبك أنتِ غيره، وبسام حبيبي اللي ملحقش يقعد معاه قدنا مين هياخد باله منه ويطلعه زيك كده..

 

نظرت بوجهها وهي ما تزال قريبة منها وجففت دموع كلتاهما ثم حدثتها بإصرار:

-       سيبي الشغل عليا كله، أوعدك عمرك ما هتحسي إن فيه حاجة في الشغل غلط أبدًا، بابي علمني كل حاجة، وبسام أنا هاخد بالي منه معاكي، بس احنا الاتنين عمرنا ما هنقدر نكون كويسين طول ما أنتِ بعيدة عننا كده.. أوعدك يا مامي هاعمل كل اللي أقدر عليه، أنا عارفة إن بابي عمره ما كان هيبقا مبسوط لو شافنا في الحالة دي، بس عشان خاطره وعشان خاطرنا حاولي شوية تكوني معانا..

 

أومأت الأخرى بالنفي ودموعها عادت من جديد لتبدو وكأنها لن تنتهي أبدًا وعقبت بقلة حيلة والحزن ينتقل بكل حرف أهلّها لسانها للنطق به:

-       مش عارفة يا روان أعيش الحياة من غيره، مش عارفة.. أنا بقيت مش عايزة حاجة من الحياة طول ما هو مش موجود فيها.. بقيت أتمنى اروحله النهاردة قبل بكرة.

-       لا يا مامي مش هتبقي انتِ وهو، عايزة تسبيني أنا وبسام لوحدنا؟!

 

رفضت ما تقوله ثم نهضت بانزعاج وهي تحدق بها لتقول بحزن حاولت أن تتغلب عليه:

-       مامي ارجوكِ متسبيش بسام في الوقت ده هو محتاجك وانتِ هتلاقي فيه جزء من بابي، وأنا أوعدك كل المسئوليات والشغل مش هتحسي بيها خالص وبكرة تشوفي أنا كلامي صح ولا لأ! بس لا أنا ولا بسام هنقدر نستحمل عدم وجودك جانبنا!

 

عادت من تلك الذكرى الحزينة التي تشعر وكأنها مرت منذ آلاف السنوات وليس سنوات تعد على أصابع اليد فقط، هل يا تُرى خاض مع والدته حديث كهذا في حياته بأكملها؟ لا تظن ذلك على الإطلاق!!

 

أخفضت منشفتها واتجهت لكي تجد ملابس مريحة للنوم فلقد تأخر الوقت ولابد من أن تخلد للنوم لتجده يقف بجانب باب غرفة الملابس فنظرت له بلمحة عابرة فأدركت أنه ينتظرها ويود قول شيء ما فبدأت هي باستفسارها عما يُريده:

-       خير، عايز حاجة؟

 

تفقدها مطولًا وهو لا يدري أعليه أن يعاتبها؟ يغضب عليها وينقل كل تلك الزوبعة بداخله لتنعكس عليها هي وحدها؟ أم يتركها لتفعل كل ما يحلو لها فما رأته بالفعل ليس بهين على الإطلاق؟!

 

-       دلوقتي عدي تحت جه أول ما أنتِ ما طلعتي.. شوفي هتحتاجي إيه من هنا وممكن اخلي السواق يطلع ينقلهم وتروحي تباتي في بيتي اليومين دول لغاية ما نشوف هنعمل إيه في اللي أنتِ عملتيه ده! مفيش اوضة غير دي دلوقتي جاهزة عشان يتقعد فيها..  

 

رفعت حاجبيها بسخرية ثم تناولت سروال قصير من الستان لترتديه أسفل هذا الرداء ووقفت مولية ظهرها نحوه لتدع الرداء ليسقط أرضًا ثم تناولت القميص المماثل لهذا السروال ليتابع ما ظهر منها ليشعر بأن غضبه يزداد لمواصلتها ما تفعله وكأنه لم يقل شيئًا ثم وجدها تتوجه لتقف أمام المرآة وأوقدت مجفف الشعر لتجفف شعرها به، ودون أن يدري هو وبكل ما تعلمته منه كانت تُكسب نفسها وقت للتفكير وبعد القليل من الدقائق أطفأت مجفف الشعر عندما قارب شعرها على الجفاف بالكامل ولن يتبقى به سوى قطرات قليلة من المياه ثم التفتت له وقالت:

-       بيتك صغير أوي، ده الـ dressing room هنا أكبر منه كله، روح أنت هات حاجتك أنا مش هسيب بيتي واطلع برا.

 

حاول السيطرة على نفسه لكي لا يذهب لها ويقوم بأمرٍ ما يحثه عقله أن يفعله ليرفض قائلًا:

-       انجزي يا روان الوقت أتأخر، عدي مش هسيبه يقعد هناك وسط الورق بتاعي وكل حاجتي..

 

سكبت من هذا المرطب ثم جلست على مقعد جلدي لتوزعه على ساقيها ورفعت عيناها له وهو يرى الشماتة واضحة بعسليتيها وكلمته بنبرة استفزته للغاية:

-       مش مُشكلتي، لم أنت حاجتك، أنا عمري ما اتعودت اقعد في بيت ضيق مفيهوش حاجتي، مامتك تحت في اوضة مامي وعنود في الأوضة اللي كانت قاعدة فيها وأنا وأنت هنا.. عدي يطلع ينام برا، مش مشكلتي.. وكفاية رغي النهاردة عشان تعبت وصدعت وعازة أنام..

 

اتجهت لتضع بعض المرطبات على وجهها ويديها فاستمعت صوت الباب العالي الذي يبدو وكأنه نجا من أن يهشمه بأعجوبة فابتسمت بخبث لتجد نفسها تضحك عاليًا رغمًا عنها وهي تتذكر كيف يبدو وكأنه طفل صغير لا يعرف ما الذي عليه فعله وسرعان ما توقفت عندما عادت من جديد لتتذكر لم فعلت هذا، هذا اللعين هو السبب في كل ما تحول له "عمر" في خوف "عنود" في سلبية والدتهما، ولتلك الكراهية الواقعة بينه وبين "عدي" منذ الأبد، لو فقط كان لديه والد آخر لكان أفضل الرجال، كان عليه أن يبتعد عنه منذ سنوات كثيرة، ولكن أن تصل متأخرًا أفضل من ألا تصل أبدًا!

--

-       حلو البيت ده.. محندق وصغنن كده، مش لايق عليك بصراحة!

 

كظم غيظه وحاول أن يجمع بقية أشيائه في صمت دون الالتفات لذاك الغضب الذي تزايد بما سمعه من تعليقات "عدي" التي لا يكره أكثر منها وأخذ يعبأ تلك الحقيبة بنظام شديد بملابسه المطوية بعناية واستمر بصمته وأخذ الآخر يتفقد بقية هذا المنزل الصغير وألقى بنفسه على الفراش واستند برأسه على يـ ـديه ثم سأله:

-       أنت قاعد لواحدك وهي لواحدها ولا إيه؟ مجتش أنا كتير بعد ما رجعتو لبعض!!

 

لم يُجبه ووقف موليًا ظهره إليه ثم أخذ يرص بصندوق كل ما انتشر على مكتبه من أوراق هامة عليه أن يُرتبها بنفس التنسيق مجددًا ولكنه لا يعلم أين وكيف ومتى، لماذا حدث كل ذلك؟ ومتى سيكف هذا الكريه عن التحدث والثرثرة؟

 

-       بس من امتى يعني عمر ياخد صف ماما ويدافع عنها قدام يزيد الجندي لا ويجبها بيته كمان؟ ايه الحنية والرجولة المفاجأة دي؟

 

ترك الصندوق على مكتبه ثم التفت نحوه وقد فقد بالفعل آخر ذرات صبره وسيطرته على نفسه ألا يفعل شيء دون تفكير ووجد نفسه يلكمه بقوة بوجهه لينظر له الآخر بغضب ليحدثه منزعجًا باستنكار:

-       اتضايقت اوي ولا زعلان عشان الكل واخد باله إنك عيل والجدعنة والرجولة متطلعش منك؟

 

لهث "عمر" بغضب وهو يحاول عدم قتله بشيء ما حوله، ركن المطبخ ليس ببعيد ويحتوي على عدة سكاكين حادة ستصرعه قبل وصول الإسعاف، ولتبكي "مها الجندي" على فقده للأبد، أو لتجلس بجانب قبره حتى يواري جـ ـسجها التراب بجانب جثمانه المتعفن، لا يكترث لأي منهما!

 

سدد له الآخر نفس اللكمة بنفس القوة ثم صاح به:

-       لما أنت قادر من سنين سبتها ليه لأبوك يبهدلها وأنت عارف إنها ملهاش ذنب؟

 

التبرير والإجابات معناها أنه يكترث، هو لا يفعل ولن يفعل، لا يريد أن يبرر له، ولم لم يفعل هو؟ هل خوفًا؟ هل لأنه لا يدري عن أي لعنة يتحدث؟ أم لأنه جبان ولا يستطيع فعل شيء سوى أن يتلقى التدليل من والدته وكأنه وُلدَ من أجل هذا؟!

 

أطبق عليه ليدفعه للحائط وبدأ في تسديد اللكمات له دون كلمات ودون تبريرات واهية، بم سيستفيد؟ وكيف سيتفهم ما الذي حدث له بعد حياة كاملة لم تمثل له خلالها "مها الجندي" سوى عبأ وألم وببساطة سبب لأسوأ ما في حياته، ربما لو كانت ماتت لكان أفضل له وللجميع!

 

لم يقف "عُدي" لكي يُشاهد نفسه يتلقى تلك اللكمات، بل بدأ هو الآخر في الدفاع عن نفسه والتحم كلاهما بصراعٍ بالأيدي لن يكسبه أي منهما!

 

-       أنتو اتجننتوا، أنتو بتعملو ايه؟

 

صاحت "عنود" التي رأتهما يتقاتلان وكأنهما غريبان، أو بالأحرى عدوان لا ينتسب أي منهما للآخر بالدماء التي تربط بينهما!

-       يا عمر كفاية، وأنت يا عُدي ابعد عنه!

 

حاولت أن تمنعهما بينما لم يستجب لها أي من أخويها واستمرا فيما يفعلاه لتحاول المنع بينهما بخوف أن تتلقى لكمة طائشة ثم عاتبت "عمر" وهي تشارف على البكاء:

-       ايه هتضربني تاني وهترجع تقولي مكنتش اقصد؟!

 

توقف لاهثًا وهي يتفقدها بملامح منهكة وغاضبة ووجه يتضح به تلك اللكمات فجذبت "عمر" لكي يذهب معها للخارج بينما قالت لكلاهما:

-       بقا أنتو اخواتي الكُبار اللي المفروض تكونوا سند ليا، والله انتو الاتنين ما عندكم دم!

 

انتزع يـ ـده منها وهو يتجه للخارج ولا يرى من شدة غضبه أمامه ولا يعرف ما الذي سيفعله لتحاول "عنود" أن تهدئه قليلًا بالرغم من أنها تُحمله جزء من الخطأ وبنفس الوقت لامت نفسها على ما تفوهت به منذ لحظة واحدة مضت:

-       أنت إيه اللي وداك عنده أصلًا؟

 

لمحها بطرف عينيه وأشعل لفافة تبغ تناولها من جيبه وأجابها باقتضاب:

-       كنت بلم حاجتي عشان يترزع هنا!

 

لان قليلًا عندما وجد "فينوس" تمسح رأسها بساقه ليتنهد وهو لا يدري ما الذي سيفعله لاحقًا بعد أن أصبح فجأة يعيش بصحبة أكثر اثنان أراد الابتعاد عنهما طوال حياته لتخبره أخته برفق:

-       طيب خلاص أنا هجبلك حاجتك وروح بس اقعد شوية واهدا وابعد عن عدي خالص..

 

كاد أن يمتثل قولها ولكنه التفت وأوقفها بعد أن أخذت عدة خطوات في طريقها للعودة لتحضر له ما يريد فسألها:

-       هو ايه اللي حصل بين بابا وماما خلاهم يتخانقوا؟

 

ابتلعت قبل أن تلتفت له واجابته بارتباك:

-       عادي يعني يا عمر، العادي بتاعهم، هم يعني اول مرة يتخانقوا؟!

 

سؤالها الساخر لم يُجبه فاقترب منها وهو يتفحصها متناولًا أنفاس من لفافة تبغه ثم أعاد سؤاله بتفصيل ممل يُريد إجابة واضحة عليه:

-       ايه اللي فتح الخناق ما بينهم؟ أنا كنت سايب بابا خارج من المكتب هادي وفجأة سمعت صوتهم، مين اللي بدأ الموضوع، هي ولا هو؟

 

حاولت التملص من الحقيقة وهي تقول بتوتر:

-       معرفش أنا لقيت ماما فتحت موضوع الورث بتاعها، أنا كنت مش موجود كنت بعمل لبابا قهوة في المطبخ وجيت لاقيتهم كده!

 

ضيق عيناه وهو يتفحصها ولا يُصدق حرف مما يستمع له، ليس من المنطقي أن تبدأ "مها الجندي" بالتحدث في أمر لن يقبله والده وهو لتوه كان غاضبًا ويصيح بابنته و "عدي" ليس معها ليدافع عنها، هذه ليست طباعها، لا تملك الجرأة ولا الشجاعة حتى تفعل ذلك، وأخته تبدو متوترة وكأنها تخفي شيء ما ولا تستطيع الكذب ببراعة على ما يبدو، ما الذي حدث وهو لا يعلمه؟!

 

أعاد سؤالها مرة أخرى بقليل من القسوة يستطيع أن يستدعها وقتما شاء:

-       عنود إيه اللي حصل بقولك والموضوع اتفتح ازاي؟

 

نبرته تلك وتحديقه بها فزعها وكأنما نسخة من والدها تقف أمامها فشعرت بالخوف وكأن كل رفقه معها بالآونة الأخيرة لم يكن ولم يحدث ولم تمر مواقف جيدة له معها وأخذت خطوة للخلف وهي تنطق بكل ما حدث دون كذب وليحدث ما يحدث فهي لن تعود قط لمنزل "يزيد الجندي" مهما كان:

-       بصراحة بقا أنا اللي قولت قصاد بابا إن خالتو اتصلت وسألت على ماما عشان تكلمها عن موضوع الأرض بتاعتهم، وأنا كنت قاصدة عشان يتخانق معاها، وروان قالتلي أعمل كده عشان تدخل أنت ما بينهم بس معرفش ازاي ماما قالت انها هتسيبله البيت.. ده والله كل اللي حصل ومش بكدب في كلمة.. الله يخليك يا عمر أنا اتخنقت من القاعدة مع بابا، بلاش تخليني أنا وماما نرجع، أنا مبقتش قادرة استحمل إني اشوفه معدي جانبي ولو من بعيد حتى ولا عايزه اسمع صوته وهو بينده عليا، أنا خايفة أوي يفركش الموضوع بيني وبين يونس.. اتصرف ربنا يخليك، عدي مش هيعرف يعمل حاجة معاه ولا أنا ولا حتى ماما، الوحيد اللي بابا ممكن يتكلم معاه هو أنت ومبقاش حد فينا مستحمله بعد كل السنين دي.




 يتبع..


إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة بتول طه لا تنسى قراءة روايات و قصص أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية


رواياتنا الحصرية كاملة