-->

رواية جديدة كما يحلو لها لبتول طه - الفصل 58

 رواية كما يحلو لها

الجزء الثالث من رواية كما يحلو لي بقلم بتول طه

رواية جديدة كما يحلو لها

تنشر حصريًا على المدونة قبل أي منصة أخرى

من قصص وروايات

الكاتبة بتول طه

النسخة العامية

الفصل الثامن والخمسون 


جلس بالقرب منها يراقبها وهي نائمة لا يعرف ما الذي عليه فعله الآن، أيقوم بإطباق يـ ـديه حو عنقها إلى أن تفشل في التنفس أم يعانقها ليخبرها أنه نادم على كل ما سببه لها منذ أن رآها بمكتبه وحتى هذه اللحظة؟!

 

أعاد نظره من جديد لهاتفه وإبهامه يتردد أن يمـ ـس الاتصال بوالده، ما الذي عليه أن يقوله له ولا حتى يعرف كيف فعل ما فعله بعد أن استمع لكل تلك الكلمات من والدته التي آتت من خلفه مباشرة لتنطلق صوب والده لتستقر على اذنيه وكأنها صدمة مفاجأة لم يعد مُسبقًا لها.

 

منذ ساعات مضت..

-       أنا هروح اقعد مع عمر في بيته، متنساش بقا تبقا تضربه، ولا اقولك، وريني هتعمل معاه ايه!

 

صُدم "عمر" والذهول احتل وجه "يزيد" الذي التقت عيناه بعيني ابنه واستغربت "عنود" ما يحدث لدرجة اوقفتها عن البُكاء أم عن "روان" فلقد أُثلج صـ ـدرها بما تراه لتتجه نحو والدته وهي تربت عليها وتهدئها:

-       خلاص يا طنط متعيطيش، حضرتك تنورينا في أي وقت!!

 

لم تكترث بها وهي تربت عليها وأخبرته من على مسافة بقهر وهي تشعر بكل دمائها تغلي بجـ ـسدها:

-       روح ربنا ينتقم منك ويهدك وياخدلي حقي منك على حياة عيني واشوفك مذلول واتشفى فيك يارب!

 

استمع لتلك الأنفاس التي تغلي بخلفه وتلك الأخرى التي شابهت لهيب يأتي من فوهة بركان متأجج بينما واصلت والدته:

-       ماشي يا يزيد، أنا هوريك، هاروح اقعد مع ابنك حبيبك ومراته اللي أنت مش طايقها، مش هو ده ابنك اللي سمحتله يعمل كل حاجة على مزاجه، ابقا رجعه بقا يقعد جانبك هنا، متنساش تبقا تيجي تضربنا كلنا في بيته ده لو ليك وش تدخله!

-       خلاص يا طنط اهدي لو سمحتي وبطلي عياط، هنعمل كل اللي حضرتك عايزاه تعالي بس معايا دلوقتي!

 

ها هي فرصتها قد أتت لها على طبق من ذهب فهي لطالما ودت أن تراه وتراها كأم وابنها، سيريها حقًا هذا الذي اشتاقت له وكيف تبدو "مها الجندي" بصحبته، يقسم أنه سيفعل كل ما يحلو لها وتاقت له وتحدثت عنه دون علم منها، ولكن تلك النظرات من والده لم ترأف به قط، وصوته الذي تحول مائة وثمانون درجة من ذاك الغضب لهذا الهدوء القاتل وهو يسأله:

-       أنت هتاخد أمك بيتك؟

 

شعر بالتخبط وهو لا يدري ما الذي عليه قوله له واجابه بارتباك:

-       بابا، يومين بس لغاية ما الدنيا تهدا وأنا بنفسي هـ

-       لغاية ما الدنيا تهدا؟ ده بدل ما تلمها وتعرفها غلطها؟

 

قاطعه بينما كاد "عمر" أن يقنعه بمزيد من الكلمات ولكنه منعه:

-       خدها، وماله، بس مالهاش دخول هنا تاني، ولو حصل أنا هقطعلها رجلها بنفسي.. غور أنت وهي ووريني هتعمل مع الكلبة دي ايه!

 

تركه وغادر ليحاول أن يتبعه فأوقفته "عنود" وهي تتوسل بأعين باكية خوفًا:

-       أرجوك يا عمر متسبنيش هنا معاه، مش هاعرف اقعد معاه لواحدي، خدني معاك أنت وماما أنت عارف إني بترعب منه وهو هيطلع عليا كل ده وهيفركش جوازي من يونس!

تبًا، لماذا لم يمت؟ لماذا لم يكن واحد من تلك الأجنة التي ماتت في رحم أمه؟ لماذا لم يكرهه كلاهما ولماذا تم اختياره ليُصبح الابن البكري بهذه الأُسرة؟ هل يُمكن أن يبدل دوره ليُصبح "عنود" بدلًا من كونه "عمر يزيد أكمل الجندي" الذي عليه أن يتحمل كل شيء؟

 

ذهبت عيناه من جديد ليتفقد تلك الجميلة النائمة، هذه إلاهة التي أتت لتقف أمام مكتبه لتغير قدره الذي ظن أنه امتلكه وقرره ورسمه بنفسه، ماذا عليه أن يفعل الآن؟ يريد أن يتركها لتفعل كل ما يحلو لها، ولكن لماذا تلاعبت به وبوالده؟ أبعد كل هذا العمر عليه أن يُصبح عدوه الآن؟ لقد قارب على السادسة والثلاثين من عمره، أسينهي علاقته مع والده للأبد بسببها؟ لماذا دائمًا تحكم عليه بالأصعب؟

 

فتحت عيناها عندما شعرت ببرودة شديدة ظنًا منها أنها نست تكييف الهواء ولكنها فوجئت بتلك الدموع التي تنهمر على وجهه والتي سرعان ما جففها وتحول وجهه للغضب الشديد وهو يُكلمها بنبرة آمرة:

-       قومي من هنا ونامي على الكنبة!

 

تفقدته بنعاس ثم أغمضت عيناها واقتربت منه لينزعج مما يحدث ومن خبثها الذي تبالغ به معه ولكن بمجرد استقرارها على صـ ـدره العا ري برأسها وهمسها له تراجع تمامًا عن كل ما به من غضب:

-       متزعلش واطفي التكيف وسبني أنام!

 

تنهد وهو يخفض عيناه نحوها ولم يعد يدري ما الذي سيفعله سواء معها ولا مع والده ولا بحياته التي لم يعد هناك طائل من الاستمرار بها سوى من أجلها وحدها، لتنم بالقرب منه، هذا أفضل من نومه على الأريكة على كل حال، لقد قصد أن يأتي هنا لكي يستفزها ولكن يبدو أنه يتألم بكل ما يُزعجها، لقد وصل إلى درجة من الهوس بها، وإدمان كل ما يحلو لها حتى ولو كان هذا معناه الجحيم الأبدي له.

 

مد يده ليتناول جهاز التحكم عن بُعد وأطفأ تلك البرودة التي يحتاج لها لتسكين نيران غضبه، لم يعد يتجرأ على عصيانها، لم يعد الأمر كما يحلو له، عاهد نفسه أن يفعل لها كل ما تريده ولو كانت حتى مجرد رغبة تافهة طفولية بالانتقام.. ولينهل قليلًا بهذا العناق قبل أن يبتعد عنه للأبد في لحظة من سلامٍ زائف وعشق تهرب بفعل سطوة نعاسها عليها!

--

في صباح اليوم التالي..

جذبت حقيبة يدها وهي تتجه للخارج فلقد أصبحت العاشرة صباحًا ولا تريد أن تتأخر عن عملها مجددًا اليوم فيكفي أمس بالكاد قضت ساعات قليلة بعملها، وعليها أن تعود مبكرًا كذلك فهي لم تنتهِ بعد من صراعها مع "يزيد الجندي" ولديها عدة أهداف لتسددها بمرماه.

 

ذهبت للأسفل بينما وجدت "عمر" يجلس أمام حاسوبه لترفع عيناها بتعجب فهي لم تر هذا المشهد من قبل ويبدو أنه يجري مكالمة ما قد يكون اجتماع وقد يكون شيء آخر، هي لا تعلم ما الذي يفعله، ولكنها ابتسمت ومرت أمامه واكتفت بتفقده بنظرات مستمتعة ولا بأس من حديث قصير ستجريه معه لضمان هدوئهما الظاهري فقالت بعد أن اقتربت منه:

-       صباح الخير.

-       ثواني..

 

أخبر من يتحدث له وفعل خاصية كتم الصوت لكي لا يستمع الطرف الآخر لما يتحدث به ولم تكن لتظن ما يفعله أبدًا بهذه اللحظة تحديدًا ولكنها ما زالت تُنكر بينها وبين نفسها أنه يُمكنه أن يتغير كل هذا المقدار واكتفى أيضًا بتفقدها بوجوم يتضح على تعابير وجهه بعد أن أزال سماعات رأسه وتريث لتعرف ما الذي تريده فتنهدت وهي تلمح بعينيه حزن غائر ولكن هذا ثمن ما فعله بها فقررت أن توجز حديثها:

-       أنت مش رايح الشغل النهاردة؟

-       رايح!

 

إجابة باقتضاب، أمر جيد ومخيف في نفس الوقت، حسنًا لتبتعد إذن وتتركه وشأنه:

-       أوك، ابقا أرجع بدري عشان نتغدا كلنا سوا ولا عايز باباك يوصله الصورة الحلوة؟!

 

أبعد عيناه عنها وتظاهر بالانشغال بينما أجاب باقتضاب:

-       لما أشوف!

 

بمجرد أن تأكد أن سيارتها تحركت وهي بداخلها تابع حديثه لمن كان يتحدث معه ولم تكن سوى "مريم" التي إن لم تُلهي عقله بأمرٍ ما لا يستبعد نوبة اكتئاب جديدة قد تضرب به وهو لديه الكثير مما لا يتحمل رفاهية تقلباته المزاجية:

-       معاكي.

-       أنت الل كنت بتتكلم يا عمر، كمل!

 

تذكر أين انتهى بحديثه فتابع:

-       المواقف اللي بتحصل دي كلها بتحسسني إني هتعرض لاكتئاب تاني ومش هعرف اسيطر عليه، أنا مش عايز اخسر بابا أبدًا، ولا هقدر امنع روان.

 

استغلت الفُرصة ثم سألته:

-       هو موقف زي اللي حصل امبارح ده كان بيحصل كتير؟

 

اجابها باقتضاب فهو في غنى عن سرد المزيد:

-       اه!

 

همهمت بتركيز ثم أكملت لتصل لما تريد أن تعثر عليه به وتلفت نظره إليه:

-       وتقدر تحدد مشاعرك لما بتشوف الموقف ده في العموم؟ يعني بقت بتختلف في كل فترة معينة، لما كنت صغير غير لما كبرت؟

 

عقد حاجباه ونفخ بضيق من سؤالها ولكنه حاول أن يصبر لحين الانتهاء فهو لا يبحث سوى عن حل لعين لكي لا يتعرض لنوبة جديدة ستُفسد عليه تشبثه بفترة من ثباته المزاجي:

-       وأنا صغير كان خوف، وبعدين شماتة اتحولت لفرحة بس من غير ما ده يظهر عليا، بس دايمًا بيجيلي صداع وأنا شايفهم قدامي!

 

أدركت أنه صادق وصريح ولم يعد يكذب ويراوغ معها، بعد حوالي عامان من أول مرة رأته به شعرت أخيرًا أن كل مجهودها آتى بفائدة ففسرت له:

-       بتفرح انها بتعيش نفس اللي عيشته زمان، وأنت صغير كنت بتخاف من باباك لما بيعمل ده وفاكره هيحصل ليك، بس لما كبرت كنت شمتان عشان شايفها قدامك محدش بيقدر يساعدها زي ما أنت محدش ساعدك، بس دي مشاعر سلبية كلها مرتبطة بالسا دية!

 

قلب عيناه وتنهد بنفاذ صبر لأن كلاهما على دراية بأنه لا يرى بنفسه علة ولا يقتنع أن السا دية مرض بعد فأكملت مستفهمة:

-       عمر أنت كنت محتاج الجلسة دي عشان تطلع مشاعرك السلبية وبعدين تلاقيلها حل وتوصل لنقطة أو طريقة تسيطر بيها عليها عشان متوصلكش لاكتئاب أنت مش عايزه، مش كده؟

 

همهم مجيبًا وهو ينتظر منها أن تصل لهدفها فتابعت:

-       طيب على سبيل المثال لو عمر الطفل الى محبوس فى المستشفى قدامك دلوقتى تقدر تحضنه؟ هتعرف تحس بظروفه وتهون عليه وتقوله أنا آسف إن كل ده حصلك وإنها كانت حادثة ومالكش ذنب فيها ولا في نتايجها؟   

 

فكر بالأمر مليًا، يرى نفسه مُلقى على هذا الفراش بالمشفى وأغلب الوقت لا يرى سوى وجه ممرضات أو مسئولين التنظيف الذين يرتبون المشفى، تلك الرائحة الكريهة التي ظل يستنشقها بدلًا من رائحة منزله ووالده ووالدته وكل ما يعرفه، يرى نفسه من جديد باكيًا، لا يدري هل يكره هذا الطفل أمامه ويريده أن يُصبح قويًا ويزجره عما يفعله، أم يعانقه ليهون وعليه ويتأسف له كما قالت هي؟

 

لماذا ينتبه لها وهو يُسلط كامل تركيزه وجوارحه في كل ما تقوله؟ وبم يشعر حقًا تجاه هذا المشهد؟ والآن يشتم لتلك الرائحة التي لا يشعر معها سوى بالاختناق!

 

حسنًا، هو يكره هذا الطفل الصغير الذي لم يستطع أن يُدافع عن نفسه، يكره كل ما حدث له، يكره كل ما ترتب على ذلك، وليُصيغ الأمر بطريقة أفضل، هو يكره نفسه!

 

نطق بعد تفكير مترددًا بلسان متثاقل بمصداقية ابتعدت كل البعد عن المراوغة:

-       ضعفه اللي كان فيه بيخليني أكرهه، بيخليني اشوفه ميستحقش، يمكن بيصعب عليا وبحس ناحيته بالشفقة بس مبحبوش!

-       بتكرهه عشان ضعيف ومقدرش يدافع عن نفسه قدام واحد أكبر منه في السن وأقوى منه ولا بتكره ضعفه في إنه محتاج المشاعر وملقاش حد يديهاله؟

 

صممت "مريم" أن تُحدث ولو أي اتصال بينه وبين الطفل الداخلي بنفسه، تريد لتلك المُعضلة أن تُحل للأبد، لن يواكب كل ما يحدث له في هذه الآونة وهو رجل يكره نفسه منذ أن كان صغيرًا، الآن هو يُصدق على أنه يكره تلك الصورة من نفسه، ولكنه لم يتجاوزها ولم يُسامح نفسه قط!

 

شعر بأنه يود الصراخ، أو البكاء كمثل ذلك لطفل الذي بكى كثيرًا، ولكن البُكاء ضعف، وهذا الطفل كان ضعيفًا، لا يدري لماذا عليه أن يجيب اسئلتها حتى، ولكنه قرر منذ وقت ليس بقصير بأنه لن يتظاهر معها بأي شيء:

-       مش عارف بكرهه ليه.

 

لو قامت بعمل قائمة لكل مرضاها سيحتل المرتبة الأولى في الشرود، ولكن هذا لن يمنعها عن اصلاح هذا التشتت به:

-       لو كانت مامتك جانبك، وحضنتك وهونت عليك، كنت هتحس إنك أحسن؟

-       على الأقل كنت هحس انها بتحبني وبفرق معاها!

 

القى بالكلمات بدلًا من أن يبكي أو يصرخ من هذا الاختناق الذي لم يشعر بمثله قط لتخبره هي باستفسار استنكاري:

-       والطفل ده يا عمر ميتحقش منك بعد كل اللي مر بيه وبعد كل اللي أنت مريت بيه تحضنه وتطبطب عليه وتقوله إنك آسف على كل اللي حصله؟

 

ازداد الاختناق وازدادت هذه الرائحة الكريهة بفعل كلماتها، لم يظن أبدًا أن مجرد جلسة وحيدة لكي يتجنب نوبة واحدة كانت ستصل إلى هنا حتى وصل للاستسلام التام وهو يتلكم بتثاقل وعيناه لا ترى سوى نفسه الصغيرة الباكية التي تتألم وظهره يكتوي بنيران لا تخمد وكأنا ستظل هكذا طوال عمره ثم تكلم وجـ ـسده ساقط في مقعده ومقلتيه شاردتين:

-       أنا آسف، مكنتش تستحق كل ده، متزعلش، مالكش ذنب في حاجة، كل ده هيخلص وهتبقى أحسن!

 

تركت له تلك المساحة من التفكير بينما غرق هو في ذلك المشهد، لو كان هناك من يُخبره بذلك وقتها ربما لكان تغير الكثير بالفعل، لو كان هناك مثل ذلك العناق الذي يستعد أن يعطيه لذلك الطفل لكان كل شيء أفضل الآن، لو اقتربت هي منه أو والده وكلاهما يعانقاه ويمسحان على شعره بكفيهما لكان أصبح "عمر الجندي" رجل آخر!

 

تساقطت دموعه بصمت وهو يغمض عيناه بارتباك شيئًا فشيئًا سيتحول لراحة بينما تيقنت هي أن كل هذا سيساعد في حل تلك المعضلة مع سا ديته بعد أن قام بالاتصال مع الطفل الداخلي بنفسه، وسيساعد كثيرًا في أن يرفض الأذى، يتحكم في تلك المشكلات والضغوطات دون أن يستهلكه أحد نفسيًا، وربما لو كان سعيد الحظ سيبدأ في حب نفسه ورفض ما يؤذيها، وتتمنى أن يصل لمرحلة من كف الأذى عن كل من حوله وليس نفسه هو فقط..

 

حمحمت لتستدعي انتباهه ثم سألته:

-       هو يا عمر لو مكنش فيه مواعيد، كنت هتقتل روان على اللي عملته أو هتقتل نفسك وتنتحر تاني؟

 

سيطر على بكائه وزفر بسخرية وهو يستنكر الأمر وأجاب:

-       أكيد لأ يعني.

-       طيب، ينفع عشان تطلع مشاعرك السلبية تجاه والدتك تطلعها في كل الستات حتى ولو بيريطك بيهم مشاعر او انجذاب جسدي وانت بتشوفهم بيتألمو عشان تتبسط وتتشفى بانتقامك منهم على حاجة ملهومش ايد فيها وأنت رافض الضعف اللي كان فيك زمان وأنت طفل مالوش ذنب؟

 

تبًا، ليس هذا مجددًا، وليس بهذا التفسير، ليس بهذه المنطقية، ليته لم يرسل لها أي لعنة للتحدث معها بهذا الصباح الباكر، لماذا عليه في أقل من يوم أن يعترف بأنه لم يعد يسيطر على نفسه معها، وأن والدته تحملت الكثير، بل وبأنه رجل سا دي وأن السا دية مرض يُعاني منه وأنها انتصرت هي مرة أخرى عليه؟!

أغمض عيناه وهو لا يريد النطق بها صراحةً وبعدما طال صمته سألته مرة ثانية:

-       اشمعنى امبارح روان الست الوحيدة اللي مقدرتش تؤذيها؟ مقدرتش تعاقبها وتشوف وجعها وتشمت فيها مع إن اللي عملته كان غلط كبير ووقعتكم كلكم في بعض؟

 

نظر بالفراغ وهو يبحث عن الإجابة إلى أن تحرك لسانه دون تحكم:

-       عشان هي عانت كتير معايا ومبقاش ينفع تعاني أكتر من كده، الوجع اللي اتوجعته واللي شوفته في عينيها بعينيا أنا كان كتير اوي..

 

قضم شفتاه وهو يتذكر ما رؤيتها نائمة أمس بجانبه وتكلم ببطء منتقيًا كلماته بأكثر تعبير وجده منطقي:

-       لما بشوفها العالم حوالينا بيختفي وبتبقا هي دنيتي، أنا مبقتش عارف أبطل أحبها حتى لو هتعمل فيا أضعاف اللي أنا عملته فيها!

 

اختنق صوته في النهاية ليفعل خاصية الكتم وهو يحاول أن يمنع نفسه عن البكاء الذي قد يستمر الآن في أي ثانية بعد تلك الدموع منه وشعر بالحسرة على نفسه وهو يندم أشد الندم، لو كانت معه الآن بكل ما وصل له لما كان أحس بهذه الوحدة القاسية، كيف أوصله غبائه أن يُنفي نفسه من جنتها لأرض الجحيم؟! والأقسى له أن كل ما مر به من أوجاع لا تساوي وجعه أمام علاقته بها!

 

-       عمر، يا ريت ترجع تكتب تاني، الصح صح والغلط غلط، واللي والدك عمله ده كان غلط، اعتبر نفسك كاتب وبتكتب قصة، أنا وأنت عارفين إن مامتك رافضة تصرف باباك فهي مش مستمتعة باللي حصل أكيد، والدك هو اللي بيستمتع، فطلع المشاعر كلها على الورق وباحساسك واحكم عليها كقصة أنت ملكش دور فيها، ده بيساعدك، وأنا عارفة إن الوضع دلوقتي مش هتقدر تبعد عنه، بس هتكمل في الأدوية زي ما أنت وهترجع تواظب على الرياضة وعارفة إن مشاعرنا مش زرار بندوس عليه بس أنت بنفسك جربت والموضوع جاب معاك نتيجة كويسة جدًا، وكويس إن ده حصل في وقت أنت مش بتعاني من أي نوبات فيه..

 

استغربت صمته وانعدام الصوت فنادته مستفهمة:

-       عمر أنت معايا؟!

--

السادسة مساءًا بمنزل روان..

 دخلت منزلها وبمجرد أن أغلقت الباب سمعت لصوتٍ عالي يأت من غرفة الجلوس وكأن هناك أحد يشاهد شيئًا لتجد أن والدته تجلس أمام تلك الشاشة الكبيرة التي لا تظن أنها استخدمتها منذ كثير من الوقت، ربما بمنتصف وقت الجلسات التي كان يخضع لها "عمر" ولكن الضوضاء عالية للغاية، كيف تستمتع هكذا بما تراه؟!

 

-       ازي حضرتك يا طنط عاملة ايه؟!

 

سألتها بابتسامة لتتفقدها الأخرى من أعلى رأسها لأخمص قدميها ثم اجابتها قائلة:

-       بخير يا حبيبتي، ألف حمد الله على سلامتك..

-       ميرسي.. أنا ملحقتش أشوف حضرتك الصبح وأنا نازلة فملحقناش نتفق على حاجة..

 

همهمت لها دون اكتراث فلم تفهم لماذا ترد بهذه الطريقة، بل كيف ستحاول أن تنجح بما تريده مع هذه المرأة؟ هل هذا الصوت سيستمر طوال مدة اقامتها هُنا؟ حسنًا.. لتركز فقط على ما تريد الوصول له ولتتصنع الود ليس إلا..

-       حضرتك اتغديتي؟

-       أنا بتغدا مع عدي لما يرجع.

 

استغربت لماذا تجيبها وكأنها لا تريد التحدث معها فاقتربت "روان" بحماس مزيف وسألتها:

-       طيب قوليلي حضرتك تحبي تتغدي ايه وأنا اعمـ

-       حبيبتي لما المسلسل ده يخلص نبقا نتكلم ونشوف الغدا!

 

قاطعتها بلمحة سريعة ثم سلطت تركيزها على الشاشة ونبرتها تفتقر لأي نوع من أنواع التقدير بأنها تريد أن تتفقد حالها بل وتُكلمها وأنها مُزعجة، بل وكأنها ليست لها أهمية على الإطلاق، ولكن لا، لن تخسرها الآن بعد كل ما وصلت له بأعجوبة:

-       تمام يا طنط هاجي لحضرتك كمان شوية!

 

مشت ولم تر كيف تفقدتها "مها" بتهكم وهي تتفحص كل ما بها بينما وجه "روان" تحول مائة وثمانون درجة للغضب الشديد بعد ودها المُزيف واتجهت لغرفتها وأغلقت الباب بعصبية بالغة واتجهت لغرفة ملابسها وأول ما لاحظته هو التغير في حقائبها وترتيب بعض الأشياء!

 

أطنبت النظر لتجد أن ساعات يـ ـدها وكأن هناك من عبث بترتيبها كما أن تلك الصناديق التي تحتوي على حُليها ليست بنفس التنسيق الذي تركته عليه صباح اليوم، ولكنها بالطبع تعرف من الذي قد فعل هذا، ولن تتركه وشأنه، سيعود حتمًا عاجلًا أم آجلًا وستمنعه عن تلك العادة، فهي لم تنس قط كيف كان يسمح لنفسه بالعبث في حقيبتها واخفاء هاتفها وقتما يحلو له!

 

ولكن أولًا عليها أن تثبت لوالدته أنها تعشقها، لا تريد لها إلا الخير أين ما حلت، ولابد لها من أن تتيقن أن كل شيء بيد "عمر" ويستطيع أن يصل مع والده لكل شيء، وقد يساعدها في استعادة ارثها وإيراداته السنوية، لتبدل ملابسها وتصنع الطعام ثم ستترك تصرفاته الطفولية تلك جانبًا الآن!

--

في نفس الوقت..

تردد وهو لا يدري هل سيستجيب له أم لا، هل سيُقدر تواجده، كلماته، أي من مشاعره أم سيظل يرى أن مشاعر الرجل ضعفًا مهما فعل، مخاطرة كبيرة هو يعرف ذلك ولكن عليه أن يُريح نفسه من تلك المُعضلة، لعله يقتنع أنه يُعاني حقًا، ستكون آخر تجربة له معه، بعدها سيتحدد الكثير.

 

قام بفتح الباب ثم أعاد المفاتيح إلى جيبه ومشى حتى ذلك المقعد الذي يجلس عليه وحدثه قائلًا:

-       ازيك يا بابا، عامل ايه دلوقتي؟

 

تفقده الآخر واجابه بتهكم:

-       هو انا كنت مجنون ولا بشد في شعري، ما أنا كويس اهو.

 

ابتلع وهو يجلس بالقرب منه في مقابلته تمامًا وأخبره:

-       أنا امبارح غصب عني حصل اللي حصل، حسيت بخنقة وحسيت إنك أنت وهي هتفضلوا كده، أنت كبرت يا بابا وهي كمان كبرت، لو هريحك إنك تبعد عنها خلـ

-       يرحني؟ حد قالك إني مش مرتاح ولا قولتلك تعالى الحقني؟

 

قاطعه ليتعجب "عمر" من سُخريته ليفاجئه والده سائلًا:

-       ويا ترى اللي ممشياك هي اللي قالتلك تجيلي ولا أمك خايفة فبعتاك تعرف الأخبار؟

 

تفحصه والده ليحزن من طريقته تلك واجابه بمصداقية:

-       بابا أنا جايلك عشان مش عايزك تزعل مني، أنت أقرب واحد ليا في الدنيا دي من يوم ما كنت طفل لغاية ما بقيت راجل وفاهم كويس أنت عملت عشاني ايه طول عمرك.

 

التوى فم "يزيد" بمزيد من التهكم واجابه بصوتٍ أجش:

-       مش بقيت راجل وكبرت ولميت اخواتك وأمك ومراتك في بيتك، شيلهم بقا للآخر ووريني الراجل الكبير الشهم هيعمل ايه وابقا فرح أمك بعيل يسندك يوم ما تكبر زي ما ابني سندني!

 

ازداد حُزنه من تهكم والده وشعر بالخيبة الهائلة وهو يتلقى منه تلك الكلمات، لو كانت "روان" ستتركه من سيتبقى له؟! ألن يتنازل "يزيد الجندي" من برجه وسيأتي له ولو زيارة في سِجنه مرة واحدة؟!

 

حمحم وحاول السيطرة على تلك المشاعر التي لا تتوقف عن الاندفاع بداخله وأخذ كلماته على محمل الجد وسأله بجدية ونبرة خافتة:

-       يعني مش زعلان مني؟!

 

تفقده والده بأعينه التي يعرف أنها لا يخرج منها هذه النظرة إلا عندما يستحسن شيئًا واجابه:

-       هزعل إن ابني يبقا ممشي بيته وشايل مسئولية وبيروح شغله، يا ريتك كنت كده من زمان!

 

حسنًا، عقله كأسلاك كهرباء تقارب على الانفجار الآن بأي لحظة، هو لا يفهم شيء على الاطلاق!

-       بابا هو حضرتك بتهزر مش كده؟

 

نظر له بجدية شديدة واجابه بسؤال استنكاري:

-       وهو انا من امتى بقلل منك وبصغرك قدام حد، فاكرني زيك؟

 

عقد حاجباه بدون فهم لما يقصده والده ليقرأ الآخر بسهولة هذا الشرود والتيه على وجه ابنه ليقسو بكلماته عليه قائلًا:

-       بطل بقا حنية وأنشف شوية، فاكر لما تيجي تضحك عليا بالكلمتين بتوع امبارح دول مش هفهم انها لسه مصممة على طلاقها منك، ما تكبر بقا وتفهم شغل النسوان ده، وأنت مآمنلها زي الاهبل ومش فاهم انها أول ما تسيبك هتروح تفضحك تاني، هو انت فاكرني هفضل افهمك لغاية امتى؟ ولا هافضل عايشلك لغاية ما تموت واموت انا بعدك؟ ما تكبر بقى وتوعى للي حواليك!

 

أغمض عيناه وهو يدفن وجهه بكف يده التي تستند على مسند مقعده وزفر بضيق ثم تحدث بقهر:

-       بابا افهمني أنا مبقتش مبسوط بوجودي جنبها!

 

اتسعت ابتسامة والده وهو ينظر له بعينيه دون أن يسمح لرموشه بلقاء قصير:

-       أنت لو في وسط مليون عدو ليك وهي معاهم عايزين يموتوك مش هتتردد لحظة واحدة إنك تستحمل اذاها ليك وتسيبهم عشان خاطر بس هي معاهم، لغاية امتى هتفضل سايبها متحكمة فيك وممشياك، بقا بعد العمر ده كله حب عيلة صغيرة هيخليك تضحك عليا؟ عايز تقولي إن مبقتش تحبها زي الأول واكتر كمان؟ ولا عشان بتروح شغلك فاكرني هصدقك ولا فاكر هتقدر تضحك عليا؟

 

حسنًا، لقد حاصره ويدرك أنه قد فشل من جديد، نعم تصوير والده كان حقيقي، سيتحمل منها أي شيء حتى ولو أرادت أن تفعل به الأسوأ على الاطلاق!

-       قوم امشي وروح لحبيبة القلب بس خدها نصيحة مني متخليهاش تمشيك ولا تطلقها عشان اول حاجة هتعملها هتروح تفضحك في المحاكم والبلد كلها هتضحك على خيبتك زي ما البت اللي عندها في الشغل راحت تعمل فيك بلاغ وأنا عرفت الم الليلة، أمك وأختك وأخوك لازم يعرفوا ويفهموا إنك الكبير ومفيش حاجة هتحصل في حياتهم غير برضاك وبإذنك، لو معملتش ده هيدوك على قفاك وخصوصًا أمك، انا الصنف ده عارفه كويس!

 

أدرك أنه سيذهب كما آتى، لم يستطع حتى أن ينطقها له بصوت مسموع، لم ينجح ولو بمقدار ضئيل في الاعتراف بأنه لم ينس صدماته بالشكل الكافي وأنه رجل مضطرب باضطرابي السادية وثنائي القطب، لم يقو لسانه على التحرك وتكوين جملة مفادها التوقف والرأفة به، ولكنه أخذ في الاعتبار أن والده لا يظن أن "روان" هي السبب بكل ما حدث، وسيتأكد من هذا مرة ثانية وثالثة ومائة لعدم ثقته الشديدة بتقبل "يزيد الجندي" للمرأة التي أدمنها بكل ما فيه، لم ينته الأمر هنا في هذه الزيارة وقد يتبقى لدى والده المزيد في جعبته مما لا يعرفه بعد، لحظة واحدة، عن أي بلاغ يتحدث؟!

-       بلاغ ايه يا بابا وبنت مين اللي بتتكلم عنها؟

--

بعد مرور ساعة ونصف..

-       ايه كل ده، انتِ حطيتي ايه في الأكل، وصايص اوي كده ليه!

 

لا يعجبها طعامها ولا تريد التحدث معها أثناء انشغالها الشديد بتلك الحلقات اللعينة ذات الصوت المرتفع، ما الذي تريده هذه المرأة منها؟

 

حاولت التحكم في انزعاجها وادعت الود وقالت:

-       سوري يا طنط معلش، ما انا قولت اعمل انا الاكل بدل ما اتعب حضرتك.

 

تفقدتها وهي تلوي فمها ثم أخبرتها بعد أن شرعت في جذب آنية أخرى:

-       أنا هاعمل الأكل، كده كده عدي لسه قدامه وقت على ما يجي.

 

قلبت الأخرى عيناها وهي تزفر في صوت غير مسموع وهي تصرخ بعقلها، عدي عدي عدي، ألن تدرك هذه المرأة أن هناك غيره حولها؟؟ أليس "عمر" من أحضرها إلى هنا؟ أين عقل هذه المرأة وأين مشاعرها؟!

 

-       طيب أنا عندي اقتراح، إيه رأي حضرتك اجيب chef ويعملنا الأكل واريح حضرتك خالص.

 

رمقتها بطرف عينيها وهي تُكمل اعداد بقية الطعام وردت بالرفض على اقتراحها:

-       وانا اجيب حد يلعب بايديه في الاكل اللي هناكله، اضمن منيين أنا يبقى نضيف زيي ولا حتى أكله حلو وهيعجبنا.

 

حسنًا، لماذا كل شيء تحاول أن تتحدث لها به ترفضه، يبدو أن "عنود" كانت محقة للغاية فيما قالته عنها ولكن هذا لن يجعلها تستسلم، فربما جحيم "مها" أفضل بكثير من جحيم "يزيد الجندي".

-       ما اكيد هندوق الاكل الأول يا طنط ونشوف شهادات ليه إنه كويس يعني مش عنده مرض مُعدي أو حاجة، أنا بس عايزة اريح حضرتك.

 

لم تقتنع "مها" بتلك الكلمات أبدًا واكتفت بالتعقيب باقتضاب:

-       لا انا مبسوطة كده!

 

لوهلة صرخت فكرة شيطانية بعقلها توصلت لماذا كان يضربها زوجها، فهي كتلة من الاستفزاز ولكنه تراجعت فورًا، لتقوم بطهي الطعام لمدة أعوام كما تشاء، فلتفعل كل ما تريده إذن!

 

رأت "عمر" يتجه نحو الأعلى بملابس رسمية بملامح حزينة فتبعته ولم ينتظر هو لرؤية ما الذي تُريده فلقد كان منهك للغاية وظن أنه لن يتعرض لمثل هذا الانهاك من جديد في حياته ولكن لطالما تأتي الرياح بما لا تشتهي السُفن!

 

بمجرد أن أصبحا معًا بالغرفة أوقفته متسائلة:

-       هو أنت مش هتبطل حركات الأطفال دي؟ إيه معدية في كمين ولازم تفتشني؟

 

التفت نحوها بملل وهو لا يفهم ما الذي تقصده ولكنه ليس لديه ذرة من الطاقة ليجري حتى حديث مع نفسه أو معها أو مع أي شخص أمامه.

خلع سترته واتجه نحو غرفة الملابس وقام بوضعها بنظام شديد في مكانها بينما انزعجت هي مما يفعله، يعامل كل أشياءه بمنتهى العناية وكل ما تملكه هي يعبث به، أم ظن أنها لن تلاحظ هذا؟ يا لغرور اللعين!

 

-       أنت مش هترد عليا وهتعمل نفسك مش سامعني؟

 

انتظرت متحفزة اجابته على سؤالها وهي تعقد ذراعيها وتنظر له بتحدي بينما اتجه هو نحوها وسألها دون قدرة على المراوغة:

-       فيه ايه يا روان، كمين ايه اللي بتتكلمي عنه؟

 

تفقدته ولوهلة استشعرت ثقته ولكنها تعلمت ألا تثق به بسهولة لتجيبه سائلة بطريقة مباشرة:

-       ايه اللي خلاك تلعب في الشنط بتاعتي والكوليهات وساعاتي؟

 

تقطب جبينه ببلاهة وهو يراجع ما تتحدث عنه وهو حقًا لا يعلم أي شيء تكلمت عنه وأجاب بإرهاق:

-       بصي يا حبيبتي أنا مش فاهم أنتِ بتحاولي توصلي لإيه تاني لأن واضح إنك بقيتي بتعملي حركات كتيرة أنا مش قدها، أنا ولا عملت حاجة في شُنطك ولا كوليهاتك ولا ساعاتك.. وأرجوكِ أنا النهاردة تعبان جدًا فبلاش خناق، أنا بجد مش قادر!

 

تريد أن تصدقه وتصديق ذلك الإرهاق الذي يبدو على كل ما به وحتى تلك النبرة المُتعبة التي يتكلم بها، ولكن هل جعل لها سبيل آخر؟ ربما ستتبع معه بعض الهدوء ولكنه عليه أن يجيبها بما لا يدع لها مجالًا للشك بأنه هو ليس الفاعل!

 

أخبرته بنبرة هادئة وتخلت عن تحفزها وتحديها إياه ولكنها لم تستسلم بعد وقالت مستفهمة:

-       ألف سلامة عليك، أنا مش عايزة اتخانق، أنا عايزة افهم إن الحاجات دي اتحركت من مكانها وهي اللي اتلخبطت كده لوحداها وطلعلها رجلين فجأة؟

 

نفخ بمشقة وهو كل ما يريده الخلود للنوم بعد لملمة كل ما حدث بيومه، أو القراءة لمدة قليلة، أو الصمت ورؤيتها هادئة، ما تلك اللعنة التي تتحدث عنها؟ ما الذي تريده حقًا! قدر لن يُنكر اختلاف نبرتها وهدوئها وسؤالها بهذه الطريقة عن الأمر فقرر أن يفهم ما الذي تريده:

-       ممكن تقوليلي بالراحة إيه اللي حصل للشنط والساعات؟

 

انزعجت من عدم تركيزه ووضحت له الأمر مجددًا ولكن بنبرة مختلفة وبصدق حقيقي أنها تريد أن تجد إجابة:

-       أنا سايبة حاجتي الصبح زي ما هي ومفيش حاجة فيهم اتغيرت، جيت لقيت الساعات مش مظبوطة كأن حد شالها من مكانها وشنطي مترتبة عكس ما كنت عاملاهم والكوليهات بتاعتي اللي في العلب بتاعتها مش مترتبة زي ما برتبهم!

 

انتظرت أن يقول تفسير منطقي ليرد به على كلماتها ولكنها أضافت:

-       ومكنش فيه حد في البيت غيرك الصبح، أنت الوحيد اللي كنت صاحي وأنت اللي هتدخل هنا، أنا بس عايزة افهم ليه عملت كده، هو ده كمان مش من حقي؟

 

ابتسم بإرهاق وسألها:

-       هو أنتِ من ساعة ما جيتي من شغلك ماما عملت معاكي ايه؟

 

لقد حاولت، تقسم أنها فعلت، ولكنه يصمم على أن يُغضبها بشتى الطرق:

-       أنت مالك ومال مامتك دلوقتي، أنا بسألك على حاجة وأنت بتسألني على حاجة تانية خالص ومش موضوعنا، برضو مصمم تحور في الكلام، مفيش فايدة أبدًا!

 

هز رأسه مستنكرًا وتفقدها ليشعر أن ما بينهما ليس بطبيعي بل هو قصة خيالية، لتوه كان يريد الصمت والانعزال والهدوء ولكن أي حديث معها حتى لو شجار يجعل مزاجه يستجيب للحياة بكل اوجهها، التقاء روحه بروحها يجعله لا يريد سوى التواصل معها أيًا كان السبب!

حدثها برفق والابتسامة لا تغادر شـ ـفتاه كما كانت مُقلتيه تشعر بالاسترخاء كلما تملى بوجهها:

-       أنا بسألك عشان أعرف أرد عليكي، مش ملاحظة إن عنود مش في البيت وكانت في جامعتها وأصلًا قعدت معانا قبل كده وعمر ما ده حصل، وعدي تلاقيه صحي وفطر ونزل راح شغله وبايت طول الليل في بيتي، وماما هي اللي كانت موجودة! فكري كده كانت بتعاملك ازاي من ساعة ما رجعتي من شغلك! ولو عليا أنا من مريم للشغل لبابا واديني لسه جاي، ومش من طبعي العب في حاجتك لأني عارف كويس بتشيلي حاجاتك فين ولو عايز منك حاجة مش هسيبها من غير نفس ترتيبك، أظن احنا عدينا بقا المراحل العبيطة دي ولا أنا ولا أنتِ مش هنكون فاهمين بعض على شوية شنط وكوليها!

 

تركها وخلع قميصه واتجه نحو الحمام الملحق بالغرفة لتحاول التركيز في كلماته لتوقفه قبل دخوله للحمام وهي تتكلم باستفهام مندهشة:

-       يعني عايز تفهمني إنها هي اللي عملت كده؟ طب ليه أصلًا؟!

 

التفت لها من على مسافة واجابها قائلًا:

-       فِكرك مها الجندي سهل تعيشي معاها، فكراني كنت عايز ابعد عشان أنا الظالم المفتري ابن أبوه اللي بيكره أمه وسايبها تتبهدل، أنا عايزك تجربي بقا زي ما أنا جربت، انتي أول واحدة هتتخنقي منها وهتشوفي وأنا مش هاتدخل خالص!

  

 يتبع..


إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة بتول طه لا تنسى قراءة روايات و قصص أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية


رواياتنا الحصرية كاملة