رواية جديدة كما يحلو لها لبتول طه - الفصل 63
رواية كما يحلو لها
الجزء الثالث من رواية كما يحلو لي بقلم بتول طه
رواية جديدة كما يحلو لها
تنشر حصريًا على المدونة قبل أي منصة أخرى
من قصص وروايات
الكاتبة بتول طه
النسخة العامية
الفصل الثالث والستون
منذ أربع سنوات وستة أشهر..
خرجت من السيارة لتجد "بسام"
منتظرًا إياها وهو يتفقدها بنظرات مشتتة بين القلق والأسف واقترب منها ليخبرها
مُعتذرًا:
-
أنا آسف، أنا مكونتش عارف اتصرف ازاي!
وقفت أمامه في ثبات وهي تفهم تمامًا هذه
الكلمات المختصرة، لو كان هو لم يستطع التصرف معه فهي لم تستطع ولن تستطيع التصرف
معه أبدًا، كلماته وثرثرته والحاحه ووجهه البريء عندما يُريد شيئًا وإصابة من
أمامه بذاك الشتات، هي تحفظه عن ظهر قلب.
أخذت تنظر له في حالة من الصدمة المختلطة
بالشتات إلى أن أصابته بالقلق وهي لا تقول شيئًا فاقترب لها أكثر وسألها:
-
روان أنتِ كويسة؟
أومأت له بالإنكار وامتلأت عيناها بالدموع فاقترب
وضمها إليه ليهون عليها بعدما قرأ الحزن على ملامحها ليصيبها الانهيار التام وتشبثت
به وهي تتحدث بين بُكائها:
-
مش كويسة، عمري ما هكون كويسة، أنا مش عارفة
أعمل إيه!
ربت عليها وهو يشعر بالأسف على كل ما يحدث
وحاول أن يُهدئها:
-
اهدي بس وتعالي نتكلم.. كل حاجة هتكون كويسة
إن شاء الله!
بعد مدة من محاولاته وكلاهما ما زالا أمام
المنزل استطاع أن يوقفها عن البُكاء لكي تستطيع التفكير قليلًا وأخبرها بعد أن
وصلت إلى حالة أفضل واتجه ليجلس كلاهما بداخل المنزل وحدثها باكتراث:
-
أنا عمر حكالي كل حاجة بعد ما رجعتوا بشوية،
والأيام اللي كنتي مش بتشوفيه فيها كان بيكلمني وكنا بنتقابل، أنا فاهم إنه عنده
مشاكل ومريض، وفهمت إنه مكانش في وعيه في أوقات كتير.. إنه يخطفك ويفضل شهر قافل
عليكي ده صعب إن أي حد يستحمله، بس ده حقك يا روان.. لو أي واحدة في الدنيا حصلها
كده من أي واحد حتى لو عنده مُشكلة فده مينفيش عنه المسئولية..
تفقدته بحيرة شديدة ليضيف بتأكيد:
-
حتى لو بيحبك وانتي بتحبيه لازم ياخد جزاء
اللي عمله!!
لم تفهم بعد إلى أي حد أخبره عما حدث بسنهما
أو بتوضيح عما فعله لها وسألته:
-
هو قالك على كل حاجة حصلت؟
أومأ لها بالموافقة وأجابها بمصداقية بكل ما
أخبره به "عمر" ورأت الغضب يُسيطر عليه:
-
قالي إنه حطلك مخدر ووداكي الشاليه بتاعه
وقفل عليكي وحبسك في الضلمة والسقعة ومكنش بيأكلك.. وكل ده عشان افتكرك اخدتي
الورق وروحتي ليونس وإنه كان مفكر إن فيه حاجة ما بينكم!
حاول السيطرة على انزعاجه من تحدثه بصوت
مسموع تجاه هذا الأمر ولكنه واصل:
-
الحاجة الوحيدة اللي خلتني اتقبل اسمع منه
الكلام هو إنه مكنش في وعيه، لولا إنه وداني لمريم وكمان تلت دكاترة غيرها مكونتش
هصدق، أنا حتى سألت من غير ما هو يعرف.. بس برضو لازم يتحمل نتيجة أخطائه، هو اللي
رفض من البداية ياخد أدوية، يمكن لو كان اخدها مكنش كل ده حصله ولا حصلك.
❈-❈-❈
عودة للوقت الحالي..
-
أنا مش فاهمة مستعجلة توديه ليه من دلوقتي
ولا عايزة تعملي عمر تاني؟..
تفقدتها "روان" بقليل من القلق وأجابت
سؤالها:
-
أنا بس عايزاه ياخد على جو المدرسة علشان هو
متعلق بيا أوي يا مايا، حتى لو جانبه بسام ومامي برضو عايزني معاه، واديكي شايفة
ناقص يحضر معايا الاجتماعات، مبيسبنيش بس إلا لو يحيى موجود، وأصلًا يحيى يوم
الاجازة اللي بياخده بيبقى كل شهر مرة..
زفرت بضيق وأضافت بانزعاج:
-
أنا زهقت من الموضوع ده!
قلبت الأخرى عيناها وأجابت كعادتها بصراحة
دون تجميل لكلماتها:
-
أنا لسه عند رأيي، جوازك من يحيى ده غلطة.. إيه
اللي خلاكي تتسرعي كده، أنا قولتلك يوم ما اخدتي قرارك إن مينفعش تتجوزي واحد تاني
دلوقتي وحسيتك مش مستعدة، اديكي اهو اتجوزتي وابسط المشاكل مش عارفة تحليها معاه!
أنا عمري ما حسيتك عديتي عمر واللي حصل ما بينكم فتروحي تحلي ده بالجواز؟
انزعجت من كلماتها واختلفت ملامحها بعد أن
كانت مُنذ قليل تشعر بالسأم فهي الآن تريد أن تجادلها، ولو أن جزء مما تقوله صحيح
فهذا لا ينفي أنها أرادت حقًا الزواج وامتلاك حياة طبيعية مثل الكثيرات من النساء
فعقبت برفض قاطع:
-
وهو اللي حصل بينه وبينه هيتنسي أو حد هيعديه
بسهولة، أنا فضلت لغاية النهاردة مواظبة على كل حاجة ممكن تساعدني، فغلطتي بقا إني
حبيته مثلًا وحسيت بمشاعر من ناحية جوزي، ده أنا لغاية آخر لحظة مكونتش موافقاه على
القضية، اديه مرمي اهو في السجن، ست سنين اخدهم فادوه في إيه، أنا اتحايلت عليه
شهور إن بلاش القضية دي مسمعش كلامي، ويوم ما باباه مات قولتله خلاص يا عمر اعتبره
ماضي واتقفل برضو موافقش، والخبيث يردني ويرجع يطلقني وبرضو يعمل اللي شايفه
بمزاجه عشان يبقا طلقني تلت مرات.. أفضل بقى عايشة من غير جواز؟ ولا هو يحيى فيه
ايه وحش غير موضوع إنه مشغول؟ وبعدين أنا حاسة بحاجات كتيرة حلوة من ناحية يحيى!
تنهدت بقلة حيلة وهي ترى أنها لا تفهم ما
تُرمي إليه وسألتها سؤال محدد بعيد كل البعد عن ثرثرة فيما لا يُفيد مغزى ما تُريد
أن توصله إليها:
-
ما هو يحيى فعلًا راجل كويس، بيضحك وبيهزر ودكتور
شاطر وكل المميزات فيه، بس أنا عايزة رد بآه أو لأ من غير كلام كتير يا روان، أنتِ
بتحسي مع يحيى زي ما بتحسي ما عمر؟
حسنًا، هي لم تتزوج من "عمر
الجندي" قط، لن تُجيبه على سؤالها أبدًا وستقتنع تمام الاقتناع بما في رأسها:
-
مانا عشان اجاوبك لازم حاجات مُعينة ابني
عليها اجابتي، يا مايا ده احنا سافرنا أسبوع بس honey moon أول يوم قالي أنا صاحي من بدري ولازم ننام ومثلًا
قعدنا مع بعض ساعة ضايعة عشا وهزار وsex وتاني يوم الصبح اكتشف إن عنده مؤتمر!
ألقت الأخرى رأسها للخلف وهي تُغمض عيناها
ونازلتها كلاميًا فهي لن تتقبل أبدًا مراوغتها تلك ثم نظرت إليها بابتسامة بدت كخط
واحد بوجهها:
-
طيب الراجل بشر على فكرة زينا وبيتعب ومن حقه
ينام، وآه معاكي حق المفروض مكانش يروح المؤتمر بس أنتِ اللي صممتي إن جوازك يبقا
فجأة واكتشفنا إنها ضربت في دماغك تكتبي الكتاب.. بس خليني اسألك السؤال بطريقة
تانية، وأنا ست كنت متجوزة وأظنك بقيتي مدوباهم اتنين..
ابتسمت على كلماتها فهي لا تتناسب إطلاقًا مع
ملامحها الأجنبية لتُكمل الأخرى مضيفة سؤالها المباشر:
-
لما يحيى بيبقا معندوش ولا مؤتمر ولا شغل ولا
صحيان بدري ولا بيلعب مع جومانة ولا ريان، وبياخدك كده في حضنه، بتحسي معاه بنفس
الشعور الحلو اللي كنتي بتحسيه مع عمر؟
اندفعت الأخرى بردها وأجابتها:
-
ما هي دي المُشكلة، هو دايمًا مش فاضي، hyper-active بشكل مش منطقي، عنده عيادة لأ مستشفى طب
مؤتمر طب محاضرة، رايح لماما، رايح لأخته، كل حاجة بسرعة، أنا مش عارفة احكم على
حاجة، ده يوم ما بنقرب من بعض وبنوصل لمرحلة إننا خلاص هنقفل الموبايلات الاقي
مكالمة تانية طلعتلي من تحت الأرض، عارفة إحساس إني بتكروت؟ إن كل حاجة بتخلص
بسرعة؟
عقدت حاجبيها ثم سألتها بجدية ودون حياء:
-
روان اوعي تكوني تقصدي إنكم لما بتناموا مع
بعض الموضوع بيبقا بسرعة ومبتقدريش توصلي لـ
-
لا لا مش كده!
أوقفتها بعد أن فهمت ما تُرمي إليه ولم تدعها
تُكمل فهذا ليس ما تقصده ابدًا بينما قالت بتنهيدة:
-
يحيى هايل وراجل كويس جدًا بس المشكلة إنه
معندوش مشاعر، كل حاجة واخدها بعملية اوي وعنده وبيحسبها بالدماغ والمنطق ومفيش
حتى كلمة حلوة، ده اللي أنا اتخنقت منه ودايمًا بحس معاه إني بجري، الولاد
والمسئولية وشغله وشغلي نروح عند مامته نروح عند مامي، أنا تعبت اوي بجد!
همهمت لها بتفهم ووجدت أنها تريد التنفيس
بالمزيد من الكلمات فتركتها لتواصل:
-
لما كنتي مسافرة عند مامتك واخواتك أنا بقا
حطيته قدام الأمر الواقع، سيبت ريان وجومانا عند مامي وبسام، وعملت عشا ولقى قدامه
أحلى ست في الدنيا، من غير ميكب ومن غير أي حاجة هو مش بيحبها، دخل اتعشا في صمت،
اتفرج على عشر دقايق من فيلم، نص ساعة قضاها معايا وقالي شكرًا يا حبيبتي بجد
بقالي كتير ملقتش البيت هادي كده ونام!! نام لغاية تاني يوم الصبح 12 ساعة يا مايا
لما هتجنن! يعني أنا عملت كل ده عشان عشر دقايق عشا ونص ساعة سرير وشكرًا على كده؟
طب فين أنا؟ ليه ميقعدش يتكلم معايا؟ ليه ميسألنيش حتى عملت كل ده امتى ولا عملت
إيه في يومي؟ طب يقولي كلمة حلوة، يقولي compliment (مجاملة)، ده كلمة بحبك دي مسمعتهاش منه غير مرتين في سنة بحالها عرفته
فيها، قبل كتب كتابنا ومرة شافني بدي الدوا لجومانا.. أكتر من كده مفيش، دايمًا
مشغل الـ silent mode (الوضع الصامت) ولو يعني
هيتكلم خدي بقى سخرية للصبح لما هتجنن، كل يومين يطلعلي اسم عجيب، النهاردة الصبح
يقولي نكودة! بجد أنا نكودة؟!
ضحكت "مايا" وهي تومأ لها بالموافقة
بينما احتدم غضب "روان" على ما تفعله لتعقب الأولى:
-
بصراحة انتي معدية المرحلة دي من زمان ونكودة
ده دلع فعلًا، انما انتي أصل النكد، drama queen
اوي!
-
يعني أنا جايباكي عشان تسمعيني ولا تتريقي
عليا، أنا هاروح اخد ريان من الـ kids area هو والناني وهنمشي!
أخبرتها بانزعاج وهمت لتُمسك بحقيبتها
فأوقفتها صديقتها وقررت أن تتوقف عن المزاح وتُحدثها بجدية:
-
استني بس متبقيش نكودة بجد وتتقمصي، روان يا
حبيبتي يحيى تقريبًا زي أغلب الرجالة، وده اللي أنتِ لسه دماغك مقبلتهوش، مش كل
الرجالة زي عمر بتقرا شعر وتاريخ قديم ويفرشلك الأرض ورد ويعشيكي عشا رومانسي.. عشان
كده بقولك أنتِ اتسرعتي
-
أنا مش بعمل مقارنة يا مايا، أنا فاهمة إن
عمر حاجة ويحيى حاجة!
-
يا حبيبتي أنا مقولتش إنك بتقارني، أنا بس مش
شايفة إن يحيى كان مناسب ليكي أصلًا.
-
ليه مش مناسب، احنا مستوانا الاجتماعي واحد
وشكلنا مناسب وظروفنا واحدة هو مطلق وأنا متطلقة، وطباع أهلنا زي بعض، وكان عاجبني
جدًا إنه مهتم بشغله وراجل عملي، وإنسان واضح وصريح ومبيجملش في الكلام ولا بيرغي
كتير، مفيهوش بقا التحكمات الزيادة دي ولا البسي ده واقلعي ده وكل الخنقة بتاعت
الرجالة، بس هو مش فاهم يعني إيه يتعامل مع واحدة ست؟
تصادمت كلتاهما وكل واحدة تتشبث برأيها تجاه
الأخرى فردت "مايا" بمزيد من التوضيح:
-
حلو اوي، هقول تاني إنك مش بتقارني، بس جوزك ده
واحد مطلق مراته بالتراضي عشان قررت تختار الكارير والشغل والسفر وسابتله البنت وهو
وافقها، إنسان واثق من نفسه ومعندوش هسهس الغيرة والتخلف بتاع الرجالة، ولما
حكيتيله إن عمر سجن نفسه عشانك احترمه وحتى مفكرش يُحكم عليه ومرضاش يسمع منك
القديم وقالك أنا ماليش دعوة بالماضي ده قبل ما اعرفك، بس اللي أنت مش قادرة
تشوفيه ولا تفهميه إن كل إنسان بيبقى package
على بعضه، يعني فيه واحد رومانسي جدًا وبياع كلام إنما مش ناجح في شغله أو مبيهتمش
بيه، والتاني عكسه، وواحد تالت تلاقيه يزيد الجندي في نفسه! المهم أنتِ هتقدري
تتعاملي مع عيوب يحيى وتقبليها ومميزاته ولا لأ؟!
انزعجت من مجرد ذكرها لذلك الاسم فأخبرتها
بضيق:
-
ملقتيش غيره يعني تديني مثل بيه، ده كان راجل
يخنق
نظرت لها بتلاعب وقالت بمزاح وهي تضيق عيناها:
-
اذكروا محاسن موتاكم يا حبيبتي، اهو بقا يحيى
ولا يزيد؟
هزت رأسها بإنكار وعقبت مجيبة:
-
يزيد ده الـ extreme بتاع كل الرجالة فمينفعش نحطه في مقارنة
أصلًا مع أي حد، وبعدين أنتِ بتجيبي الأمثلة دي منين؟ نفسي مرة احس إني بكلم واحدة
مامتها ايرلندية بس مش قابلة خالص ملامحك وانتي بتقولي الكلام ده..
ابتسمت لها باقتضاب واشمأزت مما تقوله بمزاح:
-
على الأقل أنا مبسوطة كده.. الدور والباقي
على الهانم اللي عايزة تمشي الكون على مزاجها وكمان مش عارفة هي عايزة ايه!
تبدلت ملامحها في ثواني وتفقدتها بحُزن
فسرعان ما صححت قولها ولكن بجدية:
-
بصراحة لازم افوقك واخليكي تنجزي مع يحيى، متضيعيش
عمرك بين اتنين رجالة، صارحيه وكلميه يا روان واتفاهموا وقوليله إنك مش قبلاه كده،
واعملي حسابك إن مفيش عصاية ساحر هتخليه يدلدق مشاعر، هي دي شخصية يحيى يا تاخديها
بكل مميزاتها يا تسبيها بس متظلميهوش معاكي، وكويس انكم متجوزين بقالكم تلت شهور
بس!
شعرت بالحيرة الشديدة وهي لا تريد الاعتراض
على شيء ولكنها تشعر بعدم الراحة معه وينقصها الكثير مما ظنت أنها ستملكه وسألتها
باقتضاب:
-
أنتِ شايفة كده، مش هبقى بتسرع؟
أمسكت بكوب العصير الخاص بها وهي تجيبها:
-
تتسرعي ايه، هو أنتو عندكم خمسة وعشرين سنة
ولسه متجوزين، حبيبتي انتو خلاص داخلين على خمسة وتلاتين سنة وناس كبيرة وعاقلة، انجزي
عشان متضيعيش حياتك كلها في الهم ده!
أخذت رشفة من العصير أمامها بينما مررت
"روان" سبابتها فوق فنجان القهوة الخاص بها وهي تُفكر في الأمر وشردت للحظة
لتحمحم "مايا" وهي تضيف بحرص:
-
عمر على فكرة هيخرج بكرة.
ركزت نظرها عليها باندهاش زيفته ببراعة وحدقت
بها بملامح مستفهمة:
-
ازاي يعني؟
اجابتها بتنهيدة وهي تقول:
-
تلتين المدة خلصها يا روان وابن عمه زمانه
مشيله في الإجراءات وخلصها، ممكن يخرج عادي، بس اللي أنا خايفة منه
-
يوم الـ baby shower بتاع بنت عنود، ده آخر الأسبوع، هو هيروح؟
أكملت كلماتها بينما كانت إجابة الأخرى لم
تكن سوى أنها قامت بقلب شفتيها كدلالة على عدم المعرفة لتشعر "روان"
أنها أمام ورطة جديدة وصراع من نوع آخر.
❈-❈-❈
منذ أربع سنوات، وخمسة أشهر وثلاثة أسابيع..
تردد كثيرًا بعد أن فكر بالأمر للمرة الآلف
بعد المائة، نكس رأسه للأسفل، قدم تريد الدخول والأخرى مستعدة للفرار، لا يدري هل
هو يستحق ما فعله به، هل ستثمر المواجهة؟ بم ستفيده؟ نهاية، بعض العتاب، لا يعرف،
هو تائه منذ أن أخبرته بتلك الكلمات، لا يفعل شيء سوى جلوسه بمفرده بذاك المنزل
مطنبًا بالتفكير في مدى قسوته عليه لطيلة تلك السنوات.
قام بفتح الباب وهو يصمم على أنه لن يستمر
بكونه مسخ نصف يُريد شيئًا لأنه يراه منطقي ومن حقه والنصف الآخر يريد أن يصبح ذاك
الرجل الذي أجبره والده على التشبه به، تبًا، لن يتنازل له هذه المرة، عليه أن
يُعطيه إجابات!
دلف وهو يبحث عنه واتجه بتلقائية لغرفة مكتبه
بينما تعجب للغاية عندما لم يجده ولكنه كان واثق أنه لم يغادر منزله اليوم فلقد
تحدث لسائقه قبل أن يأتي.
بحث عنه إلى أن وجده جالس على مقعد بغرفة
نومه ولن يُنكر أنه صُعق بما يبدو عليه، إعياء شديد وملامحه لا تبدو بخير على
الإطلاق وبمجرد رؤيته تنازل فورًا وسأله:
-
مالك يا بابا؟ أنت كويس؟!
أشار بيده كعلامة على عدم الاكتراث وظل صامتًا
بينما لم يتقبل ما فعله كإجابة منطقية فسأله مجددًا:
-
بابا أنت تعبان عندك إيه؟
تفحصه منتظرًا رده ولكنه لم يُجب ليشعر "عمر"
بالإحباط من أسلوبه المُستفز الذي حمله معه طوال سنوات حياته فتنهد وجلس أمامه
وغير مجرى الحديث:
-
ماشي، متقوليش، بس على الأقل عرفني ازاي وقعت
ما بيني وبين يُمنى؟
ضحك بخفوت بالرغم مما يشعر به من آلام وقال
باستهزاء:
-
وكل ده حبيبة القلب مكانتش قالتلك!
طيف انزعاج خفيف اختلط بمقلتيه الباهتتين
وكلمه بجدية:
-
بابا أنا مش جايلك عشان تضحك عليا، أظن حقي
بعد كل السنين دي تبطل ضحك وتكلمني بجد!
نظر له وابتسامته تتلاشى إلى أن تحولت ملامحه
للجدية واجابه في النهاية بما لم يُعطه تفسيرًا:
-
كنت عايزني أخلى البت دي تضحك عليك وأنت لسه
عيل صغير وعاملي فيها حنين، لو كنت كملت حياتك معاها كانت هتبهدلك.. ويا ريتك عرفت
منها، ده أنت عرفت من تصوير أهبل صورناه وهي دماغها مش فيها!
فهم أنها كانت مُستحوذة من قِبل شيء مُسكر أو
ربما عقاقير ما فسأله وهو لا يكترث سوى لنفسه:
-
طب وأنا يا بابا، مفرقش معاك وجعي؟ ولا إني
أفضل عايش كاره حياتي بسبب خيانة كنت أنت السبب فيها؟
انقلبت ملامح والده مائة وثمانون درجة وحدقه
بغضب وتحدث بين أسنانه:
-
يا خايب الرجالة مبتعيطش، هفهمك كده لغاية
امتى، كان لازم اشيلها من طريقك، كان لازم ارسملك حياتك قبل ما تضيعها على خصلك
اللي شبه أمك، لولا الراجل اللي خليتك تشتغل معاه في أول حياتك مكنش بقا زمانك عمر
الجندي اللي عمره ما خسر قضية، أنت مفيش قضية اشتغلت عليها إلا وكنت عارف عنها كل كبيرة
وصغيرة!
حلت الصدمة على ملامحه بينما واصل والده:
-
الراجل ده كان تقيل ومصايبه مبتخلصش ولما
جالي أنا اللي اديتهولك، هو ده اللي خلاك ليك اسم.. جاي بعد ما خليتك بني آدم
بتحاسبني، خايب وهتفضل فاشل مهما عملتلك!
لا يدري أيتشتت بفعل نبرته المُتعبة للغاية
لدرجة أنه لا يستطيع أن يلتقط نفسه بطريقة طبيعية أم يبالغ في تلك الكراهية التي
تولدت بداخله تجاه الرجل الوحيد الذي ظن أنه يكترث من أجله منذ أن كان طفل إلى هذا
الوقت..
ما الذي فعله له؟ قضايا مشبوهة لرجل ألقى به
بنفسه بالسجن لاستنكاره ما يفعله وخسارته لفتاة عشقها أو ظن أنه فعل؟ هل حقًا قبل
بأن يتألم طيلة هذه الفترة؟ لقد حرمه طوال حياته من والدته وكاد أن يفعل المثل بـ
"روان" وما الذي تبقى ليضره به؟
نهض من فوق مقعده وهو ينظر له بصدمة شديدة
ولا يدري ما الذي عليه أن يقوله لوالده الذي دمر حياته بأكملها، كل ما سبب له
الألم طيلة حياته كان هو السبب به، مجرد حروف ستكون خسارة للسانه بأن يُضيعها عليه
فاكتفى بأن يخبره بآخر ما سيستمع له طيلة حياته منه بأعين امتلأت بدموع مكتومة
خُلطت بقهر لا يوصف ولا يماثل أي ما شعر به طوال حياته:
-
أنا اكيد مش ابنك، كل ده ليه، أنا لو عدوك مش
هتعمل فيا كده، أنت أسوأ انسان عرفته في حياتي.. الراجل اللي يبهدل مراته ويخونها
ويفرق بين ولاده كان أكيد بيؤذيني، أنت مش أب أنت شيطان!
كاد أن يغادر ليناديه والده:
-
استنى، بما إنك عامل فيها كبير وبتاخد
قراراتك من دماغك وفاتح بيتك لأهلك..
التفت نحوه بتقزز شديد ليراه يتجه نحو الدرج
الخاص بالخزانة الجانبية لفراشه فابتعد عنه خوفًا من أن يمـ ـسه أو يأتي بالقرب
منه ليجده يُلقي له مغلف للأوراق مغلق وبمجرد نظره إليه وجده قد أخرج سلاح فتوسعت
عيناه بنفس دموعه التي لم تغب وسأله:
-
أنت هتعمل إيه!
اقترب منه بسرعة بلمحة خاطفة بينما قال الآخر
باستهزاء:
-
عايزني اسيب كل اللي حواليا يشمتوا فيا في
آخر أيامي ورجليا مش قادرة تشيلني..
ابتلع بخوف واقترب له أكثر وحاول أن يتحدث لأكثر
من يمقته في هذه اللحظة:
-
ليه يشمتوا فيك، أنت عندك ايه؟ أكيد اللي
عندك ليه حل!
أومأ له بالنفي وظن أنها ستكون كلمته الأخيرة
وهو يصوب السلاح لرأسه:
-
أنا اسيبك بقى للزمن يعلمك إن القلب الحنين
بيتداس عليه!
مد يده بلمح البصر وهو في نفس الوقت يندفع
نحوه ليخفض يده للأسفل ولكن كان الآخر مصمم على ألا يُفلته فتنازع الاثنان ومع ضعف
والده انتقلت يده الممسكة بالسلاح خلفه ليخبره:
-
ابعد عني! مش أنا أسوأ واحد عرفته.. امشي..
-
هات يا بابا المسدس ايه اللي أنت بتعـ
انطلقت الرصاصة وكلاهما يتنازعان فلم يدر
"عمر" إلى أين ذهبت وكان آخر ما استمع له منه بنبرة خافتة:
-
غبي وخايب طول عمرك!
❈-❈-❈
عودة للوقت الحالي..
-
أنا عايز حدوتة كمان.
-
لا يا ريان كده الحواديت خلصت خلاص، نام بقا!
ضمته إليها وهي تمسد شعره بيدها فعانقها ولكنها رأته ما
زالت مستيقظ فهو لديه هواية ما بمداعبة خصلاتها بين أصابعه فابتسمت وفجأة وجدته
يُخبرها:
-
على فكرة لما بتحكيلي الحواديت بيبقى شكلك حلو.. مامي
جميلة عشان بتحكيلي حدوتة..
هذه الطريقة الخبيثة لابد أن تكون من جينات العائلة
اللعينة المسماة بـ "الجندي" ولكنها لن تقص المزيد من القصص الليلة:
-
ومين كمان جميلة زي مامي؟
رفع رأسه نحوها ونهض بجـ ـسده الصغير ليجلس على ركبتيه
وقال مجيبًا بصوت طفولي:
-
أنتي أحلى واحدة فيهم وperfect (مثالية)!
هذا لا تستطيع تقبله حتى الآن، هو لم يره ولم يتعامل معه
قط، كيف لهذا الحدوث في هذه السن الصغيرة، كل ما به لا يُذكرها سوى بكلماته،
بطريقته، وبغزله الذي لا ينتهي!
-
طيب مش أنت بتحب مامي، احكلها أنت حدوتة وأنا هسمعك
لغاية ما ننام.
❈-❈-❈
الغزل قد يكون بآلاف الكلمات، على مر العصور، له القُدرة
على لـ ـمس الحياة بل وإحياءها، ولكنك صغيرتي علمتي كل ما بي غزل من نوع خاص..
لن تقرأه سوى عيناي، ولن يفهمه سواي..
فتنتك المُهلكة، شفتاكِ الطاغيتان، وقلبك الذي ساع
كياني..
قد يراه البعض شجار أو نزاع، ولكنني أعرف الحقيقة
بداخلي..
غزلك شرس صغيرتي، لن يعشقه إلا من فهمك مثلي، يفترس أعتى
الرجال، الرجال وحدهم ولم أذكر أي شيء عن الفتيان!
فكلما صرختي بتلك الكلمات عيناك نطقت عشقك، وعندما
انتحبت لم أكن استمع سوى لشعر فاق غزل إلهة لبشري واهن، أما عن تلك الحلقات
المُفرغة من محاولاتك البريئة للانتقام فلم تكن بعيني إلا كهالات القمر لتواسي
ليلي القاسي..
اشتقت إليكِ روان بكل ما أنتِ عليه وبكل ما فيكي..
اشتقت لذاك الغضب، تلك الدموع، ابتسامتك الهادئة والأخرى
الساخرة
لقد انتظرت أربع سنوات من أجل هذه اللحظة
صبرت كثيرًا حتى أراكِ تتمردين حقًا..
لقد عرفتك يومًا ما، حفظت تفاصيلك كاسمي، وعشقت كل ما
بكِ
عهدتك يومًا تُصلحين الحياة ولكِ القدرة على إحياء
الدنيا وبعثها من جديد بمثالية لا تملكها سواكِ..
أربع سنوات لأراك تتزوجين..
رفضت أن أراكِ ولو لدقائق عابرة من أجل رؤيتك قوية كما
كنتِ تتظاهرين..
لا أتمنى سوى رؤية ابتسامة صادقة وشعور حقيقي بأنك لذت
بالفرار لتفعلي كل ما يحلو لكِ..
أليست هذه هي الفُرصة التي بحثتِ عنها لثلاث سنوات في
عذابٍ مقيم معي وبجواري؟!
لكِ هذا قطتي..
اجعليني فخور بك..
هذا هو الاختبار الأخير..
اسمعِ روان،
لو اجتزتِ هذا الاختبار سيكون وقتها حسابك عسير على ما
فعلتِ بي وأنتِ تتزوجين من لعين آخر!!
أذكركِ أنكِ استخدمتِ فتنتك المهلكة عليّ يومًا ما،
فلتفعلي المثل معه..
أتمنى أن يكون رجل رقيق القلب يستحقك،
أتوق لرؤية ريان كثيرًا، أثق أنه نسخة صغيرة منكِ
أشعر بالرعب لو فعلت ورأيته لن أستطيع أن اتركه أبدًا،
ولكن لا تنسي، أنا رجل مجنون حُكم عليه بالفشل في التحكم
بأمزجته اللعينة، بالإضافة لست سنوات سجن..
لا تأمني عليه معي أبدًا واتركيني في الظلال أشاهدكما
كما عاشق الأرض الذليل ينير قمرك ليلاه وتسطع شمس ريانه بنقاء لم ولن تُدنسه قسوة
رجل مثلي..
فلتقبليه لي كل ليلة.. ولتقصي له بعض من تلك الأساطير
التي قصصتها لكِ يومًا ما..
السجين المعافى بشكل دائم - نوعًا ما -
عمر..
❈-❈-❈
-
وحشتني..
اقترب نحوها ثم قبلها على وجنتها بمجرد دخوله للتو
وابتسم لها باقتضاب كما كان رده:
-
وأنتِ كمان يا حبيبتي.
نظرت له وحاولت أن تبدأ ما تريد الوصول له بطريقة لائقة
نوعًا ما:
-
انا مرضيتش اتعشا غير لما تيجي.. هتتعشا معايا؟
قالتها بالفعل وهي تتبعه لغرفتهما بينما كان هو يخلع
سترته وهي تُجن من عدم صبره وكثرة تحركاته وخصوصًا بالمنزل فهو لم يكن يفعل هذا
بالسابق.
-
ما أنتِ عارفة إني مباكلش متأخر وبتعشا دايمًا برا..
آتاها رده ليُحبطها ولكنها لن توافق على هذا وتابعته وهو
يتخلص من باقي ملابسه ويتجه نحو الحمام الملحق بالغرفة وقالت:
-
طيب أنا عايزة أتكلم معاك قبل ما تنام!
وقفت وهي تعقد ذراعيها بتحفز ليقترب منها وهو يُداعب
وجنتيها بيـ ـداه مما يجعلها تشعر وكأنها كـ "جومانة" ابنته وليست
زوجته:
-
روح قلبي، نكودة mood is on ولا إيه..
ممكن تسبيني أنام ولما اصحى تـ
-
لما تصحى هتروح المستشفى بكرة وأنت بتحب تعمل العمليات
وأنتي صاحي فايق، فأكيد فيه عملية واتنين، فده معناه إنك هتنزل مستعجل وعلشان
المستشفى قريبة وانت راجع الساعة واحدة بليل فبدل ما نصحى بدري ونقعد سوا هتستفيد
بالساعة الزيادة نوم.. هو ده اللي هيحصل مش كده؟
قاطعته قبل أن يستمر في تعامله معها وكأنه يُعامل طفلة
صغيرة وليست امرأة على مشارف الخامسة والثلاثين من عمرها فزفر بإرهاق وسألها:
-
فيه ايه؟ عايزة تتكلمي في إيه؟
تفقدته بحيرة وانتقت كلماتها التي تحدثت بها في هدوء:
-
فيه إني مش موجودة في يومك يا يحيى، من ساعة ما اتجوزنا
وأنا بشوفك صدفة، ده أنا قبل الجواز كنت بشوفك أكتر من كده!
عقب على كلماتها بهدوء يُماثل هدوئها وقال:
-
أنتِ عارفة إني قبل الجواز كنت بذاكر وموقف مواعيد ومش
بشتغل، فطبيعي إني ابقى فاضي.
-
يعني يا حبيبي يرضيك إن دي تبقا حياتنا؟ أنت شايفها كده
مُريحة؟
خلل شعره وهو لا يدري بم يُجيب سؤالها سوى بسؤال مثله:
-
مالها حياتنا يا روان ما كويسة وكتير يحلموا بيها.. أنا
مش فاهم فجأة اكتشفتي اني مشغول، ما أنا قولتلك الكلام ده كله قبل ما نتجوز.. جاية
ليه تستغربي دلوقتي؟
تنهدت بألم وهي تحاول أن توضح له:
-
أنا مبتهتمش بيا في أي حاجة، متعرفش حاجة عن يومي، ده
انت حتى مبتفكرش تكلمني على الموبايل ولو دقيقتين، ترجع تنام تصحى تروح الشغل ولو
فاضي ولا يوم إجازة بتقضيه مع الولاد ومع طنط ولا اصحابك ورقية..
اقترب لها بملامح مُنزعجة ولكنه حافظ على نبرة صوته
الهادئة:
-
ما أنتِ بتبقي معايا في كل ده، دايمًا معايا في كل مكان
ومش بنسيب بعض لحظة.. أجيب بس وقت منين؟
ابتسمت بحزن وهي تهز رأسها بسخرية:
-
مفيش يوم ليا أنا في أول تلت شهور جواز
-
يا حبيبتي ما احنا كنا لسه في المانيا اول ما اتجوزنا و
-
في المؤتمر مش مسافرين نتفسح، يا يحيى أنا حاسة إني
عايشة لوحدي، ده أنا يوم ما بقرب منك وأنت نايم لو حضنتك ولا بوستك بتحسسني إني
عملت جريمة عشان قلقتك!
زفر بعمق وهو يرفع وجهه ويشيح بنظره عنها ثم أعاد انظاره
إليها بعدما شعر أن جدالهما اشتد ليقول في النهاية:
-
حاضر يا روان، هاخد يومين إجازة بحالهم ليكي بس.. مبسوطة
كده؟
تراجعت عندما شعرت أنه يحاول إعطائها حل مُناسب فقالت:
-
شكرًا..
-
العفو..
التفت ليتجه نحو الحمام لكي يغتسل ليوقفه صوتها:
-
هتيجي الـ baby shower معايا؟
أعاد انظاره لها من جديد وأخبرها:
-
أنا يونس كلمني وعزمني بس يومها هبقى مش فاضي..
انزعجت من الفكرة بأنه لن يأتي معها فقبل أن يُغادر
أخبرته بمصداقية:
-
بس عمر هيبقى موجود، أنا عرفت إنه خرج من السجن.
ابتسم بسخرية وعقب بتلقائية:
-
ماشي ما يبقى موجود، أكيد هيكون موجود في مناسبة زي دي
جنب أخته!
ضيقت ما بين حاجبيها لتسأله:
-
وأنت مش هتضايق؟
أومأ بالنفي وقال وهو يقلب شفتاه:
-
هتضايق ليه يعني.. بصي يا حبيبتي
اقترب منها وهو ينظر لها بجدية بعد أن احتوى وجهها بين
كفيه وتابع مخبرًا إياها:
-
أنا واثق فيكي، فأكيد لو فيه أي حاجة أنتِ هتيجي
تقوليلي، ومظنش اننا أطفال يعني ولا صغيرين، لو أكيد مش حاسة إن عمر مرحلة وعدت في
حياتك مكونتيش اتجوزتيني، احنا مش متجوزين بالعافية يعني ولا عشان أهلنا فرضوا
علينا، احنا اختارنا بعض.
ابتلعت وهي لا تُصدق أن امثاله الساخرة هي كانت حقيقة ما
حدث لها في يوم من الأيام مع "عمر" وهكذا كان زواجها ولكنه بالطبع لا
يعلم ووجدته يُقبلها بنُبل على جبهتها وأضاف:
-
قولتلك مليون مرة أنا ماليش دعوة بماضيكي، أنا ليا دعوة
بالانسانة اللي عرفتها من سنة واتجوزتها من تلت شهور.. وكفاية يا نكودتي وسيبيني استحمى
عشان انام ومش شايف قدامي..
❈-❈-❈
منذ سبع سنوات وشهر..
اليوم الأول.. ليلًا.. أثينا.. اليونان..
أعلى سطح واحد من الفنادق المُطلة على معبد هيرا..
تفقد ذلك المعبد بأضوائه الليلة، تبدو دافئة بالرغم من برودة
الجو، لا يدري هل ما يفعله معها صحيح أم لا، يقف ببقعة ظن يومًا ما أنه سيتواجد
بها من أجل من يعشقها، ليست مجرد فتاة يحاول أن يجعل منها نسخة طبق الأصل من أخرى
خائنة، هل هي مختلفة؟! هل هو يُريد البدء من جديد معها؟!
-
ده أنت أهبل أو غبي!
انزعج من ذاك الصوت بداخله، لم يعد بينه وبين نفسه سوى
شجار دائم بالآونة الأخيرة، وبكل ما خاضه في حياته هو على يقين أنها صادقة، ماذا
عنه هو نفسه؟ بداية جديدة، قد يؤازره الحظ هذه المرة وتكون حقيقية، ولكنه لن
يتنازل عما يُريده.. ستخضع له، والليلة سيتملك قلبها الذي بات مُدركًا أنه مفتاحها..
هذه الفتاة يبدو أنها تريد التظاهر بالقوة ليس إلا، هو
يتذكر ذاك الحديث معها أمس، يعرف جيدًا أن بعد ما رآه منها هي لطالما خطر العشق
على بالها، وعاجلًا أم آجلًا ستترك نفسها لتسقط بقوة بأعماقه.. هذه الصغيرة ليست خادعة
على الإطلاق وهي بعيدة كل البُعد عما قالته منذ ساعات..
- وأنتي يا روان.. حبيتي قبل كده؟
لا تعلم لماذا ظلمت عيناه فجأة هل بسبب محاولتها لتلمسه
أم ما السبب بهذا السؤال ولكنها اجابته بتلقائية فهي ليس لديها ما تُخفيه وقالت
بهدوء:
- لا.. محصلش، عمري اصلًا ما أُعجبت مجرد اعجاب بحد..
ودايمًا كنت بشوف ان الحب والجواز مش بيجوا بدري ولا صح في حياة البنت من بدري..
ولما بابي اتوفي يادوب لقيت الوقت اللي انام فيه، الضغوط زادت عليا جدًا، الشركات
والشغل اللي مش بيوقف، حتى أنا رفضت كل عروض الجواز اللي اتقدملي فيها حد و..
قاطعها ليُحدق بعينيها مباشرة كمن يستجوبها بتحقيق خفي
لا تعلم عنه:
- وابن خالتك؟
نظرت له بدهشة وتعجب قالبة شفتاها وهتفت بعفوية:
- يونس!
تريثت وهي تتفقده بمزيد من التعجب ثم سألته:
- ماله؟
قلب هو الآخر شفتاه مُدعيًا العفوية ثم قال:
-
تقريبًا جبتيلي سيرته.. عمره ما حاول يقرب منك زي ما عمل
ابن عمك؟
زفرت بقلة حيلة ثم أجابته بحنق:
-
بص يا عمر! ولو أني مش مصدقة إنك بتجيب سيرته دلوقتي، بس
زي ما قولتلك أنا مهتمتش بمسائل الحب والجواز وهصارحك، حصل وكلم مامي لما بابي
اتوفى انه يتجوزني بس أنا رفضت تمامًا.. من الآخر مكنش فيه بيني وبينه حاجة اصلًا..
عيناها أخبرتاه صدق حديثها ولكن كعادتها كبرياءها لا
يندثر فتمتم باقتضاب ونظرة متفحصة:
-
تمام
لم يكن هذا الرد المنشود فأخبرته وقد بدأت في الغضب:
-
أنا مش بكدب ومش بحب الكدب ولا الكدابين ومعنديش اللي
اخبيه و..
جذبها له ليلتهم شـ ــفتيها في قُبلة ليُسكتها عن
الكلام، فيبدو أن بشفتيها الورديتان الكثير لإنهاء العديد من معاكه وجدالهما كذلك
وبعد أن شعر باحتياجها للهواء ابتعد عنها ناظرا لها وأخبرها وهو يستند على جبينها
ملتقطًا:
-
حبيت اسمع منك مش اكتر
رفعت عسليتيها له وهي الأخرى تلتقط أنفاسها وكادت أن
تصرخ به ألا يفعلها من جديد وهما يتحدثا ليُفاجئها بهمس وهو ينظر بعينيها:
-
طيب لو قولتلك إن فيه شنط متحضرة ليكي فيها كل اللي
هتحتاجيه، وكمان اللابتوب بتاعك، وهنسافر حالًا، علشان نبدأ من جديد.. مرة تانية،
بدل من الأيام اللي ضيعناها في هاواي.. اي رأيك؟ موافقة؟ خلينا نحاول سوا..
لقد فكرت كثيرًا على ما يبدو، أرادت هذا العشق الذي
يغمرها بلوعة لن تنساها طوال عمرها، فليرى إذن ما الذي ستفعله أمام ما أعده لها بالأسبوعين
القادمين بداية بهذه الليلة ونهاية بما لن يتوقف عنه أبدًا حتى تُصبح طوع يـ ـداه
بعدما حاول أن يُلقي بحجر الأساس قبل مغادرتهما "مصر"..
رآها تقترب وهي تصعد من أسفل بثوبها الأبيض الذي ماثل زي
إلهة اسطورية، لن تفشل قط في ري ظمأ عيناه بكل ما تمناه ولكنه لن يتنازل أمام
فتنتها المُهلكة وحُسنها الباهر، ويُكفيه تلك النظرة في حالة من الذهول ببعض
الورود والإضاءة الخافتة وأُمسية رومانسية ستعشقها أي فتاة تُفكر مثلها، لو نجح
معها الليلة ستكون المقدمة لكل ما سيأتي..
اتجه نحوها بعد أن غادرت مرافقتها إلى هُنا التي قادتها
وقبل أن تُبادر بكلمات سبقها هو متحدثًا بكلمة واحدة فقط:
-
مثالية..
ابتسمت له وهي تلتفت حولها وتساءلت:
-
ده شكلها بداية جديدة بجد، أنت لحقت تعمل كل ده امتى،
أنا دخلت الأوضة نمت صحيت، جبت وقت منين؟
لم يُجب سؤالها الذي لن ينتج عنه سوى تفاصيل ليس لها
فائدة واقترب لها أكثر ليُمسك بكفها الذي رفعه ليُقبله لتتابعه بعينيها بابتسامة ترفض
أن تغادر شـ ـفتيها ليعلم أنه قارب على الوصول لكل ما يريده بذلك البريق بعسليتيها
الذي يلوح في الأفق بأنها ستُصبح له عما قريب بإرادتها..
احتوى كفها بكفه الدافئ واتجه ليقترب من الحافة وهو يحدق
نحو المعبد المضيء بتلك الأضواء ولكن بطرف عيناه يراها تتفقد المنظر تارة وتارة تتعلق
عيناها به في حالة من الاستحسان بكل ما يحدث فسألها دون أن يلتفت لها وظل ممسكًا
بيـ ـدها:
-
عارفة ده إيه؟
اتسعت ابتسامتها التي لا تتلاشى ببلاهة واجابته بصوت
يصرخ به السعادة:
-
أنا معرفش أي حاجة في اليونان غير البحر وسانتوريني..
محتاجة توضيح لو سمحت!
همهم لها وازدادت قوة كفه برفق على يـ ـدها وأجابها:
-
ده معبد هيرا، كانت إلهة الزواج، وبتغير على جوزها جدًا..
ضيقت ما بين حاجبيها ولم تتلاشى ابتسامتها بعد وحاولت أن
تفهم ما يقصده وقالت بخفوت يمتلئ بالدلال:
-
أوك
التفت نحوها ثم نظر بعينيها وهو يقول:
أن يسقط على مسامعها في هذه الأجواء الرومانسية شعر قديم
من فم رجل جذاب؛ وهو يكون زوجها، بهذه النبرة وبالرغم من عدم فهمها ما معنى ما
قاله للتو ولكنها لم تكتم له بطياتها سوى الأمان والاستجابة حقًا لتلك البداية
الجديدة التي يُريدها معها كما ادعى وها هي ترى أولى مبادراته معها فاتسعت
ابتسامتها له وهي تتحدث بأنوثة شديدة تلقائية دون أن تُزيفها بل آتت لتخلب لبه:
-
أنا مش فاهمة أي حاجة بس شكل الكلام ده معناه حلو..
قضمت شـ ـفتاها لتجده يبتسم لها بهدوء واقترب ليُقبل
جبهتها برفقٍ شديد على مُكثٍ إلى أن شعرت به يُقبل بها مكان ما آخر، ليس جبهتها،
وليس مكان سوى هذا، لم يتصرف سوى بنُبلٍ ولكنها تشعر وكأن هناك أكثر خلف هذه
القُبلة، ليس أمر مخجل وليس بشائن، هو فقط شعور لم تختبره قط.. وبأمر كان في غاية
البساطة بطريقته هو بصحبة تلك الحالة التي هيأها لها شعرت أنها قد بدأت تلين قِبله
ولم يكن هو ليدري أنها تجذبه معها ولن ينقذهما سوى الموت مما سيصلان إليه..
-
أنا عارف إن بدايتنا مكنتش أحسن حاجة.. وملقتش مكان أحسن
من أثينا وقدام هيرا نبدأ فيه تاني..
هو الآن يتحدث بعد أن ابتعد عنها قليلًا وهو ما زال
يُمسك بكف يـ ـدها، بل الاثنان، ها هي لتوها تُلاحظ ما يحدث، بعد اقترابه دون أن
تشعر أن هناك ما يُخجل، لا يقترب منها برغبة ولا بثرثرة، ولكن كل ما يفعله معها
الليلة هو مُثمل لدرجة ربما لن تستطيع الاستيقاظ منها للأبد..
-
قولتلك إنها هتكون بداية جديدة وعايز النهاردة
أبدأ معاكي من الأول خالص..
وسط اساطيره الإغريقية، وأمام إلهة زواج، وأخرى حكيمة
لُقب باسمها أثينا، هيئ حالة كاملة ليحولها لنسخة امرأة معينة كما يحلو له، ولم
يكن يعرف أنه يأخذ أولى خطواته نحو التحول لرجل آخر ستصنعه هي كما يحلو لها..
لن يتحول لهذا الرجل فقط، بل هو يركع أمامها مُذعنًا دون إرادة منه حيث انقلب في هذه اللحظة السحر على الساحر نفسه، بعينيه الآبية لوداع
مؤقت ولو لجزء من الثانية لعسليتيها الفاتنتان وهي بنظره لا تقل عن "هيرا"
و "أثينا" شيئًا بل هي وحدها كفيلة بأن تتفوق عليهن حُسنًا وهمس لها:
-
تتجوزيني؟!
يتبع..
إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة بتول طه لا تنسى قراءة روايات و قصص أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية