-->

رواية جديدة كما يحلو لها لبتول طه - الفصل 56

رواية كما يحلو لها

الجزء الثالث من رواية كما يحلو لي بقلم بتول طه

رواية جديدة كما يحلو لها

تنشر حصريًا على المدونة قبل أي منصة أخرى

من قصص وروايات

الكاتبة بتول طه

النسخة العامية

الفصل السادس والخمسون 

 

صممت أن تأتي بنفسها إلى أن وصلت حتى منزل "يزيد الجندي" ورفضت تمامًا أن تُحضر سائقها، فهل هناك أسوأ مما حدث لها؟ لقد حدث كل شيء بل وأسوء ما يمكن حدوثه بالفعل.

نظرت للصندوقين بجانبها وتمنت لو أنهما سيُفلحان فيما تُريد الوصول إليه ولو بنسبة ضئيلة وصفت السيارة بالمرأب ثم تحدثت إلى "عنود" قائلة: 

- أنا وصلت خلاص، طمنيني هو لسه بيزعق؟ 

- لا، بقالهم شوية مفيش صوت عالي خالص. 


فكرت مليًا فيما تريده وهي تعلم أن "عمر" معه الآن بالداخل فأخبرتها متصنعة التردد:

- استني كده، أنا هبعت لعمر message وهنستنى شوية يمكن يرد عليا. 


اتجهت لتطبيق التواصل التي قامت خلاله بحظره صباح اليوم وازالت الحظر ثم قامت بإرسال رسالة مقتضبه له:

- أنا برا، تعالى أول ما تعرف. 


تنهدت وهي تُعلمها ما فعلته:

- المفروض الـ message وصلت، بس لسه مقرهاش.. هستنى شوية كمان، اهدي ومتقلقيش، مفيش حاجة هتحصل وأكيد عمر هيعرف يقنعه. 


استمعت لتنهيدتها وشعرت أنها على مشارف البكاء وهي تعقب قائلة:

- يارب يا روان، أنا زي ما يكون حرام إني افرح أو أعيش مبسوطة أسبوع واحد بس في حياتي، أنا الحمد لله راضية بحياتي وفيه بنات بتعيش أسوأ مني وظروفهم اصعب بكتير بس ساعات بحس إني استغفر الله العظيم لو سبت نفسي أفرح وأعيش سني بتيجي حاجة وحشة أوي تحصل. 


تأثرت بمصداقية لما استمعت له منها فأخبرتها بأسف: 

- متقوليش الكلام ده، من حقك طبعًا تفرحي وتتبسطي، أنتِ مبتعمليش حاجة غلط، كلنا عارفين إن المُشكلة في طباع باباكي إنها صعبة شوية، لكن في يوم بعد ما تستقلي بحياتك وشغلك وتحسي بحرية هتبقي سعيدة وهتفرحي ومفيش حاجة وحشة هتحصل. 


آتى سؤال "عنود" بلهفة وهي تنتظر اجابتها:

- هو عمر رد عليكي أو قالك حاجة أو حتى شاف الرسالة؟ 


اجابتها وعيناها لا تفارق المحادثة على تطبيق التواصل بينهما:

- لأ لسه، أول ما اشوفه إن قرا الرسالة هقولك.


تريثت لبرهة وحاولت أن تفتح حديث معها بهدوء حتى تصل لما تريده فسألتها:

- هو أنتِ قولتي ليونس حاجة؟ 

- لأ مرضتش أقوله، حرام ده بيحاول يخليني مبسوطة بأي طريقة، ده غير إني بقيت بتكسف اوي كل ما يعرف بابا بيعمل ايه. 


بالرغم من أن هناك غاية أخرى خلف سؤالها السابق إلا أنها شعرت بالشفقة عليها فهي ليس لها ذنب في أي شيء لتخبرها لتهون عليها: 

- حبيبتي كل حاجة هتبقا كويسة متقلقيش، ملوش لازمة تقلقي يونس دلوقتي خالص، بس أنا رأيي من رأيك المفروض ميعرفش دلوقتي على الأقل لغاية ما نشوف الموضوع ما بين باباكي وعمر هيحصل فيه ايه. 


عادت في لمح البصر لغايتها بخبث تعلمته منه هو شخصيًا وسألتها:

- هي طنط وعدي كانوا موجودين؟ 


استمعت لزفرتها المطولة وهي تأتي بمعاناة اتضحت بإجابتها الساخرة من حياتها جعلتها تشفق عليها من جديد:

- عدي كالعادة صحي عِرف إن بابا في البيت قام ماشي وماما كانت بتتفرج على مسلسل من مسلسلاتها سمعت بابا وهو بيكلمني قالت لا إله إلا الله ودخلت قفلت على نفسها اوضة وباين بتلعب candy crush


اتسعت عيناها مما تسمعه منها ورأت لماذا كانت تسخر بكلماتها وهي تجيبها وفجأة أخبرتها:

- أهو عمر قرا الـ message اكيد هيجي..


دام الصمت لفترة وظنت "روان" أن الأخرى قد انهت المكالمة فتأكدت أن المكالمة لا تزال موجودة فنادتها بنبرة مستفسرة:

- عنود، انتِ لسه معايا؟

- آه معاكي. 


تعجبت من تنهيدتها الطويلة فحدثتها باستفسار:

- امال مالك فجأة كده سِكتي، أنا قولت حاجة حصلت فسبتي الموبايل، افتكرتك قفلتي أصلًا.

- لا لا معاكي، أنا بس خايفة من مجيتك دي. 

- ليه يعني؟ 


ادعت البلاهة وكأنها لا تفهم ما تعنيه لتجيبها "عنود" بتهكم:

- ما أنتِ عارفة بابا بيحبك وبيعزك ازاي، ولا عمر نفسه مش بعيد يطلع يمسك فيكي زي ما عمل قدامنا قبل كده، وكله كوم وماما كوم. 


بمجرد أن آتت على ذكر والدتها تنبهت للغاية، فهي بالفعل تملك تأثير لا يُضاهى على "عمر" و "عنود" نفسها تجمعها بها علاقة طيبة من قبل حدوث أي شيء وما وطدها أكثر هو علاقتها بابن خالتها وتطورها حيث كانت هي أول من ساعدت في لقائه بها وحتى يوم أمس عندما سافر جميعهم، أما عن والدته فهي المرأة الوحيدة التي لم توطد علاقتها بها بعد، وهي نفسها التي لو ذهبت إلى أقاصي الأرض سيتبعها "عدي" وبهذا لو نجحت من هدفها اليوم ستكون أول ضربة موجعة لـ "يزيد الجندي" وهي تأخذ منه شيء ظن أنه يُسيطر عليه بالكامل ويُفرض عليه تحكمه العقيم، ألا وهو أُسرته! 


- مالها طنط؟


غايتها من السؤال هو المعرفة، تريد أن تجمع أكبر قدر من المعلومات حتى يُمكنها التصرف فيما ستفعله، هل ستنجح فعلًا بودها مع "عنود" وتملكها سلطان على "عمر" أن تصل لما تريده؟! 


ترددت الأخرى قبل أن تجيبها وهي بمنتهى المصداقية لا تريد افتعال وقيعة بين والدتها وزوجة أخيها التي لم تر منها أي سوء فهي لتوها حاولت أن تُسعدها بل وفعلت معها ما لم تفعله والدتها فقالت بتردد:

- سيبك من ماما، بس هي كده عمرها ما هتحب ست زيك. 

- ليه يعني بتقولي كده؟ ده أنا عمري ما شوفت منها حاجة وحشة!


سكتت وطال صمتها حتى حثتها الأخرى على الإجابة:

- فيه ايه ما تقولي، قلقتيني، هو أنا عملت حاجة مش واخدة بالي منها؟


زفرت بعمق شديد وهي تحاول اختيار كلماتها التي اجابتها بها بعناية:

- بصي يا روان الله يخليكي أنا مش عايزة اعمل مشاكل. 


تصنعت البراءة وأخبرتها بابتسامة: 

- وهو يعني يوم ما قولتيلي حاجة عن باباكي روحت اتخانقت معاه وقولتله إنك وحِش، ولا حتى لما حصل مشاكل، قولي مالها مامتك، مش يمكن أنا مش واخدة بالي من حاجة معينة وهي ليها حق! 


لديها حق! حق ماذا الذي تتحدث عنه؟! هي حقًا لا تفهم ما تقوله على الإطلاق! 

- روان ماما عمرها ما هترضى عن واحدة زيك ولا هتحبها لأن أنتِ قوية وعارفة تاخدي حقك وفوق كل ده عمر باين إنه بيحبك أوي وبيموت فيكي، أنتِ مشوفتيش لما كنتي في كتب الكتاب كانت بتبصلك ازاي، ماما نفسها عدي كان يتجوز واحدة في جمالك ومستواكي الاجتماعي إنما ده بس من برا، إنما اللي هتتجوز عُدي دي الله يكون في عونها بقا وهي بتحاول ترضيها وتقرب منها عشان بس عُدي يرضى عنها، وهيبقا يوم مطلعتلوش شمس لما تزعلها، أنتِ نسيتي لما كنتي بتتخانقي مع ماما عدي جه وعمل إيه! 


قامت بحفظ كل كلمة قالتها عن ظهر قلب وحاولت التعامل بكل ما عرفته بسرعة شديدة، ففي الظاهر هي لم تأتِ سوى للخير، لترى إن كانت حجتها ستُفلح! 


- طيب بقولك ايه ما تقومي تفتحيلي الباب! 


ارتبكت الأخرى مما سمعته وهو بعيد كل البُعد عما توقعت أن تستمع له لتخبرها بخوف:

- بلاش يا روان الله يخليكي لا تحصل مُشكلة، ولا عمر هو اللي قالك؟

- لا عمر مردش، بس روحي افتحي وخلاص، أنا هرن الجرس وكأني جاية عادي، اسمعي الكلام وهتشوفي. 


حاولت منعها بأي طريقة قبل أن يحدث ما لا يُحمد عُقباه: 

- استني بس الله يخليكي..


استمعت لجرس الباب فتمتمت أسفل أنفاسها:

- استغفر الله العظيم، يا رب استر

- تعالي بس افتحي الباب ومتخافيش.

- أنا نازلة اهو! 

- أهم حاجة قدام باباكي تقولي إني كنت ضد الموضوع وخلاص وضد سفرية دبي وعمر هو اللي وافق!


فرغ فاهها من شدة الدهشة التي أصابتها وقامت بفتح الباب لها وملامحها ممزقة بين الصدمة والبلاهة فعانقتها الأخرى وهي تهمس لها:

- متخافيش خالص، أنا هتصرف ومتقلقيش، اطلعي بس اوضتك وأول ما أخلص معاهم هبقا أقولك أنا عملت إيه..


هزت رأسها بالموافقة وذهبت لتعود لغرفتها وتناولت نفسًا مطولًا وهي تحاول استلهام الشجاعة واتجهت انظارها باتجاه مكتب والده وقامت بإرسال رسالة جديدة إلى "عمر" بلهجة آمرة سيستطيع أن يستمع لنبرتها بها وهو يقرأها:

- مهما حصل قدام باباك متكدبنيش!


حاولت التوقف عن الخوف ووقفت أمام الباب ثم طرقت الباب وانتظرت لتستمع لصوت يسمح لها بالدخول. 

- ادخل! 


تعجبت من أن الصوت القادم من خلف الباب هو صوت "عمر" ولكنها دخلت وهي تحمل صندوق بيـ ـدها أحضرته لوالده واتجهت نحوه وهي تجبر نفسها على رسم ابتسامة وادعت تهلل ملامحها واقتربت لتمد يـ ـدها أمام والده وسألته:

- ازي حضرتك يا أنكل عامل إيه؟


نظر لها بغضب واكتفى بأن يومأ لها فلقد توقعت هذا بالفعل وهو يصافحها بمنتهى البرود فما كان منها إلا أن ناولته هذا الصندوق وقالت بابتسامة:

- أنا عارفة إن حضرتك بتحب السيجار، فحسيتها هدية مناسبة. 


لم ينظر لذلك الصندوق ولم يكترث به وأخذ "عمر" يراقبها وهو يعقد حاجباه وهو ليس لديه أي فكرة عما تفعله ولا حتى يستطيع معرفة ما تريده وما تقصده من مجيئها هكذا فجأة بينما لم يبتع هو ولا والده هذا الود الشديد الذي يظهر منها ففاجأته بجلوسها أمامه بالمقعد المقابل وهي تتفقد كلاهما وبدأت في التحدث:

- أنا عارفة إننا الفترة اللي فاتت مكناش أحسن حاجة مع بعض، أنا وعمر علاقتنا كانت متوترة وفاهمة إن حضرتك خايف عليه زي أي أب بيخاف على أولاده، وبرضو حضرتك عايز تشوفه سعيد وكنت بتعمل كل حاجة مهما كانت عشان عمر يرجع كويس تاني، يا ريت تعتبرني مرات ابنك اللي بتحبه أكتر من أي حد في الدنيا.. أنا عشان الخناقات اللي كانت بيني وبينه وزعلنا مع بعض كانت تصرفاتي مش مظبوطة، كنت خايفة لما نرجع تاني نرجع نتخانق بس قرار حضرتك كان أكتر حاجة صح، حضرتك تعرف مصلحتنا أكتر مننا، والكبار بيشوفوا حاجات الصغيرين مش بيشوفوها غير بعدين.. أنا آسفة لو كنت عملت أي حاجة غلط، ويا ريت تقبل اعتذاري. 


زفرت بخفوت دون أن يلاحظ أيًا منهما تلك الأنفاس التي حبستها بينما وجدتهما ينظران لبعضهما البعض، كل ما يتضح على وجهه هو نظراته الاستفهامية نحو ابنه الذي كان هو نفسه في موقف لا يُحسد عليه، كم تمنى لو لم يُحدثه، أو ماذا لو انشقت الأرض وبلعته، ولم تلك الرصاصة لم تُنهِ حياته بدلًا من هذا الموقف اللعين الذي فجأة وجد نفسه به؟ فهو لتوه كان يحاول أن يقنعه بطلاقهما ولو كانت حجته واهية ولكنه كاد أن يقتنع بما يُريده!


نهضت ثم اقتربت نحو "يزيد" وهي ترسم ابتسامة رغمًا عنها نهشت بروحها، فهي لم تنس قط ذلك الذعر الذي عاشت به يوم إيذائه لأخيها ولكن ما ستراه بعد قليل هذا لو نجحت في تحقيقه سيكون بمثابة راحة شديدة لها من كل ما عاشته بسببه، سيُلهمها ولو جزء بسيط من شعور الانتصار عليه حتى ولو كان لأمرٍ تافه. 


- ألف بنت تتمنى يبقا حماها يزيد الجندي اللي الكل بيعمله حساب، وأنا عشان كنت مُتسرعة وبفكر غلط مفهمتش ده معناه إيه، بعد بابي عمري ما هلاقي احسن من حضرتك يكون أب ليا، أنا آسفة بجد وعمري ما هاعمل حاجة حضرتك مش راضي عنها أبدًا. 


تفاجأ كلاهما عندما دنت منه وقبلته على وجنته وتابعها "عمر" بدهشة وأهدابه لم تجتمع ولو لجزء من الثانية منبهرًا بما يحدث أمامه، ما الذي غير رأيها هكذا؟! أهناك شيئًا ما لا يعلمه؟! ما الذي تريد الوصول إليه؟!! آلاف من الأسئلة اندفعت بعقله دفعة واحدة ولا يستطيع الإجابة على أي منها. 

أما عن "يزيد" فهو لو تعلم شيء من الحياة بأكملها سيعرف أن بهذه الطريقة المليئة بالود الذي يظن أنه زائف بقدر كبير لابد من وأن هناك أمر ما وغاية خفية خلف هذا التهذيب وهذه الهدية ولكن ما قالته وهي تتجه عائدة لمقعدها كان مفاجئ نوعًا ما:

- أنا كده كده كنت ناوية آجي لحضرتك عشان اعتذرلك بس بصراحة أنا عنود كلمتني من شوية كده وحكيتلي اللي حصل لما رجعت البيت، واللي هي عملته ده ميصحش، أنا من الأول حذرت يونس وعمر وقولتلهم بلاش بس مرضيوش يسمعوا كلامي ولما اتكلمت مع عنود لما جات عندنا البيت قالتلي عمر هيتصرف.. فمرضتش اتدخل خالص خوفت لا حضرتك تزعل مني، وبصراحة اللي حضرتك قولته ده هو الصح، يعني حاجة زي دي وسفر زي ده كان المفروض بعد ما يتجوزوا يبقا يسافروا براحتهم مش قبل الجواز خالص، أنا مثلًا وعمر عمرنا ما عملنا حاجة زي دي قبل الجواز. 


كأنما تحول إلى قطعة من الصخر الصلب وهو يتفقدها بعينيه، حتى مقلتيه لم تتحركا بعدما ثبتت عليها وهي تتحدث باسترسال وملامح مُقنعة وكأن كل ما تقوله حقيقي، ألم تتوسل حتى يوافق ويذهب مع ثلاثتهم ذاك السفر المشؤوم؟! 


تبًا، من يراها وهي تتحدث بهذا الأسلوب لا يراها وهي تدافع بضراوة عنهما وتحاول أن تقنعه بأن هذا واحد من الحقوق الذي يفترض أن يحظيان به بعد أن تم كتب كتابهما وأصبحت زوجته!

وها هو والده ينظر له تلك النظرة التي يحاول أن يتعرف بها عن طريق وجهه أكان كاذبًا أم صادقًا فيما ادعاه، حسنًا، الجميع فجأة أصبح ضده! 


ابتلعت وهي تشعر بالرعب مما قد يحدث واستفسرت بابتسامة مُرتبكة:

- ايه يا أنكل حضرتك ساكت كده ليه، أنا بس حبيت اقولك عشان ميحصلش ما بينا مشاكل. 


هنا رفع حاجباه وهو ما زال يُتابعها بأعين منبهرة بما تفعله وتلك النظرة السريعة التي لمحته بها كانت مليئة بالتحذير، إما تكون هي الكاذبة أمام والده وإما هو، إما أخته وإما أخيها، كلاهما يعرف ما الذي ستختاره تمامًا! 


انفجر ضاحكًا أمامهما ولم يستطع منع هذا الشعور الذي اندفع بداخله ثم ادعى أنه يعبث بهاتفه ليجد تلك الرسالة منها التي أرسلتها منذ قليل على ما يبدو ولكن مهما كان الذي تريد الوصول له فهي تورطه بوضوح أمام والده، تنتصر عليه أمام "يزيد الجندي" وتبرئ نفسها وكأنها ليس لها أي يـ ـد بكل ما حدث، حسنًا، سيُريها! سيأتي يوم ما حتمًا وسيخلو بها بعيدًا عن عيني والده ويقسم أن هذا لن يمر مرور الكرام. 


سعل بعد تلك النوبة من الضحك وترك هاتفه جانبًا لتنظر هي له وكأنها وقعت في ورطة ومنها إلى والده ثم إليه وقالت بارتباك حقيقي ولكنه مما قد يترتب على هذا وليس لما تدعيه:

- أنا آسفة يا حبيبي، بس كان لازم أنكل يزيد يعرف، وأنا قولتلك إني نفسي نرجع كويسين زي زمان وأنت اللي كنت رافض! 


اشتد سعاله لما استمع له بينما نهضت هي وهي تمسك بالصندوق الآخر وأخبرت كلاهما:

- بعد اذنكم أنا هروح أسلم على طنط واقعد مع عنود شوية واحاول اعقلها كده يمكن تبطل تصرفات غلط شوية.


بمجرد أن تأكد "يزيد" أنها خرجت من غرفة مكتبه سأله بجدية ونبرة هادئة هدوء يعرفه الآخر تمامًا، لطالما مثل هذا الهدوء يسبق عاصفة ما حتمًا:

- ترد عليا بكلمة واحدة، من فيكم اللي بيكدب، أنت ولا هي؟ 


زفرة حارة غادرت شـ ـفتاه وتبعتها اجابته:

- أنا يا بابا، وقبل ما تسأل ليه، أنا من الاخر عايز اتجوز واحدة غيرها، مبقتش طايقها، عشان كده كنت بقولك قبل ما تدخل إني عايز أطلقها وابعد عنها! 

❈-❈-❈

وضعت كفها فوق صـ ـدرها وهي تحاول أن تبث بنفسها الطمأنينة وهي تتمنى أن يستطيع التصرف في تلك القنبلة التي القتها بوجه كلاهما لتقوم بالاتصال بـ "عنود" مرة ثانية وبمجرد ردها سألتها بلهفة:

- بابا قالك ايه؟ انزلك؟ 

- مش وقته يا عنود، اديني بس عشر دقايق وهجيلك وهفهمك كل حاجة، قوليلي بس هي طنط في اوضتها هي وأنكل يزيد ولا فين؟ 


اجابتها متسائلة ليتصاعد خوف الأخرى التي تمنت لو توارت أسفل التراب بدلًا من هذا الذعر الذي يتملكها لتتنهد ثم اجابت تساؤلها متوسلة:

- ايوة في اوضتها بس الله يخليكي عرفيني ايه اللي حصل؟ 

- قولتله إن اللي أنتِ عملتيه ده غلط وانا مكونتش راضية بس عشان أنا مش عايزة مشاكل معاه، وقولتله عمر اللي وافق وهو السبب، اصبري بقا كده لغاية ما اجيلك وافهمك على كل حاجة.. ومتخافيش، باباكي عمره ما هيصغر عمر قدام أي حد، بس بعد كل اللي بعمله وكل اللي قولته صدقيني أنتِ مش هتباتي في البيت ده ولا دقيقة وكده كده بيتك عند عمر موجود، وكلها فترة قصيرة وتتجوزي وهتبعدي عنه، أخلص بس مع طنط واجيلك، باي دلوقتي. 


زفرت بضيق بعد أن تحدثت بسرعة مع "عنود" وعبئت رئتيها ببعض الهواء وهي تطرق هذا الباب أمامها ثم رسمت ابتسامة زائفة وما كان من "مها" التي تتيقن أن من يطرق الباب دائمًا هي "عنود" بينما كلًا من "عدي" و "يزيد" لا يفعلا هذا أبدًا فقالت بصوت مرتفع قليلًا لكي يصل لمسامعها:

- تعالي يا عنود.. 


دخلت وهي تنظر نحوها بينما لم تكن تظن الأخرى أن الآتي أحد سوى ابنتها لذلك لم ترفع عيناها عن هاتفها وسلطت كامل تركيزها على تلك اللعبة السخيفة التي تأخذ كامل وقتها بعد "عُدي" والمسلسلات باللغة التركية بالطبع، وتحدثت بنبرة متهكمة سائلة:

- كان لازم تتنطتي يا هانم وحبك يعني تروحي من بلد لبلد، اديكي جبتيه لنفسك، عمر لم الموضوع مع أبوكي ولا لسه؟

- اه طبعًا عمر هيلم الموضوع، بس أنا مش عنود يا طنط


رفعت الأخرى وجهها في توتر دام لثواني ثم رسمت ابتسامة زائفة وخلعت نظارتها وسرعان ما قرأت "روان" بعينيها عدم الود لتشعر وكأنها غير مرحب بها وأدركت أن كلمات "عنود" عنها منذ قليل كانت حقيقية وأخبرتها من باب العادة ليس إلا:

- أهلًا يا حبيبتي ازيك؟  


اقتربت منها وقامت بعناقها رغمًا عنها دون أن تنتظر رفضًا أو قبول وردت مجيبة:

- كله تمام يا طنط وحشتيني بقالنا كتير اوي مشوفناش بعض. 


جلست بجانبها دون أن تنتظر الاذن منها وقامت بتقديم الصندوق الثاني لها وقالت:

- قوليلي رأيك إيه؟ هتبسط اوي لو هديتي عجبتك. 


نظرت بطرف عينيها نحو الصندوق وتناولته منها وهي تخبرها:

- مكنش ليه لزوم تعبتي نفسك

- لا ازاي يا طنط ده أنا مقصرة اوي كمان، عيد الأم كده عدا وانا غصب عني انشغلت جامد في شغلي وحتى مقولتلكيش كل سنة وحضرتك طيبة، أنا آسفة بجد متزعليش مني. 


سرعان ما أخبرتها ولقد اعدت هذا مُسبقًا برأسها بينما ترقبت بعينيها ما إن كانت هديتها لاقت اعجابها أم لا وبمجرد أن رأت ما يحتويه هذا الصندوق المخملي شعرت بأنها منبهرة بما قدمته إليها وهي تبتلع أمام هذه المجموعة المكونة من قرط وعقد وخاتم من الألماس فهي حقًل لن تتنازل عن وصولها لما تريده، إن لم تنتصر اليوم على "يزيد الجندي" ستصاب باليأس وهي تقارب حقًا على قتل نفسها بسبب هذا الرجل، لابد وأن تكسب الجميع إلى صفها اليوم بأي طريقة وبأي ثمن. 


- يا حبيبتي ده كتير اوي كده، تعبتي نفسك.


اتسعت ابتسامتها وقالت بثقة:

- مفيش حاجة تغلى عليكي يا طنط وبعدين حضرتك زي مامي بالظبط، تفتكري هقصر برضو في هدية اجيبها لمامتي؟ 


الأنثى ستظل أنثى منذ نعومة أظافرها وحتى أن تبلغ مائة عام، لابد من أن تحصل عليها في صفها بعد هذه الهدية! 

- متشكرة يا روان بس لا ده كتير مش هقدر اقبلها منك. 


ناولتها الصندوق فرفضت "روان" وقالت بتصميم:

- كده يا طنط تكسفيني، هو انا مش زي عنود ولا ايه؟ وبعدين أنا أصلًا شوفي عدى علينا كام عيد أم وكام عيد ميلاد ومناسبات كتيرة وعمري ما جبت لحضرتك هدية، يا طنط حضرتك تستاهلي اكتر من كده بكتير اوي. ولا بقا الهدية مش عجباكي وتحبي ننزل نبدلها سوا، أنا بعتبر حضرتك زي مامي وعمري ما هزعل لو قالتلي ان الهدية مش عجباها.


شعرت الأخرى بأنها محاصرة تمامًا فأخبرتها على مضض حاولت أن تخفيه:

- لا ازاي، جميلة تسلم ايديكي. شكرًا يا حبيبتي

- لا يا طنط مفيش شكر ولا حاجة.. طمنيني على حضرتك عاملة ايه؟ 


اجابتها بتنهيدة وهي تضع الصندوق جانبًا:

- بخير يا بنتي والحمد لله نشكر ربنا. 


حاولت الاسترخاء بجلستها بالرغم من قلبها النابض بجنون، هي تشعر بالرعب الشديد إن لم تفلح خطتها بعد كل ما فعلته وحدثتها مدعية الود الزائف:

- متعرفيش يا طنط قد ايه نفسي تيجي تقعدي معانا يومين


ابتسمت الأخرى والرفض القاطع لاح على ملامحها وأخبرتها:

- واسيب بس يزيد وعدي والبيت لمين..


ادعت "روان" الاستغراب وأخبرتها:

- وفيها إيه يا طنط ما يجوا مع حضرتك، عدي ينور في أي وقت وعمو يتفضل وقت ما يحب. وممكن نرتبها سوا.. 

- ما تبقي تيجي انتي وعمر تقعدوا معانا يومين بدل ما نيجي احنا كلنا وندوشكو! 


أتظن أنها تحاصرها بهذا، يبدو أنها لم تتحدث قط مع ابنها الذي جعلها مخضرمة في التعامل مع مثل تلك الردود غير المتوقعة:

- طبعًا يا طنط نيجي أنا معنديش مشكلة وممكن أقول لعمر كمان نقعد شوية معاكم، بس عارفة أنا ليه كان نفسي حضرتك وعدي بس اللي تيجو، عمر بجد نفسه يقعد معاكي جدًا.. بصي يا طنط أنا هكون صريحة معاكي. 


اعتدلت وهي تحمحم وأطنبت بقولها:

- كل ما اجي اكلم عمر عن حضرتك يقول إنك مش بتحبيه زي عدي، وإنك عمرك ما حاولتي تقربي منه، وعدا عليه أيام صعبة كتير وخصوصًا معايا، أنا كنت وقتها متأكدة إنه يتمنى تكوني جنبه وتهوني عليه الوقت الصعب ده، وبيزعل جدًا إن حضرتك مش موجودة معاه.. عارفة، مرة كده كنا كويسين اوي مع بعض وهو كان راجع تعبان من الشغل وشد شوية هو وأنكل يزيد لقيت عينه دمعت بسبب إنكم مش قريبين، بس احنا ستات يا طنط غيرهم، الرجالة عمرهم ما بيعرفو يبينوا هم محتاجين ايه والمشاعر زينا، أنا اليوم ده عمري ما هنساه، حتى اتخنق اوي ولقيت صوته مكتوم كده كان هيعيط وطفا النور ونام.. على فكرة بيحب حضرتك جدًا.. 


تنهدت "مها" وهي لا تدري تلك الفتاة عن ماذا تتحدث فهي لو حاولت وفعلتها سيقف لها "يزيد" بالمرصاد وكأن "عمر" ملكية خاصة له وحده، لا يحق لها الاقتراب منه وحتى ولو كانت والدته. 

- بقا بذمتك يا طنط عمر مبيوحشكيش؟ مبيبقاش نفسك تقعدي معاه ولو أسبوعين تلاتة؟ ده من يوم ما اتجوزنا سواء قبل مشاكلنا وطلاقنا ولا حتى بعدها بيصعب عليه نفسه اوي لما بيحس إنك مش بتحبيه.


رق قلبها قليلًا عندما استمعت لكلامها وردت عليها مُعقبة: 

- يا بنتي اديكي شوفتي يزيد، ما انا عمر ده ابني زي ما عدي ابني، كل ما اجي أقرب منه الاقيه بيصدني، كأنه خلاص شِرب من أبوه طول السنين دي كرهه ليا.

- لا يا طنط اوعي تقولي كده. 


منعتها فورًا لكي لا تستسلم بيأسها المعهود عنها وواصلت:

- عمر عنده مُشكلة، مفيش حد بيقدر يقرب منه ويفتحله قلبه غير لما اللي قدامه ياخد الخطوة الأولى، ادي حضرتك اهو شوفتيه مع عنود، مكنش يعرف عنها حاجة، وأول ما قربت منه بقا عنده استعداد يعمل أي حاجة عشانها، تصوري يا طنط حنيته، راح بانالها بيت هدية لجوازها وجابلها عربية وكمان هو اللي خلاها تسافر مع يونس وحتى حطني قدام الأمر الواقع وقالي إني هروح معاهم وجابلها هدايا كتير جدًا واحنا راجعين.. بصراحة يا طنط هو بس لو شافك كده مرة قولتيله انا جاية اقعد عندك يومين عشان نفسي اقعد معاك ولا وحشتني ولا أي كلمة من دول هتلاقيه اتلخبط كده ومش عارف يعمل ايه ومش هيقولك غير حاضر وتنوري.. بعيد بقا عن أنكل يزيد وشِدته في التعامل معاكم، فاكرة لما كنا في البلد واتخانقتوا، أنا لومته كتير وعاتبته وقولتله ليه يا عمر متدافعش عن مامتك قالي عشان هي عمرها ما حبتني، بجد يا طنط مش بتحبيه فعلًا؟ هو عمل حاجة كبيرة غلط ومش عايزة تصارحيني وتقوليلي؟


الكلام الكثير، الإلحاح، الضغط الشديد، هذا سيُفلح حتمًا مع امرأة مثلها، لقد كان ينفع معها، لقد تعلمت هذا جيدًا بعد بعض الود لطالما استطاع بخبثه أن يقنعها بما يُريده، لابد وأن يُفلح الأمر مع والدته هي الأخرى!


اجابتها "مها" بحسرة:

- لا يا بنتي ولا غلط ولا غيره، وهو يعني أنا اعرف عنه حاجة عشان اقولك عمل ايه غلط وايه صح!

ربتت على يدها بود وهي تحاول أن تبدو نظرتها وكلماتها في غاية التوسل:

- طيب ومش نفسك تعرفي؟ مش نفسك عمر يبقا قريب منك زي ما عدي قريب؟ مش نفسك تجربي؟ حاولي كده تحتاجيه أو تقوليله على أي حاجة، اعمليله اختبار صغير وشوفي هيتصرف ازاي.. 


زمت  شـ ـفتاها في ضيق وحاولت التمنع لتقول:

- ولا اختبار ولا غيره، ربنا يسهل هشوف كده ويمكن ابقا اجي اقعد معاه يومين. 


اتسعت ابتسامتها وتهللت ملامحها بعدما أجبرت نفسها على تصنع هذه المشاعر لتسألها:

- بجد يا طنط؟ 


أومأت الأخرى وهي مترددة من فعلها وقالت:

- ربنا يسهل كده هبقا أشوف واقولك. 

- صدقيني يا طنط عمرك ما هتلاقي حد في الدنيا في حنيته، وحتى جربي، عارفة لو في يوم شديتي مع عمو ولا عنود ولا أي حد، محدش في الدنيا كلها هيوقف جنبك زيه، بس كل ده عمره ما هيحصل غير لما حضرتك تبينيله ده، عمر مبيعرفش يقرب من اللي قدامه ويتدخل في حياته ويبقا جزء منها غير لما يحس إن اللي قدامه عايزه مهما كان.. أرجوكِ فكري في كلامي كويس وبجد هيبقا سعيد ومبسوط أوي لو حضرتك بينتيله ده.. 

❈-❈-❈

- كل اللي عايزاه منك دلوقتي إنك تروحي وتتأسفيله وتقولي إنك غلطانة وخلاص، اثبتي إنه صح وإنك غلط وفي نفس الوقت ارمي الموضوع على عمر وإنه كان معاكي طول الوقت واخوكي الكبير وإنك يستحيل تعملي حاجة من وراه وإنك عرفتي غلطك وكل الكلام ده.


تفقدتها "عنود" وفكرت في الكلمات لوهلة ثم هزت رأسها بالنفي وأخبرتها بتردد:

- لا يا روان أنا مش ناقصة مشاكل. 


قلبت عيناها بنفاذ صبر ثم أخبرتها:

- يا بنتي كفاية خوف ورعب، لو باباكي كان هيفركش الجوازة بجد ما كان زمان يونس كلمك ولا بعتلك حاجة، وكان زمان يارا كلمتني.. كان حتى عمر قالنا، إنما هم تحت اهو وبيتكلموا ولا كأن حاجة حصلت، ما أنتِ عارفة إن باباكي لازم يثبت بكل الطرق إنه مسيطر وبيعترض وخلاص ولازم يعيشكوا في خوف ورعب وانتِ بتديهاله على الجاهز وسايباه يفكر إن أسلوبه بيجيب نتيجة. 


ترددت قليلًا قبل أن تفعل ما تخبرها به فسألتها:

- طيب فهميني أنتِ عايزة إيه؟ وإيه قصدك لما قولتي إني مش هبات في البيت ده ولا دقيقة؟


تريثت قبل أن تلقي بتلك القنبلة الموقوتة على مسامعها فهي تعلم مدى خوفها ورعبها مما قد يحدث بمنزلهم ولكنها لن تتراجع قبل أن تحصل على كل ما أرادته وحدثتها بتصميم:

- أنا عارفة إنك هترفضي، بس كل اللي احنا محتاجينه دلوقتي وقبل ما عدي يرجع، إنك تفتحي أي موضوع بيعمل مشكلة بين باباكي ومامتك، وقتها عمر هيتدخل وأنا مش هسيبه غير لما طنط تيجي تقعد معانا، وأنتِ تقولي لعمر أنا عايزة اجي معاكم وهو هيوافق.. وباباكي كده كده مش هيتوصى!


 يتبع..


إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة بتول طه لا تنسى قراءة روايات و قصص أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية


رواياتنا الحصرية كاملة