-->

رواية جديدة مشاعر مهشمة 2 لشيماء مجدي - الفصل 51

 

قراءة رواية مشاعر مهشمة الجزء الثاني كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى




رواية مشاعر مهشمة الجزء الثاني 
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات 
الكاتبة شيماء مجدي 

الفصل الواحد والخمسون



بدا على وجهه أمارات التوتر والارتباك، أثناء انتظاه ردها، بعدما أرسل لها رسالة نصية، يسألها عن القرار التي اتخذته، حيال إبلاغه لـ"عاصم" بالأخبار المُنتظَرة عن صفقة والدها القادمة، وذلك بعد أن علم من أحد رجال "توفيق" المعلومات المنشودة، المتمثلة في الوقت والمكان، ومن الصادم أنه قد صادف اليوم موعد تسليم الشحنات، تحديدًا الحادية عشرة ليلًا، ولهذا تضييع المزيد من الوقت لن يكون في صالحة.


ارتباكه لم يكن نابعًا من احتمالية قصها لوالدها ما حدث البارحة، من اختطاف "عاصم" لها، أو ما سرده عليها من أخبارٍ صادمة تتعلق بحياة والدها العميلة، فطالما لم تطلعه على ما انتوت فعله إلى الحين، يعني أنها ما تزال تفكر فيمَ علمته وتدرسه في رأسها من كافة الأبعاد، كونها شخصية عقلانية، ولا يصدر منها ردات أفعال غير محسوبة، مهما بلغت صدمتها. 


ولهذا فإن توتره لم يكن لسبب آخر غير طبيعة قرارها التي سترسى عليه في الأخير، والذي سيوضح له قيمته الحقيقية عندها من ناحية، ومن ناحية أخرى سيحدد مصيره. بعد ما يقرب من الأربعين دقيقة، على بعثه للرسائل التالية:


-انا عرفت الميعاد والمكان، ومستني ردك.


-لو قلتيلي متكلمش مش هتكلم، ومستعد أواجه مصيري واتحمل نتيجة غلطي.


-ومش هراجعك في القرار طالما هتكوني مرتاحة، وهعتبر إن ده عقابك ليا.


آتاه إشعارًا على هاتفه المحمول أخيرًا، من أحد مواقع التواصل الاجتماعي، الذي راسلها عليه، بردها المُترقَب، قام بفتح الرسالة سريعًا، وقرأها بصوت يجمع ما بين الصدمة والارتياح:


-أنا مش هحكي لبابا حاجة، اللي غلط لازم يتحاسب، وانا لو منعتك يبقى انا مشتركة معاه وبساعده في جرايمه، وأرواح الناس اللي هتموت هتبقى في رقبتي، فاللي انت شايفه صح اعمله يا كرم وانا مش هلومك عليه.


تنفس الصعداء، وارتخت ملامحه، معبرة عن تخلل الراحة داخله، ولكن ما لبث أن تجهم وجهه بعد لحظات، عندما أرسلت:


-بس احنا مش هينفع نكمل مع بعض بعد كل اللي عرفته.


واختتمت قولها بما جعل وجهه يزداد في تجهمه:


-لوسمحت طلقني.


أنزل الهاتف عن وجهه وهو يزفر بضيق، فكيف يقنعها في ذلك الوقت بالعدول عن تلك الفكرة المتسرعة؟ وبعد برهة من التفكير، رأى أن الحل الأمثل الآن، أن يحتوي الموقف بطريقة عقلانية، من ناحية يظهر تمسكه بها، ومن أخرى يرجئ التحدث في ذلك الأمر ريثما ينتهي من المعضلة الأخرى، أطبق على فمه للحظة، قبل أن يكتب لها:


-انا مش عايز اطلقك يا سما.


عندما وجد الرسالة تلونت، فيمَ معناه أنه قد تم قرأتها، علم أنها لن تضيف أي كلمة بعد ما أرسلته، لهذا تابع دون انتظار رد، مرسلًا لها:


-بلاش تاخدي قرار دلوقتي، اهدي الأول وبعد كده فكري، وانا متأكد إن قرارك هيكون مُرضي لينا احنا الاتنين.


بصعوبة استطاع أن يضبط أعصابه، حتى يهاتف "عاصم"، وينقل له الأخبار، لحظات انقضت قبل أن يأتي برقمه، ويجري الاتصال، وبعد لحظات أخريات، جاءه صوت "عاصم" المجيب، حينها ردد بصوته الجامد:


-ايوم عاصم.


بعد زفرة سريعة، وقبل أن يستفسر الآخر عن سبب المكالمة، أخبره:


-أنا عرفت الميعاد والمكان.



❈-❈-❈


بضعة أيام مرت على آخر لقاء لهما، ولكن المكالمات الهاتفية لم تتوقف بينهما، خاصة وأن "صلاح" أخبرها برفضه لارتكاب تلك الجريمة، فقد قطع عهدًا على نفسه، بعد وفاة طفلته، ألا يؤذي نفسًا بغير حق، امتثالًا لأوامر متحجري القلب، ومعدومي الضمير، حتى أن بقاءه في الصورة معهم إلى الحين، فقط لحماية روحه، فانفصاله عنهم، بعد كل ما علمه عن صغار الأمور في أعمالهم، سيكلفه حياته لا محالة.


اتفق كلاهما على إرجاء إبلاغه برفضه، إلى حين موعد تسليم الشحنات، التي يشرف عليها "توفيق" بنفسه، حتى يعجزه عن رسم خطة بديلة، أو تكليف أحد غيره بتلك المهمة النكراء، كما أن استفسارات "كرم" المثيرة للشكوك، عمَ يتعلق بالمكان المحدد، والميعاد المتفق عليه لتلك العملية، اشتم بها رائحة الخيانة، ومن خلال بعض التساؤلات الماكرة، استطاع إيقاعه، ومعرفة خباياه، ومع ذلك أخبره بكافة التفاصيل، وكأنه بتلك الطريقة يكفر عن سابق سيئاته، وفي نفس الآن خطة "عاصم" التي ستؤدي إلى الزج بـ"توفيق" في السجن، ستحول دون تنفيذ خطة قتله فيما بعد، وبذلك سيزول الخطر عنه تمامًا.


انقشع القلق بشكل ضئيل عن "مي"، حينما أبصرت تقدم "صلاح" -من على بُعد عدة أمتار- نحوها، أثناء وقوفها في الحديقة الخلفية بقصر "توفيق"، وما إن أصبح أمامه، لا يفصلهما سوى بعض السنتيمترات، سألته بصوتها الخافت:


-عملت إيه؟


بملامح وجه متجهمة أخبرها بنبرة صوت خفيضة كخاصتها:


-عملت اللي اتفقنا عليه، قلتله إني مش عايز ألوث إيدي بدم حد، خصوصا إني قلبي مش جايبني اعمل كده بعد ما خسرت بنتي، بس حصل اللي كنت خايف منه.


ناظرتها بعينين متوجستين، وسألته بريبة:


-اللي هو إيه؟


حادت منه نظرة يمسح بها الأرجاء، ليتأكد من عدم وجود أحد يتجسس عليهما، وعندما تأكد من خلو المكان، أجابها بنفس نبرة الصوت المتبادلة بينهما:


-أدي الأمر لحد تاني بالتنفيذ.


دب الرعب في قلبها، وسألتها بخوف بائن، وصادق:


-يعني إيه؟ مفيش حل نوقفهم بيه، أو نعطلهم لحد ما عاصم ينجح في اللي مرتبله؟


مرة أخرى التقط نظرة سريعة على المكان من حوله، قبل أن يخبرها بتعبيرات ساخطة:


-الناس دي مبترحمش، وطالما توفيق أدى لرجالته فرمان بقتله، يبقى ده اللي هيحصل، الأمل الوحيد قدامنا إن نخلص منه النهارده، وبعد كده نشوف حل.


بوجه معقود سألته بجزع:


-وافرض مخلصناش؟


نفخ في حنق ثم تكلم بضيق:


-الخوف مش في كده.


التمست في عبارته نوعًا من الغموض الذي آثار قلقها، وعلى الفور سألته:


-أمال في إيه؟


رد عليها بعد زفرة أخرى:


-الخوف من اللي هينفذ، مفيش حاجة تمنعه، حتى سجن توفيق، لإن في ناس أعلى منه، الأوامر بتبقى متاخده منهم، وتوفيق بيبلع رجالته، يعني هينفذوا هينفذوا.


تجمدت تعبيراتها لعدة لحظات، عاجزة عن التفكير في إيجاد حل يمنع تنفيذ تلك الخطة الإجرامية، وعندما وجدت أن جميع الطرق مقفولة، قرر أن تلجأ لحل وأحد، حتى وإن كانت عواقبه خطيرة، وبعد لحظات الصمت الذي دامت بينهما، تكلمت:


-في حل واحد هنمنعهم بيه من أنهم يئذوا عاصم، أو على الأقل هنحمي حياته.


ارتكز "صلاح" ببصره عليها باهتمام، حتى أفصحت:


-انا هكلمه واعرفه.


من البديهي أن تلك الفكرة راودتها من البداية، ولكنها بالنسبة له كانت محفوفة بالمخاطر، ولا يضمن تبعاتها، خاصة إن وصل لـ"توفيق" خبرًا بها، وبذلك ستدخل في عداوة من اللا شيء مع تلك الجماعة، ولهذا رفض اللجوء لها، ورأى أن يحاولوا تعطيل تنفيذ الخطة، حتى يتسنى له إقناع "توفيق" بالعدول عن تلك الفكرة إن أمكن، خاصة وأن "صلاح" ذراعه الأيمن، ويأخذ بكلمته في كثير من الأحيان، ولكن على ما يبدو أن تغيره الآونة الأخير، بالأخص بعد وفاة ابنته، كان ملحوظًا له، ولذلك استهان بأسبابه، وذلك ما جعله ينقل المهمة لشخص آخر، مسعاه الأول والأخير، أن يأخذ مكانه. ولكن بعد إخفاقه فيمَ رتب له، جعله يعيد التفكير، بل ويذعن لذلك الحل، وعلق بعجز:


-مش هقدر امنعك دلوقتي من إنك تعرفيه، لإن بقى ده الحل الوحيد قدامنا اللي ممكن نخلي بيه عاصم ياخد حذره منهم ويحمي نفسه.


وما لبث أن أضاف بتنبيه:


-بس اعرفي انك بكده حطيتي نفسك في عداوة مع توفيق، واحنا لسه مش عارفين إيه اللي هيحصل النهارده، ولو نجح إنه يخلص نفسه من الكمين اللي معموله، مش هيرحم حد، وأولهم انتي، ومش بعيد تبقي بالنسباله مشتركة مع عاصم في اللي حصله.


تجاهلت ما انتابها من مخاوف مبررة، وقالت بتصميم:


-يعمل اللي يعمله، انا مش هقدر اسكت، مش معقول اعرف إنهم بيرتبوا لموته واقف اتفرج.


لاح فوق وجهها عاطفة صادقة، ومشاعر إنسانية وهي تكمل:


-أنا هكلمه، لازم يعرف اللي بيدتبرله من وراه، لازم ياخد حذره منهم، هو ميستاهلش يموت على إيديهم.


لربما خلال ما مضى رفض غرورها تقبل فكرة رفض رجل لها، وتحمل شعور المهانة والذل الذي تلقته على يده، ولكن ضميرها لن يكون في مقدوره إيثار الصمت عن إلحاق الضرر بأحدهم، كمشاهد خسيس يتابع ما يحدث من الجرائم المرفوضة، دون تدخل أو ردع للإجحاف البين، فماذا إذن عن حبيب قديم، ما يزال هواه يتلاعب بالقلب، رغم الإنكار، وعدم الإظهار.



❈-❈-❈


بعد أن آتاه الأخبار اليقينة، عن موعد تسليم الشحنات الذي سيكون مساء اليوم، على فوره قام بعمل إبلاغ في شرطة الجمارك والنيابة العامة، بكل ما علمه عن تفاصيل تلك الصفقة، وما تحتويه الشحنات المستوردة، حتى يضمن القبض على "توفيق" متلبسًا. في تلك الأثناء كان ماكثًا ببيته، الذي كان في الماضي مستقلًا به عن الفيلا، حتى لا يتصادم مع والده، حينما كان يضغط عليه بنواهيه وأوامره، والذي أيضًا رأى فيمَ مضى أنه مكانٌ نائيٌ عن العيون، ليلتقي بـ"داليا" خلال فترة عشقهما الآثم.


ولقربه من المنزل التي انتقلت له زوجته، قرر منذ عدة أيام البقاء به، حتى يسهل عليه التنقل بين البيتين، كما أنه أخبرها بانتظاره بذلك البيت، ريثما تتخذ قرار العودة، وحينها يعودا سويًا لمنزل العائلة. منذ وطأت قدمه ذلك البيت، وقد مر ذكرياتهما معًا كالشريط على صفحة ذهنه، وبالرغم من نفوره من نفسه آنذاك، إلا أنه يشتاق لما كان يتلقاه منها من مشاعر صادقة واحتواء، ولكن الشعور الذي كان غالبًا عليه الحين، هو النفور، فكل ركن بالبيت ذكره بشخصيته الماضية، التي أصبخ باغضًا عليها، وكارهًا لها، متقززًا ممَ كان لديه من ميول شاذة وأطباع سادية، ومن كافة أفعاله التي كانت خالية من الرحمة والإنسانية.


أثناء تفحصه لأنحاء الشقة، وقعت عيناه على الركن المخصص لزجاجات الخمر، الذي نجح في العزوف عن شرابه مؤخرًا، لأجل أن ينول رضا المولى، بتركه طريق الموبقات، ما جعله يرغب في الزج بها في سلة النفاية، وهذا ما نفذه في لحظتها. وخلال ما يقوم به سمع صوت الجرس يصدح في الأرجاء، ألقى بآخر زجاجة في يده داخل الصندوق، وتوجه بعد ذلك نحو الباب لفتحه، شاع التفاجؤ في وجهه، فور رؤيته للزائر، وأردف بصوت مشوب بالضيق:


-انتي؟


حاولت "مي" رسم بسمة بسيطة على وجهها وهي تقول له:


-ازيك يا عاصم؟


ازدادت تعبيرات الضيق في التفشي بوجهه، وعقد حاحبيه وهو يسألها بغير ترحيب:


-إيه اللي جايبك؟ وعرفتي منين إني هنا؟


على ما يبدو أنه لم يرَ مكالماتها الهاتفية المتعددة، ومن حسن حظه إنها عندما فقدت الأمل في إيجابه عليها، طرأ في ذهنها أمر أخيه، الذي علمت أنه طبيب مشهور، ومن المؤكد أن رقمه ملحقًا بصفحة الشخصية على "الفيسبوك"، وعن طريقه مهاتفته، ستستعلم عن مكان تواجد الأول. وهذا ما حدث بالتحديد، واسترسلته عليه قائلة:


-عايزك في موضوع مهم، ورنيت عليك كتير، ولما مردتش عليا رنيت على أخوك، وعرفت منه إنك هنا.


لم تزول عقدة حاجبيه وهو يسألها بضجر مما اعتبره محاولة أخرى لفرض نفسها عليه:


-وعايزه إيه بقى؟


خشيت أن يمسك بها أحد من رجال "توفيق" وهي واقفة أمام بابه، حيث إن بيته ذات الطابقين، محاطًا بسور صغير، في إمكان من بالخارج رؤية ما خلفه، وببعض التوتر طلبت منه:


-طب دخلني الأول عشان اعرف اكلمك وأقولك اللي عايزاه.


من رؤيته لتعبيراتها التي يظهر عليها ارتباكٌ غريب، قرر أن يستمع لمَ عندها، ليرى ما الأمر المهم به، وبغير أن يضيف كلمة تنحى جانبًا، كتعبير عن سماحه لها بالدلوف، مرت من جواره إلى الداخله، تبعها هو بعد ذلك، تاركًا الباب مفتوحًا، وبعدما سارا بعض الخطوات، توقفا في البهو الذي يحتوي على مجلسة للضيوف، وقد انتبه لتوه إلى كونه لا يرتدي قميصًا، وبينما يشير لها على أحد الأرائك، قال لها بتعببرات فاترة:


-اتفضلي، دقيقة هروح البس تيشرت وراجعلك.


رؤيته عاري الصدر لم يشكل فارقًا عندها، كونها اعتادت على التواجد في بيئات مغلقة مع رجال بتلك الهيئة، أثناء حضورها للحفلات التي كانت تقام خلال تواجدها في البلد الأوروبي، التي عاشت بها لما يقرب من الخمسة عشر عامًا، كما أنه لم يعد هناك متسعًا من الوقت لإضاعته، فقد اقترب موعد رحلتها الجوية، التي حجزتها قبل أن تأتي إليه، وكان ذلك القرار المفاجئ، التي اقترحه "صلاح"، لإبعادها عن محور الشكوك، ريثما يرى ما الذي سترسى عليه الأمور، لهذا استوقفته قبل أن يتحرك، مردفة:


-عاصم مفيش وقت، أنا مسافرة وميعاد طيارتي قرب. 


ناظرها بتحير، من سبب العائد إلى مجيئها له هو بالتحديد، والذي سيعقبه سفرها، وما لبثت هي أن أضافت بجدية:


-انا جاية اقولك كلمتين وماشية علطول، هما خمس دقايق بس.


لم يدعوها للجلوس مجددًا، فقد استشعر من جديتها المثيرة للظنون، وجود خطب ما غير مريح، وبقى موضعه وهو يسألها بترقب:


-خير؟


ضمت شفتيها للحظات، كأنما تعيد ترتيب الكلمات في رأسها، ثم قالت له دفعة واحدة:


-عاصم، رجالة توفيق واخدين أمر منه بقتلك.



❈-❈-❈



إرجاء صفحها عنه بعد كل ما بدر منه الآونة الماضية معها، سيكون إجحافًا متزايدًا منها، ومن غير الإنصاف أن تنكر وقوفه إلى جوارها، وهو بالأساس في أمس الحاجة لها، وبدلًا من أن يلقى الدعم، عند معرفتها للخطوة الفارقة، التي اتخذها لتغيير مجرى حياته للأفضل لأجلها هي وأطفالها، نبذته، ورفضت العودة إليه. ورغم ما عانه بمفرده الفترة السابقة، منذ هجرها له، إلا أنه يحاول بقصارى جهده إبداء ندمه، وتصحيح ما سبق من أخطائه معهم، حتى ينجح في إعادة لم شمله بهم. ولهذا فقد حان وقت العفو والسماح، بعد أن وجدت به أخيرًا ضالتها وبكل مشاعره الصادقة لها باح.


بعدما انتهت من ارتداء ثيابها، وضبطت هيئتها الأخيرة أمام المرآة، توجهت إلى غرفة طفليها، وفور أن دلفت إليهما، وقعت عيناها عليهما يجلسان أرضًا، يلهوان بألعابهما، ويصدران أصوات طفولية مستمتعة، سارت نحوهما ببسمة واسعة، وجلست بتؤدة على الأرض جوراهما، مدت يدها نحو رأس كل منهما بالتوالي، مداعبة خصلاتهما الصغيرة، شديدة النعومة، ثم همست بالقرب منهما، كأن ما ستقوله سرًا، لا تود أن يخرج من بين ثلاثتهم، مرددة بسعادة:


-أنا رايحة لبابي دلوقتي.


فرقت نظراتها اللامعة بين كليهما، وأطنبت في مخاطبتهما:


-هنرجع نعيش كلنا في بيت واحد، ومش هنبعد عن بعض تاني.


صدر من الطفلين ابتسامة متفاوتة في الحجم أضافت جمالًا على ملامحهما الناعمة، ظهرت وكأنهما يشاركاها فرحتها، بل ويبديان بطريقة صامتة عن سعادتهما بقرارها، وبتعبيرات ازداد بها الأمل، أضافت بتفاؤل:


-المرادي انا حاسة بأمل، وواثقة إني ده القرار الصح.


رفعت الاثنين نحوهما، لتقبل وجنة كل منهما، ثم استعانت بأحد المقاعد لتستند عليه أثناء وقوفها، وقبل أن تخرج من الغرفة، شيعتهما بنظرة حنون، تتعهد بها لهما ببذلها كل جهدها، حتى ينشآ في بيئة سوية، توفر لهما كافة متطلباتهما المعنوية، قبل المادية.



❈-❈-❈



مجيئها لم يكن منبهًا فقط له، لجعله يأخذ حذره، من الغدر المُدبر، وإنما حمل أيضًا نوعًا من المواساة، على ما علمته من جلساتها مع "توفيق"، عن طبيعة حياته، التي كان يملأها التعسف والاستبداد من ناحية والده، الذي أشركه في جرائمه، منذ نعومة أظافره، وجعله يرتكب جريمة شنعاء، كانت لربما أماتته بسكتة قلبية، من شدة الهلع ممَ شاهده، ولكن ما جعل قلبه يتهشم في صدره، هو نقلها له بالتصريح القاسي، الذي سبق وقد أخبر به "كمال" شريكه، بأنه لم يكن يرغب بإنجاب "عاصم"، وعندما علم بحمل زوجته به، تعمد افتعال شجارًا معها، وصل إلى اعتدائه عليها بالضرب، متقصدًا أن تصل ضرباته إلى بطنها، حتى يجهض الجنين برحمها، وما جعله يرتدع عن ذلك، هو والد زوجته، الذي هدده بسحب كافة الأسهم من شركته، وبذلك سيخسر وضعه في السوق، هذا فقط ما جعله يرتضي بالأمر الواقع.


ولكن ظل شعور الرفض ملازمه طوال شهور حملها، حتى عند ولادته لم يذهب لرؤيته، وسافر في نفس اليوم خارج البلاد، غير مكترثًا لمولد وليده، وذلك ما استمر عليه بعد ولادته لم يعطِ له أي حب أو اهتمام، ذلك ما جعل "توفيق" يستغرب من موقفه، وعندما سأله عن سبب إهماله لطفله، كانت إجابته بأنه لا يشعر نحوه بأي مشاعر أبوه، حتى أن رغبته –فيما بعد- في إنجابه لطفل آخر منها، كان فقط لرغبته في إغاظة من اعتبره عدوه، وهو "هشام الكيلاني"، الذي كانت زوجته تعاني من مشكلة في الحمل، بعد إنجابها لابنها البكري "مجد"، كان يريد أن يتفوق عليه في كل شيء في زيجته، حتى وإن كان في إنجاب الأطفال. فالأطفال لم يشكل وجودهم فارقًا عنده، بقدر ما يشكل المال والشعور بالأفضلية على الجميع. 


ومن هنا وجد أن التشابه الوحيد بينه هو ووالده هو الرغبة في عدم الإنجاب، ولكن الاختلاف بينهما كبيرًا، فحب طفليه قد زُرع في قلبه فور وقعت عيناه عليهما، ولكن والده لم يحبه يومًا. صاحبها إلى باب البيت بعدما انتهت تلك المحادثة المهلكة من ناحيته، والمؤسفة من ناحيتها، وبعد أن وصل إلى الباب، توقفت والتفتت له، حملت نظراتها له في تلك اللحظة مشاعر مرهفة، من الموقف الراهن، وبعاطفة صادقة طلبت منه:


-خلي بالك من نفسك يا عاصم.


كنوع من أنواع المجاملة، وتقديرًا لمجيئها لتحذيره، بالرغم من مصارحتها له بنيتها السابق في الانضمام لـ"توفيق" في إيذائه، وما بدر منها من نشرها للأخبار التي تسببت في التشهير بوالده، رد عليها بنبرة عادية:


-وانتي كمان.


التواصل البصري بينهما لعب بنبض قلبها، حتى حثتها عاطفة خائنة بداخلها على عانقة، وبررت الأمر لنفسها على أنه توديع أخير له قبل سفرها، حتى تحكمت بها تلك الرغبة وأقدمت على فعلها، ضم شفتيه من حركتها المباغتة، ولكنه لم يفسرها بشكل خاطئ، ورأى أنه عناق بدافع العشرة السابقة بينهما، ولكنه لم يعد يحبذ ذلك النوع من التجاوز مع الجنس الآخر، لمَ فيه من حرمانية، ولهذا اكتفى بوضعه يده فوق ذراعها، كتعبير عن امتنانه لسبب مجيئها، وفي نفس الآن حرجًا من إبعادها، وبعد برهة تراجعت عنه فاصلة هي العناق، وناظرته بعينين تلمعان بالدموع، ثم ودعته بصوت مختنق:


-مع السلامة.


رسم بسمة بسيطة على ثغره، أتبعها بهزة مؤكدة من رأسه، بعد ذلك التفتت لتغادر، وهي تكتم نوبة البكاء، التي تهددها بالهطول، في حين بقى هو موضعه، يتابع رحيلها بعينين يفيض منهما الانكسار، على حاله المثير للشفقة، لإنه ابن لأب لا يمت للأباء بصلة، وأثناء وقفته البائسة، لم ينتبه تمامًا لوجودها على الجانب الآخر، الذي سبق خروجهما من الداخل، مفسرة الأمر بصورة هشمت قلبها لأشلاء، وما عزز من رسم تخيلات موجوعة، هو رؤيته عاري الصدر، وعناقه الذي استقبله بصدر رحب. من موضعها ظل تناظره بعينين ضبابيتين، وعلى وجهها تعبيرات فاقت تعبيرات الصدمة، وتخطت تعبيرات الوجع، وعندما فقدت القدرة على تحمل البقاء، استدارت عائدة إلى سيارتها، وهي تبكي بمرارة تمتزج بخيبة الأمل والخذلان، وذلك في نفسة اللحظة التي التفت ليدخل بيته، ليرتدي قميصًا، ويأخذ متعلقاته، فقد قرر الذهاب إليها، لينشادها بالاحتواء، ويا ليته لم يقرر ذلك في هذه الأثناء.



❈-❈-❈



بالكاد تمسكت بآخر ذرات تحملها، حتى لا يقع قناع الثبات أمام السائق خلال طريق العودة، وفور أن دلفت من باب البيت، حتى انهارت حصونها، وخرت أرضًا باكية، فقد ضاع أملها، وانكسرت ثقتها، ومن جديد انهدم كل ما سعت لتشييده الفترة الماضية. بكت كما لم تبكِ من قبل، وانهمرت الدموع من عينيها كالسيل، زاد وجع قلبها، إلى حدٍ لا يُحتمل، ولم تجد ملجأًً تلتجئ إليه في ذلك الوقت العصيب غير الصلاة، لتهدئ النيران التي تكوي روحها، و تخفف من الاختناق الذي يطبق على صدرها. نهضت عن جلستها المتهدلة، وتوجهت بقدمين تجرجرهما إلى غرفتها، لتشكو إلى ربها، وتدعوه أن يريحها من عذابها. 


 مع كل ركعة كانت تنساب دموعها، ومع كل دعوة كان يتقطع صوتها، ولكنها أدركت أنه وسط تلخضم الكثير من المحيطين، ليس لها سوى المولى لتلوذ به، وتطلب منه العون والمدد، فبعدما انتهت غمرها شعور بالراحة، وكأنها بشكوتها له أزالت حمل من فوق صدرها، بقت موضعها تقرأ في المصحف، محاولة صرف ذهنها عمَ رأته، والتغلب على الحزن الذي كسى وجدانها، وخلال ذلك استمعت إلى صوت جرس البيت، لم تكن العاملة متواجدة، فقد انتهى دوامها، لهذا نهضت هي وتوجهت لفتحه، وحينما أبصرت الزائر، نبض قلبها بقوة، وعاد الوجع يداهمه بشدة، وبصوت يحمل بعض الصدمة ولكنه باهت كبهوت روحها هتفت:


-عاصم!


هيئته المرهقة أوحت لها بوجود خطب ما، وما أكد حدسها هو قوله بصوت منهك:


-تعبان ومش لاقي حد اروحله.


بغير أن تنطق، أو حتى تظهر اهتمامها، أفسحت له المجال للولوج، فليس لديها أي طاقة للجدال معه، أو إشعاره بذنب لا يعترف به، رغم أنه –من وجهة نظرها- ما يزال يكرره، أثناء سيره وهي تتبعه للداخل، لم يستمع إلى صوت الطفلين، لذا سألها باستشفاف:


-الولاد نايمين؟


هزت له رأسها مؤكدة، عاد بنظره وهو يسير نحو غرفتها، وهو لم ينتبه بعد إلى انطفاء وجهها. جلس على طرف الفراش، وخلع سترته وألقاها بجواره، ثم خلع فردتي حزائه، ورفع ساقيه متمددًا على الفراش، وهو يتأوه بتعب، وأغمض عينيه وهو يريح رأسه على عارضة الفراش، مما جعلها تسأله بصوت جامد:


-محتاج تنام؟ اطفيلك النور؟


فتح عينيه ونظر لها بنظرة يشع بها الاحتياج، الذي لم ترَه، لتحاشيها النظر إليه، إلا أنه صرح عنه منطوقًا وهو يقول:


-محتاجك يا داليا.


رفعت حدقتيها إليه، ووجهها ما يزال على جموده، الذي إلى الحين لم يلحظه، وتابع:


-محتاج اتكلم معاكي.


بطاقة مسلوبة جلست جواره على طرف الفراش، مخفضة نظرها إلى أسفل، حتى يسترعى اهتمامها، هتف ببسمة صغيرة:


-عارفة إن ريحتك لسه في الشقة بتاعتي.


ظهر الضيق على محياها، من تذكيره لها بأمور لم تعد تحب أن تطفو خيالاتها على ذاكرتها، وفطن هو إلى ذلك، ولاحقها مرددًا:


-عارف إنك مش بتحبي تفتكري اللي كان بينا قبل جوازنا، ولا أنا كمان على فكرة، بس غصب عني بحن لأيامنا وقتها.


أبعدت حدقتيها عنه، واعتلى وجهها تعبير ساخر، تجاهله لظنه بأنه نفور من تلك الفترة، وأطنب بندم:


-يمكن عاصم في الفترة دي كان حد بشع، شخص مايتعشرش ولا يتحب.


مد يده ممسكًا كفها، وأكمل بامتنان:


-بس رغم كده انتي حبيتيه واتحملتيه، وقبلتيه بكل عيوبه، اديتيله حنان محدش في الدنيا ادهوله، حتى إنك صممتي تخلفي منه، ومهمكيش إنه رافض وممكن ينهي كل حاجة بينكم قد ما كان همك تشيلي جواكي طفل منه..


استطاع بكلماته اجتذاب نظرها ثانية، حتى أن عينيها أدمعت من وصفه الأخير، ولكن كان يمتزج شعورها بالقهر على ما آلت إليه حياتها من ذلك التصميم، في حين تابع هو معترفًا بذنبه:


-وهو في الأول كان غبي مكانش عايز يبقى أب، كان خايف، كان شايف إنه مش هيقدر يتعامل مع أطفال، ولا يتحمل مسئولية تربيتهم، ويدلهم الحنان اللي محتاجينه، اللي هو ماخدوش من أبوه، وحرم نفسه بسببه من حنان أمه..


تنهدت بتعب فكل ما يقوله يزيد من استنزاف طاقتها، ويجعلها مشتتة التفكير بين كل ما يحدث، بينما استطرد بعاطفة أبوية صادقة:


-بس لما شاف ولاده ضعف، وحبهم من أول ما عينه وقعت عليهم، وبقى عايز يتغير عشان يبقى الأب والصاحب ليهم، مش الشيطان اللي كان رافض يعترف بيهم، ومَوِّت اخواتهم اللي قبلهم، حتى.. حتى إنهم بقوا الأمل الوحيد اللي في حياته..


أطال النظر بداخل عينيها قبل أن يكمل بنفس المنوال المستعطف:


-بيقول يمكن ييجي يوم ويحننوا قلب أمهم عليه، وترجع تحبه زي الأول، وتقبله في حياتها تاني.


اهتزت حدقتاها بتوتر، ولكنها رفضت أن يؤثر عليها بتلك الكلمات المستميلة، والتفتت ناهضة من جواره، وقتئذٍ استوقفها ممسكًا بيدها بعد أن قام من نومته، وسألها:


-رايحة فين؟ أنا مكملتش كلامي.


أبعدت عينيها عنه، وأجابته بتلبك من قبضه على يدها:


-حاسة اني سمعت صوت.. صوت حد من الولاد بيعيط.


دنا أكثر منها، نافيًا:


-مفيش حد منهم عيط، الولاد نايمين.


حاولت انتزاع يدها منه، وهي تقول له بوجه معقود:


-بس أنا سمعت..


قاطعها قبل أن تتم جملتها، مكذبًا ادعائها:


-انتي مسمعتيش حاجة، انتي بتهربي مني.


ازداد ارتباكها، وحاولت تمالك نفسها وهي تختلق كذبة أخرى:


-أنا.. أنا..


تعجب من حالة التوتر التي تملكت منها في وجوده، وسألها باستغراب:


-احنا مش كنا بقينا كويسين، ليه رجعتي تتوتري في وجودي؟ 


ضمت فمها وحادت بنظرها عنه، ولسانها لم يعد يقوى على النكق بنفس العبارات المُستهلَكة، والتي اتضح إنها لم تأتِ بأي نتائج على عكس ما توهمت. بينما هو اغتاظ من عدم نظرها له، رفع يده وأدار وجهها له وهو يطلب منها:


-متهربيش مني، بصي في عيني واتكلمي.


عندما رفعت عينيها المقهورتين له، سألها باستمالة:


-هيحصل إيه لو انتي كمان طلعتي اللي جواكي زيي؟


امتلأت عيناها بالدموع وهي ترد عليه بأسى:


-هيحصل كتير، هيحصل كتير اوي يا عاصم، وانا معدتش عايزه الوم واعاتب، ولا عدت عايزه ابين جرحي وضعفي.


ضم كتفيها بيديه، وبضعف شديد علق عليها:


-مانا مبين كل اللي جوايا ليكي، ومش خايف وأنا بقول إني ضعيف من غيرك، ومستعد اترمي تحت رجليكي عشان ترضي عني وتسامحيني على أي حاجة عملتها فيكي.


رفعت حاجباها بدهشة ممزوجة بالاستخفاف قبل أن تعقب:


-معقولة؟ عاصم يذل نفسه لحد؟


اشتدت قبضته على منبتي كتفيها، وقال لها بصوت أجوف:


-انتي مش حد، انتي روحي.


اهتز جسدها برعشة متأثرة من وصفه، في حين رفع هو كفيه محاوطًا وجهها، وتابع بنبرة دافئة:


-روحي اللي مفارقة جسمي، ومبقتش قادر اعيش من غيرها.


أحست بلسعة الدموع في حدقتيها، حتى اخترقت شهقة البكاء حلقها، ولامته بانتحاب:


-ليه يا عاصم عملت فينا كده؟


مسح بإبهاميه وجنتيها، مجففًا دموعها، وهو يقسم لها:


-والله ماخنتك، صدقيني مفيش حاجة بيني وبين مي، ويوم ما شوفتيها معايا كانت بتحاول تخليني ارجعلها، وأنا رفضت وبعدتها عني، ومعرفش عنها حاجة من وقتها.


أطبقت على جفنيها باستياء من استمراره في نفس الكذبة، رغم رؤيتها في المرتين ما يكذب ادعائه، وعاتبته مجددًا:


-تاني بتكدب عليا؟


ظن أنها ما تزال غير مصدقة براءته، لذلك أقسم ثانيةً:


-صدقيني دي الحقيقة، والله ما خنتك لا معاها ولا مع غيرها، يمكن قبل مانتجوز كنت مع غيرك، وانتي كنتي عارفة واعترفت قدامك اكتر من مرة بكده، لكن من بعد ماتجوزنا وانا بقيت معاكي انتي بس، ملمستش غيرك، حتى قلبي محبش غيرك.


كل ما يقوله يضاعف من اختناقها، فلا هي ستصدقه، ولا هو سيكف عن محاولته في كسب تصديقها له، وحتى تنهي الحديث، هتفت بنشيج:


-كفاية يا عاصم، كفاية أرجوك، متتعبش في قلبك وقلبي.


انتقلت يديه إلى خصرها، حاوطها وهو يقول لها بصوت بدأ في الانتحاب:


-قلبي تعبان بسبب بُعدك، ارحميه يا داليا.


أبعدت ذراعيه عنها وكادت تسدير إلا أنه منعها صائحًا بصوت صارخ:


-متمشيش وتسيبيني أنا بكلمك.


وقعت عيناه المغرورقة بالدموع في نفس اللحظة على ما ترديه، والذي كان ثوبًا محتشمًا، يعلوها حجاب رأس، اهتاجت أعصابه عندما جال في عقله أنها ترتديه في حضوره، وما لبث أن هدر بصوت اختلط بالبكاء:


-انتي لابسة كده ليه؟ أنا مش غريب عنك.


قبل أن تستوعب جملته امتدت يده إلى بداية ثوبها منزقًا إياه، وهو يهتف بعصبية زائدة:


-شيلي البتاع دي من عليكي أنا جوزك، متداريش نفسك عني.


آثار ما يفعله استعطافها، وآلم قلبها، حتى فقدت القدرة على تحمل رؤيته في تلك الحالة المذرية، وسريعًا ما أوققت حركة يديه، ثم عانقته بقوة، وكأنه كان ينتظر أن يرتمي في حضنها، أطبق على جسدها وأطلق العنان لدموعه تتساقط على كتفها، وهو يرجوها ببكاء:


-انا مليش غيرك، عشان خاطري ارجعيلي.


تخلل صوته شهقاته، وتابع بصوت متقطع:


-انا بحبك، محبتش حد في حياتي قدك، ولا حد في حياتي كلها اتذليتله غيرك، وعندي استعداد اعمل اكتر من كده، واعمل اللي انتي عايزاه بس ترضي ترجعيلي..


أزاد في التشبث به، وبأنفاس متضطربة تابع في توسله:


-ادي لحياتنا سوا فرصة تانية، لو مش عشاني حتى عشان ولادنا، هستغلها المرادي صح يا داليا، اوعدك إني هستغلها صح وهعمل اللي يريحك.


أعتصرت عينيها التي تذرف الدموع، تأثرًا على حالته، ولكن هو من هدم آخر فرصة بيده، وبعد زفرة مختنقة، أخبرته بثبات مصطنع:


-احنا حاولنا قبل كده وفشلنا..


شعرت بتيبس عضلات جسده أسفل ذراعيها، وهي تكمل:


-عشان خاطر ولادنا لازم نبعد، مش هينفع نكمل مع بعض، مش هينفع صدقني.


رفضها بعد كل ما فعله، وتحامله لأجل أن ينول عفوها، ويستعيد قربها، كان كالسيف الذي غرزته بدم بارد في منتصف قلبه، غير عابئة بدمائه النازفه، وروحه التي ستُسلب من جسده. اختفى صوت بكاءه، وببطء تراجع عنها، شحب وجهه شحوبًا يشيه الموتى، وعيناه الناظرة لها الحين تحولت لتصبح في لحظة خالية من الحياة، وبعد صمت مريب من ناحيته، علق بفتور مشوب بالانكسار:


-طالما ده اللي عايزاه، يبقى مالهوش لازمة نفضل متجوزين.


حدقت به بعينين مترقبتين تتمة جملته، التي قالها دفعة واحدة قبل أن يتركها، متجمدة في موضعها، دموعها فقط ما تنساب على وجنتيها:


-ورقة طلاقك هتوصلك.


يتبع

إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة شيماء مجدي من رواية مشاعر مهشمة الجزءالثاني، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية